مقال لاهوتي ـــ روحي ـــ انساني

                                                      

                          القس لوسيان جميل

مقال لاهوتي ـــ روحي ـــ انساني

فكرة مختصرة عن العنوان: قبل ايام من الآن كنت استنسخ بعض الصور لأطفال أقاربي من على صفحة الفيسبوك. في اثناء ذلك لمحت كتابة ناعمة بها تناجي طفلة صغيرة ربها وتقول: يا رب احفظ بابا وماما، ثم تردف بصفائها الطفولي وتقول: يا رب! خلي بالك مـن نفسك! اي يا رب! انتبه الى نفسك. وبما ان هذا الكلام اكبر من ان يأتي على لسان طفلة صغيرة، فاني افترض ان احد الأقارب الكبار هو الذي وضع مثل هذا الكلام على لسان تلك الطفلة التي سماها الكاتب " بنوتة ". ومع ذلك يبقى مثل هذا الكلام مدهشا حقا لما يحتويه من عمق المعاني الانسانية واللاهوتية الرائعة، سواء فطن الكاتب لكل معاني صلاة تلك الطفلة البسيطة، ام لم يفطن الا الى بعض منها.

ولكن، مهما يكن من أمر فقد ادهشتني هذه العبارة الجميلة حقا، ولذلك قررت، حال انتهائي من قراءتها، ان اضعها عنوانا لمقال جديد، اقدمه هدية مـن طفل بعمر ست وسبعين سنة، الى احبتي القراء، لأن هذا الطفل بعد ان يضع عقل الكبار جانبا، وان بشكل مؤقت، وبعد استئذان من كاتب تلك الكلمات الرائعة التي قرأها على صفحة الفيسبوك، يريد ان يناجي هو الآخر الهه ويقول له: يا رب احفظ بلادي وأمتي، ثم يضيف هو الآخر ويقول: يا رب خلي بالك من نفسك.

اما الآن فان ذلك الطفل الذي كان بعمر 76 سنة هو الآن بعمر يزيد قليلا عن ست وثمانين سنة، وبوده ان يقدم ذلك المقال الى احبائه كلهم في العراق وخارج العراق، ليس عن طريق الفيس بوك، وانما عن طريق مجلة الكاردينيا الميمونة المحبوبة. فالى حضرات القراء تلك المقالة

الطفولة الجسدية والطفولة الروحية: غير اني وقبل ان ابدأ بإلقاء بعض الضوء على ما جاء في المقدمة اعلاه، ودرءا لأي التباس، علي ان اميز أولا بين طفولة وطفولة. فهناك الطفولة الجسدية التي لا تعنينا هنا كثيرا، لكن هناك طفولة أخرى تسمى الطفولة الروحية والتي سوف يدور غالبية كلامنا عنها في هذا المقال. فما هي هذه الطفولة الروحية يا ترى؟

حقيقة الطفولة الروحية: ولكن قبل ان ابين الفرق بين الطفولة الجسدية والطفولة الروحية اريد من الآن ان اقول للقارئ الكريم ان الطفولة الروحية هي غير السذاجة، ولا علاقة لها بالجهل ونقص العقل، كما انها تختلف عن الطفولة بالجسد كثيرا. فنحن في الحقيقة لا نجد الطفولة الروحية الا عند البالغين، في حين تكون الطفولة الجسدية مرحلة عمرية خاصة بكل اطفال العالم. وعليه نؤكد على وجود فارق كبير بين الطفولتين، لكي تبقى العلاقة بينهما مجرد علاقة تماثلية Analogique تكون الطفولة الجسدية فيها " رمزا " للطفولة الروحية، فيما يخص بعض الأمور الانسانية المهمة.

علاقة الطفولة الروحية بالطفولة الجسدية: اما سبب وجود مثل هذه العلاقة الرمزية بين الطفولة الجسدية والطفولة الروحية فيعود الى ان اطفال البشر، يبقون على مستوى المشاعر البسيطة، بسبب عدم اكتمال القدرات العقلية عندهم، لذلك لا يلجئون الى الحسابات العقلية كثيرا، ولا يهتمون كثيرا بهذه الحسابات، وهو الأمر الذي يحدث ايضا، بقدر او بآخر، لدى بعض البالغين الذين تنطبق عليهم صفة الطفولة الروحية. ذلك ان لمثل هؤلاء البالغين عقلا مكتملا وناضجا، وهم قد يستخدمون هذا العقل استخداما كاملا في الأمور الموضوعية الصرف، في حين يستسلمون " كالأطفال " لمشاعر الحق والخير والجمال، وبشكل اكثر تحديدا، هم يستسلمون لمشاعر العدل والمحبة وكل ما يتعلق بهما، في حياتهم الاجتماعية، دون اكتراث بحسابات الربح والخسارة المادية، لا بل يمكن مشاهدة كثير من " المجانية " الناتجة عن حب، في مثل حياة هؤلاء الأطفال بالروح، هؤلاء الأطفال الذين عنهم قال السيد المسيح: دعوا الأطفال يأتون الي فان لمثل هؤلاء الأطفال ملكوت السماوات ( ملكوت الله، هو العهد الجديد )، ولمثل هؤلاء الأطفال بالروح تقول الأدبيات الاسلامية ان الأطفال احباب الله، الأمر الذي يجعلنا ان نفهم بأن الطفولة الجسدية هنا ليست سوى كنية ورمز للطفولة الروحية.

الطفولة الروحية حكمة وليست سذاجة : ولذلك نقول ايضا ان الطفولة الروحية هي غير السذاجة تماما، كما انها تختلف كثيرا عن الجهالة التي نراها عند الأطفال. فالسذاجة في الحقيقة تعني بساطة التفكير وسطحيته، في امور كان يجب ان يعرفها الانسان في عمر معين وفي مجتمع بذاته، لكي لا يحسب كل ما هو مدعبل جوزا ولا كل ما يلمع ذهبا، في حين تكون الطفولة الروحية حكمة حقيقية وإحساس مشاعري بكل ما هو حق وخير وجمال، وبكل ما يتعلق بهذه المقولات الانسانية من تفاصيل. ولذلك ايضا لا نرى تناقضا بين الكهولة، وحتى بين الشيخوخة، وبين الطفولة الروحية، الأمر الذي يجعلنا نرى في صلاة الفتاة المذكورة حكمة عميقة تفوق حكمة كثير من الفلاسفة.

الهنا كما يظهر لنا: غير اننا، وكما لا نجد تناقضا بين ان يكون الانسان صغيرا في سنه وعميقا في صفاء قلبه، او يكون الانسان شيخا من حيث عمره وطفلا صغيرا من حيث مشاعره الصافية النظيفة، هكذا ايضا لا نجد تناقضا بين ان نخاطب الله بكل ما نعرف عنه من صفات السمو والعظمة والقوة وبين ان نخاطبه، من منظور آخر، كحقيقة ضعيفة رقيقة نخاف عليها من قبح العالم، بسبب ما يمكن ان يحصل لهذه الحقيقة المطلقة في ذاتها In se والنسبية في ظهورها للعالم، من تشويه في اعين البشر الذين يغلب عليهم الشر، كما هو معروف في كل الأديان.

نتيجة الفقرة اعلاه: اذن بعد كل ما اتينا الى ذكره، لن نتعجب ان تكون هناك طفلة بحكمة الكبار ترى نفسها مدفوعة لتقول لربها: يا رب! خلي بالك من نفسك، اي انتبه الى نفسك من تشويه العالم لوجهك المقدس، كما لا نعجب من قسيس مسن، يصلي هو الآخر ويقول لربه: يا رب ! خلي بالك من نفسك، وهو لا يخشى من اي تناقض يقع فيه بسبب ما يقوله، طالما انه يعرف معرفة لاهوتية علمية ان الانسان يمكن ان ينظر الى الله من منظورين مختلفين: منظور الله بذاته والذي لا حدود لعظمته، ومنظور الله، كما يبدو لنا نحن البشر في عالمنا الانساني، فنراه حينا بقدسيته وجلاله، ونراه حينا آخر، ضعيفا امام خطايا البشر، ونخاف عليه من شرورهم، لأن الانسان يمكنه، من خلال اعماله، ان يعكس لنا وجه الله الحسن، كما يمكنه ان يعكس لنا وجه الشيطان، او على اقل تقدير، لا يعكس لنا اي وجه يفيد حياتنا الانسانية، هذا اذا لم يتحول وجه بعض البشر، او بعض المجتمعات، الى حاجز يحجز ما بين البشر وبين الههم، وما بينهم وما بين الفضائل الانسانية الأساسية المعروفة: الحق والخير والجمال، حتى تصح في كثير من هؤلاء الناس كلمة السيد المسيح الذي قال: الويل لمن تأتي على يده الشكوك ( العثرات )، كان خيرا له لو علق في رقبته حجر الرحى وزج في اعماق البحر.

سبب الظاهرة المذكورة: اما السبب الحقيقي للظاهرة المذكورة فلا يعود الى قدرة الله نفسه، بأي منظور، ومن خلال اية منهجية لاهوتية، نظرنا اليه، وإنما يعود الى القدرات الانسانية المحدودة بالحواس وبالمشاعر الانسانية، هذه الحواس والمشاعر التي تجعل من اية معرفة، معرفة نسبية، تعود الى نسبية الحواس او المشاعر الانسانية نفسها، حتى لو كان موضوع معرفتنا هو الله نفسه.

الانسان تجاه الحقائق الروحية الالهية: وبما ان معرفة الانسان لا تتم الا عن طريق الحواس والمشاعر الانسانية، فلا يبقى للإنسان من سبيل الى معرفة الحقائق الروحية والإلهية غير سبيل العالم الطبيعي وعالم الانسان وعالم المجتمع، لأن مثل هذا العالم الطبيعي لا يتجاوز حدود مقدرة الانسان، لا بل ان مثل هذا السبيل يشكل بيئة الانسان المعرفية الطبيعية، حيث تلتقي المادة بالروح عن طريق الانسان، الأمر الذي يجعلنا نؤكد بأن الانسان لا يستطيع ان يعرف الحقائق الروحية الالهية والإنسانية، الا من خلال وجهها البشري المادي النسبي، اي من خلال وجهها كما يبدو لنا نحن البشر، كما تقول بذلك اية دراسة انثروبولوجية للإنسان.

عودة الى عنوان المقال: وعليه، يتوجب علينا ان لا نتعجب عندما يتكلم اللاهوتيون عن قوة الله وضعفه، كما يبدو لنا في عالمنا الانساني، كما لا يجوز لنا ان نتعجب من طفلة صغيرة او من قسيس كبير في السن يصليان ويقولان لله: يا رب! خلي بالك من نفسك، اي احذر الأبعاد الانسانية التي لا تعطي انطباعا ايجابيا عن وجهك، لاسيما وأن علم الانسان يقول ان هذه الصلاة الجميلة لا تتوجه الى الرب نفسه، بقدر ما تتوجه الى الانسان وتقول له: ايها الانسان عليك ان تميز بين العالم الخير الذي يعكس وجه الله الجميل، وبين وجه العالم الذي لا يعكس لك سوى وجهه البشري بخطاياه وجرائمه وأعماله الشيطانية.

ملاحظة مهمة: وهنا اود ان اعلم القارئ الكريم بأني كنت قد وضعت افكارا لاهوتية وفلسفية وعلمية انثروبولوجية موسعة قليلا، لشرح ظاهرة حضور الله بيننا، وطريقة هذا الظهور، الا اني عدلت عن هذه الأفكار التي خفت ان اقدمها للقراء الكرام لصعوبتها، واكتفيت بأن اقول بأن قدر الله هو ان يتصل مع عالمنا من خلال مادة هذا العالم، اي من خلال الطبيعة والإنسان الفرد والمجتمع، كما ان قدر الانسان، هو الا يعرف الهه، بأي قدر كان من المعرفة، الا من خلال نسبية العالم والإنسان، سواء كان فردا ام مجتمعا، الأمر الذي يجعلنا نؤكد بأن حقيقة وجه الله تظهر للإنسان بشكل اصفى وأوضح كلما كانت الطبيعة التي تحيط بالإنسان اجمل وارق، وكلما كان الانسان، سواء كان فردا او جماعة اكثر قربا ( اقرب ) من مفاهيم الحق والخير والجمال، لأن الشجرة تعرف من ثمارها.

الله والإنسان: ولذلك ايضا لا نتعجب عندما يساعد الصلاح الذي نجده عند بعض البشر على تمجيد اسم الله، في حين تؤثر سيرة الانسان السيئة تأثيرا بليغا على القيم وعلى الأديان، وبالتالي تؤثر تأثيرا سلبيا، على الخالق نفسه، دون ان يمس ذلك الذات الالهية طبعا. لذلك لن نتعجب من غاندي محرر الهند عندما يصرح لجماعات مسيحية بقوله: احب مسيحكم، لكني لا احب مسيحيتكم، عندما نعرف ان هؤلاء الانكليز، الذين كانوا ينتسبون الى المسيحية، بطشوا بالشعب الهندي وبمحرريه، ومنهم المهاتما غاندي، وساموهم مر العذاب. لذلك نتساءل معا ونقول: ترى الم يكن جور الإقطاع في اوربا وظلمه المسبب الأكبر في الالحاد الذي جاءت به الثورة الفرنسية والإلحاد الذي جاءت به الماركسية فيما بعد؟ نعم لقد كان كذلك، وذلك بسبب العلاقة الوطيدة بين وجه العالم الذي يبنيه البشر ووجه الله.

رؤيا روحية من سفر التكوين: وهنا، وزيادة في توضيح ما اذهب اليه، ربما يكون من المفيد ان نستعين بقصة وبرؤيا لاهوتية رمزية، تقول ان الله خلق كل شيء في خمسة ايام، على حد تعبير سفر التكوين الرمزي الذي لا يعود الى التاريخ بل الى ما يشبه التاريخ حسب Para historique، حيث يقول النص الرمزي بعد خلق كل مفردة من مفردات العالم بأن الله رأى ذلك حسنا. اما في اليوم السادس الرمزي ايضا، فقد خلق الله الانسان بشكل متميز وبأحسن تقويم، عندما خلقه على صورته وعلى مثاله. وهكذا يدل عالمنا الجميل على عظمة وقدرة خالقه، سواء كان ذلك في المنهجية اللاهوتية التقليدية ام في المنهجيات اللاهوتية التوفيقية المعاصرة، في حين يعكس وجه الانسان، بهاء الله وجماله، فضلا عن قدرته وعظمته، الأمر الذي يحمل الانسان مسؤولية المحافظة على عالمه وعلى بيئته، وبشكل خاص على وجهه النقي، كما خرج من بين ايدي الله ( لغة مجازية طبعا ).

عالم النعمة وعالم الخطيئة: غير ان قصة السقطة الاولى اللاهوتية والرمزية ايضا، تريد ان تقول لنا ان الانسان لم يستطع المحافظة لا على صورته الأصيلة ولا على صورة مجتمعه ولا على بيئته، وإنما خرب كل هذه الصور بخطيئته، مع دعوة اخرى للإنسان نجدها في كامل الكتاب المقدس، تطلب من الانسان، متكلا على عون الله، ان يصلح يوما بعد يوم ما كان قد افسده بخطيئته، لكي يعود العالم والإنسان ومن ثم المجتمع البشري الى نقائهم الأصلي من جديد. وهكذا نستنتج بأنه كلما نجح البشر في اصلاح وجه عالمهم ووجه انسانهم ووجه مجتمعهم، كلما ساهموا في ان يكون وجه الله وحضوره بين البشر اكثر اشراقا وفاعلية.

لكن، مع الأسف، يبدو ان مشوهي وجه العالم المادي والإنساني هم اكثر من مصلحيه، الأمر الذي يؤثر على قدسية وجه الله كثيرا، كما يؤثر سلبا على كل القيم الانسانية التي داسها الشياطين بأرجلهم الشريرة. ولذلك لم يعد يعكس عالمنا اليوم، في زمننا الفاسد، حتى في كنائسنا وفي جوامعنا وجه الهنا النقي الصافي، بعد ان افسد الشياطين الكبار، وبمشاركة فعالة من الشياطين الصغار، وجه عالمنا الجميل وحولوه الى عالم لا يصلح الا لسكنى الشياطين، ولاسيما في ايامنا، وتحديدا في عراقنا وفي عالمنا العربي، بعد ان اعلن شيطان العالم الكبير الحرب على العراق، تحت يافطة جهنمية سماها بالفوضى الخلاقة، وبعد ان وجدنا خلفه سائرا في الطريق الشرير الشيطاني عينه، مواصلا عمل سلفه الفوضوي القاتل ومستمرا في نهب ثروات العراق، ولاسيما ثرواته النفطية منها، مثل اي لص شرير، وطامعا في ثروات سائر الدول العربية، وضالعا في تعميم الفوضى الخلاقة المأساوية على الوطن العربي بأسره، مع حرس شرير واضح على استمرار احتلال العراق بطرق غير مشروعة وملتوية واجرامية، لا تختلف عن الاحتلال كثيرا. وبما ان كل ذلك يؤثر سلبا على وجه الله، كما يبدو لنا من خلال عالمنا فإننا نرى تلك البنوتة الصغيرة محقة كثيرا عندما قالت: يا رب خلي بالك من نفسك.

الخاتمة: وبعد.. لم نعد نملك في هذه الخاتمة سوى ان نوجه كلامنا الى جميع اشرار العالم ونخاطبهم، كما خاطب الله في سفر التكوين قائين قاتل اخيه هابيل قائلا له: قائين! قائين! ماذا فعلت بأخيك هابيل؟ ونحن نوجه كلامنا الى اقوياء العالم بنبرة ملؤها الألم والحزن ونقول لهم: ترى ماذا فعلتم بإخوتكم البشر، يا اقوياء العالم، وماذا فعلتم بعالمكم، وماذا فعلتم بوصاياي العشر وبالأخلاق الحسنة، وماذا فعلتم بالحق والعدل والمحبة، وماذا فعلتم بالإنسان وبحقوقه؟ ولكن السؤال الأخير لن نوجهه نحن لكم، لكن يوجهه لكم الله نفسه، الغيور على اسمه وعلى وجهه وعلى سمعته ويقول لكم: ترى ماذا فعلتم باسمي المقدس ايها الأشرار؟ ترى اما تعلمون ان كل ما فعلتم من شر بإخوتكم الصغار ( ضعفاء العالم ) فبي قد فعلتموه؟

القس لوسيان جميل

تلكيف – محافظة نينوى – العراق

18-7-2011

   

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

1722 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع