د. سعد ناجي جواد
ايها العراقيون حذار من الفتنة الطائفية الجديدة
لا يَصلُحُ الناسُ فَوضى لا سَراةَ لَهُم
وَ لا سَراةَ إِذا جُهّالُهُم سادوا
لقد قيل وكُتِبَ الكثير عن كيفية تدمير الدول من الداخل ومن دون الحاجة الى استخدام القوة لفعل ذلك، واهم اسلوب في هذه السياسة او الاستراتيجية هو الاعتماد على الجهلة والاميين والمتعصبين وغير الكفوئين في المناصب العليا، والاهم تجهيل الشعب وجعله منقادا الى هولاء الجهلة والمتعصبين دينيا او عرقيًا.
باعتقادي المتواضع ان اعظم انتصار حققه التحالف الامريكي-البريطاني-الاسرائيلي في العراق عام 2003، لم يكن النجاح في احتلال العراق عسكريا وتدمير قدراته وبنيه التحتية، فهذا الامر حدث في عام 1991، واستطاع العراقيون بانفسهم ان يعيدوا بناء كل ما دمرته تلك الحرب الشاملة في غضون اشهر قليلة، لا بل وزادوا على ذلك بان بنوا مشاريع اخرى وافتتحوا جامعات جديدة. ولا بجعل العراق مرتعا لكل من هب ودب لكي يعبث بامنه ووحدته الوطنية، فلقد تعرض العراق الى مؤامرات عديدة في هذا المجال وصمد في وجهها. النجاح الاكبر والاعظم للاحتلال كان في: اولا الاتيان بكل غير ذي كفاءة وفاسد ومتعصب فكريا ودينيا ومذهبيا وغير مستعد لقبول وجهة نظر اخرى ووضع مقدرات الدولة والناس بين يديه، وثانيا اثارة التعصب الديني والنعرات الطائفية والشوفينية بين ابناء الشعب العراقي الواحد وتشجيع ودعم من يتبع مثل هذه السياسة. وثالثا العمل على قتل وخطف وتغييب وتهجير الكفاءات الوطنية ومن كافة المستويات، وهذا العمل بداته القوات الامريكية واجهزة المخابرات الخارجية التي دخلت الى العراق معها.
مهما قيل ويقال عن كل الانظمة التي حكمت العراق منذ بداية الحكم الوطني بعد انهاء الاحتلال العثماني في عام 1920، ولحد وقوع كارثة الاحتلال، لم يعرف العراق حكومات ولا دساتير ولا ولا تحريضات طائفية ولا نزعات شوفينية. وحتى ان وجد بعض الاشخاص او السياسيين الذين يتحدثون بمثل هذه اللغة، فانهم كانوا اقلية محدودة لدرجة كبيرة، والاهم ان مثل هذه الاحاديث كانت تقال في غرف ودوائر مظلمة وضيقة، لسبب بسيط هو ان النظرة الشعبية العامة الى من يتحدث بها او يمارسها كانت نظرة استهجان بل واحتقار. وبصورة عامة عُرِف العراقيون بثقافتهم واحترامهم الافكار المدنية وتداخل مكوناتهم وزيجاتهم المختلطة. وهذا التمازج والاختلاط كان واضحا في كل مدنهم واحياء هذه المدن السكنية، ومدارسهم وجامعاتهم. وحتى احزابهم السياسية كانت احزابا تضم كل شرائح ومكونات الشعب العراقي. وكانت المرجعيات الدينية (الاسلامية والمسيحية على حد سواء) تحرص على ابراز وحدة الشعب العراقي، لا بل كانت ترفض كل الممارسات المتعصبة التي كانت تمارس في بعض الاحيان.
كل هذه المظاهر المتحضرة انقلبت راسا على عقب بعد الاحتلال البغيض، واصبحت اللغة والافكار الدينية المتعصبة التي لا اساس لها في التاريخ والتراث الاسلامي، والممارسات الطائفية والشوفينية هي السائدة، والاخطر فانها اصبحت وسيلة يعتمدها السياسيون الذين لا يمتلكون اي قاعدة شعبية ولا يحضون باي تاييد جماهيري، لكي يستطيعوا من خلالها الوصول الى الحكم او التمسك به، والغرض هو الفساد وسرقة ثروات العراق وليس لخدمة اتباع هذا الدين او القومية او المذهب. ولم يكن مستغربا والحالة هذه ان نجد اشخاصا لم يُعرَفوا حتى بتمسكهم بالدين في السابق او بشعورهم القومي الطاغي هم اكثر من يعتمد هذه اللغة او التصرفات. والملاحظة الاخرى الاهم ان هذه المظاهر المقيتة لا تظهر الا قبل الانتخابات. وطالما ان الجهل قد تفشى في المجتمع العراقي، جهلا اصبح مدعوما بالسلاح، فان هذه الممارسات وجدت من ينساق ورائها بدون وعي او تفكير.
ما استوجب هذه المقدمة المحزنة هو ما يجرى ويجري في العراق في هذه الايام من اثارة للبسطاء وتحريضهم على تدمير نُصب تمثل شخصيات تاريخية، والاخطر مهاجمة اضرحة لائمة مسلمين يتبعهم الملايين، بدعاوى تاريخية كاذبة ومضللة، وعلى اساس ان هولاء الائمة كانوا، قبل 1300 عام او اكثر، معادين لآل بيت رسول الله عليه افضل الصلاة والسلام.
بالاضافة الى ما يمثله مثل هذا العمل من عدم احترام لاراء الملايين من المسلمين، فانه يمثل جهلا كبيرا بالتاريخ، حيث ان هؤلاء الائمة جميعا، وفي مقدمتهم الامام الجليل ابو حنيفة النعمان رضي الله عنه، كانوا قد تتلمذوا على يد الامام جعفر الصادق عليه السلام حفيد رسل الله وواضع اسس المذهب الجعفري، لا بل ان هذا الامام الجليل بالذات تعرض للسجن والتعذيب، الذي ادى الى موته، بسبب مواقفه المؤيدة لال البيت الكرام وثوراتهم ضد الدولتين الاموية والعباسية. وان مرقده يعتبر مزارا شريفا يقصده الملايين من العراقيين من كل المذاهب.
وخير دليل على هذا الكلام الهبة الشعبية التي جرت في مدينة (او حي) الكاظمية المجاورة، التي تحوي مرقدين لحفيدين شريفين من احفاد رسول الله الكريم، والتوجه الى مدينة (او حي) الاعظمية التي تحوي هذا المرقد، وذهاب وجهاء ورجال دين الكاظمية لاقامة صلاة مشتركة في مسجد ابي حنيفة النعمان رضي الله عنه، وتطوع اخرون من ابناء الكاظمية للدفاع عن المسجد والسهر حوله. اما الجهات الرسمية فكالعادة لم تتخذ اي اجراء لملاحقة من اثار هذه الفتنة. وطبعا هذا امر متوقع من هذه الجهات ومن الاحزاب السياسية الحاكمة التي لم تتورع في السابق، ولا تزال تحث الان، على ازالة نصب تذكارية يعتز بها العراقيون، وخاصة البغداديون منهم، لانها تمثل حقبة تاريخية مهمة لهم، بدعاوى متخلفة.
وهكذا في الوقت الذي يعيش فيه اكثر من 40% من العراقيين تحت خط الفقر، ويتفشى الفساد والوباء والعجز الاقتصادي وتنعدم فيه خدمات الكهرباء والمجاري والماء الصالح للشرب مع قدوم فصل الصيف، وتشح مياه الانهار العظيمة كدجلة والفرات والزاب والدولة لا تفعل اي شيء لمثل هذه المشاكل، وبدلا من الاصرار على دعم التحركات والانتفاضات المطالبة بالاصلاح، تقوم الجهات السياسية المتنفذة بتحويل انتباه الناس الجهلة الى هكذا مواضيع اعتقادا منها بان مثل هذه الفتن ستمكنها من كسب اصوات اكثر في الانتخابات القادمة.
لم يبق ما يُعَول عليه في العراق الا وعي الجيل الجديد لكي يتجاوز ما افسده الفاسدون. ربما يستغرق هذا الامر وقتا طويلا وتضحيات مضافة وهبات شعبية مشتركة من كل مكونات الشعب العراقي عربا واكرادا وتركمانا، مسلمين ومسيحين وصابئة ويزيدين وكل المكونات الاخرى لاثبات وحدة صفهم وتجاوزهم لكل الخلافات التافهة والقصص التاريخية الكاذبة والمفبركة التي يحاول البعض ان يبثها بينهم. عدا ذلك لن ينفع العراق اي طرف خارجي مهما ادعى انه مهتم بمصلحة العراق والعراقيين. وكما جاء في كتاب الله الكريم ( ان الله لا يغيرُ ما بقومٍ حتى يغيروا ما بأنفسِهم).
حفظ الله العراق بلد الانبياء والائمة والاولياء الصالحين من كل الاديان والمذاهب والطوائف من شر وشرير.
932 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع