د. سعد ناجي جواد
زيارة بابا الفاتيكان للعراق: وجهة نظر مختلفة
لابد من الاعتراف ابتداءً ان لدي موقف مسبق من الفاتيكان، ليس لاسباب دينية حاشى لله، حيث اني احترم كل الديانات، والديانة المسيحية ومعتنقيها، وبشكل خاص العراقيين منهم، لاسباب عدة لعل اهمها هو فضلهم على تنشئتي حيث ان جل من علمني وانا في المدرسة الابتدائية كانوا من المسيحين وبعض اليهود. الا ان موقفي هذا بدأ يتبلور عندما بدات انضج. كانت الصدمة الاولى عندما قام الفاتيكان بتبرئة اليهود من دم المسيح عليه السلام بسبب ضغوط امريكية واسرائيلية وخلافاً لكل الاعراف الدينية، والسبب الثاني هو الزيارات التي قام بها البابا السابق والحالي لفلسطين المحتلة واظهار حزنهم على ما عاناه (الشعب اليهودي) دون الحديث عن معاناة الشعب الفلسطيني، والسبب الثالث عدم معارضتهم للحروب التي شنتها الولايات المتحدة ضد العراق مع علم الكنيسة الكاثوليكية بما سببته هذه الحروب من ماسي. ولم يعترض الفاتيكان على جورج بوش الاصغر عندما ادعى ان غزو العراق واحتلاله هو تنفيذ لامر الهي مسيحي. اضف الى ذلك ان الفاتيكان لم يفعل اي شيء حقيقي لرفع المعاناة عن الشعب العراقي بكل مكوناته اثناء الحصار اللاانساني الذي استمر لمدة 13 عاما، (وساورد حدث دال بعد قليل)، ولم يستنكر العدوان والاحتلال بالطريقة التي تحتمها عليه مبادي الدين المسيحي الكريم.
لقد حظيت زيارة بابا الكنيسة الكاثوليكية الى العراق باهتمام كبير وتغطية اعلامية واسعة، وتسابق الكتاب ومراكز البحوث، وخاصة من العراق في الاطراء عليها، واعتبارها حدثا تاريخيا مهما بالنسبة للعراق وللمنطقة بل وللانسانية جمعاء. البعض اعتبر ان زيارته للعراق في هذا الوقت العصيب بالذات وتنقله فيه من جنوبه الى شماله سابقة تاريخية كبيرة، والبعض الاخر اعتبر لقاءه بالمرجع الديني الكبير السيد علي السيستاني رائدا في العلاقة بين الاسلام والمسيحية، واخرون اعتبروا حديثه المتكرر عن التاخي والمحبة بين الاديان رسالة عظيمة يجب ان تتمسك بها البشرية وتقتدي بها. في حين اخرين نظروا الى حديثه عن الفساد السياسي والمالي في العراق كمن يدق ناقوس الخطر والتنبيه لعواقب هذه الممارسات التي لن تحمد عقباها، (وكانهم نسوا ان المرجعية الدينية في العراق تتحدث عن هذا الامر ليلا ونهارا دون ان يرعوي الفاسدين والمسلحين المنفلتين عن اعمالهم). وكل هذه الاحاديث والكتابات اغفلت امورا اعمق كان يجب الحديث عنها.
ربما او بالتاكيد فان ما ساقوله يختلف كثيرا عن ما جاء في الغالبية العظمى من الكتابات. وارجو ان لا يفهم كلامي باني ضد الزيارة او ضد التاخي والتلاقي بين الاديان او ضد الدعوة الى ان يسود السلام بين الاديان السماوية الثلاث. ولكن هناك امور اغفلتها تلك الكتابات،
اولا وقبل كل شيء ان الزيارة من وجهة نظري المتواضعة لم تكن بريئة وحبا بالتقارب بين الاديان. ان تاكيد الحبر الاعظم على زيارة اور مسقط راس ابو الانبياء ابراهيم عليه السلام يجب ان ينظر له على انه يحمل معاني اخرى غير المعنى الديني البريء. ان الحديث عن الابراهيمية لابد وان يعيد الى الاذهان ما روجت له (صفعة القرن) التي تبناها سيء الذكر الرئيس الامريكي السابق ترامب، ونجح من خلالها في جعل بعض الحكومات العربية تعترف
باسرائيل بصورة مجانية وبدون التفكير بالحقوق العربية المغتصبة. وكانت عبارة ( الابراهيمية) هي الاساس الذي استندت عليه فكرة الحل من خلال الاعتراف بالكيان الغاصب لارض فلسطين الحبيبة. ولقد كتب الكثير عن القصد السيء من استحداث فكرة (الدين الابراهيمي) لطمس الحقوق العربية والاسلامية في فلسطين، ولتبرير التمدد الصهيوني- الاسرائيلي من النيل الى الفرات.
وهنا لابد من التذكير ان الفاتيكان طلب الموافقة على زيارة العراق ومدينة اور الاثرية بالذات في بداية عام 2000، ولكن ذلك الطلب رُدَ بأدب من قبل العراق على اساس ان الوقت غير مناسب بسبب ما كانت تعانيه البلاد من حصار لا انساني وقاتل. اما السبب الحقيقي للرفض فلقد ذكره الشيخ الدكتور عبد الرزاق السعدي في مقالة توضيحية قال فيها: (عندما وصل طلب الفاتيكان لزيارة بابا الفاتيكان للعراق عام 1999 شُكِلت لجنة من الخبراء، علماء دين واكاديميين مرموقين، للنظر في الطلب [وكان هو احدهم]. وكان الاتجاه العام هو تلبية ذلك الطلب، الا ان عضو اللجنة، عالم الاثار الكبير (المسيحي الديانة) الدكتور بهنام ابو الصوف اعترض وشرح سبب اعتراضه حيث قال: أن هذه الزيارة ستنعكس على العراق بالخطر الكبير بسبب أن البابا أراد من هذه الزيارة إعطاء اليهود حقهم في أرض ( اور) كما هي الرواية التي يدعيها اليهود، وبين أبو الصوف أن الهدف من زيارة ( أور) إعلانها مقراً دينيا ومزارا حقيقيا تشترك فيه كل الأديان لأن نبي الله ابراهيم عليه الصلاة والسلام ولد فيها … واضاف أبو الصوف بان العراق لم يسمع استنكارا على تصريح بوش الصغير الذي أعلنها حربا صليبية ولم يستنكر الفاتيكان اعتصام بوش بإحدى الكنائس ليلة ضرب العراق في 17/3/2003 حتى يعطي نفسه شرعية دينية من خلال هذا الاعتصام. وبالنتيجة اقتنعت اللجة بتحليله واوصت بالاعتذار، وهذا ما حصل) . وللتذكير فان الولايات المتحدة في ذلك الوقت كانت قد اعترضت بشدة على فكرة قيام بابا الفاتيكان بزيارة العراق لان ذلك يمثل نوعا من الدعم للنظام وتحديا للحصار المفروض على شعبه. ومادام الشيء بالشيء يذكر فان العراق انذاك كانت لديه ملاحظات على موقف الفاتيكان اللامبالي من الحصار، وتاكد العراق من هذا الموقف عندما ارسل الفاتيكان مبعوثا كبيرا للعراق في تلك الفترة العصيبة، وتم استقباله من قبل الرئيس العراقي انذاك، واعتقدت الحكومة ان تلك الخطوة ستكون بداية حملة دولية سيتبناها الفاتيكان لرفع الحصار عن العراق. وبعد ان ابدى المبعوث البابوي قلقه واسفه لمعاناة العراقيين، قام الرئيس بذكر ما يمكن ان يقوم به الفاتيكان من جهود لكسر الحصار، وكان رد المبعوث بما معناه ان هناك طريقة اسرع واضمن لرفع الحصار الفوري مبنية على اساس انهاء حالة العداء مع اسرائيل والتصالح معها بشكل من الاشكال، عند ذاك أُنهيت المقابلة.
واذا ما عدنا للزيارة فان المتتبع للاحاديث التي ادلى بها البابا نجد انها كانت منتقاة بعناية ومقصودة في التركيز على امور معينة وتعميم لامور مهمة اخرى. فمثلا الحديث عن الاخوة والتسامح بين الاديان كان التركيز فيه واضح على التلميح الى صفة التطرف في الدين الاسلامي دونا عن الاديان الاخرى. في هذا الصدد اثار الاخ الاستاذ الدكتور وليد عبد الحي في مقالة له بهذا الخصوص مسالة في غاية الاهمية وجدها عند تتبعه لاحاديث البابا في العراق حيث ذكر ان البابا تحدث عن : (“انتشار السلاح في كل مكان (ولاحظ كل مكان) ثم يقول “اسم الله لا يجوز أن يستخدم للقتل، لماذا لم يقل اسم الرب وليس اسم الله، فالتنظيمات المسلحة المسيحية تستخدم لفظ الرب في تسمياتها – مثل تنظيم جيش الرب المسيحي في اوغندا).
كما ان التركيز على استخدام مصطلح “الله” في هذه المنطقة وتفسيره على انه ذريعة للقتل له مدلولات يجب ان لا تخفى على اي لبيب.
وحتى عند حديثه عن مآسي التهجير، فان البابا تطرق لها بصورة عامة، وكأنما اراد ان يحصرها في مأساة تهجير الاخوة المسيحيين في العراق فقط والمطالبة بحقوقهم. والاهم انه لم يتطرق لا هو ولا اي من (المسؤولين) العراقيين الذي تحدثوا امامه عن معاناة شعب هُجر بكامله منذ 75 عاما ولا يزال يكابد من هذه الكارثة لحد الان، وهو امر عانى منه الشعب الفلسطيني بمسلميه ومسيحيه.
اما اللقاء الذي جمع البابا براس المرجعية الدينية في النجف الاشرف السيد السيستاني فلقد نتج عنه روايتان، الاولى ذكرها الكاردينال لويس ساكو الذي حضر اللقاء. والثانية وردت في البيان الذي صدر عن المرجعية الدينية في النجف. السيد ساكو قال ان التطابق في وجهات النظر والاحترام المتبادل كان واضحا في اللقاء، من ناحية عدم الرضى عن الفساد في العراق ورفض المرجعية استقبال ايا من السياسيين العراقيين (حتى اثناء زيارة البابا رفضت المرجعية مصاحبة اي من المسؤولين العراقيين المرافقين للبابا من الدخول معه الى دارهِ)، وعن ضرورة ان يكون هناك حد للفساد في العراق. وتشاركا في انتقاد الساسيين حول العالم. اما البيان الذي صدر عن المرجعية فلقد ذكر ان السيد السيستاني تحدث عن ما (يعانيه الكثيرون في مختلف البلدان من الظلم والقهر والفقر والاضطهاد الديني والفكري وكبت الحريات الأساسية وغياب العدالة الاجتماعية، وحروب وأعمال عنف وحصار اقتصادي وعمليات تهجير وغيرها، ولا سيما الشعب الفلسطيني في الأراضي المحتلة). وكانت هذه هي المرة الوحيدة التي سمع فيها بابا الفاتيكان بكلمة فلسطين ومعاناة الشعب الفلسطيني على اساس انها لُب المشكلة في المنطقة. وكدليل على عدم اهتمام البابا بهذه المسألة فأن البيان الذي صدر عن الفاتيكان حول هذا اللقاء لم يتطرق لا من قريب ولا من بعيد الى القضية الفلسطينية او الى ما اشار له بيان المرجعية.
لكل هذه الاسباب، ومع كل احترامي لشخص البابا ولاتباعه، ولمبادرته لزيارة العراق في هذا الوقت العصيب وبعد ثمانية عشر عاما من التدمير الممنهج والقتل اليومي لابناءه، الا انني لا ازال اعتقد ان الزيارة لم تكن موفقة واهم ملاحظة عليها غير الملاحظات التي ذكرت اعلاه انها اضفت شرعية جديدة على الطبقة السياسية التي تسببت ولا تزال تتسبب في معاناة العراقيين الكبيرة التي تحدث عنها البابا
1700 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع