بقلم أحمد فخري
قصة قصيرة من وحي الواقع (قضية فكتوريا) -الجزء الاول
12/2/1990 جنوب افريقيا
في صبيحة اليوم الثاني بعد خروج البطل القومي نيلسون مانديلا من السجن اثر حبس دام 27 سنة.
خرجت فكتوريا من كوخها الصغير الكائن في عشوائيات سانتيني بمدينة كيب تاون وهي في غاية التوتر تعاني من الام شديدة. طرقت باب جارتها ففتحت لها وقالت،
ليراتو : كيف حالك الآن يا فكتوريا؟ هل تحسن حالك على وصفتي؟
فكتوريا : ابداً يا جارتي ابداً، لقد عملت بالضبط مثل ما قلتِ بالامس، غليت البصل ووضعت فيه الشعير ثم شربته لكن حالي لم يتحسن والالام مازالت شديدة. ماذا اعمل؟
ليراتو : لماذا لا تذهبين لزيارة زوموبو؟
فكتوريا : الساحر زوموبو؟ هل جننت يا ليراتو ؟ هو لا يعمل شيئاً سوى التعويذات والرقص من حولي ونفث رذاذ الماء من فمه على رأسي. انا لا أءمن به ابداً.
ليراتو : وماذا عن زوجك، هل عاد للدار؟
فكتوريا : كلا، لقد خرج قبل يومين ولم يعد بعد. اراد ان يشارك بالاحتفال بخروج نيلسون مانديلا من سجنه لانهم اقاموا له مسيرة كبيراً في ليسوثو واراد ان يكون مع الحشد الذي استقبلوه وقت خروجه من السجن.
ليراتو : ولكن كيف ذهب الى هناك فالمواصلات مكلفة جداً؟
فكتوريا : لقد تبرعت الكنيسة بشاحنة كبيرة اقلت فيها كل من اراد المشاركة بالاحتفال.
ليراتو : هل تعتقدين ان مانيدلا قد يصبح رئيساً للدولة؟
فكتوريا : هذا ما نأمله جميعاً يا ليراتو ولكن الرئيس الحالي سوف لن يتنحى من اجل مانديلا لانه هو الذي زجه بالسجن قبل 27 عاماً وهو من المؤيدين للميز العنصري (ابارثايد). والآن ماذا عن مشكلتي؟ ماذا اعمل يا ليراتو؟ انصحيني، انا اتألم.
ليراتو : إذا كنت لا تستحملين الالم فبامكانك ان تستشيري الدكتور سيو امالي.
فكتوريا : ومن اين لي باجرة هذا الدكتور؟
ليراتو : الدكتور سيو امالي رجل ابيض لكنه طيب القلب ولا يطلب المال مقابل استشاراته. تخيلي عزيزتي، يأتي الى العشوائيات الفقيرة ويقابل كل من يشاء مقابلته مجاناً. واحياناً يعطي الدواء من عنده. بامكانك زيارته اليوم لانه سيأتي بعد انتهاء عمله على الساعة الرابعة بعد الظهر في ساحة الصفيح.
فكتوريا : لكنني اخاف ان اذهب وحدي الى ساحة الصفيح فنسبة الجرائم هناك كبيرة، فهم يقولون ان هناك سلب وضرب وقتل.
ليراتو : ليس لديك حل آخر يا فكتوريا. زوجك غائبٌ وانت تتألمين كثيراً. بامكانك ترك ثابيسا عندي، ساعتني انا بها حتى تعودي.
فكتوريا : اذاً، ساتي اليك مع الساعة الثالثة واعطيك ثابيسا. ساقوم بارضاعها قبل ان اغادر كي لا تجوع عندك.
ليراتو : الا زلت ترضعيها من ثديك؟
فكتوريا : اجل لانها مازالت 13 شهراً.
رجعت فكتوريا الى بيتها وصارت تغسل ابنتها بالماء البارد وتعدها كي تسلمها لجارتها ليراتو. عند الساعة الثالثة خرجت فكتوريا واقفلت الباب خلفها ثم اعطت طفلتها لجارتها كي تذهب لساحة الصفيح. في الطريق الى هناك لاحظت الرجال ينظرون اليها بنهم شديد فهي جميلة جداً كما يخبرها الجميع لانها من اب ابيض وام سوداء لذلك اصبحت لها تقاطيع جذابة ووجه جميل مطعم بالعيون العسلية الكبيرة. كانت جميع النساء يكرهنها بسبب غيرتهم منها. اما الرجال فيكرهونها لانها اجمل من زوجاتهم.
فكتوريا شيزا
وقفت فكتوريا امام مقهى شعبي وسألتهم، "اين اجد الدكتور سيو امالي؟". هب الجميع يتسابقون لمساعدتها. جائها احد الرجال المسنين وقال لها، "استمري بسيرك الى الامام حتى تصلي الى بيت من صفيح غطائه العلوي ازرق فهو الكوخ الذي يجلس فيه د.سيو امالي". سارت فكتوريا كما قال لها الرجل المسنن حتى وصلت الى الكوخ ذو الغطاء الازرق فوجدت الكثير من الرجال والنساء يقفون بطابور طويل خارج الكوخ فوقفت معهم. بقي الطابور يسير ببطئ شديد حتى وصلها الدور فنظرت اليه واذا به رجل ابيض نحيف البنية يجلسُ على كرسي خشبي. سألها،
سيو امالي : ما الامر؟ مما تشكين؟
فكتوريا : السلام عليك يا دكتور. انا اعاني من الم شديد في بطني ولا اعلم السبب.
سيو امالي : اولاً انا لست طبيباً بل انا ممرضاً، اءتي الى هنا بشكل طوعي كي اساعد الناس. ثانياً اريدك ان تدليني الى مكان الالم.
فكتوريا : انه هنا بمنطقة البطن الى ناحية اليمين.
سيو امالي : رجائاً اخلعي ملابسك واستلقي على سرير الفحص.
عملت فكتوريا مثلما طلب منها وصار يضغط باصبعه على بطنها ثم يرفع يده بسرعة وعندما وصل الى المكان الحساس صرخت وقالت،
فكتوريا : أي، هذا هو المكان يا سيدي. انه يؤلمني كثيراً.
سيو امالي : طيب، ارتدي ملابسك ثانية لو سمحت واجلسي لنتحدث.
فعلت مثلما طلب منها وجلست امامه على الكرسي.
سيو امالي : الالم الذي في بطنك بامكانه ان يكون حصاة بالمرارة او يكون هناك احتمالات اخرى. ليس من السهل علي تشخيصها او تحديد موقع المشكلة بالضبط دون ان تعملي بعض الفحوصات والاشعات. هل تستطيعين ان تذهبي الى مشفى نيو سوميرسيت.
فكتوريا : اين يقع هذه المشفى يا دكتور؟
سيو امالي : في حارة النقطة الخضراء. هي من افضل واقدم المشافي في كيب تاون اسست عام 1864.
فكتوريا : هل هي حصراً للبيض سيدي؟
سيو امالي : اجل، لكنني اعرف احد الاطباء البيض هناك. اسمه دكتور جونيور دانيالز وهو انسان طيب القلب ويحب عمل الخير سيقوم بفحصك وعلاجك هناك مجاناً.
فكتوريا : هل لك ان تكتب لي العنوان يا دكتور؟
كتب العنوان على قصاصة ورقية واعطاها لها فامسكتها بالمقلوب. نظر اليها وسأل،
سيو امالي : الا تجيدين القرائة والكتابة؟
فكتوريا : كلا سيدي. لكنني ساعرض العنوان على الناس كي يدلوني عليه. ساذهب الى هناك الآن.
سيو امالي : لا، لا تذهبي اليوم فهو غير موجود بالمشفى. بامكانك زيارته غداً الساعة السادسة مساءاً.
فكتوريا : ولكن ذلك سيكون وقتاً متأخراً.
سيو امالي : بصراحة هذا كل ما استطيع تقديمه لك. القرار راجع لك. وهناك امر مهم جداً ايضاً. يجب ان لا تخبري احد بامر المشفى لان الجميع سيطلب مني تحويله الى هناك. ارجوك ابقي ذلك سراً بيننا.
فكتوريا : ثق بي يا دكتور، سوف لن ابوح به لاحد. ساذهب اليه غداً سيراً على الاقدام.
سيو امالي : لا، الطريق بعيد جداً من هنا. لا تستطيعين السير كل هذه المسافة خصوصاً وانت بحالتك المرضية هذه. اركبي الحافلة المخصصة للسود. وعندما تصلين هناك اسألي على د.جونيور دانيالز. سلميه هذ الورقة.
قام باعطائها ورقة ثانية كتب عليها جملة واعطاها لها ثم وضع يده في جيبه ومد لها بعض النقود وقال،
سيو امالي : ستحتاجين الى هذا المبلغ للمواصلات.
فكتوريا : شكراً لك يا دكتور، بارك الله فيك فانت ملاك، سيكافئك الرب على فعل الخير.
خرجت فكتوريا سعيدة جداً بما حققت ينتابها الامل بالشفاء. رجعت الى منزل جارتها وطرقت الباب ففتحت لها ليراتو وسألت،
ليراتو : ماذا حصل؟ هل عالجك د.سيو امالي؟
فكتوريا : لا، انه ليس دكتوراً بل ممرض. قام بفحصي فقط وقال انني يجب ان اعمل فحوصات اخرى بمشفى اسمها نيو سوميرسيت.
ليراتو : هل المشفى للسود؟
فكتوريا : كلا انها للبيض. لكن الطبيب الذي سازوره هناك يعتبر انساناً طيباً ولا يهمه لون البشرة. سيعالجني بالمجان.
ليراتو : كم انت محظوظة يا فكتوريا. هل تريدين ان اتي معك؟
فكتوريا : ومن الذي سيعتني بثابيسا؟ لا يا عزيزتي. انا ساذهب وحدي. ولكن انتبهي يا ليراتو، طلب مني الطبيب ان لا اخبر احداً بموضوع المشفى فهو يريد ان يسدي لي المعروف فقط بسبب حالتي الخاصة.
ليراتو : اطمئني حبيبتي سوف لن اخبر احداً.
اخذت ابنتها من يد جارتها ورجعت منزلها كي ترضعها وتعد لنفسها الطعام. باليوم التالي استيقظت فكتوريا مبكرة وقامت بمهام المنزل ثم ربطت خرقة على بطنها ووضعت ابنتها بداخل الخرقة ثم ربطتها عليها وخرجت كي تحضر الماء من الحنفية التي بآخر الحي. هناك وجدت طابوراً طويلاً من نساء الحي يملأن حاوياتهن البلاستيكية فوقفت بآخر الطابور. بعد ما يقرب من نصف ساعة وصلت للحنفية وصارت تملاً حاويتها ذات العشرة التار لكن الحنفية كانت تعطي الماء ببطئ شديد. بقيت واقفة حتى امتلأت حاويتها وعادت وحملت ابنتها على ظهرها واضعةً الماء الثقيل فوق رأسها لترجع به الى المنزل. بعد ان تناولت وجبة الغداء وانتهت من غسل ابنتها بالماء البارد، ارضعتها ثم حملتها وخرجت من جديد لتسلمها لجارتها وتنطلق نحو موقف الحافلات. بقيت تنتظر نصف ساعة حتى جائت حافلة السود فركبتها وجلست بالمؤخرة. سارت الحافلة ببطئ شديد حتى وصلت الى المحطة. نادى السائق قائلاً، "مشفى نيو سوميرسيت". نزلت فكتوريا من الحافلة فوجدت امامها مبنىً كبيراً جداً. دخلته من الباب الرئيسي فقابلها حارس ابيض وسألها،
الحارس : الى اين انت ذاهبة؟
فكتوريا : انا ذاهبة لاقابل طبيب عندكم اسمه د.جونيور دانيالز.
الحارس : لكن السود ممنوعون من الدخول بهذه المشفى. ارجعي من حيث اتيتِ هيا.
فكتوريا : ارجوك سيدي اتصل به واخبره باسمي. فانه يعلم انني سأتي اليوم كي يجري لي بعض الفحوصات.
الحارس : قلت لك اذهبي ايتها (الكافير).
فكتوريا : لقد جئت من مسافة بعيدة والطبيب لديه علم بمجيئي. ارجوك اتصل به واسأله.
تركها واقفة هناك دون ان يطلب منها الانتظار، دخل الى صندوقه وتكلم بالهاتف ثم عاد وقال،
الحارس : ادخلي الى قاعة المشفى الرئيسية واسألي الممرضة على د.جونيور دانيالز. هذه آخر ما رأيت بحياتي، كافير قذرة تدخل مشفى للبشر. كان الاجدر بك ان تذهبي الى مشفى للطب البيطري.
دخلت فكتوريا قاعة المشفى الرئيسية فقابلتها ممرضة بيضاء قالت لها،
الممرضة : الى اين؟ هل تهت الطريق؟ ليس لدينا علف.
فكتوريا : جئت لاقابل د.جونيور دانيالز. هو لديه علم بمجيئي.
اختفت الممرضة دون ان تقول شيءً. وبعد نصف ساعة عادت وقالت، امشي بهذا الاتجاه وعندما ترين يافطة كتب عليها العيادة الخارجية. ادخليها فستجدين الدكتور...
قاطعتها فكتوريا قائلةً،
فكتوريا : لكنني لا اجيد القرائة سيدتي فكيف ساقرأ اليافطة؟
فكتوريا : كم انت غبية ايتها الكافير السوداء. اسئلي هناك وسوف يدلوك عليها. هيا.
سارت فكتوريا بممرات وردهات المشفى وهي لا تعلم اين تجد اليافطة التي ذكرتها. حتى اقبل عليها ممرض اسمر يبدو عليه انه اسيوي وسألها،
الممرض : هل انتِ فكتوريا؟
فكتوريا : اجل، اجل انا فيكتوريا. لقد تعبت حتى وصلت اليكم.
الممرض : تعالي معي ساخذك الى دكتور جونيور دانيالز فهو ينتظرك.
فكتوريا : شكراً لك يا اخي.
ادخلها غرفة صغيرة وطلب منها ان تزيل ملابسها جميعاً مع الابقاء على الملابس الداخلية. خلعت ملابسها في غرفة التبديل وخرجت تحاول ان تغطي جسدها بيديها. رأت نفسها بقاعة جدرانها وارضها وسقفها ابيض. طلب منها ان تستلقي على ظهرها فوق سرير معدني فاستلقت فقام بحقنها بابرة وما هي الى ثواني وغابت عن الوعي. بعد فترة من الزمن فتحت عينيها لتجد نفسها عارية تماماً ربي كما خلقتني بمكان مهجور مظلم محاطة بتلالِ من الفضلات والقاذورات. شعرت ببرد شديد فرفعت رأسها ونظرت حولها كي تحاول ان تفتش عن ملابسها دون جدوى. حملت علبة كارتونية كبيرة نتنة غطت بها عورتها وصارت تتفقد المكان. "يا الهي، اين انا؟ من الذي جاء بي الى هنا؟ هل انا احلم؟ متى جئت الى هنا؟ ولماذا انا بين كل هذه القاذورات؟ اين ابنتي ثابيسا؟ يجب عليّ ان اذهب اليها وارضعها. كم الساعة الآن؟ كيف ساعود؟ اذكر انني ذهبت الى المشفى لكنني لا اذكر ماذا وقع لي بعد ذلك. سارت قليلاً حتى وصلت الى شارع مظلم وراحت تنظر الى المحال التجارية المغلقة حتى اوقفها شرطي اسيوي وسألها،
الشرطي : ما هذا؟ ماذا تفعلين هنا؟ اين ملابسك؟ لماذا ترتدين صندوقاً كارتونياً على جسدك.
فكتوريا : لا اعلم يا اخي. لقد بعثوني الى مشفى يدعى نيو سوميرسيت ليعالجوني فيه. وهناك قصدت طبيباً كي يفحصني من الآلام التي اعاني منها. لكنني لا اذكر ماذا وقع لي بعد ذلك.
الشرطي : انا لم اسمع بهذا المشفى. هل لديك عنوانه؟
فكتوريا : كان لدي العنوان مكتوب على قصاصة ورقية لكنهم اخذوه مني. فتحت عيني فوجدت نفسي بمكب للنفايات.
الشرطي : انا اعمل شرطي بليسوثو منذ 10 اعوام ولم اسمع بمثل هذا المشفى هنا.
فكتوريا : اي ليسوثو هذه؟ المشفى بمدينة كيب تاون وانا اسكن بمدينة كيب تاون ايضاً.
الشرطي : يا الهي. ما الذي يحدث هنا؟ اسمعي مني، انا اسمي العريف حسن جادالله. تعالي معي يا اختي. يبدو ان شخصاً ما قد استغلك. ادخلي معي بمركز الشرطة الذي اعمل به هذا وساحاول ان اجد لك بعض الملابس.
ادخلها المركز وقادها الى مكتبه فجلست على الكرسي وطلب منها ان تنتظره بعض الشيء. بعد نصف ساعة عاد وبيده ملابس رجالية قال،
حسن : هذا كل ما عثرت عليه. ادخلي الحمام هناك واغتسلي من القاذورات العالقة بجسدك ثم البسي هذه الملابس. ربما هي كبيرة بعض الشيء لكنها ستستر عورتك يا اختي. بعد ذلك ساقوم بتدوين تقرير بحالتك.
دخلت الحمام وتطلعت بالمرآة فرأت الكثير من الكدمات والجروح على وجهها وجسدها. لاحظت آثار عضات بشرية معلمة بالاسنان على ثديها. صارت تغتسل وتبكي فاختلطت دموعها بالماء الذي تسكبه على وجهها. وعندما همت بغسل فرجها احست بوجود آثار لسائل منوي بفرجها فعلمت يقيناً انها قد اغتصبت. لما فرغت من الاغتسال وجففت نفسها بالمنشفة. لبست القميص والسروال الرجالي الذي اعطي اليها ثم ربطت القميص على خصرها لانه كان اكبر بكثير من خصرها. خرجت من الحمام فرأت العريف حسن يبتسم بوجهها ويقول،
حسن : لقد اعددت لك الشاي اجلسي واشربيه وساحضر لك شطيرة كي تأكليها.
فكتوريا : لا ارجوك. يجب ان اعود الى بيتي فابنتي رضيعة، هي لا بد ان تكون جائعة الآن ولا احد يستطيع ارضاعها غيري. تركتها عند جارتي.
حسن : لكنك قلت انك تسكنين بكيب تاون ونحن بليسوثو والمسافة بين المدينتين حوالي 1000 كلم اي مسافة 12 ساعة بالسيارة على الاقل. انا اقترح عليك ان تأتي معي للبيت وستعتني بك زوجتي عائشة. ساذهب معك غداً بسيارتي الى كيب تاون لان غداً ستبدأ اجازتي وزوجتي تريد ان تحضر عزاء لوفاة سيدة قريبتها.
فكتوريا : لا اعرف ماذا اقول لك ولكن ابنتي...
قاطعها وقال،
حسن : الم تقولي ان جارتك ستعتني بها؟ اطمئني.
اركبها سيارته واخذها الى بيته. دخلا البيت فاستغربت زوجته مما رأت لكنه اخذها جانباً وشرح لها الامر فرجعت وهي تبتسم بوجه فكتوريا. ادخلتها الى غرفة الضيوف واعطتها ملابس نسائية فنامت على السرير. باليوم التالي فتحت عينيها فوجدت طفلة سمراء جميلة تحدق بوجهها وتقول،
الطفلة : صباح الخير انا اسمي هند، ما اسمك؟
فكتوريا : انا اسمي فكتوريا. كم عمرك يا هند؟
هند : عمري 7 سنوات. امي تقول لك تعالي كي نتناول الافطار.
فكتوريا : حسنا. ساغتسل بالحمام ثم اتبعك بعد قليل.
بعد ان اغتسلت وارتدت الملابس التي اعطتها لها عائشة خرجت فوجدت وجوه مبتسمة. رحبوا بها واجلسوها على مائدتهم وصاروا يسكبون لها الشاي. وبعد ان انتهوا من الطعام سألت فكتوريا،
فكتوريا : متى سنرحل؟
حسن : فوراً بعد ان نوصل ابنتي هند الى بيت جدتها.
فكتوريا : ارجو ان تقبلي تعازيي سيدة عائشة.
عائشة : لا عليك عزيزتي. لدي صلة قرابة بعيدة مع المتوفاة لكن تقاليدنا تحتم علي الوقوف الى جانبهم.
ركب الجميع سيارة حسن واقتادها الى بيت والدته فنزلت الطفلة هند وقبلتهم وودعتهم. هنا بدأت رحلتهم الطويلة الى كيب تاون. وصلوها الساعة العاشرة مساءاً فادلتهم فكتوريا على منزلها فنزل حسن وزوجته معها. ركضت فكتوريا الى بيت جارتها ودقت الباب فخرجت جارتها ونظرت اليها بغضب شديد وقالت،
ليراتو : اين كنت يا فكتوريا؟ كيف تتركين ابنتك ثابيسا بهذا الشكل؟ لقد احترت كثيراً كيف اطعمها حتى وجدت سيدة بالحي كانت قد ولدت مؤخراً. صارت ترضعها كلما جاعت. لماذا تأخرت؟ ولماذا لم تعودي بنفس اليوم؟
فكتوريا : ساخبرك بكل شيء غداً. الآن اعطني ثابيسا ودعيني ارجع الى بيتي.
اخذت ابنتها من الجارة واقتادت ضيوفها حسن وعائشة وادخلتهما بيتها. وعندما دخلا هناك، هالهما ما رأوا من صغر بيتها وردائة اثاثها. سأل حسن،
حسن : اتسكنين انت وزوجك وابنتك هنا بهذا البيت الصغير؟
فكتوريا : اجل يا سيد حسن. نحن فقراء. ليس باليد حيلة. زوجي يعمل كاجير يومي. يذهب كل يوم الى ساحة العمالة حيث تأتي شاحنات باحجام مختلفة تستأجر العمال باجور بخسة وهكذا يكسب زوجي قوتنا اليومي.
عائشة : وما الذي جاء بك الى ليسوثو؟
فكتوريا : دعيني اقص عليكِ القصة كاملة وانتِ التي ستحكمين بنفسك.
بدأت فكتوريا تحكي لضيفتها قصتها منذ ان ذهبت الى الممرض بالحي سيو امالي حتى التقائها بالعريف حسن وهي ترتدي علبة الكارتون. نظرت عائشة الى زوجها وقالت،
عائشة : حقيقة قصة اغرب من الخيال. ما رأيك يا حسن؟
حسن : ارجو ان تسامحيني على سؤالي الفظ يا فكتوريا ولكن هل اغتصبتِ؟
لم تتمكن من الاجابة، اكتفت بهز رأسها.
حسن : انا اعتقد ان هناك جريمة وامرٌ بالغ الخطورة، يجب ان اتحرى عنه بنفسي. سنبقى عندك اليوم يا فكتوريا إن لم يكن عندك مانع.
فكتوريا : لكن بيتي لا يليق بمكانتكم. فانتم تسكنون بمنزلِ جميلِ وفيه عدة غرف اما بيتي فهو عبارة عن غرفة واحدة فقط.
حسن : هذا لا يهم. سننام عندك اليوم هنا ثم ستذهب زوجتي عائشة الى منزل اقاربها ثم تعود بعد ذلك بالقطار الى ليسوثو بينما احقق انا بالامر. اين ساقيم بعد رحيل زوجتي؟
فكتوريا : هناك منزل خالي بجانبنا بامكانك البقاء فيه.
حسن : هذا جيد. يجب علينا ان ننام اليوم كي نباشر غداً.
باليوم التالي استيقظ الجميع على صراخ الطفلة ثابيسا فقامت امها فكتوريا لترضعها بينما سأل حسن،
حسن : اين المرحاض؟
فكتوريا : انا آسفة يا سيد حسن المرحاض في الخارج. تسير بالممر الذي بين بيوت الصفيح حتى تراه بآخر الممر.
سار حسن وزوجته حتى وجدا المرحاض وهو عبارة عن حفرة قام المتساكنون بالحي العشوائي بحفرها وسيجوها بسور من القصدير. قضى حسن حاجته فيها وتبعته زوجته عائشة ثم عادو الى منزل فكتوريا فسأل،
حسن : ماذا يحصل لو امتلأت الحفرة التي تقضون بها حاجتكم؟
فكتوريا : يردمها رجال الحي ويقومون بحفر حفرة جديدة غيرها.
حسن : كان الله بعونكم. بالمناسبة، اردت ان اسألك، متى يعود زوجك؟
فكتوريا : لا اعلم، لقد اخبرني انه سيشارك بالاحتفال لخروج نيلسون مانديلا من السجن لكنه لم يعد بعد.
حسن : واين كان الاحتفال؟
فكتوريا : قال انه بليسوثو.
حسن : هذا يعني بالمدينة التي اسكن انا بها والتي رموك انت بها بالامس. اليوم ساقوم بسؤال احد زملائي من شرطة ليسوثو وسوف ارد لك الخبر. والآن اريدك ان تعطيني اسم زوجك الكامل.
فكتوريا : اسمه دارتا شيزا. من مواليد 1965. شكراً لك يا اخي حسن. انت تساعدني كما لو كنت اخي او اكثر.
حسن : لا عليك يا اختي. والآن، ماذا كان اسم الممرض الذي كان يأتي الى الحي؟
فكتوريا : كان اسمه سيو امالي. هو انسان طيب جداً ويعمل بالمجان للفقراء الذين يسكنون بالعشوائيات.
كتب حسن اسمه وخرج مع زوجته. اوصلها الى منزل قريبتها ثم عاد ليكمل ابحاثه. بمساء ذلك اليوم رجع الى منزل فكتوريا وطرق الباب. فتحت له فكتوريا وادخلته فجلس على الاريكة الخشبية وقال.
حسن : اخبروني زملائي بالهاتف بقسم الشرطة الذي اعمل به في ليسوثو ان مظاهرات اندلعت امس اثر الاحتفال بخروج نيلسون مانديلا من سجنه. التقرير يقول ان بعض المتظاهرين قاموا بتخريب المال العام والخاص فنزلت عليهم قوات مكافحة الشغب. كانت الحصيلة 35 قتيل و121 جريحاً. كان بملابس احدى الجثث بطاقة هوية باسم دارتا كولوا شيزا من مواليد 1965. السكن كيب تاون والعمل: اعمال حرة.
فكتوريا : يا الهي ماذا تقول؟ هل مات زوجي دارتا؟ لا اصدق.
صارت تصرخ وتبكي وتولول وتنحب زوجها. سمعتها جارتها ليراتو فجائت تجري ودخلت المنزل. وعندما سألت، اخبرها حسن بخبر وفاة زوج فكتوريا فصارت هي الاخرى تبكي وتولول. وفجأة استيقظت الطفلة ثابيسا على صوت العويل وراحت تبكي من الخوف فقامت الجارة باخذ الطفلة وخرجت بها خارج المنزل. بقيت فكتوريا مع الشرطي حسن تبكي وتنحب حظها السيء وتتسائل من اين لي كي اربي ابنتي الآن؟ انها فقط 13 شهراً. كيف سادفع ايجار المنزل كيف ساشتري الطعام؟ حاول حسن جاهداً ان يهدئ من روعها لكنها كانت بحالة هيجان ولم تستطع ان تهدأ طوال الليل. وبعد ان هدأت قليلاً في فجر اليوم التالي خرج حسن الى المنزل الخالي ونام فيه. بعد ظهر اليوم التالي خرج حسن وقال لفكتوريا انه يجب عليه ان يتدبر الامر وانه سيعود ويخبرها بما سيكتشف. ركب حسن سيارته وتوجه بها الى مركز شرطة كيبتاون الذي يعمل به المنتسبين البيض. عرف نفسه هناك وقابل رئيس المركز فطلب منه ان يجلس ويشرح له سبب مجيئه. قال حسن،
حسن : انا يا سيدي العريف حسن جادالله من شرطة ليسوثو المركزي. جئت الى هنا بعد ان عثرت على سيدة سوداء عارية قبل يومين والتي كانت واضعة علبة كارتوني...
قاطعه رئيس المركز وقال،
رئيس المركز : اعرف كل ملابسات تلك القضية واعرف اسمها واعرف ان زوجها كان من المحرضين للشغب وقد قتل اثر مواجهة مع الشرطة بالامس.
حسن : اتعرف كل ذلك؟ كيف عرفت؟
رئيس المركز : عرفت لانني تحدثت هذا الصباح مع رئيسك العقيد هيرمان فان خفن وهو يريدك ان تعود الى ليسوثو فوراً.
حسن : ولكن سيدي انا في اجازة حتى نهاية الشهر.
رئيس المركز : إذاً، اتصل به من هاتفي الآن وتحدث معه.
رفع السماعة واتصل برئيس حسن في ليسوثو ثم اعطى السماعة لحسن كي يتحدثان فيما بينهما قال،
حسن : صباح الخير سيدي.
هيرمان : حسن، اريدك ان ترجع الى ليسوثو فوراً.
حسن : لكنني في اجازتي السنوية الآن سيدي.
هيرمان : اقطع اجازتك وارجع الى ليسوثو فوراً.
حسن : ولكن...
قاطعه مديره وقال،
هيرمان : هل اعتبرك مستقيلاً من عملك إذاً؟
حسن : كلا يا سيدي. ساعود، ساعود اليوم.
هيرمان : اريدك ان تكون بمكتبي غداً صباحاً. مفهوم؟
حسن : نعم سيدي.
اغلق الخط مع رئيسه وقال لرئيس المركز بكيب تاون،
حسن : يجب علي الرجوع الى ليسوثو فوراً.
رئيس المركز : وداعاً يا عريف حسن. حاول ان لا تضيع وقتك بامور تافهة بالمستقبل.
خرج حسن من مركز الشرطة يعتريه الغضب الجامح ويشعر كانه قد اصطدم بحائط صخري صلب من عنصريين البيض. ركب سيارته وعاد الى منزل فكتوريا. اخبرها بالمحادثة مع مديره وطلبه العودة الفورية لكنه اكد لها بانه سوف لن يتخلى عنها مهما كلف الامر. شكرته وودعته فركب سيارته وعاد الى ليسوثو. باليوم التالي وصل مركز شرطة ليسوثو ودخل على مديره،
حسن : صباح الخير سيدي. لماذا طلبت عودتي بشكل مفاجئ؟
العقيد هيرمان : انا اعلم انك قبل سنتين طلبت الانظمام الى دورة ال SAPS للمحققين والتي فترتها 4 سنوات والتي تستطيع بعدها ان تصبح ضابطاً.
حسن : ولكن طلبي رُفِضْ في السابق لاسباب غير معروفة سيدي.
العقيد هيرمان : الآن ارسلوا لي كتاباً يعلموني بقبولك في الدورة. وسوف تبدأ قبل نهاية شهر شباط. ارجو ان تنجح وان لا تخيب ظني فيك يا حسن فانت من العناصر الجيدة عندي.
حسن : سافعل كل ما بوسعي كي اكون من المتفوقين سيدي.
العقيد هيرمان : هيا اذهب وبشر زوجتك وابنتك الجميلة.
خرج حسن وهو بغاية السرور كي يزف البشرى لزوجته. ولما وصل البيت رأى ابنته تنتظره خارج المنزل. فور مشاهدتها له ركضت اليه واحتضنته فقبلها ودخلا المنزل سوياً. رأى زوجته منهمكة بالمطبخ فوقف امامها وهو يبتسم وقال،
حسن : اخيراً وافقوا على انظمامي الى دورة الـ SAPS . سالتحق بها بنهاية هذا الشهر.
عائشة : الف مبروك يا حبيبي. هذا افضل خبر سمعته بحياتي لانك كنت تتأمل الانضمام اليه منذ زمن بعيد ولكن...
حسن : ولكن ماذا؟
عائشة : ماذا عن قضية فكتوريا؟ كنت قد بدأت بالتحقيق بها اليس كذلك؟
حسن : اجل يا عائشة لكنني كنت اعمل بها بصفة غير رسمية لانني لا اشتغل بكيب تاون، وإذا ما بلّغ احد عني فساحاسب حساباً عسيراً وقد اطرد من وظيفتي بشكل نهائي.
عائشة : وماذا عنها؟ كيف ستعيش المسكينة؟
حسن : ساحاول ان ابعث لها بعض المساعدات المالية كل شهر.
هند : انت رجل طيب يا ابتي.
عائشة : والآن تعال يا حبيبي واجلس مكانك فقد اعددت لك اكلتك المفضلة.
بعد بضعة ايام التحق حسن بدورة ضباط الشرطة بليسوثو وصار يلتقي بزوجته يوم الاحد من كل اسبوع. كان يحرص على ارسال كمية بسيطة من المال الى فكتوريا ببداية كل شهر. كانت الدورة صعبة ومكثفة وكان حسن من المتفوقين على زملائه. صارت الايام تتحول الى اسابيع والاسابيع الى سنين فتمر عليه بصعوبة لانه كان محافظاً على جميع التزاماته نحو عائلته ونحو فكتوريا. وبعد مرور اربع سنوات كاملة تخرج من الدورة وحاز على رتبة ملازم فقلده رئيس الكلية وساماً خاصاً لانه كان الاول على دفعته. تزامن تخرجه من الكلية فوز حزب الـ ANC بالانتخابات والذي يرأسه نيلسون مانديلا ليكون اول رئيس جمهورية اسود بجنوب افريقيا وذلك عام 1994. كان مانديلا حاضراً مراسيم تقليد المتفوقين من كلية الشرطة وقد صافح حسن وهنئه بحرارة إذ قال له، "المواطنين الشرفاء مثلك سيحافظون على وطننا وسيرفعون راية جنوب افريقيا لتصبح دولة واحدة تقطنها جميع القوميات والاعراق والاديان بالتساوي وبحرية تامة. حاول ان تنظر الى جوهر الانسان لا الى قشرته الخارجية."
بعد ذلك عين حسن ليعمل لدى الهيئة الاتحادية لشرطة العاصمة بكيب تاون. لذلك انتقلت عائلة حسن الى كيب تاون وحصلوا على منزل هناك. وفي اول لقاء مع رئيس قوة الـ SAPS العميد جون فان كولت. جلس حسن بمكتبه وقال له،
جون فان كولت : لي الشرف ان اضمك الى فريقي الذي اسسته للتو. ساضعك مسئولاً عن القضايا الباردة. وكما تعلم فان القضايا الباردة هي القضايا التي لم تقفل ولم يعثر على مرتكبي جرائمها. لذلك اريدك ان تدخل الارشيف وتختار لنفسك قضية باردة وتبدأ بالعمل عليها ومن ناحيتنا سنقوم بتزويدك بكل ما يلزمك من مساندة.
حسن : انا شاكر لك سيدي.
1705 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع