د. سعد ناجي جواد
اذا ابتليتم فاستتروا.. كلمة الى السيد وزير خارجية العراق
هذه مقولة ماثورة قديمة جدا وصحيحة جدا وذات دلالة قوية جدا جدا. نسبتها بعض الكتابات الى الرسول الكريم محمد ﷺ، ولكن المتبحرين بعلم الحديث اكدوا ان سندها ضعيف وغير متواتر، ولو ان الرسول الكريم ﷺ كان قد روي عنه حديث قريب من هذا المعنى. تذكرت هذا القول قبل ايام بعد ان اطلعت على قائمة طويلة اصدرتها وزارة الخارجية العراقية تحتوي على اكثر من ثمانين اسما مرشحين للعمل كسفراء للعراق في الخارج. ما اثار الانتباه عندي وعند العديد من المراقبين، ان القائمة احتوت على اسماء ليس لها اية علاقة بالعمل الدبلوماسي لا من بعيد ولا من قريب، ولم تعمل بهذا السلك ولا تحمل شهادة تؤهلها للعمل في هذا المجال. لا بل ان هناك من يقول ان بعضهم لا يحمل سوى شهادة مزورة، واخرون عليهم ملفات فساد كبيرة، وغالبية الاسماء المرشحة هم من ابناء (المسؤولين)، الذين حصلوا بعد الاحتلال على هذه الصفة (مسؤولين) والتي لا تنطبق عليهم بتاتا، او اقاربهم او من مرشحي الاحزاب الطائفية والعنصرية المهيمنة على العملية السياسية منذ ذلك التاريخ. هذا الامر جعل احد الذين يمتلكون طبيعة ساخرة سوداء ان يعلق بالقول ( يبدو ان المسؤولين الكبار قد تعبوا من السرقة والفساد، او انهم احسوا بدنو اجلهم فارادوا ان يوّرِثوا هذه المهمة الى ابنائهم واقاربهم واخوتهم او التابعين لهم).
ابتداءا يجب القول ان غالبية هذه الترشيحات، (والسيد وزير الخارجية يعرف ذلك جيدا)، تتعارض مع شروط تعيين السفراء الصادرة عن وزارة الخارجية نفسها، والتي تقول انه يشترط فيمن يعين سفيرا ان يكون: حاصلا على شهادة جامعية اولية او ما يعادلها (وهذه الفقرة الاخيرة -ما يعادلها- استغلت لكي تشمل حملة الشهادات المزورة او من المعاهد الدينية غير المعترف بها اساسا). وان يكون من ذوي الخبرة والاختصاص ومن المشهود لهم بالنزاهة والكفاءة، وان لا تقل درجته الوظيفية عن درجة مستشار، وان يتقن احدى اللغات الحية، او ان يكن له المام بها، ( وهذه الفقرة الاخيرة وضعت ربما لتشمل كل من يستطيع ان يقول صباح الخير مثلا بالانكليزية او الفرنسية)، مع شروط اخرى. الا ان وزارة الخارجية العراقية تجاوزت كل هذه الضوابط ورفعت هذه القائمة المبنية على المحاصصة وعدم الكفاءة الى مجلس النواب للمصادقة عليها. وهناك من يقول ان السيد الوزير وافق على اسماء هو نفسه غير مقتنع بها حتى يستطيع ان يمرر اسماء طرحها حزبه ومكونه، وقسم غير قليل منهم غير كفوء لهذه المهمة ايضا.
بالنسبة للغالبية العظمى من العراقيين فان هذا الاجراء لا يثير الاستغراب، ولم يعد يعني لهم اي شيء، خاصة وانهم غير قادرين على ايقاف عملية التدهور وجر البلاد الى الهاوية عن طريق الفساد والمحسوبية والمنسوبية. ففي البلد الذي يصبح فيه الأمي مديرا عاما او حاملا لرتبة فريق او لواء ركن في الجيش وهو لم يحصل حتى على الشهادة الابتدائية، او ان يصبح وزيرا بشهادة مزورة، ومجلس النواب يصدر عفوا شاملا عن مزوري الشهادات والمسجونين بتهم فساد ثم يصبحوا وزراء او سفراء بعد العفو عنهم، وفي البلد الذي افلسه السياسيون بسرقاتهم المستمرة لحد هذا اليوم ولا يوجد اجراء حازم واحد لردعهم، والبلد الذي يعتبر من اغنى عشر دول في العالم بموارده لكنه يستدين من البنوك المحلية (التي اغتنت بحصولها على ملايين الدولارات يوميا بعمليات فساد يديرها البنك المركزي العراقي) ليدفع رواتب موظفيه.
وفي البلد الذي رغم الحالة الاقتصادية الصعبة جدا، يصدر وزير المالية ميزانية هائلة هو نفسه لا يعرف كيف سيغطي ابوابها او عجزها الكبير، وفيها من الهدر والتبذير ما يصل الى اكثر من 30%، وفي البلد الذي يوجد فيه قانون يقول اذا ما اصدر مجلس النواب قانونا ولم تعترض عليه الرئاسة خلال 15 يوما يعتبر القانون ساري المفعول، ولم يحدث ان اصدرت الرئاسة اي اعتراض على ما يصدر من المجلس، (وهكذا مررت موخرا قوانين التعليم العالي المجحفة والتعدي على الاوقاف الدينية التاريخية)، وفي البلد الذي تعجز فيه كل الحكومات وروساء الوزراء المتعاقبين عن القاء القبض على فاسد كبير واحد او ان يتخذوا اجراءا صارما بخصوص اكثر من مائة وخمسون الف ملف فساد مكتمل الجوانب، اقول في مثل هذا البلد لم تعد تثير مثل القرارت الحكومية اية دهشه او استغراب لدى الغالبية من العراقيين.
لكن ما يثير الالم في النفس بالنسبة الى قائمة السفراء الجدد، هو ان هؤلاء الاشخاص سيكونون وجه العراق في الخارج، وسيمثلونه في المحافل الدولية. اضف الى ذلك فان لدى العراقيين علم مسبق بان اغلب هذه الاسماء، والتي اذا ما اردنا ان نتجاوز عن فسادها وطائفيتها وعنصريتها وعدم امتلاكها للمؤهلات المطلوبة لمثل هذه الوظيفة، فانها، وهذا الاهم، لا تؤمن بشيء اسمه العراق، (بعضهم طالب بتقسيمه والبعض الاخر يدافع عن ايران والولايات المتحدة بل وحتى اسرائيل ودول خارجية اخرى اكثر مما يدافع عن العراق) نستطيع ان ندرك ضخامة هذه الكارثة. لقد كان الاجدر بمن اعد هذه القائمة ان يقتدي بالقول الماثور ( اذا ابتليتم فاستتروا)، لقد وطن العراقيون انفسهم على الفساد والطائفية والعنصرية وحكم الجهلة والاميين داخل بلدهم، ولكن حفاظا على النزر اليسير المتبقي من سمعة العراق في الخارج وتاريخه ومكانته وحضارته القديمة فانهم كانوا يتمنون على من شارك في هذه الفضيحة، وعلى راسهم السيد وزير الخارجية، (ان يستتروا) وان يُبقوا ما ابتُليَ به العراق منذ الاحتلال ولحد الان شانا داخليا، ولا يضيفوا اليه فضائح خارجية جديدة وعلى المستوى الدولي.
واخيرا وليس اخرا فان السيد وزير الخارجية يعلم جيدا ان وزارة خارجية العراق، رغم كل الاسماء الدخيلة التي فرضت عليها، لا تزال تحوي الكثير من الكفاءات الوطنية والمتمرسة في العمل الدبلوماسي، وانه بيستطيع ان يختار منها سفراء يشرفون اسم العراق ومكانته. فهل سيعيد النظر ويكسب فضيلة؟ قديما قالوا يا سيادة الوزير (الاعتراف بالخطأ لا يجرح كرامتك بل بجعلك كبيرا في عين من اخطأت بحقه). ربما تكسبك هذه القائمة رضا اطراف معينة تمرست في الفساد، ولكن تاكد ان الغائها او تعديلها سيكسبك احترام شريحة كبيرة من العراقيين، والامر متروك لك.
1438 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع