نزار السامرائي
يوميات مسافر على طريق أحمر-١
اهداء
إلى روح زيدون ابن أخي الذي غادرنا قبل أن موسم الرحيل، وإلى روحه النقية التي ما تزال ترفرف فوق رؤوسنا وتعيش معنا رغم بعد المسافات، وإلى أخي مأمون وأم زيدون اللذين تحملا الفجيعة بقلبين مؤمنين بأن ما حصل كان سيحصل مهما اتخذا من احترازات، وإلى شقيقاته وأشقائه الذين هالهم المصاب ولم يستعيدوا استقرارهم النفسي إلا بعد أن جَرف الحزن عليه كثيرا من جُرف صبرهم، إلى أعمامه وأنا منهم وعماته اللائي تعاملن مع الحدث كواحد من مصائب الكبرى، وإلى أصدقاء زيدون ومحبيه وإلى كل شهداء العراق الذين سقطوا بنيران الاحتلالات الغاشمة التي تعرض لها العراق وما زال، أهدي هذا المؤلف، آملا أن يبقى شهادة تستحث في كل واحد منهم حقدا مقدسا على كل من كان سببا في احتلال العراق وتدميره، وتوقظ في كل مظلوم لتبقى جذوة الثأر متقدة في القلوب حتى يُسترد الحق ويعود إلى أهله، وننتقم من قتلة زيدون بتلك الطريقة البشعة التي ستبقى وصمة عار في جبين "زعيمة العالم الحر" أمريكا.
يوميات مسافر على طريق أحمر
قبل البداية
في 9 نيسان/ أبريل 2003 استكملت قوات الغزو الأمريكي البريطاني مع قوات من دول أخرى مثل إسبانيا وإيطاليا وأستراليا وكوريا الجنوبية وبولندا وغيرها، استكملت احتلال مدينة بغداد عاصمة الدولة العراقية ورمزها السياسي، وباشرت الولايات المتحدة بشكل خاص ومن دون خبرة حقيقية بطبيعة الشعب العراقي مع كثير من العنجهية والتصورات الخاطئة عن إمكانيتها لفرض نموذجها الخاص على البلدان التي تحتلها ورفض المقترحات الأخرى التي قدمت لها من دول شاركتها الغزو كبريطانيا التي تعتبر نفسها صاحبة الخبرة الأكثر عمقا وأكثر معرفة بالعراق لترتيب أوضاعه، لكن الولايات المتحدة أغمضت عينيها وسدت أذنيها عن كل مشورة ومضت في تجاربها الخاصة، على وفق المخطط الذي تظن أنه يخدم استراتيجيتها الإقليمية والدولية، فأطلقت القوات الأمريكية يد اللصوص والغوغاء والدهماء وقطاع الطرق المحليين والإقليميين والدوليين لتدمير ما بقي من مؤسسات بناها العراقيون بجهدهم وعرقهم وتضحياتهم عبر مسيرة امتدت لعشرات السنين، وفي الوقت ذاته أعطت لجنودها الحصانة لممارسة القتل من دون قتال ووضعت لنفسها قواعد اشتباك أجازت فيها استهداف الشيوخ والأطفال والنساء، فقتلت على الظنة والشبهة وقتلت في عمليات انتقام ميدانية انتقمت من العزل نتيجة عجزها عن مواجهة المقاومة الباسلة التي كانت قد انطلقت بُعيد أقل من أربع وعشرين ساعة على احتلال مدينة بغداد، العراقيون لم يقاتلوا أمريكا وحدها بل قاتلوها ومعها جيوش أكثر من عشرين بلدا، وحتى لو أنهم واجهوها منفردة فسيسجل لهم التاريخ فخرا أنهم قاتلوا أعتى قوة عسكرية عرفها تاريخ البشرية منذ أن عرفت الدول منظومات الجيوش والقوة المسلحة والخطط الحربية، ومنذ أن دارت على الأرض أولى حروبها، قاتلوا الولايات المتحدة التي كانت تمثل مركز الاستقطاب الوحيد في العالم ولم يتسولوا من أحد العون على الرغم من أن تقديم العون لشعب يقاتل من أجل تحرير بلده يعد أمرا مشروعا بل واجبا على الشعوب الحرة كلها، وعلى الرغم من أن العراقيين لم يبخلوا به يوما على أحد حينما كانوا يناصرون بلا منّة كل المنافحين عن حقوقهم وحرية بلدانهم في كل بقعة في الأرض تعرضت للاحتلال والقهر والظلم والحيف، وألحق العراقيون بالمعتدين أكبر الخسائر في الأرواح والمعدات في وقت قياسي من زمن المنازلة، نعم العراقيون لم يواجهوا إسرائيل ولم يواجهوا فرنسا، بل واجهوا العالم كله وهم مطوقون وممنوعون من الحصول على الدعم من أي طرف خارجي سواء كان عربيا أم غير عربي، ومع ذلك هزموا المشروع الكوني الأمريكي، وربما كانوا قد قاتلوا نيابة عن الإنسانية جمعاء ولو أن غزو العراق كان قد مرّ من دون ثمن باهظ دفعته أمريكا لكانت القوات الأمريكية تستقر الآن في الكثير من عواصم المنطقة ولكان العلم الأمريكي يرتفع فوق أبنية في كثير من عواصم العالم هي ليست سفارات أمريكية على أية حال، ولكانت واشنطن تستنسخ فيها تجربة الإدارة السياسية التي أقامتها في العراق على يد بول بريمر، وربما كان بول بريمر بما يملكه من حظوة عند الرئيس الأمريكي السابق جورج بوش الابن، قد أصبح حاكما عاما للعراق وإيران ومنطقة الخليج العربي وبلاد الشام، ولكن العراقيين الذين تصدوا للمشروع الأمريكي بعزم ورجولة وشجاعة نادرة أوقفوا خطط الولايات عند بوابات العراق ولعق الأمريكيون جراحهم النازفة، واعترفوا بحوالي خمسة آلاف قتيل فقط، وهو رقم يفوق خسائر إسرائيل في كل حروبها على البلدان العربية، على الرغم من أن الأرقام الحقيقية للخسائر الأمريكية تقرأ أكثر من ثلاثين ألف قتيل وأكثر من 226 ألف جريح، منهم آلاف المعاقين ومن الذين يعانون من لوثة عقلية أو هم بحاجة إلى رعاية دائمة، هؤلاء لم يأتوا بنزهة للعراق وإنما صور الأمر لهم على ذلك الأساس، بل قيل لهم بأن من طبع العراقيين أن ينحروا الذبائح لضيوفهم، وأن الزهور والحلوى ستنثر فوق رؤوس جنود الغزو وتحت سرف الدبابات الأمريكية المتقدمة نحو بغداد، وإذا بالذبائح تنحر ولكنها كانت من الجنود الأمريكان أنفسهم، وإذا بالدبابات تتطاير أشلاؤها نتيجة القذائف التي تطلقها زنود الرجال الثابتة أيديهم على سلاحهم، وإذا بغيوم فيتنام تتراكم فوق واشنطن، وإذا بالمقاومة العراقية تنجح في نقل المعركة من شوارع المدن العراقية إلى شوارع المدن الأمريكية مع كل نعش لقتيل أمريكي ملفوف بالعلم الأمريكي، ليترك له أصداء غاضبة على النزعة العدوانية الأمريكية، كان العراقيون يتحدثون عن خسائرهم بمرارة وهم شهداء عند ربهم ولكنهم يلحقون ذلك بذكر أرقام الخسائر الأمريكية كناية عن النصر وتخفيفا من غضبهم، أمريكا هذه ارتكبت جرائم تفنن في ابتداعها الضباط والجنود المرعوبون، ولكن هذه القصة التي بين يديك أيها القارئ الكريم جريمة من نوع خاص وهي تعكس الطبيعة السادية الهمجية لكل من ارتدى البزة العسكرية الأمريكية والتي تزعم قيادة الجيش الأمريكي أنها رمز للفروسية، فأين هي الفروسية في إلقاء شباب عزل في بوابة سد على نهر دجلة رمز الحياة العراقية المتجددة؟ فأراد الأمريكيون تحويله إلى قبر ترقد فيه كل النوايا الخيرة.
الخطوة الأولى
في الطريق بين بغداد وسامراء
العابر عند مفترق أي طريق في بغداد يخوض مغامرة لا يمكن التكهن بنتائجها، حيث تنتشر القوات الأمريكية بدورياتها المتحركة والثابتة وحيث يكون كل شيء يتحرك هدفا مشروعا للقتل من دون إنذار على وفق قواعد الاشتباك الأمريكية التي وضعها الجيش الأمريكي لنفسه وجعل منها كرة مطاطية يمكن تكييفها على وفق الحالة التي تخدم الجندي الأمريكي المأزوم حينما يكون على حق في أحوال نادرة جدا أو من دون حق أو يكون على باطل في كل الأوقات، نعم المرور عند المنعطفات قد يثير في النفس مشاعر إنسانية متباينة، فهو من جهة يصك الأبواب أمام العقل للتحرك أو التفكير السليم ويغلق العين عن رؤية ما يمر أمامها ويسد الأذن عن سماع ما هو قريب منها، بل يغلق أي إدراك عقلي ويطلق بالمقابل العاطفة الحبيسة من مكامنها، أمام الموت الحقيقة المطلقة الوحيدة في الكون، والتي على الرغم من أنها لا مناص من الوصول إليها، إلا أن الخوف منها يرتقي إلى مديات يستحيل التحكم بها مهما بلغت شجاعة الرجال، وهو من جهة أخرى طريق لا بد من سلوكه للوصول إلى الغاية التي يقصدها من يسلكه ولا خيار له إلا المجازفة أو البقاء في المنزل.
فانتظار الموت وترقب وصوله، يطغى على الخوف من الموت نفسه، لأن توقع حصوله يشل المشاعر ويعطل المدارك والتفكير السليم، وحين ينشر ملك الموت جناحيه فوق أرض يحاول كل من هناك أن يغلق بابه دونه، أو أن يفلت منه بجلده وينقذ نفسه بأية وسيلة، قليلون هم الذين يفكرون بغيرهم في تلك اللحظات، وفد يجنّد البعض قدراتهم من أجل تقديم العون للآخرين، ولكن اقتراب لحظة الوداع هي الامتحان الصعب الذي لا يجتازه إلا القلة النادرة برباطة جأش، وقد تصدر عن المرء حركات تنم عن الرغبة في المشاركة في المصير المشترك، ولكن إذا وقع الاختبار النهائي فقد يكون من المسلم به بالنسبة للكثيرين أن يفكر الإنسان بنفسه أولا مهما كانت درجة الصلة مع الغير في مشهد الرعب الأخير، في شوارع بغداد ومفترقات طرقها وكذلك الحال بالنسبة للمدن العراقية التي روّعها الاحتلال الأمريكي، كان على العراقي أن يحسب خطوته بدقة حينما ينقل قدمه في شوارعها، لأن الخطأ الأول سيكون هو الأخير.
كان زيدون صامتا وسارحا ينظر إلى البعيد من الطريق الرابط بين بغداد وسامراء ويفكر بقادم الأيام التي سيضمه مع خطيبته في بيت واحد حيث يعود لعالم الطفولة البريئة ولكن مع أولاده الذي كان مصمما على أن يجعل منهم فصيلا كاملا، كانت هذه الأفكار تداعب مخيلته وتستنهض فيه كل عوامل التحدي والتطلع لحياة جديدة بكل مفرداتها وتفاصيلها، على الرغم من أنه ما زال في مقتبل العمر، إلا أنه نجح في وضع أبيه وأمه أمام الأمر الواقع بقبول فكرة الزواج المبكر، أما ابن عمه مروان فكان وهو جالس وراء مقوّد الشاحنة الصغيرة، يراقب الطريق نفسه بحذر شديد وإشفاق من أن يبرز أمامه رتل أمريكي فيملأ الأرض رعبا وهلعا ويحتل الطريق عن آخره ويصادر حق أهله من مجرد المسير فوقه، ويفسر كل توقف على أنه دليل على عملية (إرهابية) فيفتح النار عشوائيا ولا يكترث لمن يقتل فذلك هو ما يرمي إليه، كان مروان يحمل من القلق الشيء الكثير لأن الأمريكان يقتلون ثم يبحثون عن مبرر معلن لسلوكهم، مدعومين بإدارة احترفت الجريمة ومنحتهم كل ثقتها ودعمها، ولذا كان يراقب الطريق وعلى جوانبه كل حالة قد تطرأ فجأة فتغير وجهة الرحلة، كانت الشاحنة جديدة ولم يتوقع أحد منهما أن تصاب بعطل مفاجئ يلزمهما التوقف أكثر من مرة لمعالجته، ومع ذلك فقد رفضت المضي في طريق العودة، إذ تعرضت لعطل بعد مسافة غير بعيدة عن بوابة بغداد، حتى اضطرا في نهاية المطاف الاستعانة بميكانيكي لإصلاح الخلل وأخذ هذا التأخر من وقتهما أكثر من ضعف الوقت اللازم للوصول إلى سامراء قبل بدء سريان حظر التجوال، وبعد طول سفر وصلا بشاحنتهما التي أتعبتها الرحلة وأتعبتهما أكثر منها، إلى مشارف سامراء في وقت يقل بنصف ساعة من الوقت الذي أعطت القوات الأمريكية لنفسها الحق في فتح النار على كل كائن متحرك على الطريق بسبب حظر التجول الذي سيستخدم مسارا لإطلاقة جاهزة في بندقية جندي أرهقه رعب الانتظار لمجهول يفوق الموت في إثارة كوامن النفس، ويرى في كل متحرك عدوا مؤكدا وهدفا مشروعا للقتل، لأن من لا يقتل أولا سيكون هو الضحية هكذا أدخلت القيادة العسكرية الأمريكية هذه القناعة في عقول جنود قادمين من أزقة خلفية لم تعلمهم سنوات التدريب إلا كيفية حماية النفس ولكن بالقتل.
أقام (الحرس الوطني) الذي شكلّته القوات الأمريكية من بعض ضعاف النفوس الذين لم يثبتوا أمام إغراء العملة الخضراء، أقاموا نقطتي تفتيش على جانبي سد سامراء لمراقبة الطريق الوحيدة التي يربط سامراء مع طريق بغداد الدولي مع الموصل، كان الجنود المتعبون والذين تحولت حجرتهم في بداية العام الميلادي، إلى مدخنة مغلقة بسبب موقد النار الذي حاولوا فيه امتصاص غضب الطبيعة بدرجات تدنت إلى مستوى الصفر المئوي، يتمنون ألا يضطروا لمبارحتها على الرغم من الدخان الكثيف الذي غطى جدرانها الداكنة، ومع ذلك فإنهم كانوا يراقبون المشهد عن بعد، ليس حرصا على تنفيذ واجب ينظر إليه أبناء مدينتهم على أنه عارٌ لن تمحوه السنون وقفاز عراقي لحماية أيدي لاعبين غرباء يحتلون البلد يريد قتل أبنائه برصاص أبناء آخرين، وإنما خشية من دورية أمريكية لا تمنحهم الثقة ولا تنفك تجوب المنطقة جيئة وذهابا، فتمزق جدران الصمت الشتوي القارس بحركة سرفات دباباتها وعجلاتها المجنزرة وتحيل الطريق إلى أرض محروثة بالأخاديد وكأنهم يسعون إلى تقويض أسس سد الثرثار على دجلة في سامراء، ولهذا كان أفراد الحراسة في المناوبة الليلية يتناوبون على مراقبة قدوم الدوريات الأمريكية، أكثر من الحرص على مراقبة العابرين من سامراء وإليها، خاصة وأن بدء سريان منع التجول، لم يتبق لموعده إلا أقل من ساعة واحدة، وبعدها تنتهي مرحلة القلق وهاجس الخوف من غضب الشارع العراقي واحتقار القوات الأمريكية لكل المتعاونين.
عندما كانت الشاحنة الصغيرة تقترب من نقطة الحراسة، بدأ مروان باستخدام الإنارة والإشارات الرباعية، من أجل تنبيه جنود السيطرة الثابتة لسيارة كانت تسير ببطء شديد فتلك أوامر قوات الاحتلال وتطبقها قوات الحرس الوطني بحذافيرها ومن يخالفها يعرض نفسه لإطلاق نار مؤكد، خرج الجنود من حجرتهم المؤصدة فلفحتهم نسمة باردة مرت قبل قليل فوق بحيرة مقدم سد الثرثار فحملت قليلا من الرطوبة التي لطّفت قليلا من برودتها فتيبست لها وجوههم الداكنة، تصنع الجنود الحزم في محاولة إخفاء التثاقل الكسول في هذه الليلة الباردة، هو ما أظهره الجنود مع القادمين.
ماذا جاء بكما في هذا الوقت؟ ساد الصمت بضع ثوان مع نظرات حائرة بين مروان وزيدون، ... تعطلت السيارة في الطريق فأخرتنا، قال مروان وكان يريد الانتقال إلى السؤال التالي.
بعد برهة عرف بعض جنود نقطة التفتيش القادمين في هذه الشاحنة الصغيرة فرحبا بهما وحاولا أن يقدما لهما شيئا ساخنا يدفع عنهما البرد والقلق، لكن الأمريكيين إذا عرفوا بذلك فقد يخسر أفراد الحرس الوطني وظائفهم ومصدر رزقهم، كان المشرف على نقطة السيطرة ضابطا من غير أهل المدينة، لضمان عدم حصول تواطؤ بين أفراد نقطة السيطرة وأهل المدينة قد يسبب خرقا لأمن الجنود الأمريكان، فأمرهم ببدء التفتيش الدقيق لحمولة الشاحنة، وكذلك محركها وقمرة القيادة، وبعد ذلك تفتيش سائقها ومن يرافقه، كان الوقت يمضي بطيئا جدا ويشد معه الأعصاب، وبعد أن انتهت حفلة التفتيش، همس جندي من العاملين في السيطرة وهو من أهل سامراء بأذن مروان ... لا تعبر السد فلم يعد هناك متسع من الوقت وهؤلاء الكلاب يترصدون العابرين بحثا لهم عن ضحية ولن يفلت منهم أحد، لقد تكبدوا اليوم خسارة كبيرة في جنودهم عندما انفجرت عبوة ناسفة بدورية آلية لهم عند مفترق طريق المرور السريع المؤدي إلى بغداد جنوبا والموصل شمالا ودمرت لهم عربة همر وقتلت من فيها، إنهم اليوم كذئب جريح يحاول التنفيس عن احتقان يغلي في الصدور ويبحث عن ضحية يتلهى بها، سيفكرون بالانتقام لمجرد أنهم وجدوا فرصة لذلك كي يتظاهروا بالوفاء لمن قُتل منهم، حتى لو كان الضحية لا صلة له بمن قُتل من جنودهم، المهم أنهم يبحثون عن ذريعة لممارسة لعبتهم المفضلة أو هوايتهم المقدسة، السباحة في دماء الأبرياء، لقد اعتادوا منظر الدم ولا يطيقون عدم رؤيته لزمن طويل.
تشاور مروان وزيدون في هذه النصيحة الثمينة والمجانية، وتداعت التحليلات متزاحمة ومتناقضة، وتوجها بالسؤال إلى الجندي الحائر، ماذا لو جاء الأمريكيون ووجدونا في هذه المنطقة العسكرية المحظورة علينا وماذا لو وجدونا على قارعة الطريق؟ أنتم وحظكم! قال جندي من سيطرة الحرس الوطني لم تمر علينا حالة كهذه ولا ندري ماذا ننصحكم، وإذن فالخطر واحد وبدرجة متساوية، إذن لماذا المكوث هنا، ولدينا بعض الوقت كي نصل إلى المنزل فنحن لا نحتاج أكثر من عشر دقائق على أكثر تقدير حتى بفرض المسير البطيء، ركبوا السيارة ولوح لهم بعض الجنود بأيديهم بإشفاق وألم، حتى توارت الشاحنة في ظلام الليل البارد، في طريق السد الملتوي والرابط بين سد الثرثار ومدينة سامراء في جوف الليل المظلم.
كانت الضرورة تقتضي السياقة الحذرة مع انتشار السيطرات الأمريكية المتحركة على طول السدة الترابية القوسية الموصلة مما يلي منطقة القلعة على يمين الطريق العام ويربط بين بوابات ناظم سد سامراء الذي كان يستخدم جسرا بين شمال سامراء وجنوبها، الأمريكيون يقيمون سيطرات "طيارة" لفترات قصيرة لتنتقل إلى مكان آخر، ولهذا فقد كان حتمياً التعامل مع هذا الظرف بمنتهى الحيطة والحذر، فلا مجال هنا للاعتذار عن خطأ ولا وقت لتصحيحه إن وقع، فبندقية الجندي الأمريكي تتصيد المخطئ للتخلص منه حينما يكون القتل مرادفاً لمعنى حماية النفس والمهمة العسكرية المكلف بها، ليس هناك وقت للبحث عن الخطأ من أجل تصحيحه.
حينما عبرا السدة الترابية ودخلت الشاحنة على الطريق العام في مدينة سامراء من جهة دار الاستراحة وأصبحوا على اليابسة، شعر مروان وزيدون بارتياح شديد لأنها العقبة الكبرى في الطريق بكامله، إذن دخلا مدينتهما التي كانت في هذا الوقت تغط في سبات عميق إلا القلة من شبانها الذين حملوا فوق أكتافهم قاذفات RPG7 والقنابل اليدوية وحملوا أرواحهم على أكفهم في مواجهة الاحتلال الغاشم بالإيمان وبالأسلحة الخفيفة، قبل الاحتلال كانت سامراء تفيض حيوية ونشاطات تجارية لتسويق محاصيلها الزراعية على مدار العام، ولا يغلق آخر مقهى في المدينة أبوابه ألا قبل الفجر بقليل استعدادا للصلاة، هذه المدينة التي ظلت حاضرة الإمبراطورية العربية الإسلامية لعدة عقود من أيام ازدهارها وأصبح مئذنتها الملوية مقصدا للسياح للتمتع برؤية أجمل مئذنة في العالم، تحولت إلى أرض محتلة يعبث بها الغزاة ويروعون أهلها بحجج وذرائع متهافتة، عادة ما يختلقها القتلة المحترفون لتبرير جرائمهم.
ظلت سامراء مدينة محافظة على وشائج نادرة من الألفة والمحبة والتعاضد والتضامن بين أهلها ونموذجا لإكرام الضيف، ها هي اليوم وتحت الاحتلال وبسبب الحزن على من فقدتهم من أبنائها وخيرة شبابها، وبسبب من عسف وعنت تعرضت لهما على أيدي جنود القوات الأمريكية الباغية، باتت اليوم طرقاً مهجورة وبيوتاً تترقب في كل ساعة صدمة جديدة من دهم أو وصول جثمان عزيز قضى وهو في بداية الطريق، ولكن العزاء في كل ذلك أن عدد جنود الاحتلال الذين قتلوا فيها يصل عدة أضعاف لأبنائها الذين استشهدوا دفاعا عن العراق الوطن والأرض والعرض والشرف والحضارة، ولذا كان حقد الجنود الأمريكان عليها بحجم ما فقدوه في طرقاتها من أرواح ومعدات وكرامة.
لم يبق ألا ثلاث دقائق ونكون في المنزل قال مروان لزيدون، اليوم اقض ليلتك عندنا واتصل بعمي وأخبره بأنك ستبيت عندنا، تمتم زيدون بكلمات مبهمة لم تصل إلى أذني مروان بسبب صوت محرك السيارة وانشغال البال بالظرف الراهن والمثير لكل أسباب القلق، ولكن وعلى مقربة من معمل الأدوية الذي احتفظ بكل مكوناته على الرغم من كل عمليات السلب والنهب التي تعرضت لها الممتلكات العامة في كل أنحاء العراق بعد الاحتلال، وبتحريض من المحتلين ومن مترجمين وأدلاّء كويتيين في توجه انتقامي من العراق لم يكن متاحا لهم التعبير عنه فجاء الاحتلال ليمنحهم هذه الفرصة، استمر معمل الأدوية في سامراء بالعمل ولم تمتد إليه يد آثمة ليواصل عطاءه في مواجهة كل أسباب الموت.
وفجأة ومن دون مقدمات قفز من المجهول عدة أشباح وانتصبت أمام مروان وزيدون، ترجّل عدد من الجنود الأمريكيين من آلياتهم الثلاث والتي كانت من نوع برادلي ويحملون أسلحتهم الأوتوماتيكية والمشرّعة باتجاه الآخر أيا كان عمره أو جنسه، من أين خرج هؤلاء؟ هل انشقت الأرض عنهم على حين غرة، استوقفوا شاحنة مروان وزيدون وأنزلوهما منها، بدأت الرحلة الثانية من العذاب والتفتيش وترافقت مع سيل من الأسئلة الغامضة والتي تشي بكثير من نوايا السوء التي يستبطنها جنود الولايات المتحدة حيثما حطت مراكبهم، إذ لا مترجم عندهم ولا أحد منهم من يجيد العربية ولو بصورة مكسرة من هؤلاء الجنود، ولا مروان وزيدون يجيدان الإنكليزية ولو بحدودها الدنيا، هذه سلطة من يظن نفسه قويا أو أن القوة ستبقى بيده إلى الأبد، ولهذا كان سلوك الجنود مزيجا من الخوف من المجهول والوحشية والقسوة وتعمد إذلال العراقيين وإهانتهم، بعد أن انتهت عملية تفتيش دقيقة جدا للشاحنة من الداخل والخارج والمحرك، أبلغ الجنود مروان وزيدون بالذهاب في حال سبيلهما، حمدا لله انطلقت العبارة من تلقاء نفسها ومنهما معا وفي وقت واحد، فمن يمر عند نقطة كهذه فهو مدان إلى أن تثبت براءته، ولم يكملا عباراتهما إلا وكانت المدرعة تلحق بهما وتوقفهما مرة أخرى، نزل منها عدد من الجنود، ثلاثة .... ثلاثمائة، قد يمر بخاطر من في مثل هذه الحال أن الأمور هي هكذا، كان الجنود يشهرون بنادقهم نحو مروان وزيدون الأعزلين، بنادق آلية سريعة الطلقات، ويعتمرون عدة القتال الكاملة، خوذهم الفولاذية تترنح فوق رؤوسهم، والسترات الواقية من الرصاص ملتصقة على صدورهم، وفوق المدرعة بقي جندي يوجه رشاشته المتوسطة نحو كل شيء يتحرك، الحذر حينما يصبح فوق حدّه يتحول إلى خوف، يشل قدرا كبيرا من التفكير، والخوف حينما يتجاوز حدّه يتحول إلى لباس جبن لا يرتديه الرجال، (انزلوا فورا، أو هكذا التقت الإشارة مع الكلمات المتدفقة من فم الرقيب الأسود الوجه والقلب)، ترجلا من الشاحنة وسرت نوبة جديدة من قلق أكبر، إنه قلق مشروع في زمن رخصت فيه قيمة الإنسان العراقي وحياته فكل شيء يؤكد ذلك في سامراء وغيرها من مدن العراق، أغلق الجندي الشاحنة وألقى بمفاتيحها لمروان وقال له ستبقى الشاحنة هنا، وأمر الجنود راكبيها بالوقوف جانبا، وأخرج جندي حبالا وقطع قماش، وتم ربط أيديهما وعصب عيونهما بشكل محكم، وتم دفعهما بقوة إلى داخل عربة عسكرية أخرى كانت متوقفة على مقربة من مسرح الحادث، ومضت في طريق مجهول.
هل هناك متسع من الوقت للوم النفس أو الغير حتى إذا كان من دون صوت أو بأثر رجعي؟ وهل أخطأنا حينما رفضنا عرض جندي الحرس الوطني في سيطرة السد بالمبيت الليلة عند نقطة السيطرة؟ وماذا سينفع الندم بعد الآن؟ هل يعيد ندم الدنيا كله عجلة الزمن ربع ساعة فقط إلى الوراء؟ وأهم من هذه الهواجس والأسئلة كلها، إلى أين يذهب بنا هؤلاء القتلة وماذا تراهم فاعلون بنا؟ كانت الأسئلة تتسابق تتساقط تباعا حتى من دون الرغبة في الحصول على جواب صامت من الداخل أو صاخب من الخارج، فلا فرق بعد الآن فنحن بيد عدونا الذي احتل بلدنا وجرائمه ملأت بلادنا خرابا ودما وجثثا، ولسنا استثناء عن أبناء بلدنا.
الخطوة الثانية
زيدون ... وداعا إلى الأبد
بعد رحلة كان صوت الآلية الأمريكية وهي تسير على طريق معبد كما يبدو من صوت التقاء سرفاتها مع الأرض المبلطة بالإسفلت، يقطع سكون الليل البارد والموحش بين أيدي أعداء لا يعرفون لكل الشعارات التي يرفعونها معنى على الأرض، وهواجس المجهول الذي يقرّب نهاية معلومة عند من خَبِر أساليب جنود الاحتلال الأمريكي، وأهل ينتظرون عودة الابنين البكرين لأهلهما، كان خزين الخيال ينضب مع الوقت، ولم يبق إلا انتظار لحظة الوداع، توقفت العجلة الأمريكية بعد أن استدارت عدة مرات ومع كل استدارة كانت المشاعر تدور معها في حلقة مفرغة، فُتح البابُ ونزل الجنود الذين سحبوا مروان وزيدون من كتفيهما بقوة وخشونة متعمدة، وأنزلوهما ورفعوا عن عيونهما عصاباتها، هدير مياه دجلة وهي تجتاز سد الثرثار يحكي قصةَ صراع طويل على أرض الرافدين بين الفيضانات وإرادة الإنسان، وهو اليوم يصطدم بكتل إسمنتية جامدة ورمز الحياة التي جعلها الله من الماء، ولكنه هنا تحول إلى كائن خرافي لا يقف بوجهه شيء، كان الماء وهو ينحدر بقوة وعنفوان يثير الرعب الإنساني على مر العصور، كانت الأمواج تكسر صمت الليل القارس البرد الموحش بظلمته، والمخيف بانسحاب الحياة من بين الصدور ومن شوارع المدن والطرقات المؤدية إليها تدريجيا، ترى ما هي خطوتهم التالية وهل سيلقون بنا في هذا اليم الهائج؟ آه من هذا النهر بل آه من هذا السد الذي أقيم ليحمي بغداد والعراق كله من الغرق فهل تراه أقيم كي يبتلع أحفاد من ساهموا ببنائه؟ فهل نحن قربان يقدم لفداء الآخرين؟ كان الشلال الذي صنعه السد يثير في رائيه من علو رعشة خوف، فكيف تكون مشاعر من يصطدم بجدرانه الإسمنتية، كانت أمواجه تتسابق مع بعضها وتصنع دوامات متداخلة ومتعاقبة يفلت بعضها عن محيطه ليقفز عالياً بتدافع وتلاحق ينزع القلب عن موضعه وكأنها لا تطيق صدمة الكتل الخرسانية الصلبة، ولكنها كانت كسمكة قرش فغرت فاها لتبتلع فريستها، حينما كان الجنود ينتظرون الأمر من الرقيب أي أمر، خرج من وسط الظلام شعاع نور فجائي من وهج مصباح كاشف كبير سلطه أحد أفراد قوة الدفاع الوطني في الجانب الآخر من السد ظنا منه أن عبوة ناسفة على وشك أن تفجر السد وتدمره وتغرق حوض دجلة من جنوب سامراء إلى البصرة، فجأة تغير كل شيء فبعد وقت قصير تخلله نقاش كان يعلو أحيانا تم إغلاق الباب الذي فتح لهنيهة وانطلقت إلى مجهول جديد، وعلى عجل صدرت الأوامر لمروان وزيدون بالصعود إلى جوف المدرعة الأمريكية، وانطلقت بهم جميعا في ليل بهيم إلى مجهول جديد، ربما كانت تلك أطول ليلة على الإطلاق، ومن حركة المدرعة قدرا أنها تسير في اتجاه مماثل، كان كل منهما يود معرفة مشاعر الآخر وانفعالاته وتوقعاته علّه يستمد من رفيقه شيئا من الاطمئنان وراحة البال ولكن الظلام كان يحول بينهما كموجِ بحرٍ في ليلة دامسة الظلام، واضطربت النفوس وبلغت القلوب الحناجر، الزمن يسير إلى الوراء وربما يتقافز إلى الأمام، وربما يتوقف عند هذه اللحظة، لا أحد يعرف ولا أحد يستطيع التكهن، كم استغرقت المدرعة في مسيرها من لحظة انطلاقتها الأولى حتى الآن؟ وتوقفت ثانية وجاء الأمر لمروان وزيدون بالنزول منها وإذا بها عند بحيرة مقدم ناظم الثرثار وهو الجسر المؤدي إلى منطقة الحويش ومنها إلى تكريت، إذن فالمصير أصبح واضحا ولم يعد هناك شك في أن الرمي في هذه الدوامة الفوارة هو ما ينتظرهما، وفك الجنود وثاقهما هذه المرة، استغرب الشابان هذه اللفتة الإنسانية المفاجئة، على الرغم من أن القلق عطل كل مواقع الإدراك، بعد لحظات من التساؤل اتضحت الحقيقة وجاء الجواب ... الأمريكيون أرادوا قتل مروان وزيدون من دون أن يتركوا دليلا، ولذلك لم يتركوا أيديهم مقيدة، فالحبل سيكون بداية الخيط الذي يوصل إلى الفاعل، تقدم العريف الأسود نحوهما وبلهجة قاطعة أمرهما بأن يلقيا نفسيهما في مقدم ناظم الثرثار أي لتبتلعهما بوابات لها فكوك أحدّ من أنياب القرش، هل هذا الرجل مجنون أم مصاب بعقدة كراهية عنصرية مستحكمة، كيف نُلقي بأنفسنا في هذه الدوامة المميتة التي تقذف الماء من شاهق إلى منخفض بسرعة كبيرة جدا؟ ويصطدم الماء خلالها بعدد من العوارض الإسمنتية لطالما فتكت بالأسماك فكيف سيكون حالنا؟ بل كيف سيكون حال زيدون الذي حرص والده على إبقائه بعيدا عن مجاري الأنهار وأحواض السباحة لأنه لا يريد تكرار مرارة أحزان قديمة بفقدان علي أصغر أعمام زيدون الذي جرفته مياه مشروع الإسحاقي الذي أراده العراقيون رمزا للخير والنماء وإذا به في أول إطلالة له على أهل مدينة سامراء يطلب منهم قربانا كما تُقدمَ القرابين لكل مشروع جديد ولكن ليس مما يقدم الناس، فكان عليّ هو ذلك القربان الذي فرضته مصادفة لعينة أبكت الأم والأب والأخوة والأخوات بمرارة لم تعهدها الأحزان الأخرى، أو ما كاد أن يحصل لعمه الأكبر نزار قبل عدة عقود بل إن مأمون كره دجلة وطويبة التي كادت أن تسجل أول حادثة غرق في العائلة من كثرة تأوهات والدته وكرهها لكل أنهار الأرض بسبب تجربتها مع ابنها الوحيد نزار الذي أوشك على الغرق مطلع خمسينيات القرن الماضي، ثم تحولت الهواجس إلى كارثة حقيقية مع آخر عناقيد العائلة عام 1980.
عندما وجد السرجنت الأمريكي رفضاً لأوامره القاتلة، شهر سلاحه الأوتوماتيكي M16 الجاهز لانطلاق رصاصه الغزير وكذلك فعل بقية الجنود، وبسرعة خاطفة كانت رفسة من جندي أمريكي تندفع نحو صدر زيدون ولتقذف به في وسط ماء بداية كانون الثاني/ يناير الذي يقترب من درجة الانجماد، وفي أقل من لمح البصر كانت رفسة أخرى تنطلق نحو مروان وتلقيه قرب زيدون، وبدأت محاولات مروان للبحث عن زيدون، أين أنت قالها بصوت خافت مكبوت، فالأمريكيون ما زالوا هنا ويريدون الاطمئنان إلى نجاح جريمتهم من دون أدلة، تشبث مروان ببعض أغصان القصب الذي شق طريقه نحو الأعلى من بين الجدران الاسمنتية لضفة السد، وتجمعت حولها جذوع أشجار اقتلعتها مياه الفيضان العاتية فتجمعت نتيجة إهمال عمليات الصيانة المعتادة للسدود بسبب الاحتلال الأمريكي، كانت بحيرة مقدم السد ممتلئة بأقصى درجات استيعابها مما يجعل الأمواج تتلاطم وتقذف بنفسها على الجسر، وفي ظروف كهذه يتم تخفيف منسوب الماء عن حوض دجلة، ليصب في منخفض الثرثار من أجل الاستفادة منه في شهور الصيف حيث تتزايد الحاجة لمياه السقي مع أقل مورد لدجلة والفرات من خارج الحدود، كان تدفق الماء في القناة سريعا وشديدا ولم يكن بوسع أحد حتى في الظرف الطبيعي وفي فصل الصيف مقاومته إلا لدقائق معدودة ثم تخور قواه فيجرفه التيار.
بعد نحو ربع ساعة من البحث اليائس، وبعد أن أوشكت قواه على الانهيار، وبعد أن تيقن أن الأمريكيين قد غادروا مكان جريمتهم واطمأنوا إلى أن الشابين قد ابتلعتهما المياه المندفعة بقوة من شاهق إلى أسفل وباردة حد الانجماد، جاءهم أمر السرجنت بالانسحاب السريع كي لا ينتبه إلى وجودهم أحد في هذه الليلة المظلمة، أخرج مروان رأسه من بين الأغصان المتشابكة، وبدأ يحرك يديه بصعوبة لأنها أوشكت أن تتجمد، ولكنه تحامل على نفسه وجاءته قوة لم يعرف من أين تجمعت لديه لأنه يعرف أن دون ذلك موت مؤكد فيفقد حياته وتضيع الجريمة الأمريكية النكراء وسط مياه الثرثار، وفي حركة مستميتة وجدّ نفسه مستلقيا على الأرض، تحسس جسمه ليتأكد أنه على قيد الحياة فعلا وليس في حلم مرعب، استجمع قواه مرة أخرى ونهض واقفا، من بعيد تراءى له بصيص نور خافت، حاول استذكار الصور القديمة التي مرت أمامه قبل عدة ساعات والتي مرت وكأنها دهرّ طويل، تذكر أن مصدر النور هو سيطرة للحرس الوطني تقع على حافة السد عند مدخل سامراء من جانب دجلة الغربي، هل أذهب إليهم وماذا سيكون رد فعلهم لاسيما وأنهم كانوا قد نصحوني ليلة أمس بعدم العبور؟ وماذا لو عاد الأمريكيون فجأة وشاهدوا الشاهد الوحيد على جريمتهم التي أرادوها كاملة دون نقص يفضح تفاصيلها؟ وماذا تراهم سيفعلون بي؟ ولكن هل هناك خيار آخر؟
حث الخطى قبل أن تظهر دورية للقوات الأمريكية، وبعد أن تلاشت الخيارات كلها اتخذ قراره بالتوجه إلى سيطرة الحرس الوطني، وصلها بعد جهد ومشقة ظن أن جسده لن يقدر على حمله كل هذه المسافة الطويلة، وألقى بنفسه أمام عنصر الحرس الوطني الذي كان في نوبة الحراسة خارج الخيمة، والذي ذهل من هذا الشبح القادم من جوف الظلام، وكان يرتجف من شدة البرد كأنه سعفة تلعب بها الريح، ربما اعتقده الحرس رجلا يربط حول جسده حزاما ناسفا لأن هذه هي نظرة القوات الأمريكية "والحرس الوطني" الذي شكلّه بول بريمر إلى أبناء هذه المدينة التي أسفرت عن وجهها المشرق في مقارعة الاحتلال منذ اليوم الأول لاحتلالهم للعراق، وربما راودته فكرة أن القادم هو جان يريد أن يلعب معهم لعبة الرعب التي طالما سمع عنها في الليالي الباردة عندما كانت أمّه تقص عليه تنويمة البرد الذي يتسلل إلى العظام كبرد هذه الليلة الموحشة، بمجرد أن استقرت قناعته على أن القادم هو إنسان من لحم ودم وأنه في هذا الوقت لا يتحرك إلا من يريد بأجهزة الأمن شراً مؤكداً، أسرع إلى بندقية الكلاشنكوف مرتجفا باحثا عن نجدة من زملائه الذين كانوا يغطون في نوم عميق، بعد ليلةٍ موحشة البرد ومن النشاط العسكري للقوات الأمريكية وحركة الدوريات الآلية على سدّ سامراء ثم ناظم الثرثار وصولا إلى منطقة الحويش والعودة منها، مما حرمهم من لذة النوم المبكر خشيةً من محاسبة القوات الأمريكية لهم على التقصير في واجب حماية ظهرها من (الإرهابيين)، حاول الجندي المرعوب إيقاظ بعض زملائه ولكنه أخفق في ذلك، كان يرتجف بردا وخوفا من هذا الشبح القادم من وراء الأفق، عندما وصل مروان كانت ملابسه ما تزال شبه متجمدة على جسده بحيث ضاعت فرصة التفريق بين ملابسه وجسده من شدة البرد، كان عاجزا عن وصف ما وقع ولكنه كان يردد اسم ابن عمه زيدون الذي يظن أنه غرق في دوامة الماء المتدفق من بحيرة مقدم سد الثرثار لتندفع في قناة الكتم، حكى لجنود الحرس الوطني الذين استيقظوا من نومهم العميق، كان يعرف بعضهم لأنهم أبناء مدينة واحدة وبعضهم ويعرفونه أيضا، بعد أن قص عليهم ما مرّ عليه وعلى ابن عمه، هبوا لتقديم النجدة لزيدون ابن مدينتهم ووطنهم في محاولة لإنقاذه فمضوا إلى موقع الجريمة التي ارتكبتها قوات الاحتلال الأمريكي، مع ما في هذه الحركة من مجازفة في حال ضبطتهم القوات الأمريكية، ولكن الوقت كان قد فات كثيرا، فقد مرت مياه كثيرة من بوابات الناظم باتجاه منخفض الثرثار أو ذراع الثرثار الفرات، ثم إن الليل لا يصلح لإجراء عمليات التحري فكيف الأمر مع مياه وطقس بدرجة الصفر وربما أقل من ذلك، ودوريات الأمريكيين تتمنى أن تجد في طريقها صيدا حتى إذا كان من قوات شكلّها بول بريمر نفسه، بعد عودتهم إلى مقرهم أعطى الجنود لمروان ما يتوفر لديهم من ملابس تناسب مقاساته، لحين تجفيف ملابسه على المدفأة، وطلبوا منه المغادرة مع صعود الشمس بالأفق من دون إبطاء خشية عليه وعلى أنفسهم.
كان أخي مأمون (أبو زيدون) في بغداد في منزلي في حي العدل منذ عدة أيام وكان مقررا أن يمكث عدة أيام أخر، جاءت مكالمة هاتفية بعد منتصف الليل بقليل لتقض مضاجعنا وتلقي بنا في دوامة من القلق، كان على الخط من سامراء أخي عبد الحكيم (أبو مروان) يسأل عن مروان وزيدون لأنهم استبطئوهما فهم علموا منا أنهما سيغادران بغداد عصرا، حينما أخبرناه بأنهما تركا بغداد قبيل المغرب بقليل وصل القلق ذروته حتى يكاد المرء يلمسه عبر أسلاك الهاتف، أصبح مأمون في أقصى درجات القلق المسدود النهايات كانت المكالمة قدحة نار أحرقت كل شيء وأثارت فيه كل الهواجس النائمة ولكنه كان يطمّئن نفسه بقليل من الأمل، ربما كانا متأخرين واحتجزتهما القوات الأمريكية، وظل مأمون ليلتها يقارع قلقاً لم تنقطع خيوطه أبدا حتى أذن مؤذن جامع مالك ابن أنس في حي العدل ببغداد لصلاة الفجر توضأ وغادر البيت إلى الجامع لأداء الصلاة، راودته فكرة الاتصال بسامراء للاستفسار عن ابنه وابن أخيه، لكن نفسه لم تطاوعه أن يفعل ذلك خشية من الأسوأ، ولكنه أراد أن يخفف عن صدره أوجاعه ويبثها للآخرين، استعجل الشمس أن تشرق قبل موعدها ولكن انتظاره لم يطل كثيرا فقد جاءته المكالمة من سامراء، أما نحن فقد بقينا ننتظر أي خبر جديد، فلا سبيل لغير ذلك فالقوات الأمريكية فرضت منع التجوال في بغداد وغيرها من مدن العراق ابتداء من الساعة العاشرة مساء وحتى السادسة صباحا، وهناك تشديدات للحظر حسب الظرف الأمني لكل مدينة، مما يمنع أي مبادرة لتقصي الحقيقة ميدانيا، بدأ الوقت يمضي بطيئا والليل في هذا الوقت من السنة هو الأطول وما علينا إلا الصبر وانتظار الفجر، ولكن متى تشرق الشمس لتحمل اليقين وما تراه سيكون، وهل هناك مكالمة جديدة تعطي بعض الأمل، وكيف يستطيع أبو مروان أن يعرف أكثر وهو محاصر بمنع التجول أيضا وينتظر سنوح الفرصة لمعرفة مصير ولده البكر ومصير ابن أخيه البكر أيضا.
استأذن مروان أفراد الحرس الوطني بالمغادرة، حذروه وقالوا له لقد رفضت نصيحتنا الليلة الماضية ففقدت ابن عمك، فهل تريد أن تفقد حياتك؟ كان مروان في أشد حالات الانفعال، هو يشعر بمسؤولية أخلاقية تجاه ابن عمه ولكن هؤلاء لا يفهمون أو لا يريدون أن يفهموا، هو يريد الوصول إلى البيت ليقص على أهله ما وقع ليلة المصيبة، عندما وجدوا فيه إصرارا على المغادرة، قالوا له على مسؤوليتك ولكن خذ حذرك بأعلى ما تكون درجات الحذر، أجاب ليحصل ما يحصل فإما أعيش أنا وابن عمي معا أو نموت معا، فانطلق ماشيا بأقصى سرعة منتبها للدوريات الأمريكية التي تقلص تسييرها إلى النصف في هذا الوقت من اليوم، هو يريد الوصول إلى أحد أي ليخبره الحقيقة قبل أن تضيع وسط جحيم الأكاذيب الأمريكية الوقحة، لا يدري كم استغرق من الوقت، ولا يدري من أين استمد كل تلك الحيوية المفاجئة حتى يصل إلى المنزل، وجد البيت وقد قامت قيامته، أبوه وأمه والأعمام والأقارب ينتظرون في الشارع، الأخوة والأخوات ينتحبون، الأقارب عاشوا حالة إنذار بكل ما تعنيه الكلمة، لم يشأ أن يدخل المنزل حكى لهم القصة أو ما بقي عالقا في ذاكرة أربكها الجنود الأمريكيون بوحشيتهم التي يتلذذون بها مع المجتمعات التي يجردونها من أسلحتها تعويضا عن حالة الرعب التي تسيطر عليهم في مواجهة رجال المقاومة الوطنية المسلحة، أو ما بقي عالقا في ذهنه المشوش من أحداث ليلة الحزن، كان الجميع في حالة يأس عن مصير مروان وزيدون فقد عرفا أن سيارة البيك أب تعرضت للسحق تحت سرف المدرعات الأمريكية وهي داخل مدينة سامراء مركونة على قارعة أحد الطرق الرئيسة.
أسرع أبو مروان (عبد الحكيم) وهو الأخ الذي يصغر مأمون أبي زيدون إلى الداخل والتقط الهاتف واتصل ببغداد، لم يتمكن من إخبار أخيه بفاجعة فقدان ولده زيدون، ولكنه طلب منه العودة الفورية إلى سامراء، أدرك مأمون أن شيئا قد حصل لزيدون ولكن ما هو؟ وسط جو ضبابي كان طريق بغداد سامراء مغطى به وتنعدم فيه الرؤيا إلا لمسافة قريبة قاد مأمون سيارته بسرعة جنونية في ذات الطريق الذي كان ابنه وابن أخيه يسلكانه بحذر قبل ليلة واحدة، حاولت بكل ما أوتيت من قوة منعه من الذهاب بانتظار أن أتهيأ للذهاب معه، ولكنه لم يترك لي متسعا من الوقت للإقناع فغادر المنزل مع خال زيدون الذي يقيم في دار مجاورة لمنزلي، أخذت سيارتي ووسط طريق موحش وضباب كثيف كنت أتلفت عن يمين وشمال وأمامي عساني أرى سيارة أخي ولكن عبثا فيبدو أنه كان منطلقا بسرعة لم تبق في السيارة المزيد، حقا خشيت عليه من حادث آخر نفقد شخصا آخر يمكن أن يضاف لشخص ربما فقدناه قبل ساعات.
ليست هذه المرة الأولى التي تُنكبْ فيها عائلة فاضل حسون بغرق أحد أبنائها، ففي 16 أيلول 1980 كانت قد فقدت (علي) عم زيدون وهو أصغر أبناء الحاج فاضل، غرقا أيضا والذي كانت له مكانة خاصة في قلوب والديه وأخوته وأخواته، حينها كانت طبول الحرب تقرع في طهران بقوة بعد وصول الخميني إلى الحكم تحت شعار تصدير الثورة ابتداء من العراق، وكان العديد من مدن العراق الحدودية هدفا للقصف المدفعي الإيراني مما أدى إلى تهجير الآلاف من العائلات العراقية منها، وطفقت الحكومة العراقية بتأمين الملاذ الآمن للسكان، وفي سامراء البعيدة عن حدود النار كانت كبقية مدن العراق الآمنة ما تزال تلهو ببراءة وطمأنينة، كان علي ابن الثانية عشرة من عمره يشاهد لعبة لكرة القدم في منطقة القلعة غربي نهر دجلة عند مدخل سامراء، وفجأة ظهرت على الطريق كتلة هائلة من النار المتوهجة تسير بأقصى سرعة نحو قناة الإسحاقي الذي يأخذ ماءه من بحيرة مقدم سد الثرثار ليسقي مئات الآلاف من الدونمات من أخصب الأراضي الزراعية في المنطقة وليلغي نهائيا استخدام مئات المضخات التي تشتغل بالنفط الأسود، والتي كانت تؤمن مياه السقي لهذه الأراضي الذهبية وتكلف مالكيها نفقات كبيرة لإدامتها ولوقودها الذي سيلوث البيئة أيضا، عندما اقتربت كتلة النار اتضح أنها شاحنة كبيرة وتحمل كابلات كهربائية عملاقة لغرض استخدامها في كهربة المدن والريف في العراق، كان سائقها يحاول إيصالها إلى مصدر للماء من أجل المساعدة على إطفائها، نجح في الوصول إلى قناة الإسحاقي ولكنه لم ينجح في إطفائها، تجمع الصبية حول الشاحنة بفضول طفولي، وجاءت سيارات الإطفاء وحاول العاملون عليها مباشرة عملهم، ولكن التجمهر كان يتضاعف مع مرور كل دقيقة وخاصة من متفرجي لعبة كرة القدم، بادر أحد أفراد الإطفاء بتوجيه خرطوم الماء إلى المتجمهرين من أجل إبعادهم وتسهيل مهمة إخماد الحريق، يبدو أن القدر قد رسم كل هذا السيناريو من أجل أن يختطف حياة علي ابن الثانية عشرة من العمر، ويبدو أن مشاريع الري التي أقيمت استكمالا لسد الثرثار في مدينة سامراء كانت تحتاج إلى قرابين، فكان علي قربانا لقناة الإسحاقي وجاء من بعده ابن أخيه زيدون بعد 23 عاما ليكون قربانا لقناة الكتم، هل نحن أهل بيت متخصصون في تقديم القرابين للمشاريع التي تخدم مدينة سامراء؟ أم نحن أهل بيت كتب علينا الموت غرقا؟ وهل يكون الخير للناس بمأساتنا؟ وهل كان إطفاء شاحنة كانت على وشك أن تكون رمادا يستوجب قتل شاب في مقتبل العمر؟ أليست مفارقة دامية هي التي كونت أسباب الرحيل عبر حادث عرضي على الطريق العام حتى يغلف الحزن جدران أحد بيوت سامراء؟ هكذا حلّلنا ملابسات الحادث وربما كانت له تفاصيل وتفرعات أخرى، ولكن مضي السنين من الطويلة من دون أن يظهر دليل يدحض هذا السيناريو جعلتنا نعتبره التفسير الوحيد الذي علينا التسليم به.
كان علي رحمه الله وهو آخر أولاد الحاج فاضل حسون رحمه الله، عم زيدون من مواليد 6/1/ 1969، وكان زيدون من مواليد 1/6/1984، وهذا التوافق الرقمي بين 6/1 و1/6 كان عامل تشاؤم عند مأمون أبي زيدون، ولهذا صمم أن يبعد ابنه عن النهر الذي يبتلع كل عام الكثير من الضحايا من أبناء سامراء، ورفض كل توسلات زيدون لتعلم السباحة وإلحاح أصدقاء زيدون على الأب الذي أصم أذنيه عن نداء الأبناء ظانا أنه يستطيع الوقوف بوجه قضاء الله وقدره، من دون أن يخبره بحقيقة هواجسه القديمة، وشب زيدون وهو يتحسر حينما يرى أصدقاءه وهم يمارسون هذه الرياضة الممتعة والمحببة إلى النفوس، ولكن حبه لأبيه لم يكن يسمح له بعد فوات الأوان أن يلح بالسؤال والطلب للحصول على امتياز يختص به دون إخوته.
الخطوة الثالثة
بداية حزينة ونهاية مأساوية
انتقل جميع الأهل والأقارب ممن يقيمون في بغداد إلى سامراء في عزاء مبكر حيث يقيم بقية الاخوة والأقارب، وانتظارا للكشف عن مصير زيدون بعد غياب قسري استمر عدة أيام، في المقدمة جاء الدكتور شامل السامرائي عميد الأسرة وعم والد زيدون وهو وزير سابق أثناء حكم الرئيسين عبد السلام عارف وعبد الرحمن عارف، كما جاءت عمات زيدون وعمات أبيه من بغداد ليشاركن من سبقهن قلقا صاخبا، هكذا العراقيون يجتمعون في الأحزان أكثر من حرصهم على التجمع في الأفراح، صام الجميع على أمل أن يغيب عنهم الشك باليقين وكانت العيون تنظر حائرة إلى بعضها والقلوب في غفلة عما يحيط بها والضمائر كلها تلتصق بقضية البحث عن زيدون الذي تأكد لنا أنه ذهب ضحية لجريمة مبتكرة في وحشيتها وبدم بارد ارتكبتها القوات الأمريكية برميه وابن عمه مروان في إحدى فوهات ناظم الثرثار والتي تأخذ مياه دجلة من بحيرة مقدم سد الثرثار لتعيدها إلى نهر دجلة بعد أن تختلط مع مياه ذراع الثرثار دجلة والفرات عبر ذراعي الثرثار الفرات والثرثار دجلة، لأن المياه القادمة من خزان الثرثار الهائل إلى نهر دجلة تحمل معها الكثير من الأملاح بحيث باتت غير صالحة للاستهلاك البشري أو استخدامات الزراعة.
أصرّ مروان أنه وابن عمه تم إلقاءهما في النقطة التي تقع في فوهة الناظم المؤدي إلى قناة الكتم، بدأت عمليات البحث عن زيدون بكثافة وجئنا بغواصين للبحث عنه واستحصلنا موافقة مدير الري لمنطقة سامراء لإغلاق البوابات التي تتدفق في القناة لثمانٍ وأربعين ساعة، وبعد انتهاء المدة ونتيجة لعدم عثورنا على جثمان زيدون فقد كررنا الطلب لإغلاق البوابات مرة أخرى، كان قرار الغلق يتطلب موافقة مركزية من وزارة الموارد المائية في بغداد هكذا تم توصيف الحال، مع علمنا بأن العراق بعد الاحتلال تحول إلى دولة بلا رأس وكل ساق تذهب في الاتجاه الذي يحلو لها، مع الأخذ بنظر الاعتبار بأن بول بريمر سلم الحكم للشيعة لاسيما بعد أن غضت القوات الأمريكية النظر عن تدفق عشرات الآلاف من عناصر المليشيات من إيران والموالية لسلطة الولي الفقيه ثم واصلت تواطأها معهم عندما شكلت مليشيات جديدة مثل جيش المهدي وبالتالي منحتهم قوة المال وقوة السلاح لتدعيم سلطة الشيعة السياسية.
وبسبب تأثير إغلاق بوابات الناظم على نسبة الأملاح الذاهبة إلى نهر دجلة والتي تجري في ثلاث محافظات تحت مدينة سامراء وهي بغداد وواسط وميسان قبل أن يلتحم دجلة بالفرات ويكوّنا شط العرب في محافظة البصرة، ومعنى زيادة نسبة الملوحة فيها أن المزروعات ستتعرض إلى خطر الهلاك المؤكد، وكذلك السكان والحيوانات وانعدام مظاهر الحياة، ومع ذلك وحينما وجد مدير ري سامراء أن الأجواء النفسية لأهل المفقود كانت في ذروة الاحتقان فقد استجاب ولم يُعر أهمية لقرارٍ من بغداد التي تعيش تحت الاحتلال الأمريكي من دون سلطة، قال لنا بعض الصيادين إن الماء البارد لا يسمح للغريق أن يظهر على سطح الماء إلا بعد عدة أيام، واستمر البحث لعدة أيام مع إشراقة الضياء الأول، ويتناوب الباحثون على مدار ساعات النهار، البعض رابط على شاطئ القناة متحدياً البرد القارس على أمل أن يُنقذ جثة الغريق من غربة عن أهل يتحرقون شوقا لمعرفة الحقيقة، كانت الآمال بالعثور عليه حياً تتلاشى تدريجياً، على الرغم من أن الأم والأب يمكن أن يشاهدا ولدهما مسجى أمامهما ولكنها لا يغادران الرجاء بأن يعود إلى الحياة، فكيف إذا كان مفقودا ولا دليل قاطعا على موته، البعض كانت تراوده آمال بأن زيدون يمكن أن يكون معتقلا لدى القوات الأمريكية، مجرد أن تطرح فكرة كهذه سرعان ما تتلقفها القلوب القلقة في محاولة لتهدئة الخواطر المشحونة بكل أسباب التأزم في أعلى درجاته والنقمة على القتلة، وعلى من تعاون معهم وعلى العملاء الأذلاء الذين ساروا خلف دباباتهم لإذلال العراقيين، ومع الوقت تبدأ تلك الأفكار الوردية بالتراجع والتلاشي عندما يدخل العقل على خط التحليل، إذن لماذا عثرنا على سترته (جاكيتته) في القناة التي يدور البحث عنه فيها؟ وهل يعقل أن الأمريكان يمزحون في تجارة الموت؟
لم يتأخر أحد لحظة واحدة عندما تطرأ لديه فكرة إلا وطرحها من دون تفكير بواقعيتها أو وجاهتها، تحولت جلستنا إلى منتدى لتداول الأفكار الساذجة والأوهام والآمال التي كانت تقطعها بين الفينة والأخرى صرخة سيدة جديدة جاءت لتقديم التعزية ولترتفع معها أصوات العويل الذي ينفلت من بين الصدور، وبسبب صراع اليأس والأمل، أصبحنا مسرحا تلقى فيه قصائد الشعراء من كل الطبقات من دون تمحيص، وكان هذا تعذيبا مضافا إلى معاناة الأهل، نعم الجميع كان يشعر بوجع المحنة وألمها ولكن لفجيعة الأب والأم لغة لا يفهما إلا هما أو من مر بمثل ما وقع لهما وخاصة إذا كان موقع الألم ناتج عن فقدان الولد البكر الذي يحمل كل الصفات الحميدة التي يتطلع الأبوان أن يكون ابنهما عليها، لم ينقطع البكاء والعويل الذي كان يتخطى جدران الألم ليتنقل بطرقات الحي وأزقته من دون استئذان من دوريات القتلة الأمريكان الذين يعرفون مصير زيدون ولكنهم يتلذذون بتعذيب أهله مرة أخرى، فبعد أن قتلوه ها هم يُنكرون قتله بل يُنكرون علمهم بأسباب فقدانه ناهيك عن مصيره، فهل هناك وحشية أكبر من هذه حينما يتعمد القتلة السخرية من آلام ذوي القتيل بعد أن عاشوا مسرحية إلقائه في ناظم الثرثار، الذي لو فكر المهندس الألماني الذي صممه وصمم الكتل الخرسانية التي وضعها لتكسير قوة الأمواج الهادرة النازلة من علو، بأن هذه المصدات ستتحول إلى مصائد في جرائم قتل مارستها قوات البلد الذي دمر ألمانيا في نهاية الحرب العالمية الثانية في ممارسة سادية نادرة الوقوع في الحروب، لو كان هذا المهندس يفكر بما ستؤول إليه هذه المصدات الصلبة، ربما كان سيخفف من آلام بني البشر الذين يسقطون في لجتها أو ترميهم قوى تحتل بلدهم إيغالا في نزعة الانتقام من هذا البلد الذي استعصى عليهم ردحا من الزمن، القوة الأمريكية ذات النزعة العنصرية الاستعلائية التي فتكت بزيدون وتتعمد إخفاء معالم جريمتها وتروح وتجيئ قرب منزله لمعرفة ما توصل إليه الأهل من حقائق، وفي دوامة القلق نسي الجميع مروان وما عاناه من ليلة اقترب فيها من الموت من دون حواجز، واختزن في بدنه بردا كثيرا لليلة ربما كانت أطول ليلة في حياته، كان التفكير ينصب على البحث عن عزيز آخر يجب العثور عليه في وسط مائي متحرك التيار ومع أجواء أمنية معقدة وشد عصبي لا يجب أن تفلت فيه الأعصاب في وقت نحتاج فيه إلى حكمة التصرف أكثر من شجاعة كل الرجال في التاريخ، فخطأ واحد يمكن أن يمنعنا من مواصلة البحث، ويمكن أن يكلفنا مسؤولية تهديد الأمن على وفق التهم الأمريكية الجاهزة وليس فقدان أحد أبنائنا فقط، وهذا من أسوأ المعاناة التي يمر بها ذوو ضحية عندما تنعدم الحقوق ويضيع العدل ويسود الظلم وشريعة الغاب.
طلبنا من مروان أكثر من مئة مرة أن يقص علينا تفاصيل ما وقع، نحن نعرف أن الرواية ستتكرر بمضامينها حتى وإن تغيرت صياغاتها والكلمات التي تحكيها، كان مروان يحس بإعياء شديد يقعده عن الحركة، كان من حقه أن يجزع ويشعر بالمرارة والألم فقد غادر بغداد مع ابن عمه ولكنه عاد منفردا إلى بيت يعج بالضجيج والعويل والأسئلة التي تتكرر عليه من كل زائر، كان علي شخصيا أن أقف صلبا في هذه الظروف مستعينا بالعم الدكتور شامل السامرائي الذي هو عميد الأسرة وكبير العائلة، ذلك أن ظرفا كالذي نمر به يتطلب تدخلا مباشرا لفض النقاشات ومنع الأسئلة التي كنا نلمس منها فتيلا يمكن أن يقترب من برميل بارود الأب الذي تتقافز أمامه مئات الأسئلة ومئات الصور السوداوية، كنا نلتقط معاناة النساء القريبات من مكان جلوسنا، كان اللقاء بين أم زيدون مع أقارب زيدون الأكثر مأساوية حيث تطلق كل منهن لنفسها العنان بعويل يمزق الضلوع.
وأخيرا جاء صوت النعي بأنه تم العثور على جثمان زيدون طافيا في القناة المائية على بعد نحو كيلو مترين من الناظم، حمدنا الله على هذا المصاب وحمدناه أن المجهول بات معلوما حتى إذا كان ملفوفا بكفن، فمأساة المفقودين ومجهولي المصير، عزاء يتجدد في كل لحظة ودقيقة وتبقى الأنظار تتجه إلى لا عنوان، تبحث عن طمأنينة على مصير عزيز، وهذا ما أعاد المأساة إلى نقطة البداية، فارتفع العويل من الجميع، ونزلت الدموع مدرارا من الجميع ولكن بكاء الرجال كان بصمت مرير.
ثم جاءوا بجثمان زيدون بعد تردد وطول جدل إلى منزل جده المرحوم الحاج فاضل حسون الذي تحوّل إلى مثابة التقى فيها جميع الأهل والأقارب، ومع تلك اللحظات العصيبة تعالى عويل النساء، إذ انفلتت المشاعر المكبوتة التي ظلت حبيسة بين الضلوع لتخرج من دون سيطرة، ولم يحاول أحدنا التدخل فيها بعد أن أصبح مصير زيدون معلوماً.
الموت حق على كل ابن آدم قهر الله به عباده، ولكنه عندما يختطف حياة شاب في مقتبل العمر، يرى فيه أبواه مستقبلا مشرقا ويعلقان عليه آملا عريضة، يكون للموت طعم آخر قطعا، نحن الشرقيين إذا ما فقدنا عزيزا حتى إذا دخل (في العمرين) وتقلبت حياته بين السعادة والمتاعب، فلا مجال للتحكم بالمشاعر، إذ تشيعه صرخات المحبين وخاصة من قبل النساء، فكيف إذا كان الرحيل لشاب في مقتبل العمر، وكانت الخاتمة بغدر جبناء جاءوا غزاة عبر آلاف الكيلو مترات لينشروا ثقافة الموت في كل زاوية حلّوا فيها، بعد عقود مما بشروا به عن مجتمع الحرية والعدل في أفلام بطولاتهم التي خدّروا شعوب العالم، راحت الناس في سبات لعشرات السنين فتصورت الشعوب أن تقاليد الجنتلمان الأمريكان وتعاملهم مع الآخرين وخاصة بعد انتصار الآلة الحربية على شجاعة الفرسان، سوف تجعل من اليانكي جندي الاحتلال المُرحب به حيثما حل، لأن الخير يحل معه في كل الزوايا، ولكن جنود الاحتلال في كل مكان هم على أعلى درجة من السفالة وانعدام الرجولة مع أي شعب مقاوم، لهذا يظنون أن كل واحد هو مشروع متفجرة أو حزام ناسف أو عملية انتحارية، هكذا تحركت فيهم خلفياتهم المصابة بجنون التفوق الأمريكي الذي شبع حتى التخمة من البناء النفسي بأنه الشعب الأكثر جسارة وإقداما وأن أحدا لن يصل إلى حافة قدمه، ومما عزز هذه الأوهام المريضة أن الأدّلاء الأذلاء مما سموا أنفسهم بالمعارضة، صوروا للأمريكي بأن أكاليل الغار ستلقى عليه وهو يتقدم نحو العمق العراقي وإنه لن يدخل مدينة عراقية إلا وتنحر له الذبائح بقدر عدد جنوده، كان هذا ظنه السقيم وعززته بعض الممارسات الساقطة لمعممين أقاموا دعوات زقوم ماجنة في الكاظمية للمجرم بول بريمر، وأن غبيا آخر أهدى لوزير الدفاع الأمريكي نموذجا ذهبيا لما يسمى بسيف (ذو الفقار)، ولكن العراقيين وبعد لحظة انعدام وزن ودهشة قاتلة من سلوك قطعان الغوغاء التي نهبت كل الممتلكات الحكومية في مشاهد نقلتها شبكات الفضائيات على الهواء مباشرة، بعد هذه الفسحة من استرداد الوعي الوطني، انطلقت أسرع مقاومة في التاريخ هي المقاومة الوطنية المسلحة، المقاومة اليتيمة الوحيدة في العالم التي قارعت المحتلين بما يغنمه المجاهدون من سلاح الغزاة، أو بإعادة تأهيل أسلحة الجيش العراقي وزجه في مواجهة غير متكافئة ولكنها أفقدت جنود الاحتلال أعصابهم حتى تحول عشرات الآلاف منهم إلى مرضى نفسيين لن تنفع معهم كل جلسات العلاج أو العقاقير المهدئة.
نعم كان نحيب النسوة تعبيرا عن الشعور بالإحباط لفقدان شاب عزيز اختطفت حياته نوايا الغدر الأمريكية قبل أن يتذوق أبواه طعم الحياة معه بعد أن يباشر مسيرة حياته الزوجية ويكوّن أسرته الصغيرة، ولم تنفع مع النسوة النصائح بخفض الصوت، ومن كان يدعو إلى ذلك سرعان ما يتحول إلى خصم.
الإنسان على علو قدره وعظيم مكانته عند أهله، فإن دفنه في أسرع وقت بعد الوفاة يكون أمرا ملّحا من أقرب أهله إليه، فهذه سنة دينية لا تحتمل التغيير وهذه مفارقة حياة الإنسان وموته، وهنا برزت مشكلة كبيرة، هل نسلم الجثمان للأمريكان من أجل تشريحه أم نبادر من فورنا لدفنه ونتحمل تبعات هذا القرار؟ رفض الجميع فكرة التشريح بأي حال وخاصة من قبل قاتليه، فهو شهيد ولن تدنس جسده الطاهر أياد تقطر بالدم، وبعد مشاورات مع علماء دين ووجهاء المدينة صدر القرار بعدم تسليم الجثمان للأمريكان، وبرزت قضية أخرى وهي هل نغسله ثم نكفنه أم نتركه بملابسه التي قضى فيها؟ أفتى بعض العلماء بأن بالإمكان دفنه مع تغسيله لجواز ذلك من دون أن ينتقص ذلك من مكانته عند الله والناس.
بدأ موكب التشييع من دار الحاج فاضل حسون (جد الشهيد) وخرج فيه المئات من أبناء مدينة سامراء وفي المقدمة منهم رجال المقاومة المسلحة الذين ألحقوا هزيمة كبيرة بالقوات الأمريكية المحتلة، وقد أطلقوا العيارات النارية بكثافة خلال التشييع الذي شق طريقه في شوارع سامراء وسط تكبير وتهليل المواطنين الواقفين على أرصفتها، وبعد أن وصل الموكب إلى مقبرة سامراء، تمت مواراة جثمان زيدون الثرى إلى جانب جده وجدته وأهال عليه أقاربه والمشيعون التراب وسط مشاعر حزن عميقة عليه وغضب جارف على الأمريكان الذين قتلوه بهمجية ودم بارد، بجريمة مبتكرة بوحشيتها، وربما كانت أول جريمة إعدام تنفذ بالإغراق الحقيقي في بداية العام حيث تنخفض درجات الحرارة إلى ما يقرب من الصفر المئوي، وبعد انتهاء مراسم الدفن عاد كثير من المشيعين إلى منزل الحاج فاضل حسون حيث تقرر إقامة مجلس الفاتحة على الشهيد، وخلال المجلس كانت مداولاتنا تنصب على كيفية التعامل مع هذه الجريمة البشعة، تداولت بشكل خاص مع عمي الدكتور شامل السامرائي عن رأيه في كتابة رسالة مفصلة إلى عدد من قادة دول العالم والمنظمات الدولية، فاستحسن الفكرة وشجعني عليها وتعددت اتصالاتنا مع كل من له خبرة في مراكز الانترنيت لإيصال الرسالة إلى العناوين المثبتة فيها، وترجمة النص العربي إلى اللغات الحية الأخرى لتسهيل وصول الفكرة وخاصة إلى أجهزة الإعلام العالمية، خاصة وأن الجريمة متميزة بطريقة تنفيذها ووحشية تعبر عن قسوة أفراد الجيش الأمريكي الذي قيل أنه جاء لنقل الديمقراطية وحقوق الإنسان إلى العراق.
المهم كتبت الرسالة ووجهناها باسم والدة الشهيد زيدون إلى الرئيس الأمريكي جورج بوش الابن وعدد من الرؤساء ورؤساء الحكومات في العالم والأمناء العامين للمنظمات الدولية عبر شبكة الانترنيت شرحنا فيها القصة كاملة وطالبنا فيها بفتح تحقيق بالأمر ومعاقبة الجناة، وهذا هو نص الرسالة:
بسم الله الرحمن الرحيم
السيد جورج بوش رئيس الولايات المتحدة الأمريكية
السيد جاك شيراك رئيس الجمهورية الفرنسية
السيد توني بلير رئيس وزراء المملكة المتحدة
السيد الدكتور عدنان الباججي رئيس مجلس الحكم الانتقالي
السيد بول بريمر الحاكم المدني الأمريكي
السيد كوفي عنان أمين عام الأمم المتحدة
السيد عمرو موسى أمين الجامعة العربية
السيد رئيس اللجنة الدولية للصليب الأحمر
السيد رئيس منظمة حقوق الإنسان
أيها السادة المحترمون
إنني في ظرف نفسي صعب للغاية وقد يفجر ذلك مشاعري وانفعالاتي، وذلك بسبب المصاب الجلل الذي أصابني وزوجي عندما فقدنا ولدنا البكر والذي يبلغ من العمر تسعة عشر ربيعا، والذي كان يتطلع للحياة بنظرة ملؤها التفاؤل والأمل خاصة عندما تم عقد قرانه على إحدى قريباته، فتوجه بكل طاقته لبناء حياته اللاحقة على أسس قوية وراسخة، إلا أن الأقدار كانت له ولأحلامه بالمرصاد إذ اختطفته على حين غفلة فترك جرحا نازفا في قلوب أبويه وخطيبته ومحبيه، واسمحوا أن أسرد لكم القصة بتفاصيلها.
يوم السبت المصادف 3/1/2004 كان ولدي زيدون ومعه ابن عمه مروان قادمين من بغداد إلى مدينة سامراء حيث نقيم، حيث يعملان في سيارة شحن صغيرة تعود ملكيتها لشخص ثالث، وذلك من أجل توفير سبل العيش في بلد هدته الحرب والحصار، نعم كانا عائدين من بغداد إلا أن سوء الطالع رافق الرحلة من بدايتها فقد أصيبت السيارة بعطل لم يسمح لها أن تواصل الرحلة مما أدى إلى تأخير في الوصول إلى سامراء في وقت يقترب مع بدء سريان منع التجول في المدينة، وهنا يبدأ الفصل الأول من المأساة، إذ اعترضت السيارة دورية عسكرية تابعة للجيش الأمريكي، وبعد أن استكملت كافة إجراءاتها بتفتيش ولدي وابن عمه وتفتيش حمولة السيارة، أنزلوهما من السيارة وشدوا وثاقهما واقتادوهما إلى منطقة تبعد حوالي ثلاثة كيلومترات، وأمام إحدى بوابات ناظم الثرثار حيث تتدفق المياه بقوة هائلة، ووسط ذهولهما، أمرهما الجنود بقذف نفسيهما إلى الماء في البرد القارس عند منتصف الليل، وتم دفعهما بقوة، وللأسف الشديد لم يكن ولدي يجيد السباحة، على الرغم من أن السباحة في هذا الفصل ومع قوة التيار الجارف لا تجدي نفعا، ومع ذلك فإن ابن عم ولدي الذي علق بإحدى الشجيرات نجا من الموت بأعجوبة ليحكي لنا هذه القصة المأساوية، ولقد بذل جهودا كبيرة لإنقاذ ولدي ولكن تيار الماء المتدفق كان أقوى منه ومن محاولاته، وبعد عدة أيام من البحث عنه عثرنا على سترته في مجرى الماء وستبقى معي ذكرى وعنوانا للظلم الذي حل بولدي من جنود جيش الولايات المتحدة الأمريكية، الذين جاءوا إلى بلدنا وهم يرفعون شعارات حقوق الإنسان والديمقراطية، وإذا بهؤلاء الجنود وبدم بارد وبأعصاب جامدة يزفون ولدي إلى حتفه في أيام عرسه.
وكي أوثق الحدث فإن ابني اسمه (زيدون مأمون فاضل حسون السامرائي)، من مواليد 1/ 6/1984، نعم قتلوه وفجعوني به، وتصوروا أيها السادة واسألوا زوجاتكم كم هو عسير على كل أم أن ترى ثمرتها وقد نضجت، ثم تهوي به يد أثيمة لتلقي به في هذا السيل الجارف دون رحمة أو إنسانية، لقد أحال الجنود كل ما قالته أمريكا عن حقوق الإنسان إلى كذبة كبيرة أو جثة هامدة كنت واحدة من ضحاياها وهم كثيرون، لذلك أتوجه جميعا وإلى السيدات الفاضلات عقيلاتكم وإلى الرئيس جورج بوش خصوصا لفتح تحقيق في ملابسات الحادث، على الرغم من أن أي إجراء سيتخذ من قبلكم لن يعيد ابني إلى الحياة، ولكني بإحساس عارم بالفجيعة أتطلع إليكم عسى أن يوضع حد لآلام الأمهات في بلدي فنحن نحصد البؤس والشقاء لما يفعله جنود جيش الاحتلال الأمريكي دون مراعاة لحياة الإنسان وكرامته ولقيم المجتمع وتقاليده، ولعل اتخاذ الإجراءات بشأن الحادث يعيد لي شيئا من المصداقية حول الشعارات التي ترتفع عاليا في أمريكا ولكننا لا نلمس منها شيئا بل نحصد النقيض لها في بلدنا، ولعل في هذا التحقيق ما سيدعم قوة القانون حتى لا يأتي يوم يصحو فيه ضمير أحد القتلة ويعترف بتفاصيل فعلته وحينذاك ستكون مسؤوليتها على عاتق بلدكم، وأنا على يقين بأنكم تعرفون الإرهاب وما يندرج في قائمة الأعمال الإرهابية، فهل سمعتم أو اطلعتم على عملية إرهابية أبشع من هذه الجريمة التي ألحقها جنودكم بسحق السيارة وتسويتها بالأرض بواسطة آلياتهم الحربية في رسالة موجهة إلى أسرتي الفقيد وابن عمه مروان كي تتأجج مشاعر القلق لديهما على مصير ولديهما، هذا سؤال أوجهه لكم وللمجتمع الإنساني وقد انتظر منكم جوابا شافيا..
المفجوعة بولدها
أم الضحية زيدون مأمون فاضل حسون السامرائي
9 / 1/ 2004
سامراء
1393 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع