بسام شكري
رمضان زين القوس
من اجمل رمضانات حياتي كان خلال الحرب العراقية الإيرانية عندما جاء رمضان سنة 1982 في الشهر السادس وكنت في جبهة القاطع الأوسط منطقة زين القوس وهي مرتفعات قريبة من منطقة النفط خانة – خانقين حيث التلال الجرداء الجافة والسحالي والافاعي في كل مكان وكان هناك أنواع مختلفة من الزواحف فالارول وهو حيوان يشبه التمساح ذو وجه مثلث وحجمه من حجم الكف الى متر ونصف ومعظمها بتدرجات اللون البني والرصاصي والصغير منه لا يقف قليلا حتى يبدا بلعب حركة الشناو الرياضي وهناك نوع كبير من الارول بالوان فاقعة كالأصفر والبنفسجي والازرق اذا ما اقتربت منه فانه ينتفخ ويصبح حجمه كبيرا, وهناك أنواع من الضب والفئران وفي الليل الثعالب والحصيني , وكما هو معروف فان الجيش العراقي الذي كان يتبع العقيدة الشرقية في القتال خلال تلك الحرب حيث كانت الجبهة تتكون من ثلاثة خطوط هي الحجاب وهي قوات انذار مبكر تكون متداخلة مع العدو وقريبة منه وحجمها سرية مشاة واحدة ومكشوفة للعدو خلال النهار ولا يتحرك الجنود فيها الا اثناء الليل ويقومون بعمل دوريات وكمائن في الأرض الحرام التي تفصل بينهم وبين العدو وهم اول قوة تواجه العدو عندما يبدأ الهجوم ونشاط القناصة فيه مستمر على مدار الساعة والحجاب محصور بين العدو من الامام ومن الخلف حقول الألغام والمعرقلات المكونة من الاسلاك الشائكة وقطع الحديد على شكل كرات ذات اسنان مختلفة الاتجاهات وحقول الألغام على عدة أنواع فمنها الغام الافراد العادية وحقول البترول المتفجرة المربوطة باسلاك كهربائية يتم تفجيرها بسلك كهربائي عندما يسقط الحجاب بيد العدو ويبدأ العدو بالتقدم باتجاه خطوط الجبهة الأساسية واما في الممرات والشوارع فقد زرعنا الغام الدروع والعجلات و الخط الثاني في الجبهة فهو الخطوط الامامية الأساسية ويكون بعيدا نسبيا عن العدو والحركة فيه ليلا ونهارا لكنه يتعرض للقصف بشكل دائم وفيه السرايا النظامية الخمسة المتبقية ومقر الفوج ويتم من تلك السرايا تبديل سرية الحجاب شهريا والتي هي الإنذار المبكر مع احدى السرايا المتبقية والتي يتكون منها فوج المشاة والخط الثالث للجبهة هو خط الدفاع ويتكون معظمه من الدروع والمدفعية وأجهزة الرصد المدفعي وأجهزة الرازيت .
شهر رمضان المبارك كان في نهاية شهر حزيران وكنت ضمن السرية الثالثة وكان دورنا في الحجاب في رمضان وكنا لا ننام معظم الوقت وتبقى المراصد حذرة جدا ترصد العدو وحركتنا محدودة جدا خلال النهار وفي الليل تبدأ حركتنا اكثر حيث الظلام يمنع العدو من رؤية تفاصيلنا ونتقسم الى مجموعات تذهب مجموعة الى الكمين الليلي ومجموعة الى الدورية الليلية وبقية السرية تبقى في مواضعها وكان كل فرد من السرية يخرج أسبوعيا للدورية مرتين وللكمين مرة والخروج الى الأرض الحرام او الرجوع من الأرض الحرام الى الحجاب يكون عندما يختلط الضوء أي عند الغروب وقبل الفجر وخلال عشر دقائق يجب على الجنود مغادرة مواضعهم مع اول الغروب والوصول الى الكمين او الى الدورية قبل حلول الظلام او العودة الى الحجاب قبل بزوغ ضوء الفجر وهي عملية تبديل منسقة بين الواجبات الليلية والنهارية وتبدأ حركة الخروج عند الإفطار والعودة تكون عند فجر اليوم التالي والمجموعة التي في الكمين او الدورية ترجع في نفس الوقت ويجب علينا العودة الى مواضعنا قبل ان ينكشف النهار ويرانا العدو وكنا نأخذ معنا افطارنا وسحورنا معا ويتكون من عشر الى عشرين تمرة نقسمها بين الفطور والسحور وعلبة لبن حجمها بنصف حجم كف اليد ورغيفين من الخبز ومعلبات مختلفة مثل الخضروات , اللحم , الجبن والتي نطلق عليها في الجبهة ارزاق جافة ومعنا زمزمية ماء بحجم اللتر تقريبا وتكون درجات الحرارة خلال النهار مرتفعة جدا والجو يشبه فرن الخبز عندما تتقرب منه لترى ما بداخله فيصيب وجهك لهب ساخن من الحرارة واذا وضعنا الماء مكشوف فانه يتبخر خلال دقائق وكنا نضع قطع من أكياس الخيش حول صفائح الماء ونبلله ونضعه في حفر تحت الأرض حتى لا يتبخر ويبقى باردا ولم نتذوق أي ماء بارد طول تلك الفترة وقد قضيت رمضان كله صائما والحمد لله وخرجت في عدة دوريات وكمائن وكان كل شيء على ما يرام وفي احدى الكمائن الصباحية ما ان وصلنا الى مكان الكمين وهو منحدر وادي بين ثلاث تلال فيه كهف ومجرى لنبع ماء صغير وجلسنا على الأرض نستريح من تعب الطريق وتوزعنا نحن الستة على الصخور وذهب جندي المخابرة الى داخل الكهف ووضع جهاز الاتصال اللاسلكي في الكهف حفاظا عليه من الحرارة والغبار واخذ مقاتل اخر بالصلاة على صخرة نظيفة ملونة قرب مجرى الماء وقبل ان ينكشف الضوء تناولنا سحورنا على عجل وقد انكشف ضوء النهار واغلبنا منبطح على ظهره وسلاحه على الأرض ننظر الى السماء بتامل وقد ساد الهدوء على المكان الا من صوت خرير الماء وفجأة ظهر لنا جندي إيراني فوق التلة التي تشرف علينا وبيده بندقية من نوع جي سي طويلة وقام بتصويبها علينا ونطق بكلمات لم نفهمها وبلمح البصر فهمنا اننا وقعنا في الاسر وصار عدد الجنود الإيرانيين عشرة وكلهم مدججين بالسلاح والقنابل اليدوية ويربطون على بطونهم حبال وحرابهم على شكل سكاكين طويلة تتدلى من حبالهم شدتنا المفاجأة وقد التف الجنود الإيرانيين حولنا وجمعوا اسلحتنا في مكان واحد وأجلسونا في الشمس وجلسوا مكاننا في الظل واخذوا يأكلون طعامنا الذي جلبناه للإفطار معنا وكان ثلاثة منهم لا يأكلون واعتقد انهم كانوا صائمين مثلنا , الجندي الذي كان يصلي لم يقطع صلاته واستمر فيها بل واطال الصلاة حتى وقف امامه جندي إيراني ونهره بكلمات جعلته ينهي صلاته بسرعة وترك السجادة التي كان يصلي عليها على الأرض فتقدم اقرب واحد منا الى مكان الصلاة واخذ يصلي عندها شهر احد الجنود الإيرانيين سلاحه بوجهه لكن صاحبنا لم يهتم له وبدأ بالصلاة وبصوت مسموع وهكذا وبالتسلسل ادينا الصلاة جميعا وكلما رجع احدنا من الصلاة يرجع للجلوس في المكان الذي وضعونا فيه تحت الشمس الحارقة وبقينا لا نتحرك وهم قد اخذوا راحتهم في النوم والاكل والحركة لكنهم لم يقتربوا منا وفهمنا بانهم لا يتمكنون من اخذنا اسرى الان وينتظرون حلول الظلام وذلك لان قطعاتنا سوف ترانا ونحن نسير في الأرض الحرام , لقد مرت الساعات بطيئة والجو يزداد حرارة كلما تقدم الوقت ونحن نتعذب تحت اشعة الشمس المحرقة وما ان حلت الظهيرة وأصبحت الشمس عمودية علينا حتى سمعنا صوت اذان الظهر من مواضع سريتنا في الحجاب فقام احدنا الى الماء وتوضأ واخذ سجادة الصلاة وذهب الى مدخل الكهف حيث الظل للصلاة وتركه الجنود الإيرانيين لثقتهم بان لا مفر للهروب والكهف مغلق واسلحتنا بأيديهم عندها قال لنا زميلنا جندي اللاسلكي المخابر بصوت منخفض : عندما يعود لا احد يذهب للصلاة انا سأذهب للصلاة وفهمنا قصده ومرت الخمسة دقائق كأنها سنة حتى عاد ذلك الجندي ونهض الجندي المخابر للكهف واخذ يصلي والجنود الإيرانيين مشغولين بالنوم والحديث والتدخين ولم يلاحظون انه دخل للكهف وغاب لأكثر من ثلاث دقائق ثم عاد وهو يتهادى في مشيته بنشوة النصر وقد لمعت عيناه وما ان جلس على الأرض حتى انهالت علينا قذائف الهاون من كل جانب من رفاقنا في الحجاب وسمعنا أصوات رفاقنا وهم يصرخون بصوت مرتفع خذوهم اسرى نحن قادمون اليكم فهرب الإيرانيين وبلمح البصر اخذنا اسلحتنا ودخلنا الكهف وبعد ربع ساعة من القصف الشديد اتصلنا بقطعاتنا وطلبنا إيقاف القصف لان الإيرانيين هربوا وخرج لنا ثلاثة قناصين من رفاقنا من الحجاب على مرتفعات تحيط بنا لتامين انسحبنا الى موضع قريب من الحجاب حتى يحل الظلام ونرجع الى قطعاتنا , لقد كان يوما حافلا نسينا فيه اننا في رمضان وقد رجعنا وكتبت لنا حياة جديدة واكلنا افطارنا ونحن غير مصدقين من حوادث ذلك اليوم الرمضاني .
بسام شكري
عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.
1749 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع