توابون أم أسرى خونة؟

                                                

                            نزار السامرائي

توابون أم أسرى خونة؟

لا يمر حديث عن الأسرى العراقيين في الحرب العراقية الإيرانية، التي استمرت لثماني سنين، ومحنة بعضهم التي استغرقت أربع عشرة سنة بعد توقف العمليات الحربية، من دون أن يقفز هذا الموضوع ليأخذ نصيبه من البحث والدراسة من قبل خبراء السياسة أو علماء النفس أو علماء الاجتماع، وهو ظاهرة "الأسرى التوابين" التي رافقت حياة الأسرى العراقيين وتحولت إلى كابوس أشد قسوة عليهم من دور رجال الاستخبارات الإيرانية فمن أجل أن يثبت الأسير المتحول ولاءه وإخلاصه لإيران بعد كان يقاتلها بشراسة، كان عليه أن يوغل في تعذيب رفاقه العراقيين من دون أن يطرح مبررا أخلاقيا لهذا الانحدار القيمي، فقد شهدت جميع معسكرات الأسر الإيرانية المنتشرة على طول الخارطة الجغرافية السياسية لإيران وعرضها قسوة في تعذيب الأسرى العراقيين من قبل خونة اليمين الولاء للوطن، وهنا لا بد من تسليط الضوء كاملا على الحقيقة من دون مواربة، فالأمر لم يقتصر على الجنود فقط بل تجاوزه إلى ضباط برتب كبيرة مارسوا أسوأ ما عندهم من خبرات في إلحاق الأذى ببقية الأسرى، وما يدعو إلى الدهشة أن بعض الأطباء من الأسرى تحولوا عن مهنتهم الإنسانية فصاروا وحوشا ضارية في تعذيب أسرى لم تكن لهم معرفة بهم أصلا ولم يعملوا في وحدة عسكرية واحدة، المهم أنه يمارس مهنة الدعارة السياسية على ابن بلده لمجرد أن يؤكد على صدق ولائه لنظام الولي الفقيه، وبعض من فعل ذلك هم ليسوا من الشيعة فقط بل من السنة أيضا، وبعضهم من ديانات أخرى.

اللافت أن جميع من كتب عن تجربة الأسر سواء كان من الأسرى العائدين إلى العراق في واحدة من عمليات التبادل التي استمرت من يوم 17 آب 1990 وحتى دفعة 22 كانون الثاني 2002، أو من الصحفيين الذين استهواهم هذا الملف الإنساني، لم يَغص في أعماق هذه المأساة الإنسانية لاستخلاص الحصيلة المطلوبة لأي دارس، ولم يتمكن من استخلاص الدروس العلمية عن محنة معمدة بالموت البطيء معظم الأحيان، والموت الفوري أحيانا، فمنهم أي الصحفيون من أجرى لقاءات مباشرة مع عدد من الأسرى العائدين، سواء ممن ثبت على المبادئ، أو ممن انخرط في أنشطة التوابين، أو ممن بقي متفرجا على التل ينتظر نتائج المنازلة لينحاز إلى الجهة المنتصرة، وهؤلاء هم الأغلبية على ما أظن، أو من وقف ثابتا على موقفه الوطني لم تهتز في خياله صورة الوطن، أو انهار ونقل ولاءه إلى ولاء مضاد.
وعلينا أن نسلط بعض الضوء على عينات جماعية عمن ينتمي إلى كل صف من الصفوف، لا شك أن أعداد الأسرى العراقيين في إيران التي تصل على وفق تقديرات غير رسمية إلى 85 ألفا في مختلف جبهات القتال على مدى ثماني سنوات، وهؤلاء ينقسمون إلى صنفين غير متكافئين في العدد وفي مدى التأثير في وسط الأسرى:
صنف قارع ظاهرة السقوط وجهر بصوته رافضاً لها ومتحملاً بسببها صنوف التعذيب نفسياً وجسدياً مما ابتكره الإيرانيون في عهدهم الجمهوري، أو ما استمدوه من تاريخ فارس الحافل بشواهد في تعامل غاية في الوحشية كما جسده سابور ذو الأكتاف، وفاقدٍ لأي معنى إنساني مع أسرى الحروب الكثيرة التي خاضوها ضد الدول المجاورة لبلدهم، أو مما أضافه الخونة من العراقيين من أساليب تمس أعماق النفسية العراقية فتسحقها تحت حادلة الذل، أو من تجارب الدول الأخرى في تعذيب المعارضين وخاصة ما جرى في محاكم التفتيش بعد سقوط الأندلس، وإن كان الإيرانيون لا يحتاجون خبرة أحد في هذا الاختصاص الذي كانوا أساتذته على مر العصور بامتياز عالٍ.
والصنف الثاني هم الذين حافظت وطنيتهم على إيقاعها الثابت الذي لم يهتز بسبب تغير الزمان والمكان، ولكنهم آثروا السلامة حفاظاً على أنفسهم من جهة، وسلامة موقفهم الوطني من خطر الإيرانيين، فلم يدخلوا في مواجهات كلامية أو ساخنة مع الجانب الإيراني ولا مع عملائه، ولكنهم كانوا يشمئزون من الخونة ويتجنبون الاختلاط بهم قدر ما تسمح لهم الظروف بذلك.
ولكن من أين جاء مصطلح "التوابين" بحيث ألصق بجزء من الأسرى العراقيين وصار سمة للذين غيروا ولاءهم من العراق إلى إيران؟
يُغري الإيرانيون أتباعهم ببعض المصطلحات التي درجوا على ترديدها منذ 1400 سنة حتى تحولت نتيجة التكرار إلى مقدس يتهافت عليه البعض بجهالة وغباء وسذاجة، ومن بين تلك المصطلحات، ما تسمى بثورة التوابين وهي إحدى ردات الفعل التي اندلعت بعد استشهاد الحسين رضي الله عنه يوم عاشوراء سنة 61 هجرية الموافق 10 تشرين الأول/أكتوبر سنة 680م، في محاولة لغسل اليد من دم الحسين، لأنهم شاركوا بقتله أو خذلوه وتخلوا عنه، وبالتالي فقد أعانوا من الناحية العملية على قتله، وانطلقت الثورة على ما قال قادتها إنها ثأر لدمه، وكانت انطلاقتها سنة 65 للهجرة بقيادة سليمان بن صرد الخزاعي، يؤازره في ذلك جمع من أهل الكوفة نتيجة ما لحق بهم احساس بالعار، لأنهم هم الذين أرسلوا الرسائل للحسين للقدوم إلى العراق، ولكنهم خذلوه عندما اشتدت المعركة، وقد حارب التوابون الجيش الأموي في معركة عين الوردة ولكنهم هُزموا، بعد أربعة أيام على ما تقول روايتهم، كما أن المختار بن أبي عبيد الثقفي، وهو قائد عسكري طالب بدم الحسين أيضا وقتل جمعاً من قتلته ممن كان بالكوفة وغيرها، مثل عمر بن سعد وعبيد الله بن زياد وحرملة بن كاهل وشمر بن ذي الجوشن وغيرهم، ثم سيطر على الحكم بالكوفة ورفع شعار "يا لثارات الحسين" وكان يخطط لبناء دولة علوية في العراق، وقد قُتل المختار في الكوفة عام 67 للهجرة على يد جيش مصعب بن الزبير.
من هنا جاءت تسمية الأسرى التوابين، الذين غيّروا قناعاتهم سواء عن إيمان حقيقي، أو عن انتهازية ونفاق وجُبن، أو نتيجة الرعب الناجم عن الضغوط النفسية والتجويع والتعذيب الذي تعرض له الأسرى الوطنيون، على أيدي عناصر منتقاة من المتدربين في دورات للحرب النفسية من الحرس الثوري والجيش الإيراني، والمدعومين من معممين إيرانيين أو هاربين من العراق أو من المسفرين لأنهم من التبعية الإيرانية، ولهذا كان رقم الأسرى الذين سقطوا في وحل الخيانة كبيرا سواء بالقياس إلى العدد الكلي للأسرى العراقيين، أو بالقياس إلى معاني الفرز بين بلدين متحاربين كما لم يحصل في أية حرب أخرى، ليس هذا فقط بل ذهب كثير منهم أبعد من ذلك فانخرطوا في قوات بدر التي قاتلت الجيش العراقي وقتل كثير من عناصرها بعد أن غيّروا اتجاه فوهة بندقيتهم من الشرق إلى الغرب، وكانت تلك أسوأ ما يمكن أن يحصل في الحروب بين بلدين أو أكثر.
لا شك أن شيوع حالة "الأسرى التوابين" والتي تحولت مع الوقت إلى ظاهرة مَرضية خطيرة تفشت بين أوساط الأسرى، فإنها يجب أن تستدعي البحث في أسبابها ودوافعها وما ترتب عليها من نتائج أساءت لسمعة العراق ولسمعة الأسرى أنفسهم وستلحق بعائلاتهم عاراً إلى الأبد، ويمكن تأشير أهم أسباب نجاح كمين السلطة الإيرانية الذي أحسنت نصبه للأسرى العراقيين، ومنها:-
أولا: الانتماء السياسي المدعوم بالعامل الطائفي، وهو من أقوى عوامل استقطاب الأسرى إلى الجانب الإيراني، بسبب الشحن الهائل للأفكار والمفاهيم المذهبية التي تحاكي الموروث التربوي المكتسب من العائلة والبيئة والمغروس في أعماق النفس البشرية، والذي ينتظر الفرصة المناسبة لاستنباته فيتحول إلى واقع يومي في سلوك الأفراد، هذا في حال الإنسان غير المنتمي إلى تيار سياسي ديني، أما المنتمون إلى أحزاب ومنظمات شيعية موالية لإيران وولاية الفقيه، فهم البيئة الصالحة ليس للتحول إلى مجاميع "التوابين" بل لتُحَوْلَ هؤلاء إلى أداة للضغط التي تنوب عن إيران، في ممارسة أشد أنواع الضغط المادي والنفسي على الأسرى الآخرين لجلبهم إلى المجموعة، وتُزين الأمر لهم على أنه يقظة فكرية وصحوة دينية جدير بهم الوصول إليها قبل فوات الأوان وخاصة مع توفر مظلة حماية رسمية إيرانية، وصوروها لهم على أنها أمر اعتيادي وهو نابع من المعتقد الديني ومنسجم مع الطبيعة الإنسانية الباحثة عن اليقين، وربما كان هذا أهم الروافد التي صبّت في البُرْكة الآسنة، واستغلت السلطات الإيرانية الآسرة، وجود الآلاف من المعممين العراقيين المتسكعين في الطرقات والزوايا المظلمة، ففتحت لهم باب ارتزاق من خلال القاء محاضرات على الأسرى، تعتمد خطابا طائفياً تكفيرياً ينطلق من عُقَد التاريخ التي تعود لأربعة عشر قرناً، فيضخ هؤلاء فيها الكثير من الخرافات والأوهام والأساطير مما تعافه العقول الراجحة، والتي تمتلك الحد الأدنى من الإدراك والوعي، لقد وظف المعممون الذين يفتقرون إلى الحد الأدنى من المعرفة الدينية والثقافة العامة، وكان موضوع سقيفة بني ساعدة والتي تركز على حادث أصبح من مخلفات الماضي، وتركز فيه على من سلب عن علي بن أبي طالب رضي الله حقه في الخلافة، في شحن طائفي ثم ألحقوه بفرية كسر ضلع فاطمة الزهراء رضي الله عنها من قبل عمر بن الخطاب رضي الله عنه، ثم يعرجون على واقعة ألطف في كربلاء والتي تبلغ ذروتها في ذكرى عاشوراء، فيغيب المتعّلِمون وأصحابُ الشهادات من الشيعة، عن كل ما حصلوا عليه من ثقافة وتحصيل دراسي عن إدراكهم المعرفي وينساقون وراء معمم جاهل، أخذ مكانته من خلال عمامة لم تضف إلى رصيده المعرفي شيئا.
ولعل أسوأ ما مر على الأسرى هو أن متطوعا في الجيش الشعبي يحمل شهادة الدكتوراه في القانون الدولي، وكان يشغل وظيفة كبيرة في الدولة العراقية، تنكّر لتاريخه وانتمائه للحزب، فانقلب على عقبيه وتحول إلى داعية يُلقي المحاضرات على الأسرى ويحثهم على الانخراط في صفوف "التوابين"، عند هذه النقطة المشحونة بأجواء عاطفية، تبدأ الضغوط على الشيعة لممارسة اللطم الجماعي بإشراف معمم إيراني أو عراقي هارب أو من تبعية إيرانية، وكان التركيز ينصب على الضباط الشيعة لممارسة اللطم بهدف تحطيم الجدران النفسية بين معتقداتهم وبين ما يحملوه لأنفسهم من تقدير واعتزاز بالرتبة، وبهدف دفع الجنود لتقليد آمريهم في هذه الممارسات الطقسية الخالية من أي مضمون عبادي، فإذا كان هذا حال المتعلم أو المثقف، فكيف يكون سلوك أنصاف المتعلمين والأميين من هذا الشحن الطائفي؟ قطعا سينساق الشيعي إلى تساؤل صامت عن هذا التبني الإيراني المخلص لقضيتهم الدينية على هذا النحو الإيماني العميق، وهنا تبدأ زاوية الافتراق الأولى عن وطنهم بزاوية ضيقة ثم تبدأ بالاتساع التدريجي، ومما فاقم من حالة انزلاق البعض إلى الانحراف والارتماء في أحضان الإيرانيين تحت لافتة "التوابين"، أن الإيرانيين ومن خلال خبراء الحرب النفسية الذين حافظوا على وجودهم في الجيش الإيراني وهم من تركة جيش الشاه السابق، حرصوا على طرح مجموعة من الكتب والكراريس الطائفية والفتاوى الدينية لمعممين شيعة بمن فيهم خميني، تطرح مفاهيم خلافية مع المذاهب الأربعة وهي كثيرة ومتشعبة.
هنا لا بد من التوقف عند أهم محاور الاحتكاك السياسي الذي بدأ بنقاشات فكرية حول فقه المذاهب....
1 – كان من بين الأسرى ضباط احتياط من خريجي مختلف الاختصاصات، ومن بينهم ضباط من خريجي كلية الشريعة والدراسات الإسلامية، وكان هؤلاء بما توفر لديهم من معرفة في العلوم الشرعية، صوتاً عقلانياً داحضاً لمعلومات معممين جهلة بأبسط علوم الدين، جاء بهم الإيرانيون من باب توفير مصدر رزق لهم، لأن كل معمم يتقاضى أجراً تافها ربما لا يزيد على (400) ريال إيراني عن كل "محاضرة يلقيها" على الأسرى، ومن أهم المحاور التي كانت تثير أوسع قدر من الجدل بين الأسرى، ما كان المعممون يطرحونه عن التحريف الذي تعرض له القرآن الكريم لطمس ما ورد فيه من فضل لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه، أو عن وجود ما يسمى بمصحف فاطمة والذي يقال بشأنه إنه لا يتضمن حرفا من حروف القرآن الكريم.
2 - الموقف التكفيري من الصحابة الكرام رضي الله عنهم وأرضاهم، وفتاوى مراجع الشيعة بتكفيرهم بسبب حجب خلافة الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم لعلي كرم الله وجهه، استنادا إلى روايات باطلة تنسب إلى أئمة الشيعة الاثني عشر، وقد أثارت هذه الفتاوى الكثير من الخلافات التي بدأت بالألسنة وانتهت بالأيدي وما تحمله من المتاح من أدوات الاشتباك، كانت السلطات الإيرانية الآسرة تراقب عن كثب نتائج الفتنة التي أثارتها ولتنتقل إلى الصفحة الثانية، وهي تقديم الدعم المعنوي لعملائها وتوفير الحماية لهم، وممارسة أشد أنواع التعذيب على الأسرى المخالفين، والضغط النفسي على الأسرى الشيعة للانتقال من الصف الوطني إلى صف العدو أي إيران، وتستحث فيهم كل خزين التربية التي تلقوها في الطفولة عبر ثقافة نقلية خالية من أي مضمون فكري مؤكد، في محاولة لحسم الصراع داخل الفرد الشيعي، بين ما هو راسخ في الوجدان من الأب والأم والشارع والبيئة، وبين الوعي اللاحق المكتسب من خلال التفكير العقلاني، أو اشتراطات الانتماء للجيش العراقي الذي كان حتى ذلك الوقت ما زال في حالة حرب مع إيران ويوجب الولاء للوطن والمؤسسة العسكرية وخاصة في زمن الحرب.
2 – الفتاوى الدينية المثيرة لأسباب الانقسام، وما تثيره من جدل بين المسلمين من أتباع المذاهب المختلفة، وخاصة ما يتعلق ببداية شهر رمضان المبارك أو وقفة عرفة والذي يتعمد الإيرانيون تأخيرهما يوما واحدا على الأقل، استنادا إلى ما ينسب إلى جعفر الصادق من أنه سئل يوما عن موقف فقهي، فأجاب قائلا هل يوجد فقيه في مدينتكم قالوا له نعم ولكنه من السنة وليس من أتباع آل البيت، فحسم الأمر فقال لهم "استفتوهم وخالفوهم".
وكذلك الخلاف في الوضوء والأذان وقصر الصلاة وزواج المتعة واتيان الزوجة من دبر، وتفخيذ الرضيعة، وعندما يأخذ الجدل هذا المنحى، فعلينا أن نتوقع تشعبه إلى ما ليس منه بل إلى محاولات كل طرف تسجيل نقاط على حساب الطرف الآخر.
3 – كتب الخرافات والأساطير وما تحتويه من ترهات لا يقبلها عقل عاقل، مثل كتاب "عيون أخبار الرضا" وكتاب "شجرة طوبى"، وكتب بحار الأنوار للطوسي والكافي للكيني، وغيرها من كتب غلاة الشيعة الفرس التي تحض على التناحر وفرقة المسلمين.
ثانيا: العامل الديني، من المعروف أن الجيش العراقي جيش محترف مبني على أساس وطني، ويعتمد في موارده البشرية على التجنيد الإجباري كأساس أول، من دون أن يغفل مبدأ التطوع لصنوف القوات المسلحة، على هذا نرى في الجيش جنودا من مختلف الديانات والأعراق، ولا يقتصر الأمر على المراتب والجنود، بل يتعداه إلى الضباط، فلا يمنع الانتماء الديني من الانضمام إلى الكلية العسكرية العراقية أو كلية الأركان، إلا ما ورد فيه نص قانوني أو تعارفت عليه التقاليد السياسية والاجتماعية، ربما طرح الانتماء الديني للعسكري الأسير عليه سؤالا قلقا عن دوافعه للبقاء في جيش بلد مختلف عن ديانته، ولماذا يضحي من أجل بلد حرمه من بعض حقوقه المدنية والسياسية وخاصة في تبوء المناصب العليا في البلد، من الطبيعي أن يتجاهل المحقق ما يحصل في بلاده، وقد لا يرد مثل هذا التساؤل على ذهن الأسير، وقد يرد وبسرعة انتباهته، ولكنه يُحجم عن طرحه خشية من رد الفعل الانتقامي من الجهة الآسرة، ومع ذلك فإن القليل جدا من أتباع الديانات غير الإسلامية هم الذين سقطوا في حبائل الإيرانيين وكانوا مثالا للثبات في حب العراق.
ثالثا – العامل العرقي، أي التحرك على الأسرى من الأكراد والتركمان، وتحريك خزين الضغائن والنفخ فيها، وهنا قد لا يأخذ بعض الأسرى الأكراد الاستغراب من حرص الإيرانيين المزعوم على أكراد العراق وتركمانه، وهم الذين يسومون الأكراد والبلوش وغيرهم من القوميات التي أُلْحِقت بإيران بقرار الدول الكبرى المنتصرة في الحرب العالمية الأولى، سوء المعاملة والتهميش وحرمانهم من أبسط حقوقهم الثقافية والسياسية.
ولم يكن مدهشاً للإيرانيين، أن العسكريين الأكراد والتركمان كانوا على حصانة وطنية ومبدأية عالية جدا، تسببت لهم بخيبة أمل مريرة وخاصة لدى ضباط الاستخبارات الإيرانية، الذين راهنوا على توظيف هذا العامل لتحقيق مزيد من الاختراق في صفوف الأسرى، بل أن عددا من الضباط الأكراد الأسرى أرغموا على عقد لقاء مع جلال الطالباني في كرمنشاه غربي إيران، وحثهم على التعاون مع الحركة الكردية التي كانت تقاتل ضد العراق مع القوات الإيرانية، ولكن أولئك الضباط الشجعان صدموا الطالباني بموقفهم الوطني الباسل في رفض الخضوع لأي شكل من أشكال الضغوط أو السقوط في مستنقع خيانة الوطن، بل أعربوا عن دهشتهم وصدمتهم لاصطفافه مع الإيرانيين ضد وطنهم العراق.
رابعا – وحشية التعذيب الذي مارسه الإيرانيون مع الأسرى، بل والأسرى الخونة الذين تفوقوا على الإيرانيين في قسوتهم ووحشيتهم، والذي فاق كل ما قرأنا عنه في مدارس التعذيب الذي مارسته جيوش البلدان الآسرة ضد الأسرى، أدت في إحدى مراحل الأسر إلى تسلل الضعف إلى بعض النفوس، من المؤكد أن قابلية التحمل تختلف من إنسان إلى آخر، ولكن النفوس الإيرانية المريضة كانت تمارس التعذيب للتلذذ بعذابات أسرى سقط السلاح من يدهم، ومن بعض الأسرى الذين سقطوا مبكرا، والذين كان يدمرهم كثيرا ويقض مضاجعهم، وجود أسير واحد ثابت على موقفه المبدئي، فيسعى أولئك الساقطون بكل الوسائل لإسقاط بقية الأسرى، وهنا يستذكر الأسرى الصامدون الآية الكريمة (وَدُّواْ لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُواْ فَتَكُونُونَ سَوَاءً)، ويستمدون منها العزم على إحباط مخططات الأعداء.
خامسا – طول فترة الحرب، واستمرار أسر آلاف الأسرى لعدة سنوات بعد توقف اطلاق النار، مما أغلق أبواب الأمل عندهم في الحرية والعودة إلى الوطن، وهذا الانسداد بأفق الحل، مع الرغبة المشروعة في الخروج من جو السجن إلى جو الحرية، دفع ببعض ممن قل زاده وشعر بطول الطريق، لأن يفكر لنفسه بمخرج أو كوة تجلب لهم ريحا قد تغير مجرى حياتهم، ولا يجوز التشكيك بحق كل سجين بأن ينال حريته، ولكن ما هو الثمن الذي عليه أن يدفعه لتحقيق ذلك؟ وهل ينال من سمعته وكرامته شيئا؟ لقد ترافقت مدة الأسر الطويلة مع أمرين، أولهما أن الإيرانيين حجبوا الإعلام عن الأسرى الوطنيين ومنعوهم من التراسل مع أسرهم، وطوقوهم بجو من التعتيم المخطط له، كي تمر رواياتهم على الأسرى بالصورة التي يخطط لها دهاقنة الحرب النفسية، فكانت أحاديث مسؤولي لجنة الأسرى تبث في صفوفهم أنباء مخيفة عن أوضاع العراق الداخلية بعد آب 1990، فكان من بين ما يروج له أولئك المسؤولون أن حجب الإعلام هو لصالحكم، لأنكم إن سمعتم ما تعرض له بلدكم فسوف تصابون بالسرطان، وهذه الوصلة من الحرب النفسية يقع تأثيرها أكثر مما لو كنا نسمع أخبار العراق.
سادسا – تغذية شعور الأسرى بأن بلدهم خذلهم، وركّز الإيرانيون على فكرة أن بلدهم ليس جاداً في حل قضيتهم، لأنه لا يعرف من الذي انحاز إلى إيران ومن هو الذي بقي على ولائه للعراق، وكانوا بين آونة وأخرى يوصلون لنا أنباء عن تبادل جثامين الأسرى الذين توفوا في معسكرات الأسر، ويفتحون فرصا لنقاش بين الأسرى يتركز على أن قضية الأحياء يجب أن تأخذ أولوية لأنهم يفقدون جانبا من صحتهم ومن عمرهم، وبالتالي فإن من المهم أن يصار التركيز على قضية الأسرى الأحياء قبل الأموات، لقد كان هذا الأمر سببا في تململ بعض الأسرى وتذمرهم، ولم يقدّروا ظروف بلدهم الذي كان يواجه مشكلات مركبة من محاور عدة.
سابعا – شوق الأسير لأسرته والقلق عليها ويتساءل عمن رحل ومن بقي منهم على قيد الحياة، أما من كان له أطفال صغار العمر فالمعاناة مرة بكل معنى الكلمة، ولطالما رأينا بعض الأسرى يُخرج صورة أطفاله وتخنقه العبرات الساخنة، وكان لمنع الإيرانيين الأسرى من تبادل الرسائل مع أسرهم دورا في حصول قطيعة قاتلة للإنسان عن محيطه وبيئته دورها في إثارة مزيد من التساؤلات الصامتة والتي يعبر عن بعضها أحيانا بتذمر عالي الصوت عن أسباب وقوعهم في الأسر وربما يتبع ذلك تعبير عن نقمة على قيادة بلدهم بسبب الحرب، لا شك في أن هذه المشاعر الإنسانية جرفت كثيرا من رصيد الصبر من الأسرى، أما الشباب الذين لم يتزوجوا فقد كانت هواجس تقدم العمر بهم وعدم توفر الفرص بعد رحيل قطار العمر على الحصول على زوجة تقبل بهذه القسمة، وهناك قضية تضاف إلى هذه الملفات وهي القدرة المالية ومقدار ما توفر لهم من رصيد مالي لبدء حياة وأسرة جديدة تبدأ من نقطة الصفر، كانت مثل هذه المشاعر تحتاج إلى بطولة خارقة للسيطرة عليها، ولهذا ربما اتخذ بعض الأسرى منها حجة أو سببا لتبرير ضعفهم وخضوعهم لإغراء أو وهم الحرية المستحيلة مع بلد مثل إيران.
ثامنا – الضعف والخوف من الموت في الغربة، كانت حوادث الموت المفاجئ التي تعرض لها بعض الأسرى كفيلة بإثارة مشاعر القلق لدى الجميع، إلا من رحم ربي، ذلك أن الإيرانيين حرصوا على قتل الأسرى بالإهمال الطبي والتجويع، وعدم التقيد بالحدود الدنيا لمتطلبات تعليمات اللجنة الدولية للصليب الأحمر، لم تشهد معسكرات الأسرى المعاقبين زيارات منتظمة أو غيرها من قبل اللجنة، وعندما كان أحد الأسرى يطرح فكرة التسجيل لدى الصليب الأحمر يبادر الإيرانيون إلى القول "معاملتنا لكم إسلامية، وهي أفضل بكثير مما نصت عليه اتفاقية جنيف الثالثة"، لقد عانى الأسرى المعاقبون من تقاعس اللجنة الدولية للصليب الأحمر عن تأدية واجبها تجاههم، وكانت ضعيفة إلى أبعد الحدود مع الجانب الإيراني.
تاسعا – تدني المعنويات بسبب ضعف التربية الوطنية وغياب المبدئية، من الطبيعي أن تتباين بين الأفراد حصائلهم الفكرية والثقافية والسياسية، وأن تنعكس تلك التباينات على طريقة تعاطيهم مع ما يحيط بهم أو يحصل لهم، وقد تأكد خلال فترة الأسر الطويلة بأن كل المقاييس تهاوت أمام اختبارات الرجال، فطالما رأينا فقيرا لم يحصل على أي قسط معرفي أو ثقافي، بقي ثابتا على مواقفه الوطنية وانطلق من تفسير خاص بأنه ليس مستعدا لتقديم رجولته على مذبح رغيد العيش أو بعض الامتيازات العابرة، وهناك من هم من أبناء عائلات معروفة أو حتى أبناء شيوخ عشائر لها قيمها ومواقفها المسجلة لها في تاريخ العراق الحديث، أو ممن كان يحمل رصيدا عاليا من الثقافة والمستوى السياسي والفكري، ممن تهاوت حصونه عند أول ضغط يتعرض له، وهنا يمكن أن يكون المستوى العائلي الذي كانت عليه أسرته والتردي الذي بات فيه، سبباً جوهريا في حالة الضعف التي مر بها بعض الأسرى، نعم لا يوجد مقياس واحد يصلح للقياس عليه في تقدير أسباب الثبات أو الانهيار.
عاشرا – الشعور بالغبن الوظيفي أو السياسي، هناك أحساس لدى بعض الأسرى، أنهم يمتلكون خبرات عالية في مجال اختصاصهم، وأنهم أظهروا جدارة في تبوء مراكز أعلى مما كانوا عليه، ولكنهم استبعدوا لأسباب حزبية أو مناطقية أو عشائرية أو مذهبية، وكانت محاولات النفخ في هذه الانفعالات تنجح حينا وتُخفق أحيانا، ذلك أن العلاقة بالوطن ليست مقايضة منافع، صحيح أن البلدان تتقدم بتبوء كفاءاتها في مواقع قيادة مؤسسات الدولة، ولكن من هو الذي يحدد مستوى الكفاءة والمقدرة؟ هل الفرد نفسه أم هناك معايير يجب اعتمادها لمنح الفرص للإفراد؟ ولا شك أن احساس البعض ومن مقاييس خاصة بالغبن في وطنهم صاروا يعبرون عن نقمتهم بالانحراف عن المسار الوطني.
أحد عشر – إخفاق الاستخبارات العسكرية العراقية في الوصول إلى حقائق كاملة عن أعداد الأسرى وأماكن معسكراتهم، وما يلقونه من وسائل تعذيب وتجويع وإهمال طبي وحرمان من التسجيل لدى الصليب الأحمر الدولي أو تبادل الأسرى، فضلا عن أن الدولة العراقية لم تنجح في عملية إنقاذ واحدة لأي من الأسرى، سواء كان شخصا أو مجموعة أشخاص، كما حصل في معارك كانوا يشاهدون قبل أسرهم أفلامها من شاشة التلفزيون أو في دور السينما، ولهذا ذهب بعض الأسرى في الأيام الأولى للتمني في حصول عملية انقاذ، ولكنهم أصيبوا بخيبة أمل، طبعا هذه الانفعالات والمشاعر هي محض خيال ولا وجود لها إلا في عالم السينما الأمريكية خاصة، وربما في حالات نادرة في الحروب، عندما اجتمعت كل هذه المواضيع مع غيرها صنعت ظرفا تبريريا لمن حاول أن يستمرئ ضعفه بوجه التحديات والمغريات.
لقد حاولت في عرض موضوع الأسرى العراقيين في ايران، وظروف أسرهم النادرة في معسكرات تفتقد أبسط الشروط التي اعتمدتها اللجنة الدولية للصليب الأحمر، أن أكون محايدا قدر ما تسمح به طرق البحث العلمي، ولكن علي أن أعترف أنني لم استطع أن أكون مثل زنجي يشاهد ذبح أبناء جلدته في مدن أخرى ويصمت إيثارا للسلامة، ثم إنني أمضيت في الأسر عشرين عاما إلا شهرين من دون أن أرى وجه اللجنة الدولية للصليب الأحمر بل من دون أن أتبادل الرسائل مع أسرتي، ولم يكن أحد من أهلي يعرف عني شيئا وعما إذا كنت أسيراً أم مفقودا كما تم تدوينه في الوثائق الرسمية العراقية، لهذا فمن غير الممكن أن أتجرد عن مشاعري الإنسانية وأكتب بتجرد كامل، وأترك الحياد في العرض لغيري من الباحثين.
خلاصة ما أريد قوله في هذا البحث إننا مطالبون من باحثين وكتاب أو مؤسسات بحثية، أن يتم تناول موضوع الأسرى وما رافق هذا الملف من تقلبات وتحديات ومآسٍ إنسانية، قبل أن يطوي الزمن أحداثها، وسط هذا المتراكم من التزييف والتزوير.

   

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

1200 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع