حاتم جعفر
السويد ـــ مالمو
الشهيد علاء مشذوب وسيرته العطرة
ــ 1 ــ
قبيل الخطوة اﻷولى.
مضى على تخرجه من كلية الفنون الجميلة قرابة العقد أو ما زاد عليها ببضعة سنين، ومنذها لم تحن الفرصة لزيارتها الاّ ما ندر، ربما لإنشغالاته وتعدد مسؤولياته، أو لأن الحظ وقتما كان طالباً لم يحالفه في نسج زمالة عابرة أو علاقة عشق حتى لو كانت بريئة في نواياها مع إحداهن، لذا لم يشده الحنين اليها كما ينبغي. لكنه وفي الحالتين لم يكن في حلٍّ عن إستذكار أحلى اللحظات وأجمل اﻷماكن، فكم من مرة راودته فكرة معاودتها الاّ انها كانت تفلت من بين يديه دون إرادته ورغبته.
أخيرا وبعد طول سنين وإذا بالشوق يضربه بقوة وعلى نحو مفاجئ ليحن الى تلك اﻷيام، بكل ما فيها، وكان له ما أراد. إذن ها هو اﻵن بحضرتها، مستظلا بشموخها، يدور بين أروقتها وقاعاتها، يتجول بزهو في رحابها، متطلعا في ثناياها وما تحدثه الشمس من دفءٍ وفيئ، قائلا في سرِّهِ: لا زالت جدرانك بهية رغم عوامل الكبر والتغضن، البادية عليك. لم يكتفِ علاء بذلك فها هو يقدم لها وبصوت كاد البعض يَسمعهُ فروض من الشكر والإمتنان، كذلك فيض من العرفان لكل مَنْ أهداه حرفا ودلَّه على صواب الطريق.
بعد أن أكمل ما أسماه زيارته ﻷحد أهم اﻷماكن قدسية وشأناً، ما كان عليه الاّ التوجه صوب الحافلة التي ستقله الى مدينته، مدينة كربلاء التي باركها الرب وألِفت مآذنها أسراب طيور زاهية بألوانها وأنواعها، عمادها الوداعة وما هو أبعد. تطلَّع في ساعته والى اللوح المعلق الذي يحمل مواقيت الإنطلاق، وإذا به يكتشف أن هناك فائضا من الوقت وما عليه الاّ تزجيته، وخير مكان لذلك هو شارع المتنبي، فكم من مصادر دراسته إغترف منه، وكم كان سخيا لراحة روحه وسعدها. وما هي الاّ عطفة صغيرة سيجتازها ليصل الى مكانه المفضل، ليلتقي هناك خير جلاّسها وصفوة من روادها حين كان طالبا، مستعيدا ما فات من حلو الأيام ومن أحاديث ما إنفك صداها يداعب ذاكرته، لذا راح يستحث الخطى نحو ما يبتغيه، إنه مقهى الشبندر.
قبيل وصوله وعلى بعد أمتار معدودات وإذا به يتفاجأ بطاقم تلفزيوني كامل العدة والعدد، منغمس أحدهم في حوار ساخن ومؤثر مع صاحب المقهى محمد الخشالي، بهدف إعداد تقرير مفصل عما تعرض له وما اُلحِقَ بمقهاه سنة 2007 من أذى وتخريب، إثر عمل إرهابي راح ضحيته خمسة من أبنائه. ترحَّم علاء على أرواحم البريئة والزكية، قرأ من آيات الله ما تيسر وما توائم وتلك الواقعة الفاجعة، ثم واصل مشيته، علَّه يجد بديلا يستريح به، وإذا بقدميه تقفان عند ذلك المكان الذي كان يؤمه الشاعر الفيلسوف جميل صدقي أيام الثلاثينات والذي حمل إسمه، والحديث هنا يدور عن مقهى الزهاوي العتيد.
وبمحض الصدفة المحضة، إلتقى هناك بأحد الأشخاص الذين كان على صلة به أيام زمان رغم فارق السن الواضح بينهما. أوشكت هيئة صاحبه أن تتطابق في زيها لما كان يرتديه الشاعر الزهاوي ومسحة من الحزن واﻷسى تغطي محيا العم شهاب، هذا هو إسمه، أمّا سكناه فهو في منطقة الفضل القديمة وربما يكون أحد اعيانها.
ما بالك ياعم، أراك واجماً وعلى غير عادتك التي كنت قد عهدتك بها أيام زمان؟ سأله علاء مشذوب، ولم يردٌ عليه، ربما لم يسمعه وهذا أغلب الظن، فصوت مجنزرات الإحتلال التي مرَّت مسرعة بالقرب منهما حالت دون ذلك. ثم راح مكرره عليه، وإذا بالرجل يلتفت الى جليسه ليبدو كما الذي كان ينتظر سؤالا كهذا، ففي داخله فيض من الهَمِّ واﻷسى، لذا ألفته معيدا النظر في جلسته، ليكون في وضع يؤهله للسرد المريح، وبين سبابة يده اليمنى وأوسطها سيكارة تأبى مفارقته.
بعدها شرع العم شهاب قائلا: سأحدثك يا ولدي وبإختصار عمّا يوجعني. سأحدثك عن مُدللتي بغداد وما كانت عليه في الفترة التي أنت وُلدتَ فيها، انها الستينات وما أجملها وسأعرج على الخمسينات أيضا، أمّا ما آلت اليه اﻷوضاع وسوء اﻷحوال في السنوات اﻷخيرة فسأترك أمر تقديره لك. أو إذا شئت فسأتلو على مسامعك ما كتبه أحدهم في إحدى الصحف البغدادية اﻷسبوع الماضي؟. ردَّ علاء بعد أن وضع عامل الوقت في حسابه، خشية عدم تمكنه من الإلتحاق بالحافلة التي ستقله الى مدينته، إذن لنستمع الى ما جاء في المقال. وهنا أخرج العم شهاب من جيبه ذلك العدد من الجريدة، شارعاً في قراءته وكما ورد نصاً:
((سنلقي الضوء هنا بعجالة على ما أطلق عليه بفترة الستينات وما سبقها بقليل، وعلى جيلها وما أنتجه من أعمال أدبية رائعة، لا زالت عالقة في ذاكرة مَنْ عاصرها، يحنون اليها بين حين وحين، يستحضرونها بشوق ولهفة، رغم تحفظنا على هذه التسمية (مصطلح جيل الستينات)، فعنها دار وَلمّا يزل لغط كبير. في كل اﻷحوال فلا خيار لنا ولا مندوحة الاّ التوقف عند أبهى محطاتها، نقلِّبُ صفحاتها، نشم عطرها، نسعد بنسائمها، نغفو على جمال ما دَوَّنهُ كتابها.
عن ماذا أحدثك عزيزي القارئ، عن فورة الشعر وفن السرد وما رافقهما من حوارات ساخنة، أم عن المسرحَينِ، الناطق منه والصامت وكذلك التجريبي وسادته. أم عن كُتّاب سيعتلون منصات الألق والتنافس، برفقة حزمة ضوء من ذهب وماس. أم عن عادل كاظم وقرينيه بل صديقيه عبدالوهاب الدايني وابراهيم جلال والقائمة تطول!. أم أحدثك عن فن الدراما ومدى رُقيه وتميّزه عن سائر الفنون، حيث لا مجال فيه الاّّ للكبار، فهو كما الوديعة والأمانة، كان قد تبارى في الذود والدفاع عنها، بعفة وشرف عاليين فنانين بقامات عالية، كخليل شوقي وزينب ويوسف العاني وناهدة الرماح وجعفر السعدي وبدري حسون فريد وآخرين قد نسهو عن ذكرهم.
عن ماذا أحدثك عن لوحات راحت تطرز قاعات بغداد وغاليراتها، فمن هنا مرَّ الدروبي حافظ وخالد الرحال، وهذه الريشة تعود لفايق حسن وهناك توقفنا طويلا عند لوحة سعاد العطار بألوانها الزاهيات، وهناك أيضا مَنْ سيتبارك بجدارية جواد سليم وسيستمد منها العزيمة والكبرياء، وهناك مَنْ إلتقط بفخرصور تذكارية مع إسماعيل فتاح الترك ومثلها مع محمد غني حكمت وغيرهما.
وعلى الضفة اﻷخرى من أشكال الجمال وتعبيراته، فهناك من ضربه العشق والهيام وراح يندب حظه العاثر، محاولا مداراة ومداواة جراحه الغائرة، وعلى نغمات عفيفة اسكندر وأغنيتها شدعيلك يللي حركت كَلبي. ومنهم مَنْ راح يإنٌ مع أنين سليمة مراد وأغنية الهجر مو عاده غريبة .... ومنهن مَنْ راحت تتحسر مع مائدة نزهت بنت الضابط، وتخشى على الولد من أن يفلت من بين يديها وقلبها لتردد معها عيني عالولد. وهناك مَنْ رأى في أغنية عبدالوهاب، جفنه علَّم الغزل، خير مَنْ تُطربه. ومن شدة تعلقه بهذه اﻷغنية وصاحبها، راح يخوض نقاشات حامية الوطيس، حتى أوصلته في نهاية المطاف الى أن يتخلى عنه نصف أصدقائه، وربما إتهموه بالولاء والتبعية الفنية لجهة أجنبية مشبوهة، ولعل أمر كهذا يُعَد من إحدى الطرائف والدعابات التي واكبت تلك الفترة من الزمن)).
بعد هذا السرد المؤلم والشيق من المتحدث، والذي كاد على أثره أن ينسى علاء موعد عودته الى مدينته، كان لابد له من إصدار بعض الإيحاءات والتلميحات، على أمل الإلتقاء مرة أخرى وبأقرب فرصة ممكنة. خرجا سوية من المقهى وكادت إحدى قدمي العم شهاب وبعد نوبة من اﻷلم والحسرة أن تعثر بدكة المقهى لولا إتكائه على كتف علاء، ليتبعها بإبتسامة شكر، وليتوادعا على أمل اللقاء في ظرف أحسن، تكون فيه المجنزرات ومَنْ جاء معهم، قد إختفت تماما من شوارع مدنهم الحبيبة والسليبة.
ـــ 2 ـ
توطئة لرواية بائع السكاكر.
لا أظنُّ أنَّ علاء مشذوب، المولع بالقراءة والمتابع عن كثب لمتغيرات بلاده سيغفل عمّا سمعه من العم شهاب حين التقاه في ذلك المقهى، بل لقد حمل على كتفيه وطيلة الطريق الذي سَيوُصلهُ الى مدينته كل حرف وكل واقعة وكل إسم كان قدساهم وشارك في صناعة تلك الحقبة من الزمن، فهم وعلى ما رآه حَمَلَةُ ذلك الورد، بعبقه وأريجه، وبعطره الفواح وهو يغطي سماء بل سماوات بلاده. ولشدة جمالها راح متحسرا عليها، ناشدا العودة اليها أو محاكاتها.
وما كاد يغادر تلك اللحظة الحرجة التي بلغ فيها ذروة الوجع، حتى أخذت تنثال على ذاكرته تلك اﻷحداث التي كان قد مرَّ بها ودونت سيرته ومنذ ولادته، لتتقاذفه وترمي به شرقا وغربا، لتجد بعد سنين تعبيراتها وإنعكاستها على شكل أعمال روائية وقصص قصيرة، فضلا عن بعض البحوث والدراسات المتعلقة بالتأريخ الإسلامي وكذلك المتعلق منها بإختصاصه في فن الصورة التلفزيونية. كذلك سينشط في حقل كتابة المقال وراح إسمه متداولا وبقوة في أهم الصحف العراقية.
وسيختم طيب الذكر والثرى مشواره الفني واﻷدبي بعمل روائي، سيرى النور عام 2018، لعلَّ ما جاء فيه من محتوى سيشكل نقطة تحول كبرى في حياة الكاتب، لما فيه من أفكار لا تخلو من جرأة، خاصة وانها وفي بعض من فصولها قد مَسَّت الباب العالي وكل مَنْ نصََّبَ نفسه وكيلا وممثلا للإرادة الإلهية. وعن الرواية ذاتها فستحمل إسماً، كان قد إختاره ليدون فيه أهم المحطات والمنعطفات التي مرَّ بها ومذ كان صغيرا، إنها رواية بائع السكاكر.سيندب فيها حظَّه العاثر وحظَّ مَنْ جايله، ملقيا على صفحاتها قسوة عهد مضى وقسوة عهد يعيشه، ذاق من خلالهما أشد حالات العوز، وأكثرها تسلطا وتخلفا.
وعلى الرغم من قساوة اﻷحداث والظروف التي يمر بها البلد ونظام حكم يتراوح بين الظلالة والجهالة، فألفته مُجدّا في مسعاه، ليطرق من جديد باب أكاديمية الفنون الجميلة التي تخرَّجَ منها، ليواصل ومن هناك تخصصه، مبتدءاً بحصوله على درجة الماجستير ومن ثم الدكتوراه، وبذا سيكون علاء قد وضع نفسه أمام مسؤوليات أكبر وأكثر جسامة وربما أشدٌ إيلاما ووقعا عليه، مُذكراً بتلك القاعدة اﻷثيرة للمتصوف الإسلامي، محمد بن عبد الجبار بن الحسن النفري( كلما إتسعت الرؤيةستضيق العبارة)، وستضيق معها المخارج والمنافذ، فبأي العُقَدِسيبدأ! أيبدأ بالتي أقل ضررا، أم بتلك التي أقرب الى الحلِّ وأسهله، فالحال لا يسر أحدا، والبلد سائر نحو المجهول إن لم يكن الطوفان من بعده.
وقبل أن يشرع في كتابة نصه، راح مستعيدا ما قرأ على مسامعه العم شهاب قبل سنوات، عن تلك الحقبة من الزمن والتي أسميناها بالستينات وجيلها، وسينظر اليها ويتعاطى معها بعينين مختلفتين، فمرة يغتبطها لزهوها وعطائها فيسميها بالزمن الذهبي، ومرة ينظر اليها بعين من الحسد ولعله مشروعا. وعند هذه اللحظة سيعيد علاء ذات التساؤل الذي كثيرا ما كان يرواده ويردده: لِمَ لَمْ نعش مثلها، ولَماذ تقطَّعَت الأوصال فيما بيننا؟.
وبعد أن فرغ من كل تساؤلاته، راح يسرد روايته بروية وتأني. سيتخللها بين حين وحين إرتشافه جرعة من خمر أصيل، كان صاحبه قد أتى بها خلسة من قضاء طويريج القريب من مدينته، مخافة أن يُكشَفَ سرّه، فحسّاده كثرُ، ومنافسيه من أصحاب العمائم على اﻷبواب، تراهم يسترقون السمع والبصر، لا يدانيهم في ذلك الاّ رجال اﻷمن وسطوة حكام فاسدين من الرأس حتى القدمين.
لكنه رغم هذا وذاك ورغم إنبهاره بتلك الحقبة التي أسميناها بالستينات، فإنَّ لعلاء وجهة نظر خاصة بها، فلا ينبغي أن نغفل كما يقول عن الجانب المعتم منها، وعلى وجه أدق نهايات ذلك العقد، وأظنه مصيبا في ذلك، حيث ستدشن بلادنا عهدا جديدا، عهد من المتاعب والمنايا، ستتخلله خيبات وهزائم، وستخاض معارك كانت نهاياتها قد رسمت وَعُرِفَتْ سلفا، ستدفع أثمانها أجيال وأجيال، وستشهد بلادنا أيضا ولادة أنظمة، أحرقت الحرث والنسل واغلقت طرق الوصول الى الضفة اﻷخرى، حيث الخمرة والخضرة والوجه الحسن. سنعيش زمانا سيصادر فيه اﻷفق وساعات الغسق والسحر، وَسيُحجبُ عنا نور الشمس وضوء القمر. وستمر علينا أياما من الضلالة والتيه....
أراد علاء أن يسترسل أكثر في وصفه للحال وما هو متوقع غير اني أوقفته، أنا المتلقي: علامكَ ياصاحبي، تمَّهل قليلا، الا تظن أنك قد بالغت في ما ذهبت اليه؟ لم يرد عليَّ، مكتفيا بإحالتي الى روايته. إذن نحن اﻵن في صحبة علاء مشذوب وما كتبه. متوقفين عند أصعب وأعقد محطاتها بل وأكثرها خطورة وربما كان من خلالها قد رسم نهايات حياته بل قد تكون السبب الرئيسي الذي وقف وراء إستشهاده، فهل هي النبوءة أم ماذا؟
ملاحظة: لنا لقاء آخر مع حكاية الشهيد علاء مشذوب في قسمها الثاني، سننشره لاحقا.
842 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع