مِن أَجلِ قَهرِ العَقلِ الجَماعِيِّ الإرهابيّ

                                                  

                           د. زكي الجابر

مِن أَجلِ قَهرِ العَقلِ الجَماعِيِّ الإرهابيّ

                إعداد وتعليق د. حياة جاسم محمد

إذا صحّتِ الأرقامُ فإنَّ مُسلسَلَ العُنفِ الدَمويِّ في الجزائرِ قد حصدَ ما بينَ ستّينَ إلى ثمانينَ ألفاً من مُواطني الجزائر، وهذه الأرقامُ المهولةُ تُثيرُ في النفسِ أشدَّ أنواعِ المَرارةِ والألمِ ليسَ لكثرةِ الضَحايا فَحسبُ بلْ للطُرُقِ الوحشيّةِ التي تُنفَّذُ بها عملياتُ القتلِ، ولأنّنا جميعاً نحبُّ الجزائرَ أرضاً خضراءَ زاهرةً وشعباً شَهْماً أِبيّاً وتأريخاً هو التضحيةُ والبطولةُ والفِداء. وليسَ من منطقِ هذا الحبِّ القولُ بأنَّ الغُمَّة التي تسودُ الجزائرَ زائلةٌ بل من مُنطَلَقِ العقلِ أيضاً، فما يجري هو خِلافُ طبيعةِ العقلِ الإنسانيِّ وخِلافُ الخُلُق العربيِّ والإسلاميّ.
إنَّ ما يَجيشُ في الصُدورِ من أسىً يدفعُ إلى التساؤُلِ عن التَعاليلِ فالراهنُ لا يوجدُ لِوحدِهِ ولا بتِلقاءِ نفسِه، ولا بُدَّ من تَفاعُلاتٍ سابقةٍ انتهتْ إلى وُجودِه. والمجتمعُ الجزائريُّ، كأيِّ مجتمعٍ آخَر، إنّما هو نِتاجٌ إنسانيّ، والحديثُ عن تلك العواملِ المتداخلةِ قد يطولُ وإن كانَ الدينُ يستوي عاملاً متميّزاً متفرِّداً بسببِ انتمائِه إلى المُقدَّسِ والقوّةِ الروحيّةِ، وبسبب ِشُموليّتِه للعالَمِ وما وراءَ العالَمِ وبسببِ احتوائِه الماضيَ والحاضرَ والمستقبل.
وفي اجتهادي، ولكَ أن تقولَ اجتهادِكَ، أنّ ظاهرةَ العُنف الدمويِّ ليست عَرَضَاً جوهرُه التطرُّف في الدينِ بقَدْرِ ما هو ظاهرةٌ من ظواهِر التطوُّرِ المريضِ في مجتمعاتِ ما بعدَ الاستقلالِ، حيث يُجابَهُ الطموحُ بكوابحِ الفَقرِ والجَهل. إنَّ التطوُّرَ المريضَ يَعني البُطْءَ والتراخِيَ في إقامةِ المؤسّساتِ الديمقراطيّةِ، كما يعني العجزَ في معالجةِ الشُروخِ الاجتماعيةِ ما بينَ الفَقْرِ والغِنَى، ما بينَ الشَبابِ وفُرَصِ العَمَلِ، ما بينَ الرغبةِ في التعلُّمِ وإمكاناتِ التعليمِ، ما بينَ السُكّانِ والسَكَنِ، ما بينَ المَعاييرِ الأخلاقيَّةِ المَوروثَةِ وقيَمِ الحَضارةِ المادّيّةِ الغربيّةِ، ما بينَ الريفِ والحَضَرِ، ما بينَ الحُلُمِ بمدينةٍ فاضلةٍ وأخرَى تتسرَّبُ في شَرايينها اللّامساواةُ والظلمُ والجريمةُ والرَشوة. ورُبّما تتّفقُ معي، وإلى حَدٍّ بعيدٍ، بأنَّ كلَّ ذلكَ يُشكِّلُ مِظلّةً غَبراءَ يتفجَّرُ تحتَ سقفِها العنفُ، العنفُ الذي ينمو ويتواَلُد ويتناسَخُ أشكالاً فيها القُبحُ والوحشيَّةُ والدَناءَة.
وفي المجتمعِ الجزائريِّ، كأيِّ مُجتمعٍ آخرَ، وكالاتُه للضَبطِ والسيطرةِ من أجلِ أنْ يستمرَّ هذا المجتمعُ على البقاءِ، ولِمَنعِ المَزيدِ من الانهيارات. والضبطُ لا يقفُ عندَ الكلمَةِ الطيّبةِ والنُصحِ بل يُوَظِّفُ العُنفَ ومُقاومةَ الداءِ بالداءِ، ووكالاتُ الضَبطِ لِكَي تُقنِعَ نفسَها بما تقومُ به فإنّها تُحاولُ أن تَنظُرَ إلى المُشكلةِ على أنّها مُزدَوِجَةٌ، فمن جهةٍ ترَى أنَّ مشكلةَ العُنفِ وممارسةَ العُنفِ ما زالتا قائِمَتينِ، وأنّ المسؤوليةَ تَقتضي مُواجهةَ الشرِّ وقَهرَه، ومن جهةٍ أُخرى فإنّها تُظهِرُ للجمهور وللعالَمِ، كلِّ العالَمِ، بأنَّ المُشكلةَ، حتّى وإن بَدَت مُستَفحِلةً تَصعُبُ علَى الحَلِّ فإنّها في طريقِ الحلِّ، وإذا لم ينحرفْ بنا الاجتهادُ فإنّ الحلَّ يَبقَى مسألة المسائِلِ. أيكونُ الحلُّ في مواجهةِ القَتلِ بالقَتلِ؟ قد لا يكونُ هذا الدربُ الرهيبُ هو الأنسبُ، وذلكَ لتَضَمُّنهِ تَبَنِّي العُنفِ صناعةً وتَبَنِّي الاستمرارِ على إنعاشِ هذه الصناعةِ تفنُّناً في الأساليبِ وتَعَدُّداً في الوسائلِ وانغِماساً في حمّاماتِ الدماءِ. ومن بابِ الإيضاحِ، كما هُو من بابِ الاستطرادِ، دَعْنِي أستَشْهِدْ بِمُستَهَلِّ ما وردَ في نشرةِ أنباءِ ’’اليونسكو‘‘ رقم 14. لقد تحدَّثَ أحد الضباط من راديو ’’اليونسكو‘‘ في پاريس قائلاً:
’’عندما قتلتُ رجلاً لِأوّلِ مرّةٍ أصابَني الغَثَيان. بعد سنواتٍ، وخلالَ الحربِ كَضابطِ مِدفعيَّةٍ مَسَحتُ عن الوجودِ قريةً بأكمَلِها ولم تتأثّرَ فيَّ شعرةٌ واحدة. لا يَستطيعُ أحدٌ أن يدّعيَ بأن العُنفَ لا يُفسِد الإنسان‘‘.
وفي مَجالِ التعقيبِ على هذا الاعترافِ المُرعبِ أقولُ إنّ مُحتَرِفِي العُنفِ وهُواتَهُ لا يَنظُرون إلى العُنفِ على أنَّه انحرافٌ سُلوكِيٌّ يستحقُّ الإدانةَ والاحتقارَ لأنَّ فيهِ، في مَنظورِهم، ما يَدعُو إلى الفَخارِ والزَهْوِ. إنّ مُرتَكِبَ العُنفِ يتلبَّسُ العَقلَ الجَماعِيَّ الإرهابِيَّ، فتَراهُ يجعلُ في مُقدِّمةِ اعتباراتِه نظرةَ أقرانِه، وما سَيحظَى به من تقديرٍ إذا ما ارتكبَ من العُنفِ أبشَعَهُ، وإذا ما ابتعدَ كلَّ الابتعادِ عن الشَفَقةِ والرَحمةِ، ناهِيكَ عن الدَمعةِ واختلاجَةِ الضَمير.
ولعلَّ من أهمِّ انشغالاتِ العَقلِ الجَماعِيِّ الإرهابِيِّ هو أنْ يَجلِبَ، كهدفٍ تَكْتيكيٍّ، انتباهَ وسائِل الإعلامِ والجُمهورِ وأصحابِ القرارِ، وبِجَلْبِ الانتباهِ هذا لا يُريدُ الوُقوفَ عندَ إثباتِ الوُجودِ وإثارةِ التساؤُلِ عَمّا يَجري بِقَدْرِ ما يَعنيهِ أيضاً إشاعةُ الاقتِناعِ بأن هذه الأعمالَ، على ما فيها من رُعبٍ ودَمٍ وتَقطيعِ رِقابٍ وذبحٍ، هي أعمالٌ أخلاقيّةٌ وصحيحة.
أما إذا تَساءلتَ عن الهدفِ الاستراتيجيِّ لذلكَ العَقلِ الجَماعِيِّ الإرهابِيِّ فهو الاستيلاءُ على السُلطة ظنّاً بأنَّ ذلكَ هو الذي يُرَمِّمُ الشُروخَ الاجتماعيّةَ ويمنحُ الرِضا والسعادةَ للجميعِ تحتَ الظلالِ الوارفةِ للمدينةِ الفاضلةِ، ومن أجلِ الحيلُولَةِ دونَ الوُصولِ إلى هذا الهدفِ تقومُ وكالاتُ الضَبطِ بدورِها في صَدِّ العُنفِ بالعُنفِ انطلاقاً من أنَّ هذا العَقلَ الجَماعِيَّ الإرهابِيَّ قائمٌ في جَوهرهِ وبمُفرداتِه على الشرِّ وأنَّ القضاءَ على الشرِّ أمرٌ يفرِضُه الخُلُقُ والواجبُ الوطنيُّ وحُبُّ العيشِ بسلامٍ، وتستمرُّ الدُوّامة!
وأعودُ وتعودُ معي إلى أُطروحَة ِالحلِّ. إن اتفاقَنا على أنَّ هذا العَقلَ الجَماعِيَّ الإرهابِيَّ، مَهما تَنوَّعتْ ألوانُه من سوداءَ أو حمراءَ، ومهما تعدَّدتْ دَعَاواهُ من دِينٍ أو قَوميّةٍ فإنّهُ وليدُ تَطَوُّرٍ مريضٍ يختلُّ فيه التوازُن. وإنَّ أجدَى ما يُمكنُ اتباعُه، من أجلِ تجريدِ هذا العَقلِ من دَعاواهُ وكَشفِ حقيقةِ ألوانهِ، هو وَضعُ الحقائقِ بين أيدي الناسِ، الحقائقُ مَهما كانتْ مُرَّة. إنَّ الناسَ تستطيعُ أن تأخُذَ قراراتٍ حاسِمةً وتقومَ بدورٍ فاعلٍ إذا ما توفَّرتْ بينَ أيديِها الحقائقُ وليسَ الأكاذيب، هذه الحقائقُ لا تشمِلُ أعدادَ القَتلَى ولا أساليبَ القَتلِ بَل الحقائقَ التي تتّصلُ بكلِّ أحوالِ التطوِّرِ المَريضِ وبكُلِّ الطُرُقِ المُفتَرضَةِ لمُعالجةِ هذه الأحوال.
إنَّ ذلك يَعنِي وَضْعَ قواعدَ جديدةٍ واتّباعَ أساليبَ جديدةٍ في الإدارةِ والتَوجيهِ والتَنظيمِ الاجتماعيِّ، وإنّ القادرينَ على ذلكَ هم الذينَ يكتَوُونَ بِنارِ الإرهابِ ويُعانونَ حرائقَهُ ويحلُمونَ بالسلامِ والطُمَأنينةِ تحتَ راياتِ العدالةِ وحريّةِ الاختيارِ.
هل يبدو الأمرُ مُستحيلاً؟ إنه ليسَ كذلك، فالجزائرُ التي صنَعتْ ملحَمةَ الاستقلالِ، ورفعتْ عن عُنُقِها أطواقَ التَبَعيّةِ، وكتبتْ على صُخورِ ’’الأوراسِ‘‘ أروعَ سُطورِ النِضالِ لَقادِرةٌ على صناعةِ قواعِدها الجديدةِ وأساليبِها الجديدةِ في جَوٍّ تكونُ فيه الحقائقُ بين أيْدي الناسِ، جميعِ الناسِ. وإلى أنْ يَحينَ ذاكَ، وذاكَ، إنْ صَحَّ العَزمُ، ليسَ ببعيدٍ، فإنّنا لا نقوَى إلّا أن نكونَ معَ حكيمِ المَعرَّةِ وفيلسوفِها وشاعرِها(1) حين يقولُ:
أَعِنْ باكِياً لَجَّ في حُزْنِهِ
وَسَلْ ضاحِكَ القَومِ مِمَّ ابتهجْ؟!
1- أبو العلاء المعرّي (363-449)، (973-1057). شاعر ومفكر ونحوي وأديب من عصر الدولة العباسية، ولد وتوفي في معرّة النعمان بمحافظة ’’إدلب‘‘.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
نشرت في صحيفة ’’البيان‘‘ (الإمارات)، 31-3-1998.

   

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

1197 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع