حين تطلع الأيدلوجيا يغرب المنهج قراءة منهجية في كتاب (الثورة الإسلامية في إيران. دراسة تاريخية في أسبابها ومقدماتها ووقائعها)

                                                                                         

                        د. وليد محمود خالص
                عضو مجمع اللغة العربية في القاهرة

   

حين تطلع الأيدلوجيا يغرب المنهج قراءة منهجية في كتاب (الثورة الإسلامية فيإيران. دراسة تاريخية في أسبابها ومقدماتها ووقائعها) للدكتورة أمل عباس جبر البحراني

دأب القاريء على تعقّب جمهرة من الكتب بالنقد، والتعليق، وخصوصاً تلك الكتب التي كانت في أصلها رسائل جامعية، تقدّم بها أصحابها للحصول على درجتيْ الماجستير، أو الدكتوراه. وهو يفترض أن تلتزم تلك الكتب بالمنهج العلمي في البحث، غير أنّه يفاجأ، بل يُصدم حين يواجه دراسات تنضوي تحت ذلك التحديد السابق، بَيْد أنّها لا تلتزم بقوانين المنهج، وتقاليده.. ما استقرّ منها، وما جدَّ عليها. أقول: يصدم حين يواجه سيلاً من الدراسات الجامعية، وهي تتجنّب المنهج في أبسط أعرافه، وتلجأ إلى مسالك إعلامية، تبدأ بأفكار جاهزة، مسبقة، وتمرّ في أثناء الدرس على مجموعة، ما تعتقد أنّه مسلّمات من وجهة نظرها، لتنتهي إلى نتائج، هي الأخرى معروفة سلفاً، بسبب تأسّسها على تلك المقدمات الجاهزة. ونراها توظّف للوصول إلى ذلك كلّه، مصادر ذات وجهة وحيدة، ترسّخ ذاك الذي عوّلتْ عليه، مع بتر للنصوص لتخدم تلك الوجهة الوحيدة، وتغييب متعمّد لما لا يتّفق مع ذلك المسار بمجموعه، بالإضافة إلى تبجيل من جهة، وتبخيس من جهة أخرى، ومعول تقويض المنهج مايني يعمل؛ لأنّه الطريقة المثلى، والسبيل الأوحد للوصول إلى تلك الغايات. وأعيد هنا، ما قلته في كتب، وبحوث سابقة من أنّ استشراء مثل هذه الظاهرة، وانتشارها، علامة بارزة على انهيار ملموس في النظام التعليمي في الوطن العربي، لم يُصِب بأوباله الدراسات العليا وحدها، بل ابتدأ منذ أدنى المراحل، صعوداً إلى أعلاها، وليس هذا الانتشار سوى نتيجة حتمية لذلك الانهيار.

ولعلّ هذا الكتاب الذي بين أيدينا، قد أصابه شيء كثير من تلك العلل، إذ نرى المنهج يتضاءل، ويذوى، وتعمل قوى التحيّز الأخرى على أن تكون الصوت المرتفع، بل الوحيد. وسنعمل في درسنا هذا الكتاب على وفق ثمانية محاور، هي بمثابة علامات واضحة، نلمسها حاضرة بقوة بين دفّتي الكتاب، من مبتدئه إلى منتهاه، ولن تتّضح صورة هذا الكتاب حاقّ اتّضاحها إلاّ بتفليته، وتقليب صفحاته ظهراً لبطن، والتعامل الهاديء، المتأمّل مع مقولاته، من خلال تطبيق القوانين المنهجية عليه، بغية الوصول إلى النتيجة النهائية؛ لإثبات تهاوي المنهج، وذبوله فيه، وهي ليست النتيجة التي يبتغيها القاريء، بل هي التي فرضت نفسها بشدّة عبر التّخلي شبه التام عن قواعد المنهج، وأعرافه.
والكتاب المقصود هنا، هو (الثورة الإسلامية في إيران. دراسة تاريخية في أسبابها ومقدّماتها ووقائعها)، للدكتورة أمل عباس جبر البحراني، وهو في الأصل رسالة جامعية، لم تصرّح الباحثة بدرجتها، أهي ماجستير، أم دكتوراه؟ مع إغفال اسم الجامعة العراقية التي منحتها تلك الدرجة. وتوصّلنا إلى هذا الأمر، من خلال المقدّمة التي تشير فيها إلى أستاذها (الغالي)، د. كمال مظهر أحمد، ومراجعته الكتاب من خلال وضع اسمه على الغلاف الخارجي، مقروناً بكلمة (مراجعة)، ممّا يشي بإشرافه على الرسالة التي صارت كتاباً فيما بعد، ولكن بلا تقديم أيّ شكر له، وهو الذي درجت عليه الكتب التي تنضوي تحت هذا النوع، كما أنّ هناك كلمة قصيرة جاءت على الغلاف الأخير من الكتاب، نُسبت إلى د. كمال مظهر أحمد، وذلك بوضع اسمه بعد الانتهاء منها، مع أنّنا نجد هذه الكلمة بحروفها، مثبتة في مقدّمة الباحثة للكتاب، ولا ندري، بعد هذا، مَن صاحب تلك الكلمة، أهي للباحثة، أم للدكتور كمال مظهر أحمد؟ ولا نرى موجباً لكلّ هذا الإبهام الذي أوقعتنا الباحثة فيه منذ الصفحة الأولى. ولذا توجّبت الإشارة إليه. وقامت دار كنوز المعرفة للنشر والتوزيع بطبع الكتاب، وإصداره سنة 2018 في عمّان. المملكة الأردنية الهاشمية.
- 2 -
ولعلّ أول ما نقف عنده من المحاور المشار إليها سابقاً، هو المصادر التي فاءت إليها الباحثة في درسها. ونحن نعلم، وغيرنا يعلم أحسن منّا، أنّ المصادر في البحث الأكاديمي، ركن ركين، وأساس متين، لا يمكن الاستغناء عنه، أو الاكتفاء ببعضه، كما أنّ المصادر بمكنتها توجيه مسار البحث، والوصول إلى النتائج التي يرغب الباحث في إثباتها، من خلال توجيهها نظر الباحث، وفكره، إلى وجهة واحدة، وستر بقية الوجهات عنه، سواء أكانت هذه العملية برمّتها، قد تمّت عن وعي مقصود لدى الباحث، أو لا وعيه في بعض الأحيان، أو جهله، أو تجاهله المصادر الأخرى ذات التوجّه المختلف. ومدار هذا الأمر في قبضة اتّخاذ الباحث موقفاً مسبقاً، جاهزاً من بحثه، قبل البدء به، والاحتشاد له، وهو ما سنقف عنده بعد قليل. ولا يكفّ المنهجيون عن الإشارة، ولا يكلّون من التكرار إلى ضرورة الابتعاد عمّا يصطلح عليه بـ (الانتقاء)، في حثّ الباحثين على جمع أكبر قدر من المصادر عن الموضوع المدروس، بحيث يقدّم هذا القدر الكبير اتجاهات مختلفة، بل متناقضة. وتبرز هنا مهمّة الباحث الحقيقي الذي خلصت للبحث المنهجي مهجته، حين يدرس تلك المصادر، وهي ذات مشارب متنوعة، ومواقف متباينة، فينظر إليها بعين الحياد، ويناور من خلالها، ويفكّك أساليبها، وطرائق كتابتها، وكيفية عرضها الموضوع المقصود بالدرس، بغية الوصول إلى ما هو قريب من الحقيقة؛ لأنّ الوصول إلى الحقيقة من المحالات، حتى لو استقينا الحدث من معاصر له، فستظلّ السمة الشخصية تلعب دورها في صياغة الحدث، وطريقة عرضه، وربّما بدا النصّ في سطحه الخارجي محايداً، غير أنّ الباحث الحقّ لا يقنع بهذا السطح وحده، فهو موهِم، ويقود أحياناً إلى الضلال، بل يعمد إلى المقارنة بينه، وبين نصوص أخرى عالجت الحدث نفسه، للوصول إلى صورة قريبة، لإعادة رسم الحدث مرة أخرى، مع تحليل أسلوبي للغة النص، وضرورة وضعه في سياقه التاريخي، وسبر دقيق لفكر صاحب النص السياسي، ومكانته الاجتماعية، ومستواه الثقافي. فإذا كان هذا هو المطلوب من الباحث المنهجي، وهو – بلا شك- أمر عسير، من الصعب إدراكه إلاّ ببذل الجهد، واستفراغ الوسع في الابتعاد عن الموقف الشخصي، ومحاولة الاقتراب من ساحة الحياد النسبي؛ لليقين من أنّ الحياد التامّ من المحال تحقّقه، والموضوعية الكاملة أقرب إلى أن تكون حلماً يراود الجمهرة من الباحثين، غير أنّ الواقع ينطق بشيء آخر.
فماذا، بعد ما تقدّم كلّه، كانت مصادر الباحثة، وإلى أيّة فئة تنتمي؟ وهل كانت (منهجية) في جمع مصادرها، واستقرائها؟ أم فضّلت (الانتقاء) لتصل إلى ما تريد الوصول إليه. وهل حفرت في تلك المصادر لتعرف توجّهات أصحابها، وميولهم السياسية، والثقافية؟ وخصوصاً أنّها تبحث في موضوع ذي حساسية، تتوزّعه الآراء، وتختلف فيه المشارب. هذه أسئلة جوهرية من الواجب طرحها؛ لأنّها ستكون الأساس الذي ستبني عليه الباحثة، فيما بعد، مفاصل بحثها، ومساراته المتشابكة، والنتائج التي ستتوصّل إليها.
بعد استقصاء مصادر الباحثة، سواء من خلال الهوامش، أم من خلال الإحصاء الدقيق لمسرد المصادر في نهاية الكتاب، تبيّن أنّ الباحثة رجعت إلى أنواع من المصادر، وبلغات مختلفة، نجملها فيما يأتي:
1- وثائق دار الكتب والوثائق العراقية (سبع وثائق).
2- وثائق وزارة الخارجية العراقية (سبع وثائق).
3- الوثائق البريطانية (خمس وثائق).
4- وثائق وزارة الخارجية الأمريكية (وثيقة واحدة).
5- أرشيف القيادة القومية لحزب البعث العربي الاشتراكي. وهي قيادة منحلّة بعد سنة 2003. وتحتفظ حركة الوفاق الوطني العراقية بهذا الأرشيف (لم تذكر الباحثة عدد الوثائق).
6- وكالات الأنباء العربية، والأجنبية (عشر وكالات).
7- التقارير الصحفية للملحقيات، والدائرة العراقية في لندن. (خمسة تقارير).
8- الترجمات عن الصحف العالمية (ثلاث عشرة ترجمة).
9- الأطروحات: ماجستير، ودكتوراه (ثماني عشرة أطروحة).
10- الكتب العربية والمعرّبة (ستة وثلاثون ومائة كتاب).
11- الكتب الإنكليزية (ستة وخمسون كتاباً).
12- الكتب الفارسية (واحد وأربعون كتاباً).
13- الكتب الأذرية (ثلاثة كتب).
14- الكتب الروسية (كتابان).
15- الكتب الفرنسية (أربعة كتب).
16- البحوث والدراسات باللغة العربية (ثمانية وستون بحثاً، ودراسة).
17- البحوث باللغة الإنكليزية (بحثان).
18- الصحف والمجلات (تسع وثلاثون صحيفة، ومجلة. واحدة منها فقط بالفارسية، والباقي بالعربية).
19- شبكة الإنترنت باللغة العربية (عشرة مواقع).
20- شبكة الإنترنت باللغة الإنكليزية (ثلاثة عشر موقعاً).
فهذا مسرد دقيق لمصادر الباحثة، كما هو مثبت في الهوامش، وفي نهاية الكتاب، كما قلنا. ولعلّ القاريء سيصيبه شيء من الدهشة، والانبهار إزاء هذا العدد الكبير من المصادر، وتنوّعها، غير أنّ التحليل المتمعّن سيزيل قسطاً كبيراً من تلك الدهشة، وذلك الانبهار، على وفق النتائج الآتية:
1- إنّ الغالبية العظمى من المصادر العربية، سواء أكانت كتباً، أم بحوثاً، صدرت في العراق، وبأقلام باحثين عراقيين. ومعلوم للكافّة أنّ العلاقة بين العراق، وإيران كان يسودها التوتر الدائم، واختلاف وجهات النظر، منذ زمن ليس بالقريب، وانتهى هذا التوتر المستمر بالحرب العراقية – الإيرانية التي استمرّت ثماني سنوات، وظلّ هذا التوتر قائماً بعد انتهاء الحرب، وبدء الحصار على العراق الذي انتهى بالاحتلال الدولي للعراق سنة 2003. وتأسيساً على ما تقدّم، فمن المنطقي أن تحمل تلك الكثرة الكاثرة من الكتابات سمات ذلك التوتر، فالحرب الطويلة، بالإضافة إلى سنوات الحصار. ولا ننسى هنا، طبيعة النظام الحاكم في العراق قبل سنة 2003، وسيطرته المطلقة على مرافق الدولة، وخصوصاً الجوانب الإعلامية، والثقافية، ورغبته الملحّة في أن تعبّر تلك الجوانب عن مواقفه السياسية، واتجاهاته الفكرية. فإذا تعانقت تلك الوقائع، أمكننا القول باطمئنان، ومن وجهة نظر منهجية بحتة، إنّ تلك المصادر تقدّم نظرة واحدية حادّة، مهمّتها عرض بُعد وحيد للصورة، مستبعدة الأبعاد الأخرى؛ لأنّها لا تحقّق الغرض من كتابتها أصلاً. وكي نبتعد عن التطويل في هذه النقطة بالذات، نحيل إلى كتاب الباحثة المصرية المرموقة د. ليلى عثمان، وعنوانه (الحملة الفرنسية. تنوير أم تزوير؟)، إذ يكاد الكتاب يخصّص برمّته للصورة النمطية، القارّة، التي دبّجتها أقلام المؤرخين، والأدباء الفرنسيين عن الحملة، وهي صورة محاطة بتمجيدها، وتقديس بونابرت، مغيّبة الأبعاد الأخرى التي تتناقض مع تينك الغرضين، وهو الذي يقترب كثيراً ممّا نحن فيه.
2- عند تأمّل حزمة المصادر السابقة، وتواريخ صدروها، نجد أنّ الغالبية العظمى منها قد صدرت بعد سنة 1979، وهي سنة (الثورة الإسلامية)، ويستثنى من هذا الإحصاء، قلّة قليلة جداً من المصادر، صدرت قبل ذلك التاريخ، وحتى هذه القلّة، لم تكن ذات أثر يذكر في توجيه مسار الكتاب، فهي أقرب إلى ما يصطلح عليه بـ(المصادر العامة) التي يستخدمها الباحثون في توثيق تاريخ ما، أو تعيين منطقة معينة، أو دراسة عامة، تشمل مناطق كثيرة، منها إيران. مثال ذلك: موسوعة الحركات الإسلامية في الوطن العربي وإيران وتركيا. أحمد الموصلي، والعلاقات الفرنسية – الإيرانية من التأزم إلى الانفراج. مركز البحوث والمعلومات. بغداد، وتاريخ إيران السياسي بين ثورتين. آمال السبكي، وأعجب الرحلات في التاريخ. أنيس منصور، ومدخل إلى تاريخ إيران المعاصر. بزهان جازاني، والشرق الأدنى. مجتمعه وثقافته. تويلرنيبنج، وشبه الجزيرة والخليج العربي والغرب. جي. بي كيلي، ومشكلة الأحواز في ضوء القانون الدولي. خالد العزّي، وتاريخ المشروطة في إيران. أحمد كسروي (بالفارسية)، والشرق الأوسط. هالفور ل.هوسكنز (بالإنكليزية). فهذه عشرة كتب، وغيرها كثير، هي من هذا النمط، والتوجّه، وهي ذات تأثير هيّن، هي الأخرى، على المسار العام للكتاب.
3- حين ننعم النظر في الأطروحات الجامعية التي رجعت إليها الباحثة، نجد أنّها جميعاً، كُتبت بأقلام باحثين عراقيين، وأجيزت أطروحاتهم في العراق، وانتهوا من كتابتها بين سنتيْ 1988 و 2007، ولهذا دلالته المهمة. فقبل سنة 2003، كان العداء مستحكماً بين النظامين في العراق، وإيران، كما ذكرنا، فكان من الطبيعي أن تكون تلك الأطروحات خير معبّر عن ذلك العداء من خلال مقولة (الانتقاء)، وبعد سنة 2003، نجد واقعاً مختلفاً يفرض نفسه، ليحلّ فيه الصفاء محلّ العداء، والتعاون بدل الجفاء، ولا نزيد. ومن هنا نستطيع تفسير خلوّ الأطروحات التي فاءت إليها الباحثة من دراسات عن النظام بعد (الثورة) الإيرانية، ولو على سبيل الموازنة بينه، وبين النظام الملكي، ولعلّ السبب يعود ببساطة إلى غياب أمثال هذه الأطروحات التي تدرس الأوضاع بعد (الثورة) بمنهجية، بسبب ذلك التقارب الملموس بين العراق، وإيران بعد سنة 2003.
4- ومثل ذاك الذي سبق، ما لحظناه في (البحوث والدراسات) التي بلغ عددها ثمانية وستين بحثاً، منها ستة وخمسون بحثاً لباحثين عراقيين، ولم يتبقّ سوى اثني عشر بحثاً لباحثين غير عراقيين، وتلك الأرقام تنضوي تحت ما أشرنا إليه سابقاً من دلالات عن التأزّم الدائم في العلاقات بين البلدين، فمن الضروري أن تعبّر عن وجهة نظر وحيدة، هي وجهة النظر العراقية، مع غياب تام لوجهة النظر الأخرى، وهي المتعلّقة بالنظام الملكي الذي سبق (الثورة).
5- استمرّ الحكم الملكي في إيران المعاصرة، لما يزيد على نصف قرن، بدءاً من سنة 1926، حين تولّى رضا شاه بهلوي (1878-1944) الحكم في تلك السنة، أي 1926، ثم تولّى الحكم بعده، ابنه محمد رضاه شاه بهلوي (1919-1980)، سنة 1941، وحتى سنة 1979، ومع هذا الامتداد الزمني، لا نجد بين مصادر الباحثة كتاباً، أو مجلة، أو نشرة، تعبّر عن رأي النظام الملكي الذي استمر لتلك المدّة الطويلة، وحتى من باب معرفة الوجه الآخر للصورة. ولا شكّ في أنّ النظام الملكي كان يمتلك وفرة من الأقلام التي تروّج له، وتذيع إنجازاته، وتبارك خطواته، بالإضافة إلى مراسلات وزارة خارجيته، وعلاقاتها الواسعة مع دول العالم، شأنه شأن أيّة سلطة، وهو الذي رصدناه، مثلاً، من خلال مصادر الباحثة، عمّا كُتب عن (الثورة الإسلامية) التي لم يمرّ عليها حتى اليوم، ما استغرقه الحكم الملكي في إيران. ومع هذا. نجد وفرة من المصادر التي تتحدّث عنها بتمجيد، ومديح. ومع هذا كلّه، تغيب تلك الكتلة من الكتابات، وهي ضخمة بلا شكّ، التي أنتجتها مرحلة النظام الملكي، تغييباً مقصوداً، ليبرز الوجه المطلوب من الصورة، ويظلّ الوجه الآخر متوارياً في الظلّ، بل العدم، مع أنّ النظام الحالي في إيران بدأ يشير إلى إنجازات ذلك النظام السابق عليه، في معرض دفاعه عن نفسه، مثل الدعوة إلى إعادة إحياء اتفاق الشراكة بين نظام الشاه، وما كان يُعرف وقتها بالسوق الأوربية المشتركة في عام 1975، كما يحاول (رئيس أركان الجيش الإيراني الجنرال محمد باقري مطاردة غزالة شاردة من الماضي، وهي منظومة من التعاون العسكري مع تركيا، وباكستان، وكانت تلك الغزالة الشاردة من طرائد الشاه، وكانت تحمل اسم "منظمة المعاهدة المركزية"). ويحاول وزير الخارجية محمد جواد ظريف (اكتشاف قطعة مثيرة من الماضي في صورة اتفاقيتين للتعاون بين إيران، والولايات المتحدة في خمسينات القرن الماضي لإضفاء الطابع القانوني على المساعدات الإنسانية الأميركية إلى إيران) (ينظر مقال أمير طاهري: في إيران. الماضي دولة مختلفة تماماً. صحيفة الشرق الأوسط، 27/7/2018)، ومع هذا تظلّ الباحثة مصرّة على موقفها، مع ما فيه من مخالفة صريحة لآليات المنهج العلمي الواجب إتباعه.
لم تكن الباحثة في تعاملها الذي رأيناه، مع المصادر، نسيج وحدها، إذ هي ظاهرة غير منهجية، نراها، ونلمسها عند الجمهرة من الباحثين الذين يؤرخون لأنظمة سقطت، وقامت على أنقاضها أنظمة أخرى. ولعلّ أبرز معالم هذه الظاهرة، هو الصمت، والصمت نوع من القتل. إذ تعمد الكثرة إلى الوقوف بصمت إزاء منجز الأنظمة السابقة، من خلال التغييب، والإعراض، وإن لم تكتفِ بذلك، لجأت إلى التشهير، والانتقاد اللاذع، وسنرى مفاصل من هذا التغييب، والإعراض فيما سنستقبل من محاور، ويغيب عن أولئك المؤرخين حقيقة مهمة، وهي أنّ للتاريخ لسانا، يقول، ويحدّث. وليس ذلك اللسان سوى الوثائق بأنواعها المعروفة. وَهَبْ أنّ اللسان أُجبر على الصمت لمدّة، ولكنّه سينطق في مدد أخرى، تطول أو تقصر. وتاريخ العراق الحديث خير شاهد على ما نقول.
فإذا كان الأمر هكذا، وهو هكذا، كما يشهد عليه مسرد المصادر، أمكننا القول باطمئنان إنّ تلك المصادر، على وفرتها، كانت تشتغل ضمن محورين اثنين، أوّلهما اعتماد مصادر ذات لون واحد، وتوجّه متشابه، مع تبنٍّ شبه تام لما حوته تلك المصادر من مقولات، وآراء، ومواقف، بل نتائج، بلا أدنى مسآلة لذاك الذي حوته، وهو الذي يقتضيه المنهج العلمي، بل يفرضه. وثانيهما حجب كثيف، ما كان ينبغي له أن يُحجب، للوجه الآخر من المشهد، وهو رأي النظام الملكي نفسه في الأحداث، من خلال وسائل إعلامه، وكتبه، ونشراته التي أُهملتْ إهمالاً ذريعاً. وحين يتعانق تينك المحوران، فلن يؤدّيا إلاّ إلى توجيه مقصود لمسار الدراسة، ونتائجها، بحيث قاد الدراسة إلى بروز ظاهرتين واضحتين فيها، يمكن تلخيصها على الوجه الآتي: رسم صورة نورانية، تبجيلية للثورة، والقائمين بها من جهة، وتبخيس، وتنقّص من النظام السابق عليها من جهة أخرى، وهو النظام الذي افتقد اللسان المعبّر عنه؛ لأنّ الباحثة – ببساطة- ألجمت فمه بلجام من حديد، فكيف ينطق؟ وسيكون للمصادر أثر، وأيّ أثر، على ما سيأتي من محاور، فهي القفل، والمفتاح معاً. وما أدراك!!!
- 3 -
ويتمثّل المحور الثاني في استقبال الباحثة موضوع بحثها بأفكار مسبقة، وآراء جاهزة، كانت قد تراكمت سلفاً من خلال القراءة ذات الوجه الواحد، وعبر الاقتناع المبني على أنّ النظام السابق على الثورة شرّ كلّه، والثورة وما رافقها من أحداث خير كلّه، ولم تتمكّن من الإفلات من ذينك القيدين اللذين فرضتهما على دراستها. ويحدّثنا الرائد المنهجي الدكتور علي جواد الطاهر عن هذه النقطة، حين يكتب: (...ويرى بعض الباحثين في المناهج ضرورة أن ينطلق الباحث عن إيمان بفلسفة معينة، ويتّخذ ذلك شرطاً أساساً، لا يمكن التنازل عنه. ويرى آخرون في هذا، تطرّفاً قد يُخرج الباحث عن ميدانه. فصحيح أنّ الالتزام بالفلسفة هذه، يمكن أن يفتح الآفاق، ويجنّب صاحبه تكرار الخُطى، ويجهّزه بموقف، ويبعده عن الخرافة، وربط الأحداث بغير أسبابها، إلاّ أنّ الذي يُخشى – في هذه الحال- أن تؤدّي به هذه الفلسفة خلاف ما هو مرجوّ منها، فتقيّده، وتحدّده، وتضيّق عالمه، وتجعله ينظر إلى الأحداث المختلفة بمنظار واحد، فلا ينطق – حينئذ- إلاّ بما نطق به الآخرون، فتضعف شخصيته، ويقرب أن يكون نسخة مكرّرة من غيره. هذا إلى ما يمكن أن يقع فيه، هو نفسه من تناقض بين السبب، والنتيجة، والقول، والفعل. ومن هنا احتجنا إلى التحذير، واكتفينا من الفلسفة بالثقافة الفلسفية، والعقل الفلسفي، وبالنظرة الإنسانية إلى ما هو في الماضي، والحاضر، والمستقبل، وإلى ما هو أبعد أثراً، وأطول دواماً؛ لأنّنا بقدر ما نطالب بالفلسفة، وبالشكّ، نطالب بأن لا يجور ذلك على شرطين آخرين من شرائط البحث العلمي، وهما: الإنصاف. والموضوعية. والإنصاف قرين العدل. والعدل يقتضي أن تتجرّد من الهوى، وأن تنظر، وتحكم بمقتضى الحقيقة، وهو يعني أن لا تُقبل على موضوعك بعصبية معينة له، أو عليه، فتجرفك الأهواء بعيداً عن صميم عملك، وعن الحقّ الذي يشترط أن يكون رائدك. فليست البحوث أعمالاً تقوم على العاطفة. يُشبع بها فلان نهمه، أو يرضي فلان نزوته، فيرفع مَن يريد أن يرفع، ويخفض مَن يريد أن يخفض. إنّ البحث أمر يتطلّب الإرادة، وقوة الإرادة في أن يسيطر المرء على نفسه، ويروّضها، ويرتفع بها عن مستوى الانتقام، أو المغالطة، أو النفاق، أو التهريج، والكسب الحرام. وعرف الغرب ثمرة لحضارته، ونهضته العلمية صفة خاصة اشترطها في علمائه، سمّاها (الموضوعية)... وهذا الخلق ممّا يتّصف به الكيمياوي، والفيزياوي، ومَن إليهما، وهو في هذين الميدانين سهل؛ لأنّ المرء فيهما يتعامل مع مواد جامدة في محيط منعزل، هو المختبر، أو ما أشبه. أمّا في غير هذين الميدانين من الميادين الأخرى، فهو صعب، لما في النفس الإنسانية من أهواء، ولما تخضع له هذه النفس من عادات، وتقاليد، ومعتقدات، ومصالح، ولما يكتنفها من رواسب، ولكن، مع هذا، لا بدّ للباحث من أن يكون موضوعياً، وأن يسمو بنفسه عن أن تضعف بإزاء هذا الغرض، وذلك العَرَض؛ لأنّ الحقيقة أكبر، وقد جاءت الموضوعية ضدّاً للذاتية... أو حدّاً من طغيانها في الأقل) (منهج المنهج الأدبي. الدار المتحدة للنشر. بيروت. الطبعة الثامنة. ص39). وأثبتنا النّص – على طوله- لسببين اثنين. أولهما الإحساس الشديد بأنّ صاحب النّص، كان يوجّه خطابه للباحثة مرشداً لها، ولنا، من أنّ الباحث المنهجي الحقّ، عليه أن يلتزم بما ورد في النّص من إنصاف، وموضوعية، مع تجنّب تام للآراء الجاهزة، وإلاّ سقط في المحظور، فكأنّه يروم أن يبني بناء ما، فيبدأ بالجدار، والسقف، ناسياً، أو متناسياً الأساس، ولن يكون مآل هذا البناء، فيما بعد، إلاّ الانهيار. وثاني السببين، هو ما ورد في النّص من حديث عن التقييد، والتناقض، والعصبية، وما إليها من زلاّت منهجية تصيب البحث، أيّ بحث، وهي التي سنراها ماثلة بقوة في المحاور المقبلة.
ولا نحتاج إلى نصوص كثيرة لإثبات هذا المحور؛ لأنّنا نجده حاضراً منذ الصفحة الأولى في الدراسة، أي في (المقدمة). تكتب: (تعدّ الثورة الإسلامية في إيران حدثاً مهماً في تاريخ العالم الإسلامي الحديث؛ لأنّها أنهت حكماً دام لفترة طويلة. فقد عاشت إيران في الفترات السابقة سنوات من الظلم والتدهور... وجاءت الثورة الإسلامية في إيران ردّ فعل لسياسة الشاه محمد رضا بهلوي الذي جعل من البلاد أرض (كذا. والصواب: أرضاً) صالحة لخدمة المصالح الأمريكية) (ص11). وتكتب في الخاتمة: (إنّ نظرة على الأوضاع السياسية قبيل الثورة توضح بأنّ الشاه لم يفعل شيئاً لتطوير البنية الفوقية السياسية للشعب الإيراني، فكانت أغلب الحقوق السياسية مفقودة، والقمع والتعذيب سمة بارزة في تلك الفترة... إنّ حقيقة الثورة الإيرانية هي حركة عضوية لجماهير حالمة، أكثر ممّا هي انتفاضة مخطّطة يقودها حزب سياسي منظّم، ولم تَحْظَ بمساعدة أيّ قوة خارجية، فالقوى جميعها داخلية) (ص259و261)، وبغضّ النظر عن الأسلوب الإنشائي الحماسي، والتناقض البيّن في النّص، وهو ما سنقف عنده فيما بعد. أقول: بغضّ النظر عمّا سبق، فإنّ ما سيق من نصوص يؤكد نمطية الصورة، استناداً إلى قناعة قبْلية لدى الباحثة، تؤيّد من أنّ النتائج مرسومة سلفاً، ولم يكن لها إلا أن توظّف ما يلائم تلك الصورة من حواشٍ، وظلال، ونصوص بغية إكمالها، وعرضها على الهيئة التي تلحّ عليها. ولعلّ ما يدعم، ما سبق، هو الحجم المتاح من الصفحات لكلا الجانبين، أي النظام الملكي من جهة، والثورة من جهة أخرى. إذ يحتلّ الأول مائة وسبعاً وثمانين صفحة من الكتاب، بينما لا يأخذ الثاني، وهو الثورة، سوى سبعين صفحة حسب، مليئة بالحماسة، المضمّخة بالإنشاء، المكلّلة بالمديح والثناء، وهذه زلّة منهجية أخرى تقع فيها الباحثة، إذ من المفترض أن يأخذ الجانب الثاني، أي جانب الثورة، نصيب الأسد، استناداً إلى عنوان الدراسة، وهي (الثورة الإسلامية في إيران)، غير أنّنا نجد هنا، الضدّ من هذا تماماً، فلم يَبْقَ أمام القاريء المتعجّل إلاّ أن ينساق مع الباحثة في عرضها التفاصيل، والموافقة على نتائجها المبتغاة، غير أنّ التروّي، والتمحيص، والتوقّف مليّاً عند سرد الأحداث، وطريقة عرضها، أدّى إلى الشكّ في ذلك كلّه، والتحفّظ عليه من وجهة نظر منهجية بحتة، ولكن، ماذا كانت النتيجة بعد تلك الآراء الجاهزة، والمواقف المسبقة المعدّة سلفاً؟
- 4 -
لم تكن النتيجة سوى سيل من أحكام القيمة الحادّة التي شملت مواضع كثيرة من الدراسة، وهو المحور الثالث، وهي التي يجب أن تبرأ منها الدراسة المنهجية براءة تامة؛ لأنّ الباحث المنهجي يختار الشكّ بدل اليقين، فقد (قال علماء التاريخ: شكّ المؤرخ رائد حكمته. وقالوا: الأصل في التاريخ، الاتّهام، لا براءة الذمة) (مصطلح التاريخ. أسد رستم، ص72)، والترجيح عوضاً عن القطع، والمناورة بين النصوص المتعارضة، تاركاً النظر من خلال وجهة وحيدة، ثقة منه أنّ ما يصنعه هو الوفاء بعينه للمنهج، ولا يعدو ما عداه، أن يكون بياناً سياسياً، أو منشوراً ترويجياً لفكرة ما، جذباً لإقناع بعض القراء، أو كسب رضاهم، كأنّه يقول ما يرغبون في سماعه. ومع هذا، نجد الباحثة توظّف تلك الأحكام في مواضع كثيرة من دراستها، ناسية، أو متناسية خطورة هذه الأحكام على المصداقية العلمية التي يجب أن تتحلّى بها الدراسة، كما تنقلها فوراً إلى حقول معرفية أخرى، ليست المنهجية منها في الأقلّ. تكتب: (اتّسم الاقتصاد الإيراني خلال تلك الحقبة (الملكية) بالتبعية الكاملة للاقتصاد الغربي) (ص106)، و(كانت الأوضاع الاقتصادية، والسياسية في إيران تسير نحو الهاوية عشية تولّي شابور الحكومة) (ص223)، و(وجدت الحكومة نفسها عاجزة أمام المدّ الشعبي الكبير، ففي الوقت الذي كانت فيه قوى المعارضة تتّحد تدريجياً، كان الشاه يزداد ضعفاً، وصار هذا الشخص (الشاه) الذي يخشاه الجميع وكأنّه (دمية عرائس) يتحرك من اتجاه لآخر، لعلّه ينجح في إخماد المظاهرات، كما حدث في العام 1963) (ص205)، غير أنّنا نقرأ، وفي السياق نفسه، ولكن على الضفة الأخرى، ما نصّه: (كان لكلمات الخميني وقعها الكبير على أبناء الشعب الإيراني الذين وجدوا فيه قائدهم الذي يؤثر مصلحة الشعب على حزنه. لذلك عرف الخميني كيف يشدّ الناس إليه) (ص195)، و(...خلال شهر أحداث محرّم الماضية، ظهر واضحاً أنّ الخميني استطاع اختيار الوقت المناسب ليقود الثورة، في وقت كانت فيه جميع الأطراف منزوية خوفاً من بطش الشاه، ليصبح بذلك روح الشعب، وممثّل أمانيه، والناطق باسم حركته) (ص217)، و(كانت آمال الشعب الإيراني متطلّعة إلى اليوم الذي يشعر فيه بالأمان، والطمأنينة بزوال حكم الأسرة البهلوية التي أحسّوا أنّها أخذت منهم الكثير، ولم تمنحهم شيئاً يذكر، فالتفّوا حول الخميني الذي استطاع بحنكته السياسية أن يسلب العقول، والقلوب، وهو يقود المعركة من خارج الحدود) (ص234)، وغير هذه النماذج كثير. ولم تكن تلك الأحكام لتغرز، وتنتشر، إلاّ لأنّها قد تناسلت ممّا سبقها من أحكام جاهزة، مستقرّة، وكأنّ ابن خلدون، كان ينظر إلى ما نحن فيه، من خلال سجف الغيب، حين كتب: (...ولمّا كان الكذب متطرّقاً للخبر بطبيعته، وله أسباب تقتضيه، فمنها التشيّعات للآراء، والمذاهب، فإنّ النفس إذا كانت على حال الاعتدال في قبول الخبر، أعطته حقّه من التمحيص، والنظر، حتى تتبيّن صدقه من كذبه، وإذا خامرها تشيّع لرأي، أو نِحلة، قبلت ما يوافقها من الأخبار لأول وهلة، وكان ذلك الميل، والتشيّع غطاءً على عين بصيرتها عن الانتقاد، والتمحيص، فيقعَ في قبول الكذب، ونقله) (مقدمة ابن خلدون. اعتنى به هيثم جمعة هلال، ص53). ومن هنا نجد الباحثة تقرّر تلك الأحكام، وغيرها بلا مصدر، تسندها إليه، فهي – برأيها- غير محتاجة إلى مصدر، ما دامت عجلة القَبْلية دائرة بلا توقّف، وأمّا إذا أسندت حكماً من هذا النمط، فلن يكون إلاّ من المصادر ذات الوجهة الوحيدة، كما أسلفنا، وهي التي تعزّز بها ما تريد تعزيزه، وإثباته. وممّا يجب أن يضاف هنا، أنّ أحكام القيمة تلك، تأتي منبتّة عن الجذور، منقطعة عمّا حولها من مناخ إقليمي، ودولي يكتنفها، بغية تقديمها، وهي مقشورة اللحاء، منزوعة الدسم، والمراد باللحاء، والدسم هو الذي اصطُلح عليه في علم التاريخ بـ(الماحول)، وهو شغل المؤرخ المنهجي، وسيّد عمله، وحين يتخلّى المؤرخ عنه، تحضر تلك الأحكام، وكأنّها نبت شيطاني بلا جذور تمسكه، أو ثمرة ترتجى منه.
- 5 -
وحين نقف عند المحور الرابع، فكأنّنا لم نخرج من الدائرة الضيقة التي حبست فيها الباحثة دراستها، ونريد به ذلك التأويل المغرق في الخيال، لما يمكن اعتباره من إنجازات النظام الملكي، غير أنّه يستحيل على قلم الباحثة إلى مساويء، وسيئات، تضاف إلى سيل التبخيس، والتنقّص من ذلك النظام الذي درجت عليه. تكتب: (واجهت الخطة الخمسية الرابعة (1968-1973) عقبات كثيرة، جعلت الحكومة عاجزة عن تنفيذ أهدافها. فقد أكّدت الخطة ضرورة رفع النمو ليصل إلى 9% سنوياً، وإجمالي الاستثمار إلى (180) بليون ريال (10,8 بليون دولار)، وتوسيع الاقتراض الأجنبي إلى 24%، وضرورة القيام بمشاريع صناعية ثقيلة، واستخدام الغاز الطبيعي للاستهلاك الداخلي والتصدير، وتقليل الاعتماد على استيراد المواد الغذائية. وحظيت الصناعة بموجب الخطة على نصيب أكبر، إذ خُصّص لها 21%، والزراعة 13%. وبناءً على هذه الخطة، تحوّل معظم استثمار القطاع الخاص لصالح القطاع العام، كما استهدفت الخطة إقامة قاعدة صناعية ثقيلة بالاعتماد على الغرب) (ص109)، بَيْد أنّنا لم نعرف ماهية تلك العقبات الكثيرة التي واجهت تلك الخطة، تلك التي أشارت إليها الباحثة في مفتتح نصّها بحيث، جعلت الحكومة عاجزة عن تنفيذ بنودها؛ لأنّ الباحثة، وبكلّ وضوح، لم تتطرّق إليها، بل انتقلت إلى موضوع آخر، فالمهم هو إبراز النواقص، وستر المحاسن. و(...إنّ مثل هذه الاستثمارات الهائلة داخل البلاد، وخارجها كانت في خدمة الاقتصاديات الرأسمالية، سيما الولايات المتحدة الأمريكية، وأنّ أثر ذلك على الاقتصاد الإيراني الخاضع كان المزيد من التفكك) (ص114)، و(وجّه الشاه اهتمامه أيضاً إلى تسليح هذا الجيش الذي لم يكن يمتلك بعد الحرب العالمية الثانية إلاّ أسلحة، وآليات بسيطة، غير مؤهلة لتستخدم في ساحات الشرق الأوسط، فعمل على استيراد مختلف أنواع الأسلحة... وفي ردٍّ للشاه على سؤال لمراسل صحيفة (اللوموند) الفرنسية حول التهديد الذي يقلق الشاه، ويجعله يشتري تلك الكميات من الأسلحة، قال: إنّنا نتسلّح لنفس الأسباب المقبولة، والسيئة التي تدفع الفرنسيين، والألمان، والإنكليز، والسوفييت إلى التسلّح. فلماذا توجد أسباب معقولة لأوربا، وغير مقبولة بالنسبة لي؟)، وتعلّق الباحثة بقولها: (كانت مهمة المؤسسة العسكرية الإيرانية تسير في اتجاهين: الأول: دعم النظام الشاهنشاهي، وضرب تيارات المعارضة، والثانية (كذا، والصواب: والثاني): تنفيذ دور إيران وفق الإستراتيجية الأمريكية كشرطي في المنطقة العربية) (ص147-148)، وهل فعل النظام (الثوري) غير هذا الذي تصم به الباحثة النظام الملكي، من حيث ترسيخ سلطته، ومدّ أذرعته خارج حدوده، والتدخل في شؤون الجيران الداخلية؟ فإذا ما حدث هناك خطأ – على وفق ما ترى الباحثة- فهو خطأ هنا أيضاً، ولكنّها العين الواحدة التي لا تبصر إلاّ ما تريد أن تبصره، و(قدّم الشاه خدمات كثيرة لإسرائيل، ففي 21 آب 1969، قامت مجموعة من الصهاينة بإحراق جانب من المسجد الأقصى، وعلى الفور تطوّع الشاه لتعمير المسجد، نتيجة الضغط الذي كان يتعرّض له من الرأي العام، فانبرى للمساعدة لتخفيف غضب المسلمين) (ص184). ولعلّ النّص غير محتاج إلى تعليق لضعف مقدّمته، وتهاوي نتيجته، و(حاول الشاه مع مطلع العام 1977، اتّباع سياسة أقلّ صرامة؛ لتحسين صورته أمام العالم، أطلق عليها المؤرخون اسم (عهد الانفتاح السياسي). وفي الحقيقة أنّه لم يكن انفتاحاً سياسياً بالمعنى الحقيقي للكلمة، بل نوعاً من الطلاء الذي سكبه الشاه على بعض إجراءاته لتكون وسيلة لإسكان الأصوات التي بدأت تعلو هنا، وهناك) (ص191)، و(أعادت هذه السياسة (إصلاحات سياسية، واجتماعية قام به الشاه) نوعاً من الهدوء إلى الشارع الإيراني، فلم تحدث اضطرابات في أربعينية شهداء العاشر من مارس، إلاّ أنّ هذا الهدوء لم يستمرّ طويلاً. ففي الوقت الذي ساهمت فيه هذه الإجراءات بتحسين الأوضاع الاقتصادية للطبقة الوسطى، فإنّها انعكست سلباً على الطبقة العاملة) (ص203).
ولعلّ النصوص السابقة، وغيرها كثير، قد أفصحت عن موقف الباحثة من النظام الملكي، إذ ليس بمستطاعها أن ترى أيّة نقطة ضوء في الإجراءات الكثيرة التي قام بها النظام لخدمة إيران، وتحديثها، إذ سرعان ما تتحوّل تلك الإجراءات المفيدة إلى مساويء من خلال التأويل المغرق في الخيال، البعيد عن الواقع، المنتزع بقسوة من سياقه التاريخي. ولم يكن ذلك كلّه إلاّ لأنّ الباحثة منساقة إرادياً، ولا إرادياً إلى نهاية مرسومة سلفاً، تقوم على دعامتين، تشتغلان باستمرار، وفاعلية، هما: تبخيس تام، ومقصود لذلك النظام الملكي، بغية فرش الأرض، وتمهيدها لما سيأتي، وهو النظام الثوري المحاط بالتبجيل، والقداسة. فكيف تستطيع، بعد هذا، أن ترى الصورة بوضوح، وموضوعية، وتعرضها بوجوهها المختلفة، والغبش، والضباب يرين على الصورة. ولم يكن هذا الضباب، وذلك الغبش إلاّ بسبب التجافي عن المنهج العلمي، وهو ما نراه.
- 6 -
وتأكيداً لما سبق، وهو المحور الخامس، تعمد الباحثة إلى ترك نصوص كثيرة جداً، تستشهد بها، بلا تعليق، أو إيضاح، مع أنّها بحاجة ماسّة إلى التعليق، وليس هذا الصنيع سوى نتيجة أخرى لما سبق. وترك التعليق من الباحث - أيّ باحث- لا يحتمل سوى أمرين، كما هو معروف في منهج البحث، فإمّا أنّ الباحث يتبنّى النّص الذي استشهد به تبنّياً تاماً، بحيث يصبح جزءاً من المنظومة الفكرية للدراسة كلّها، وقسماً ملتحماً بالنسيج العام، وعند ذاك لا يرى الباحث موجباً للتعليق، كأنّ هذا النّص المنقول، هو عين ما يريد قوله، غير أنّ النّص قاله، فاكتفى به، ولكنّ الإشكالية تكمن في الأمر الثاني، وهو إنّ النّص المستشهد به، يعبّر عن مضامين تخالف ما استقرّ عليه الباحث في دراسته، غير أنّه كان أقرب إلى الاضطرار للاستشهاد به، إكمالاً لمسار الدراسة، أو أنّ مالا يرغب الباحث فيه، يأتي ضمن سياق النّص. وعند ذاك يكون ترك التعليق مقصوداً، لئلا يخدش الصورة التي يريد رسمها، فهو نوع من التغييب، ولا نقول: الهروب، وإن كان بعض المنهجيين يطلق عليه هذا المصطلح، أي الهروب، ولذلك يعدّ ترك التعليق موقفاً مقصوداً قَصْداً بيّناً من الباحث، الغاية منه هي التعمية، واستزراع الإيهام في مسار الدرس، وصرف نظر القاريء عمّا لا يرغب الباحث أن يتنبّه القاريء له، فهو يلقي النص المستشهد به إلقاءً متعجّلاً، كأنّه يبغي التخلص منه، والبراءة من أوزاره، غير أنّه مضطرّ إلى إثباته كما قلنا. تكتب: (...فقد أكّد الشاه ضرورة إقامة صناعة بتروكيمياوية في إيران. إذ قال: إنّ ثروة بلدي لا تكمن في تصدير البترول الخام، وإنّما في البتروكيمياويات، ويجب أن تصبح إيران مصنعاً ضخماً للبتروكيمياويات. فإذا أنا صدّرت البترول فسأحصل على (20) دولاراً، وإذا صدّرت البتروكيمياويات فسأحصل على (120) دولاراً للبرميل الواحد، وأنا أستطيع شراء التكنولوجيا من الغرب. وإذا كان لي أن أستثمر أموالي في الخارج، فإنّي استثمرها في التكنولوجيا. إنّ برنامجي أن تنتج إيران (12) مليون طن من الحديد الصلب في العام، وخلال عشر سنوات أودّ أن يصل مستوى المعيشة في إيران إلى نفس مستوى أوربا) (ص110)، و(لم يستطع رجال الدين إعلان موقفهم المعارض لقانون الإصلاح الزراعي (صدر سنة 1962. تنظر: ص76) خوفاً من أن يظهروا بمظهر المدافعين عن مصالحهم الشخصية... فمعظم كبار رجال الدين كانوا من الإقطاعيين... ولا سيما أنّهم، أي رجال الدين، أيقنوا صعوبة إقناع الفلاحين الذين عانوا من الفقر، والجوع لسنوات طويلة، بعدم قبول هذا القانون. وقد ظهر ذلك واضحاً عندما أعلن رجال الدين أنّ على الفلاح عدم قبول هذه الأرض باعتبارها أرضاً مغتصبة. عندها أصبح الفلاح أمام خيارين: إمّا طاعة الأحكام الدينية، أو اختيار الأرض، ورجح الخيار الثاني بكفّة الميزان. فكان ذلك بمثابة الضربة الأولى التي عصفت برجال الدين، ومواقعهم) (ص132-133). وممّا يتّصل بهذا القانون اتصالاً وثيقاً، وهو ممّا أغفلته الباحثة، فلم تمرّ عليه، ولو مروراً عابراً، أنّ الدكتور محمد مصدّق (1879-1965)، صاحب مشروع تأميم النفط الإيراني، كان من كبار الإقطاعيين في إيران، و(أنّ ثروته قُدّرت بحوالي مائة مليون دولار) (ينظر: دليل الشخصيات الإيرانية المعاصرة. د. محمد وصفي أبو مغلي، ص111، وهو من المصادر التي ترجع إليها الباحثة مراراً)، و(أسند الشاه رئاسة الوزارة إلى جمشيد أموزغار الذي أعلن في منهاج وزارته، إصلاح أوضاع المحاكم، والنظر في الأوضاع الاقتصادية، والاجتماعية المتردّية. وتألّفت لجنة حكومية عُرفتْ باسم (قواعد المحاكمات في المحاكم العسكرية)، أكّدت على ضرورة إجراء تغييرات أساسية على المحاكمات، منها أنّ المدنيين الذين يساقون إلى المحاكم العسكرية بإمكانهم اختيار محاميهم من غير العسكريين، ولا يسمح ببقاء الموقوف أكثر من أربع وعشرين ساعة حتى يُعرض على المحقّق، وأن لا يقاضَ (كذا، والصواب: لا يقاضى) محامو الدفاع لأقوال تقال في المحكمة، وأن تكون المحاكمات علنية، إذا لم يكن في ذلك خطر يهدّد النظام. وتعهّدت الحكومة أن تجري المحاكمات في المستقبل بمحاكم مدنية) (ص192)، و(...لم تقتصر المعارضة على إرسال الرسائل المفتوحة، بل اتّخذت خطوة مهمة قام بها الوطنيون، والعناصر الإسلامية، وبعض رجال الدين، ورحّب بها المثقفون الأحرار، والاشتراكيون، وأصبحت قاعدة أساسية مؤثّرة لاتّخاذ خطوات أكثر جرأة في الداخل، والخارج، وهي تشكيل (الجمعية الإيرانية للدفاع عن الحرية وحقوق الإنسان) التي افتتحت لها مكتباً في طهران، وأخذت تعقد المؤتمرات الصحفية التي تبيّن فيها منهاج عملها، والأهداف الرامية لتحقيقها) (ص193)، و(...يبدو أنّ تلاحق الأحداث (سنة 1979) لصالح المعارضة، دفع كلّ طرف منها لمحاولة تصدّر الأحداث من خلال إبراز دوره في قيادة الشارع الإيراني ضد النظام، رغم علم (الجبهة الوطنية)، والقوى الأخرى أنّ رجال الدين، وعلى رأسهم الخميني، تمكّنوا في وقت مبكر من استيعاب الأحداث، ولملمة الأوضاع لصالحهم ليصبحوا هم القادة الفعليين للثورة) (ص226).
ألا تحتاج النصوص السابقة، وغيرها كثير جداً، إلى تعليق، ولو على سبيل الإيضاح، ووضع الأمور في نصابها المنهجي؟ ألا يحتاج تصريح الشاه إلى توقّف عند قوله عن الصناعة البتروكيمياوية التي ستزيد من مداخيل الدولة، بالإضافة إلى النفط؟ ألا يحتاج رجال الدين الإقطاعيون، ومعهم محمد مصدّق، إلى وقفة لتفكيك موقفهم المستتر من قانون الإصلاح الزراعي الذي انتفع به آلاف الفلاحين؟ ألا تستحقّ تصريحات رئيس الوزراء جمشيد أموزغار إلى نظرة عطف من الباحثة. وهو يقول بتلك الإصلاحات الجوهرية على نظام المحاكمات داخل إيران؟ ألم يلفت نظر الباحثة أنّ (الجمعية الإيرانية للدفاع عن الحرية وحقوق الإنسان) افتتحت لها مكتباً في طهران، وهي المناوئة للشاه ونظامه؟ ألا يستحقّ القارئ أن يعرف كيف استوعبت (الجبهة الوطنية) الأحداث، وتمكّنت من (لملمة الأوضاع) لصالحها؟ ولعلّ هذه الأسئلة، وغيرها، لم تَدُر في خَلَد الباحثة، فهي مشغولة برصد الأحداث، والانتهاء منها على عجل، بلا تمحيص، أو تفلية.
وممّا يتّصل بالتغييب، وترك التعليق المتقصّد، هو ما درجت عليه الباحثة من السكوت عن مصائر رجال النظام الملكي بعد نجاح الثورة، وذلك في سياق تقديمها تراجم مختصرة لبعضهم في الهوامش. وقد أفدنا من مصدر مهم، ترجع إليه الباحثة نفسها، في توثيق تلك المصائر التي سكتت عنها، وهو (دليل الشخصيات الإيرانية المعاصرة. د. محمد وصفي أبو مغلي). إذ تكتفي الباحثة في كتابة التراجم بعرض موجز لتاريخ الشخصية، من حيث المولد، والدراسة، والمناصب التي تولّتها، مغفلة إغفالاً تاماً أنّ تلك الشخصيات توزّعت بين ثلاثة مصائر هي: الإعدام، أو السجن، أو الخروج من إيران بعد الثورة، مع أنّ المصدر، وهو بين يديها، يذكر تلك المصائر، ولم تتوزّع تلك الشخصيات بين تلك المصائر إلاّ بسبب (تولّي (صادق خلخالي) منصب رئيس المحاكم الثورية الإيرانية، وإصدار أحكام الإعدام العشوائية ضدّ زعماء إيران السابقين، ورجال المعارضة) (أبو مغلي، ص56)، بحيث رأينا الدكتور مهدي بازركان، رئيس وزراء النظام الثوري (يشجب الإعدامات الهوجاء التي يقوم بها نظام الخميني في إيران ضدّ المعارضة، تلك الإعدامات التي خرجت عن حدّ كلّ منطق، وتعقّل) (ص26)، ونكتفي للتمثيل، بذكر بعض الذين أُعدموا من رجال النظام الملكي، وهم: الجنرال حسن باكروان، الوزير، والسفير السابق (ص35)، والدكتور محمود جعفريان مدير وكالة الأنباء الإيرانية (ص52)، والدكتور عباس علي خلعتبري، وزير الخارجية (ص57)، والجنرال أمير حسين ربيعي، وزير الإسكان (ص64)، والدكتور جواد سعيد، رئيس مجلس الشورى (ص74)، والدكتور محمد رضا عاملي طهراني، وزير التربية والتعليم (ص88)، والعميد ناصر مقدم، رئيس الشعبة الثانية في الجيش الإيراني (ص112)، والسناتور محمد علي علامه وحيدي، عضو مجلس الشيوخ الإيراني (ص121)، والدكتور أمير عباس هويدا، رئيس الوزراء (ص125)، وسالار جاف، عضو مجلس الشورى (ص52)، وغيرهم كثير. بالإضافة إلى السجن، والفرار من إيران. وقد أفاضت صحف تلك الأيام، ووكالات الأنباء بنقل هذه الأحداث، وهو ممّا لا ينكره النظام نفسه، بل يذاع في وسائل إعلامه، ومع هذا تغيّب الباحثة ذلك كلّه، لئلاّ يخدش النسق الذي تريد تقديمه، باعتباره الوجه الوحيد للصورة. وممّا يجب أن يضاف هنا، أنّ الباحثة تشير في دراستها إلى زيارة الجنرال الأميريكي هايزر، معاون قائد حلف شمال الأطلسي إلى طهران. تلك الزيارة التي لم يعلم بها الشاه، والتقى ببعض الضباط الكبار الإيرانيين، وعلى رأسهم الجنرال قره باغي، رئيس الأركان العامة للجيش الإيراني، ووزير الداخلية في حكومة جعفر شريف إمامي التي شكّلها في 28/8/1978، واتّفق معهم على أن يبقى الضباط الكبار على وحدتهم، وإقناعهم أنّ الحلّ العسكري ليس هو المطلوب (ص252)، غير أنّها تغفل ما ذكره د. أبو مغلي من أنّ هايزر هو الذي (هيّأ عملية إسقاط الشاه محمد رضا بهلوي، وتولية الخميني، وأنصاره لزمام الأمور في إيران) (ص95)، ولا شك في أنّ للجنرال قره باغي دوراً كبيراً في إنجاح هذا الاتفاق بدليل (أنّ رجال السلطة الخمينية في إيران، لم يلمسوا قرة باعي بسوء، بينما قاموا بقتل كثير من جنرالات الجيش الإيراني) (ص96). ألم يكن من واجب الباحثة العلمي، والمنهجي أن تناقش ما ذهب إليه د. أبو مغلي في كتابه، حتى من باب نقده، أو تضعيفه، ولكنّها تكتفي بالتغييب، وترك التعليق الذي يبدو أنّه أسلم، وأفضل من فتح الأبواب، وتركها نهباً للأخذ، والردّ.
- 7 -
وكان من المحتّم بعد ما سبق، أن تقع الباحثة في التناقض، وهو المحور السادس. ونحن نعلم أنّ التناقض أشبه بالسوس الذي ينخر البناء، فيبدأ بالتداعي، والانهيار؛ لأنّه (اختلاف تصوّرين، أو قضيتين، بالإيجاب، والسلب. وهو الجمع في تصوّر واحد، أو في قضية واحدة بين عنصرين متنافرين) ولذلك فهو (منافٍ للمعقولية؛ لأنّ من شروط العقل أن يكون متّفقاً مع نفسه. فإذا كان العقل يقع في التناقض أحياناً، فمردّ ذلك إلى اشتغاله بأمور تمنعه من تذكّر ما قاله سابقاً. لذلك قيل: إنّ الزمان علّة الوقوع، والوسيلة الوحيدة لاجتناب الوقوع في التناقض هي التحليل) (المعجم الفلسفي. د. جميل صليبا، 1/349). تكتب: (إنّ مثل هذه الاستثمارات الهائلة داخل البلاد، وخارجها، كانت في خدمة الاقتصاديات الرأسمالية، سيما الولايات المتحدة الأمريكية، وإنّ أثر ذلك على الاقتصاد الإيراني الخاضع، كان المزيد من التفكك، وتسارع عملية الإلحاق للقطاع البترولي بالاقتصاد الأجنبي. وممّا يؤكد أهمية نفط إيران للولايات المتحدة الأمريكية، هو الزيارات المتكرّرة التي كان يقوم بها المسؤولون الأمريكيون إلى إيران، ومنها الزيارة التي قام بها هنري كيسنجر، وزير الخارجية الأمريكي في تشرين الأول عام 1974، التي كان هدفها تكريس التبعية الكاملة لإيران، فقد تمّ الاتفاق في هذه الزيارة على تأسيس لجان مشتركة إيرانية – أمريكية ذات مهمّات عسكرية، وسياسية، واقتصادية، وثقافية. وحاول كيسنجر إقناع الشاه بضرورة التخلّي عن رفع أسعار البترول، لكنّ الحكومة الإيرانية رفضت؛ لأنّ ذلك كان يعني أن تقوم إيران بدفع دولارين عن كلّ برميل نفط للشركات البترولية) (ص114)، فبالإضافة إلى ترك النص بلا تعليق، وهو ما رأينا أطرافاً منه فيما سبق. نقول: هل بمكنة اقتصاد خاضع، وتابع، على حدّ وصف الباحثة الاقتصاد الإيراني في ذلك الوقت، أن يرفض ما (يمليه) وزير خارجية الدولة المخضعة لإيران؟ بَيْد أنّ التناقض يشتغل. والمهم هو الوصول إلى النتيجة المطلوبة من رصف الاتهامات، وإلصاق النقائص، وتقول: (...أمّا بالنسبة لرجال الدين، فقد أصدر شريعتمداري بياناً، استنكر فيه اعتقال الخميني، وتضمّن البيان عدّة نقاط... منها أنّ علماء الشيعة لم يكن لهم أيّ ارتباط مع الإقطاعيين الكبار، ولن يكونوا مخالفين لجعل الفلاحين يملكون أرضاً، وإنّما كان اعتراض العلماء على الدولة فقط من ناحية أنّه يجب أن يكون تطبيق هذه القوانين متفقاً مع الشرع، والقانون) (ص141)، غير أنّنا نقرأ قبل هذا النّص بسبع صفحات، ما نصّه: (تعود خلفيات رجال الدين الاجتماعية إلى مختلف فئات المجتمع الإيراني، فغالبية المراتب الدنيا هي من البورجوازية الصغيرة، إلاّ أنّ معظم كبار رجال الدين كانوا من الإقطاعيين) (ص133). وتترك الباحثة النّصين بلا تعليق كالعادة، غير أنّ التناقض ساطع بينهما. ولعلّ السبب هو ما رأيناه في تعريف التناقض، من حيث إنّ العقل يقع فيه بسبب اشتغاله بأمور تمنعه من تذكّر ما قاله سابقاً، ولذلك قيل: إنّ الزمان علّة الوقوع في التناقض، ونرى أنّ من هذه الأمور المشار إليها في النّص، هو القصد، ومحاولة إضفاء البراءة، والنقاء على رجال الدين، بحسبان أنّهم كانوا العقل المدبّر للثورة، وتكتب: (سعى جهاز السافاك للحيلولة دون إقامة أيّ تجمعات سياسية، أو إضرابات، حتى لو تطلّب الأمر استخدام العنف، والبطش. وكان أفراد السافاك يقتلون مَن يريدون بعيداً عن أيّة ضوابط، أو قوانين، ولا يعترفون بأيّ حقوق للمعتقلين، أي إنّهم كانوا يملكون قوة استبدادية مطلقة، ويرتكبون ما يحلو لهم من جرائم) (ص173)، ولكنّنا نقرأ بعد ثلاث صفحات فقط، رأي وليم سوليفان، آخر سفير أمريكي في عهد الشاه، وهو رأي تتبنّاه الباحثة، بدليل تركه بلا تعليق، أو تحفّظ من جانبها. يقول: (...وهكذا كانت قوة السافاك موجّهة ضدّ السوفييت أساساً، وليس ضدّ المواطن الإيراني العادي) (ص156). فبأيّ الرأيين نأخذ؟ وكلاهما للباحثة.
وهناك نقطة جوهرية جديرة بالتوقّف. والتمحيص، ما دمنا في رحاب التاريخ، والمنهج معاً، وهي دور الغرب، وعلى رأسه الولايات المتحدة الأمريكية في التعجيل بانهيار النظام الملكي الإيراني من جهة، والتمهيد للثورة، وإنجاحها على الصورة التي حدثت فيها من جهة أخرى. وتكتنف هذه النقطة ملابسات كثيرة، وإيهام مقصود، بل نراها ذروة التناقض الذي وقعت فيه الباحثة، ودراستها معاً؛ لأنّها عمدت إلى التعمية على أحداث كثيرة كما سنرى، ولم تلحظ التفكّك الذي أصاب دراستها من خلال معالجتها تلك القضية الجوهرية، واللجوء إلى سرد الأحداث، ونقلها بلا أدنى تحليل لها، أو مسآلتها، أو محاولة فهمها. فهل كانت تبتغي إرضاء الطرفين المنتصرَين: الغرب، والثورة؟ ولا بأس من تحميل النظام الملكي أخطاء الماضي ليحمل الأوزار وحده، فهو زائل على أيّة حال، كما أنّ الباحثة أخرست أيّ لسان له في دراستها، بالإضافة إلى موقفها المعلن منه، والمتحيّز للنظام الجديد. فقد امتلأت الدراسة، من خلال النقد اللاذع لذلك النظام، بأنّه كان تابعاً للغرب، خاضعاً له. لا يمكنه التصرّف إلاّ بإذن منه، ولا يصنع شيئاً إلاّ ما كان يرضيه، وفي مقدمة ذلك الغرب، الولايات المتحدة الأمريكية، ولم يكن الشاه سوى آلة طيّعة للغرب. يأمره فينفّذ، وسرت أحكام القيمة تلك، على عائلة الشاه، ورجال نظامه، حتى وصل الأمر إلى اعتبار (التحديث) الذي أدخله الشاه على المجتمع الإيراني شكلاً من أشكال التبعية للغرب، وتنفيذاً لمآربه. ولو أردنا الاستشهاد بنصوص الباحثة، لوجب أن ننقل نصف دراستها إلى هنا، وهذا من المحالات. هذا من جهة، ومن جهة أخرى، وهو مناط التناقض، ولبّه، لم تتمكّن الباحثة من تفسير جملة من الأحداث، والوقائع، وقعت قبل الثورة بزمن ليس بالقصير، كان الغرب يتعهّدها بالرعاية، ويحوطها بالعناية، والمساعدة، مع أنّ النظام الملكي، على ما تقرّره الباحثة، هو التابع، الخاضع. أقول: كيف نفهم النصوص الآتية: (ساهمت جمعيات حقوق الإنسان التي شكّلها الطلبة الإيرانيون في الخارج مساهمة كبيرة في تأجيج الشارع الإيراني ضدّ سياسة الشاه، وفي مقدّمة هذه الجمعيات، واللجان (لجنة الاضطهاد في إيران) التي شكّلها مجموعة من الخريجين في لندن، ولجنة من (أجل الحرية الثقافية والفنية في إيران) التي تأسست في نيويورك. وفي أوربا الغربية نظّم اتحاد الطلبة الإيرانيين، وجمعية الطلبة المسلمين تظاهرات في الشوارع لإظهار عدم شعبية النظام. وبدأت الصحف الأوروبية، والأمريكية التي كانت سابقاً تُظهر الشاه بمظهر الديمقراطي، تنتقد أجهزته القمعية، وسجونه المليئة بالإيرانيين) (ص191)، و (...لم تقتصر ردود الأفعال داخل إيران، بل حدثت مظاهرات مندّدة بالحادث (حادث إحراق سينما ريكس) في بعض الدول الأجنبية، وأكبر تلك المظاهرات ما حدث في الولايات المتحدة الأمريكية في ولاية تكساس حيث كان يدرس ابن الشاه، رضا، في القاعدة الجوية هناك) (ص204)، و (...وفي الثالث من تشرين الأول 1977، قام أربعة وثمانون شخصاً من الشيوخ، والشباب الذين كان ينتمي أغلبهم إلى (حركة المقاتلين الدينيين) في إيران، و(اتحاد مؤسسات الطلبة المسلمين في أوربا) بالاعتصام بكنيسة سان ماري في باريس) (ص194)، وإلى باريس أيضاً، سيلجأ الخميني، وأعوانه، بعد تركه العراق، ليستأنف العمل على إسقاط النظام الملكي (ص211)، و(...وبذلك كانت حكومة بختيار على حافة الهاوية، عندما تمّ الاتفاق على عودة الخميني إلى إيران (من باريس)، وإعادة فتح مطار طهران) (ص233)، ولم توضح الباحثة كيف تمّ ذلك الاتفاق، ومَن أطرافه؟ فبناء الخبر اللغوي يؤدي إلى أنّ الخميني لم يكن طرفاً في ذلك الاتفاق، وإلاّ كان على الباحثة أن تصرّح أنّ الاتفاق قد تمّ بين الخميني، وبين مَن اتّفق معهم، ولكنها لم تفعل حرصاً على التعمية، و(...ممّا يدلّ على مدى القوة التي وصلت إليها المعارضة حتى أنّ صحيفة (نيويورك تايمز) كتبت: لليومين الأخيرين درساً مهماً (كذا) هو أنّ الحكومة غير قادرة على فرض النظام، والقانون اللذين تريدهما، وأنّ بإمكانها أن تفعل ذلك فقط عندما تتنحّى جانباً، وتسمح للزعماء الدينيين بأن يتولّوا المسؤولية) (ص218)، فما معنى هذا؟
ولعلّ النّص السابق يتيح لنا النظر بإمعان في القسم الذي عقدته الباحثة عن (موقف الولايات المتحدة الأمريكية من سقوط الشاه) (ص244، وما بعدها)، وندع نصوصها تتحدّث. تكتب: (...عزّز موقف كارتر (الرئيس الأمريكي) أنّ واشنطن بدأت تنظر إلى الشاه نظرة الحليف غير المطيع، حيث بات يتّخذ القرارات دون الرجوع إليها، ويدين إجراءاتها. لذلك أخذت تفكّر في استبداله) (ص244)، و(...لمّا وجدت الحكومة الأمريكية أنّ الشاه لم يعد حليفاً صالحاً للحفاظ على المصالح الأمريكية، والوقوف بوجه الخطر السوفييتي الذي اقتحم أفغانستان... حاولت استغلال فرصة الاضطرابات في إيران من أجل تسخيرها لخدمة مصالحها. فأكّدت أنّ التيار الديني يعتبر مستوفياً لجميع الشروط المطلوبة في البديل للشاه؛ لأنّه سيكون ضدّ الشيوعية) (ص245)، و(ظهر موقف الولايات المتحدة الأمريكية من الشاه واضحاً، خلال الحملة الصحفية، والإعلامية الواسعة التي شنّتها أجهزة الإعلام الأمريكية ضدّ حكمه، علاوة على خطابات المسؤولين الأمريكيين. ومع ذلك كان الأمريكيون يرسلون خطابات التأييد للشاه، المبطّنة في أغلب الأحيان بعكس ذلك، ممّا جعله في وضع متأرجح) (ص246-247). ولن نستطيع الاسترسال مع النصوص، فهي كثيرة جداً، وتتركها الباحثة هكذا، بلا أدنى تعقيب عليها، مكتفية بالسرد المتراكم. ولعلّها لم تلاحظ التناقض الذي تُحدثه هذه النصوص مع نصوصها السابقة، وخصوصاً في الانقلاب الكامل لمواقف الدول الغربية بإزاء الشاه. وهنا تثار جملة من الأسئلة، لم نجد لها جواباً عند الباحثة، وهي: لماذا فسحت الدول الغربية المجال واسعاً أمام الخميني، وبعض الإيرانيين المقيمين فيها، للعمل، والتحرك بسهولة، ويسر؟ ألم تكن الولايات المتحدة الأمريكية عارفة بمن سيخلف نظام الشاه حين فكّرت في استبداله؟ ومرّت بنا تلك الزيارة المريبة التي قام بها الجنرال الأمريكي هايزر إلى طهران، وهي الزيارة التي لم يعلم بها الشاه، واتفق هايزر فيها مع كبار الضباط لإسقاط الشاه، وتولية الخميني، وأنصاره زمام الأمور في إيران، على حدّ قول د. أبو مغلي. ما هي الشروط التي استوفاها التيار الديني، على وفق وجهة النظر الأمريكية، كي يكون مؤهلاً لحكم إيران؟ لماذا عمدت الولايات المتحدة الأمريكية إلى المواقف المزدوجة في تعاملها مع الشاه، وهي مواقف أقرب ما تكون إلى النفاق السياسي، كأنّها تمنح الخميني، والمعارضة الوقت الكافي لترتيب أوضاعها من جهة، وتمرير الاتفاقات مع الخميني، والمعارضة من جهة أخرى، وخصوصاً أنّ (بعض مساعدي الخميني التقوا (في باريس) ببعض المسؤولين الأمريكيين؛ لبيان وجهة نظرهم حول الجيش، والموقف من حكومة بختيار)؟ (ص254). هذه أسئلة، يتوجّب على الباحث المنهجي أن يقف عندها، ويقدّم لها أجوبة عقلانية، مقنعة، غير أنّ الباحثة تبدو في عجلة من أمرها بحيث لم تولها اعتباراً ما، بل تقطع الشوط إلى نهايته في مضمار التناقض، فتكتب: (إنّ حقيقة الثورة الإيرانية، هي حركة عفوية لجماهير حالمة، أكثر ممّا هي انتفاضة مخطّطة، يقودها حزب سياسي منظّم، ولم تَحْظَ بمساعدة أيّ قوة خارجية، فالقوى جميعها كانت داخلية) (ص261)، غير أنّها تنسى ما كتبته في صفحات سابقة، وهو: (أسهمت عوامل كثيرة، داخلية، وخارجية في نجاح الثورة الإسلامية، ونهاية الحكم البهلوي. يأتي في مقدّمتها، دور الولايات المتحدة في إضعاف محمد رضا شاه) (ص243). فإذا لم يكن ما سبق كلّه تناقضاً، فكيف يكون التناقض إذن؟ ولكن لا ضير من الوقوع في ردغته، إذا كان يحقّق إتمام رسم الصورة ذات البعد الواحد، وهو الذي سعت إليه الباحثة في دراستها.
- 8 -
وتخطو الباحثة خطوتيها الأخيرتين لتصل إلى نهاية المضمار في المحورين السابع، والثامن، وذلك عندما توظّف السابع منهما توظيفاً غريباً، فتلجأ إلى (القيل والقال)؛ لإثبات حادثة ما، غير مستندة إلى مصدر، أو راجعة إلى وثيقة معينة. وحين نصل إلى هذه المرحلة، فكأننا نرى المنهج يجمع قوانينه، وآلياته، وأعرافه، مبتغياً الرحيل بلا عودة، فلا مكان له هنا، ولا ضوء يقبس منه. إنّ كلمتيْ (قيل)، و(يقال) التي تستخدمها الباحثة كثيراً، إنّما هي محاولة جادّة منها، غير أنّها يائسة، لحشد ما تتمكّن من حشده، لتسويغ طرفيْ المعادلة التي أشرنا إليهما فيما سبق، وتعميق حضورهما في مفاصل الدراسة: التبخيس في مقابل التبجيل، وهي، أي تلك المعادلة، أبعد ما تكون عن المنهج العلمي. تكتب: (...ففي صباح التاسع عشر من آب، قامت جماعة من العمال، والغوغائيين بتظاهرات، سارت من جنوب البلاد وحتى وصلت العاصمة طهران، وكانت تحمل شعارات مندّدة بسياسة مصدّق، وتدعو لسقوط حكومته، ويقال إنّ هذه التظاهرات قامت بالاتفاق مع الولايات المتحدة الأمريكية بعد أن دفعت لهؤلاء ثمن قيامهم بهذا العمل) (ص38)، وتكتب: (...وبلغ استخفاف الشاه بمشاعر الناس الدينية، لدرجة أنّه اقتحم ضريح قم المقدّس بحذائه العسكري، تحدياً لرجال الدين، وضرب أحد رجال الدين بالسوط؛ لمعارضته نزع الحجاب. ولم يكتفِ بذلك، بل يقال إنّه أمر أحد رجال الدرك بالصعود فوق المسجد، والنفخ بالبوق عند وقت الصلاة، بدلاً من صوت الأذان الذي لم يكن يعجبه) (ص127) و(...لم تعرف الأرقام الحقيقية للضحايا، فقد امتلأت المستشفيات بالجرحى وجثث القتلى، فضلاً عن الجثث التي كان يحملها العسكريون من الشوارع، ويدفنونها بصورة جماعية، وقيل إنّ عدد كبير (كذا، والصواب: عدداً كبيراً) من الجثث ألقي في بحيرة قم، وأنّ عدداً آخر ألقي في حفرة كبيرة مشت فوقها الحادلات لتغطيتها بالتراب) (ص140)، و(...وكان أبرز عمل قامت به السافاك أيامه (الجنرال حسين باكروان، رئيس السافاك) هو نفي الخميني. ويقال إنّه كان له الفضل في عدم إصدار الحكم بالإعدام عليه) (ص151)، ولم تشفع هذه الـ(يقال) لحسين باكروان، فقد كوفيء بأن أعدمه النظام الجديد (يوم 11/4/1979) (أبو مغلي، ص35)، و(...وفي العام 1975، كان هناك أكثر من (1500) إيراني، يتدرّبون في الجيش الصهيوني... وكان نفوذ اليهود قد وصل إلى داخل البلاط، فيقال إنّ العديد من مستشاري الشاه كانوا من الصهاينة، ويحملون أسماء إيرانية) (ص183)، و(عمدت الحكومة إلى محاولة ضرب المعارضة بتنظيم مسيرات مؤيّدة للشاه. ويقال إنّ قوات الجيش طُلب منها ارتداء الملابس المدنية، والخروج بسيارات مكشوفة للهتاف بحياة الشاه) (ص220)، و(...وبلغت قسوة، وبشاعة عملياته (الشاه) حدّ الأساطير. وفي الإطار الديني، عمل الشاه على إحياء أمجاد الفرس. وكان يرى أنّ مباديء الدين المجوسي كافية لإسعاد البشرية، وليست بأقلّ من المباديء التي جاء بها الإسلام) (ص259-260)، والنّص، على خطورة ما جاء فيه، يساق هكذا بلا مصدر، أو توثيق، لينضوي بعدها تحت القيل، والقال، و(...ووصلت العملية إلى حدّ أنّ أحد المغنين، بثّ في إذاعة طهران عام 1967، أغنية تخاطب الشاه بالقول: (أنت أوضح من نور الله. أنت زعيمنا في الدين، والعلم). ويقال إنّ مؤلف الأغنية، قد تعرّض للضغط من قِبل السافاك لتأليفها) (ص126-127).
وتشبه ما سبق، نصوص أخرى كثيرة. ويلاحظ المدقّق أنّ (القيل والقال) تجلّل أحد طرفيْ المعادلة حسب، بينما يخلو الطرف الثاني منها خلوّاً تاماً، ومردّ ذلك إلى الرغبة الشديدة في تشويه ذلك الطرف، والإمعان في تنقّصه، بحيث يتجرّد من أيّة حسنة من الممكن أن تنسب إليه، ليظلّ الطرف الآخر نائياً بنفسه عن تلك (القيل والقال) التي تعلم الباحثة حاقّ العلم، أنّها من قبيل اللهو، وما يدور في المجالس تضخيماً لما يفعله ذلك النظام الزائل، وتهويلاً لكلّ ما يقوم به. أمّا النظام الجديد فخطواته محسوبة، وأفعاله متوازنة، وكلّ ما يفعله حقّ لا يلابسه باطل، فهو، إذن، غير محتاج إلى (القيل والقال)؛ لأنّ المصادر ذات اللون الواحد، والنمط المتشابه، حاضرة بقوة، ترفد الباحثة بكل ما تريد. فما حاجتها، بعد هذا، للقيل والقال؟ ومن هنا يعرض الطرف الثاني مكلّلاً بالغار، محفوفاً بالطهرانية، بل القدسية. ومرة أخرى، إن لم يكن هذا هو التحيز، فكيف يكون؟
- 9 -
وحين نقف عند المحور الثامن، فإنّما نقف به عند خلل منهجي بحت، طالما نبّه المنهجيون على تجنّبه، والنأي بالنفس، والدرس عنه. ويراد به ذلك الأسلوب الإنشائي المقترن بالحماسة، والخطابية ذات الصوت المرتفع التي تعتقد أنّها تأتي بشيء نافع، غير أنّها، في الحق، لم تقل شيئاً. وينظر المنهجيون إلى ذلك الأسلوب، باعتباره فضولاً، وزيادة من جهة، وكونه لا يقدّم إضافة حقيقية لمسار الدراسة من جهة أخرى، ولا يعدو أن يكون صوتاً مرتفعاً، وجلبة خالية من أيّ مضمون، ويرون أنّ مكانه الملائم، هو البيانات السياسية، والإعلام الموجّه، والخطب الرنّانة، والإعلان الترويجي، سواء أكان إعلاناً عن مبدأ سياسي، أو عقيدة ما، أم ترغيباً في سلعة يريد لها صاحبها أن تباع. تتساوى تلك النماذج في قيمتها، على الاختلاف الكبير في أهدافها. وليس لهذا من غاية، سوى الإثارة، وجلب الانتباه الذي سرعان ما يزول، بسبب تناثره في الهواء، غير مخلّف شيئاً من الرصانة العلمية، أو المتانة المنهجية. ثم ألسنا في عصر الصورة. وما أدراك ما عصر الصورة هذا؟
وينتشر هذا الأسلوب انتشاراً ملحوظاً في هذه الدراسة، بحيث لا تخلو صفحة، أو صفحتان منه، ومثاله. تكتب: (...وبكلمة أخرى. إنّ الاقتصاد الإيراني انحدر إلى مستوى واطيء جداً. وكان الشعب هو الذي يدفع دائماً الثمن من سياسة اقتصادية، ساد في ظلّها الفقر، وسياسة عسكرية، وديكتاتورية صارمة. انتشر في ظلّها الظلم، والتعذيب، والقتل) (ص119)، و(دفعت سياسة الشاه، وتعزيزه الأجهزة القمعية، إلى تزايد حدّة المعارضة، وتوسّعها؛ لأنّ طموحات الشاه جاءت على حساب الشعب الإيراني، وجعلت أموال إيران تصبّ في خزانة الولايات المتحدة، وغيرها من الدول التي يشتري الشاه السلاح منها) (ص157)، و(لذلك وقفت المؤسسة الدينية ضدّ الإجراءات القمعية للشاه، ولم يستطيع الشاه، ولا قواته، ولا أجهزته القمعية من الوقوف بوجه التيار المتدفّق. فقد أثبتت التجربة أنّ الصرخة التي دوّت في أرجاء إيران، معلنة الثورة، هي أقوى، وأعظم من أيّ مدفع، أو رصاصة، وهي القادرة على تحطيم أسطورة الجيش الخامس) (ص160)، و(...أمّا الشاه، ففي الوقت الذي كانت تسفك فيه دماء المناضلين، وتصدر بحقّهم أقسى الأحكام، كان منشغلاً بسفراته، واحتفالاته، متناسياً هموم الشعب. وكان كلّ همّه إعداد العدّة لتركيز ديكتاتوريته، وتعميقها في إيران من خلال إنشاء حزب وحيد) (ص169)، و(...أدّت أحداث تبريز، وما تمخّض عنها من نتائج، إلى إعلان الأحكام العرفية فيها، فنزلت قوات الجيش مدعومة بالدبابات إلى الشوارع. واجهتها (كذا) الناس بالحجارة، وأثبتت مدينة تبريز، حال تأريخها السابق، بأنّها قلعة للتضحية، والفداء، والصمود) (ص199)، و(...وجدت الحكومة نفسها عاجزة أمام المدّ الشعبي الكبير، ففي الوقت الذي كانت فيه قوى المعارضة تتّحد تدريجياً، كان الشاه يزداد ضعفاً. وصار هذا الشخص الذي يخشاه الجميع وكأنّه (دمية عرائس) يتحرّك من اتجاه لآخر، علّه ينجح في إخماد المظاهرات) (ص205)، و(...مثل تلك الأخبار أثّرت على قوة التظاهرات التي ازدادت حدّة ضدّ الشاه العميل للكيان الصهيوني) (ص219)، و(..فقد تكلّلت جهود الثوار بأحداث التاسع، والعاشر، والحادي عشر من شباط بالنصر، وأثبتت أنّ الثورة لا يصنعها السلاح فقط، وإنّما قوة الإرادة، والوحدة، والقيادة الحقيقية) (ص240)، وغير هذه النصوص كثير، تصبّ جميعها في مصبّ التخوين، والتنقّص، والازدراء بالنظام الملكي السابق على الثورة، بينما يعمل المصبّ الثاني على تقديم الوجه المشرق، المنير، المبرّأ من العيوب للثورة، والقائمين بها، غير أن ذلك الحشد الكبير من الإنشائية الذي كدّت الباحثة ذهنها في جمعه، ورصفه، وتنميقه، لم يضف شيئاً يذكر لمسار الدراسة، بل على الضدّ من ذلك تماماً، إذ وسمها بالترهّل، والتطويل، والقشرية. فإن كان هذا صالحاً في حقول ثقافية أخرى كالإعلام الذي يبتغي الترويج، والتشويش، والإثارة، فهو غير صالح هنا البتة على وفق ما شئت من المقاييس.
- 10 -
يودّ الباحث أن يختم بحثه بأربع ملاحظات عامة، تنتظم هذا البحث، ودراسة الباحثة معاً. وكأنّ هذه الملاحظات، تحوصل، على رأي إخواننا المغاربة، ما مرّ سابقاً من جهة، وتجيب على بعض التساؤلات من جهة أخرى.
وتتمثّل الملاحظة الأولى في أنّ الباحث اعتمد في درسه، اعتماداً تاماً على ما نقلته الباحثة من المصادر الكثيرة التي فاءت إليها، بلا عودة إلى تلك المصادر نفسها؛ للاطمئنان إلى صحة النقل من عدمه، وذلك لثلاثة أسباب. أولها، هو افتراض الباحث من أنّ نقل الباحثة من المصادر، يلتزم بحرفية جيدة، اعتماداً على كون كتابها، في الأصل، رسالة جامعية، فهي ملزمة بأمانة النقل، ودقّته، وتجنّب التزيّد، والبتر، بحسبان الالتزام بالأمانة العلمية، ووجود أستاذ مشرف على الرسالة، ولجنة مناقشة تتابع هذا الأمر المهم. أمّا السبب الثاني، فهو استحالة عودة الباحث إلى المصادر جميعها، تلك التي رجعت إليها الباحثة، لوجود أغلبها في العراق، وهو خارج العراق، وخصوصاً الوثائق، المنشور منها، وغير المنشور، كما أنّ هذا العمل يشكّل بذاته، عملاً إضافياً، محتاجاً إلى جهد كبير، ومتابعة مستمرّة، لا يمكن النهوض بها من خارج العراق. ويأتي السبب الثالث ليؤكد على أنّ ما توصّل إليه الباحث من المحاور الثمانية السابقة، إنّما اقتُبست مفاصلها، ممّا قرّرته الباحثة في دراستها، واعتمد في رصد تلك المحاور، واجتراحها على مسار الدراسة نفسها، بلا استعانة خارجية. كأنّه يبتغي القول إنّه احتكم إلى الباحثة نفسها، ودراستها في الوصول إلى النتيجة النهائية، وهي التجنّب الدائم للمنهجية، اعتماداً على ما قدّمته الدراسة نفسها. ولعلّ في هذا نوعاً من الإنصاف المنهجي الذي يجب أن يتحلّى به أيّ باحث، حتى ولو كان ما بين يديه مخالف، لما يراه، ويعتقده.
وتتركّز الملاحظة الثانية في المصادر. إذ بالإضافة إلى ما مرّ سابقاً من حديث مطوّل عن المصادر في المحور الأول، وإهمال الباحثة مصادر الوجه الآخر، وهي المصادر التي صدرت في العهد الملكي. أقول: إنّ الباحثة أهملت ثلاثة مصادر مهمة، كانت ستضيف إلى دراستها شيئاً جديداً. أولهما كتاب (حبّ خالد) للإمبراطورة فرح ديبا، زوجة شاه إيران الأخيرة، الذي صدر بالفرنسية سنة 2004، ونُقل إلى الإنكليزية، ودافعت فيه الإمبراطورة فرح (عن الشاه، وحكمه، وعبّرت عن كراهيتها للثورة الإسلامية ورجالاتها، واتهمت الثورة بأنّ الشيوعيين هم الذين دبّروها) (ينظر: إيقاع المدى. سيرة ذاتية. د. محمود السمرة. من منشورات وزارة الثقافة الأردنية. سنة 2018، ص139-140). فإذا كان هذا الكتاب لا يتلاءم مع توجّه الباحثة، فلذلك أهملته. فما بال المصدر الثاني، وهو مهم جداً؛ لأنّه ذو علاقة وثقى بموضوعها، وهو (في الثورة) للفيلسوفة الألمانية – الأمريكية حنا أرندت (1906-1975) الذي نقله إلى العربية، عطا عبدالوهاب، ونُشر سنة 2008، وتفصّل فيه (أرندت) الحديث عن (الثورة) من وجهة نظرية، مع أمثلة تطبيقية على الثورات الكبرى التي وقعت في العالم، مستعينة بمقولات فلسفية، وآراء فلاسفة، ومفكّرين لتجلية هذا الموضوع. والمهم في هذا الكتاب، فصله الأول، وهو (معنى الثورة)، الذي أفاضت فيه المؤلفة في الحديث عن مفهوم الثورة، والتغيّر الذي أصاب هذا المفهوم بمرور الزمن، والاختلافات الجوهرية في النظر إلى المصطلح، بالانطلاق من زوايا مختلفة، بل متناقضة. وكان بمكنة هذا الكتاب أن يقدّم فرشة نظرية للباحثة عن ماهية (الثورة)، وخصوصاً أنّ هذه الكلمة تحتلّ مكاناً بارزاً في عنوان دراستها. ومن هنا نستطيع تفسير هجوم الباحثة على موضوع بحثها، بلا أيّ مهاد نظري، يفرضه المنهج العلمي، لمعرفة المقصود هنا بـ(الثورة الإسلامية)، بالإضافة إلى ما أترعت به (حنا أرندت) كتابها من مصادر، بلغات مختلفة عن الثورة، ومفاهيمها المختلفة، بل المتناقضة كما قلنا، وكان من الممكن أن تفيد الباحثة من تلك المصادر المتنوعة، وخصوصاً أنّ قائمة مصادرها، تحوي كتباً باللغتين الإنكليزية، والفرنسية. وأعتقد أنّ هذه نقطة (مصطلحية)، كانت ستغني الدراسة، فيما لو توقّفت الباحثة عندها، مجلّية المفاهيم المختلفة لمصطلح (ثورة)، ومتّخذة واحداً منها أساساً لدراستها، غير أنّ التحيز الذي ران على الدراسة، جعلها تسرع لتتّخذ مفهوماً إعلامياً، ذا حماسة عالية، وتشنّج حاد، يرمي إلى وجهة وحيدة، تحمل في ثناياها التمجيد، والتبجيل، فحادت عن المنهجية التي كان عليها أن تتحلّى بها، ممّا أوقعها في تلك المحاذير الكثيرة. وحسبنا أن نشير إلى أمر ذي صلة وثقى بما نحن فيه. وهو المصطلح المتعدّد الذي أطلق على ما قام به أحمد عرابي في مصر، سنة 1882، فهو تارة (ثورة)، وأخرى (تمرّد)، وثالثة (انقلاب)، وانتقل ذلك الحدث إلى أفواه العامة، فأطلق عليه بعضهم مصطلح (هوجة)، فيقال: (هوجة عرابي)، كأنّه تنقّص من ذلك الحدث، بسبب الاضطرابات التي وقعت في مصر بسببه، ويرى بعض المؤرخين أنّ صنيع عرابي كان السبب المباشر في احتلال الإنكليز، مصر، في السنة نفسها، أي سنة 1882 (ينظر للتوثيق: أوراق العمر. د. لويس عوض. مكتبة مدبولي، القاهرة، ص149، وما بعدها)، ولم يكن ذلك الاختلاف في التسمية المصطلحية، لينجم إلاّ بسبب الاختلاف في نقاط الانطلاق الفكري، والموقف ممّا حصل، بالنسبة لما قام به عرابي، أو غيره، وهو الذي لم توله الباحثة عنايتها الكافية. أمّا المصدر الثالث، فهو كتاب (التخلف الاجتماعي. مدخل إلى سيكولوجية الإنسان المقهور). د. مصطفى حجازي. معهد الإنماء العربي. فرع لبنان. سنة 1976. وهو، وإن كان قديم الصدور بعض الشيء، فإنّ ما حواه من تفصيلات، ومناقشات، وتحديدات، ما تزال غضّة طرية، بالإضافة إلى ربطه الجانب النظري بواقع الحياة. وما يهمّنا فيه، إشاراته المتكرّرة إلى الجمهرة من الدراسات الأكاديمية التي تحفل بأمثال ما رأيناه سابقاً من محاور، من حيث إهمال الكثرة من الباحثين، الالتزام بتقاليد البحث العلمي، وخطواته في أبحاثهم. وكان بوسع هذا الكتاب أن ينير للباحثة جانباً من المسالك التي غفلت، أو تغافلت عنها.
أمّا الملاحظة الثالثة، فهي ما لاحظه الباحث من كثرة الأخطاء النحوية، والأسلوبية، والكتابية في الدراسة، بحيث كانت تلك الكثرة سباً في تخلخل بناء الدراسة اللغوي، وخروج المعنى المراد إلى معنى آخر بسبب ذلك التخلخل. وهذه ظاهرة بدأنا نلمسها في جمهرة من الدراسات، ولعلّ السبب الرئيس فيها، هو ضعف الأساس اللغوي للباحثين، وطغيان لغة الإعلام الحديثة، التي ترى أنّ من مهامها، تحقيق التواصل حسب، بلا اهتمام بالكيفية التي يجري فيها هذا التواصل، غير أنّنا نرى أنّه، حتى هذا التواصل المزعوم، يخفق مرات كثيرة، حين يؤدي معنى ليس هو المرغوب فيه من لدن صاحب الدراسة. ونكتفي بقليل من الشواهد. تكتب: (...فضلاً عن ذلك كان الفقراء محرومين) (ص26)، والصواب: محرومين، و(...أي أنّ مدة الامتياز هي أربعين عاماً) (ص55)، والصواب: أربعون، و(...وبقي الآخرون محرومون من التعليم) (ص60)، والصواب: محرومون، و(...منها التوزيع الغير عادل للموارد) (ص62)، والصواب: غير العادل، و(...كان لكتاباته (صمد بهرانغي) تأثيراً كبيراً) (ص96)، والصواب: تأثيرٌ كبيرٌ، و(...بل إنّ لها محتوى نفسي أيضاً) (ص97)، والصواب: نفسياً، و(...لم نعد فضلاء ومستقيمون وحسب) (ص105). والصواب: ومستقيمين، و(وصفت الخطة بأنّها طموحة) (ص114)، والصواب: طَموح، و(وجد خطاب الخميني صداً واسعاً) (ص138)، والصواب: صدى، و(قيل إنّ عدد كبير من الجثث) (ص140)، والصواب: عدداً كبيراً، و(...لكنّ إجراءاتها لم تؤدي إلى التهدئة) (ص142)، والصواب: لم تؤدِ، و(...بقيت حبر على ورق) (ص149)، والصواب: حبراً، و(...أشار إلى أنّ عدد العاملين في المنظمة أربعين ألفاً) (ص153)، والصواب: أربعون، و(...يبلغ من العمر خمسة وخمسون عاماً) (ص155)، والصواب: وخمسين، و(...وكان لكلّ فرع سكرتيره الخاص وموظّفيه) (ص170)، والصواب: وموظّفوه، و(...ولم يكن وجود هؤلاء الخبراء ذو تأثير على...) (ص178)، والصواب: ذا، و(...فقد كان هؤلاء المتظاهرين) (ص199)، والصواب: المتظاهرون، و(...ومن هذه الأحزاب، حزب أريا الاشتراكي الذي أصدر بيان دعا...) (ص208)، والصواب: بياناً، و(...وأعلن اعتزازه باللذين انضمّوا...) (ص236)، والصواب: الذين، و(إنّ شعبنا ينتظر الآن أن ينضمّ أشقاؤه العسكريين إلى نضاله) (ص238)، والصواب: العسكريون، وغير ذلك من الأخطاء، والأساليب الخارجة عن نظام العربية. ولا نريد أن نسلّط هنا نقداً لغوياً متشدّداً على الدراسة، فهذا يطول أمره، ولم يكن القصد سوى التنبيه، وضرورة أن تبرأ أمثال هذه الدراسات الأكاديمية من هذا التلوث اللغوي الذي أصاب العربية على يد أهلها، وفي مقدّمته الإعلام العربي بأنواعه المختلفة.
وجاءت الملاحظة الرابعة، وهي الأخيرة، من لدن أحد المثقفين الذي قرأ هذا البحث قبل نشره، ولفت نظر الباحث إلى أنّ بحثه لم يتطرّق، ولو بلمحة عابرة، إلى شيء من محاسن هذه الدراسة، بالرغم من بذل الباحثة الجهد في السعي للحصول على المصادر، وتصنيفها، والتسلسل التاريخي في متابعة الأحداث، والإرهاصات التي سبقت الثورة، وصولاً إلى قيامها، فنجاحها. وقد أقرّ الباحث بما أبداه هذا المثقف من رأي. وبعد مناقشة مستفيضة، مع احترام كامل لرأي المثقف. بيّن الباحث وجهة نظره التي تتلخّص في أنّه توقّع أن يقرأ دراسة منهجية. تبتعد عن كلّ تلك الزلاّت، والمزالق التي مرّت سابقاً، ويعرَض فيها بأسلوب هاديء، رصين، قريب من الحياد، ما للنظام الملكي، وما عليه، وينطبق هذا الحكم على الثورة، وما رافقها، بعيداً عن التشنج، والحماسة، مع إحاطة بالمصادر التي تتبنّى وجهيْ المعادلة كي يمكن الموازنة بينهما، للخروج بنتيجة هي أقرب إلى الحقيقة. وإذا به يفاجأ، بعد القراءة الأولى، بما لم يكن يتوقّعه، أو فلنقل: بما كان يأمله، ويرجوه. أمّا القراءة الثانية للدراسة، فأيّدت له أنّه بإزاء منشور سياسي موجّه، يستنزل اللعنات على النظام الملكي، ورجاله، ويستمطر ماءً غَدَقاً على الثورة، ورجالها، وليس هذا من الإنصاف المنهجي في شيء. وإن كان هذا الأسلوب صالحاً في تلك المنشورات، والبيانات السياسية، فهو غير صالح هنا البتة، ونحن في معرض درس علمي، يتوخّى الحقيقة، أو ما هو قريب منها كما ذكرنا.
وللباحث تجربة سابقة مع مشروعين، هما من أهم المشاريع في الفكر العربي الحديث، ويريد بهما: مشروع محمد عابد الجابري في نقد العقل العربي، ومشروع جورج طرابيشي في الردّ عليه، وللباحث كتاب عنهما، إذ كان الشغل الشاغل لطرابيشي هو تبيان كيف أقحم الجابري، الأيدلوجيا في نقده ذاك، مع أنّه يبتغي – ظاهرياً- تفكيك العقل العربي منهجياً، غير أنّ الأمر انتهى به، على وفق ذلك التحكّم الأيدلوجي الذي لم يستطع الفكاك منه، إلى التفرقة بين العقول، فمنها ما هو مشرقي بياني هرمسي، ومنها ما هو مغربي عقلاني، مع متابعة صريحة لمقولات المركزية الغربية في التفضيل، والتبخيس، بالاعتماد على الأعراق، واللغات، والجغرافيا، وما إليها. ولا نقول بما قال به غيرنا من أنّ الأيدلوجيا ما دخلت في شيء إلاّ أفسدته، غير أنّ علينا أن نتذكر قولة الفيلسوف الكندي (تشارلس تيلر) من أنّه (في كلّ أيديولوجيا عنصراً يتجاوز العقل، والمعقولية من قبيل المصالح التي تحرّكها، والقوة التي تدعمها) (ينظر: قوة الدين في المجال العام)، أربعة مؤلفين، ص16، ولكن نقول إنّ للأيدلوجيا ميدانها، وآلياتها، وللبحث العلمي ميدانه، وآلياته، ومن الضروري أن لا يلتقيا، وعند هذا يبقى للمنهج سؤدده، وهيبته، فهو القادر وحده على معالجة أعقد القضايا، وأشدّها حساسية على وفق تلك الآليات التي لم تولها الباحثة أيّ اهتمام. مفضّلة سيادة الأيدلوجيا في دراستها، فوقعت في المحذور، بل في المحاذير، بحيث لم يجد الباحث، وهو يزداد استغراباً وعجباً، كلّما أوغل في القراءة. أقول: لم يجد الباحث ما يعطيه الدليل للاهتداء إلى مواضع للمحاسن، أو مواطن للثناء، ومن هنا جاء عنوان البحث، فحين طلعت الأيدلوجيا بدوغمائيتها، وقطعيتها، وتناقضها، وحماستها، وإنشائيتها، غرب المنهج فوراً، حين سدّت عليه الأيدلوجيا منافذ الحركة، بل التنفّس، فتوجّب عليه أن يرحل، وقد كان.

  

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

1194 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع