د. علي محمد فخرو
التعلم من دروس الآخرين
عندما نفتش عن أفضل نظام سياسي – اقتصادي يؤمن بمبادئ ومكونات العدالة الاجتماعية، ويعمل من أجل تفعيلها في الواقع الانساني والدفاع عن ذلك التفعيل، ويساهم في تحسين فهم ومنطوق تلك المكونات والمبادئ وتحسين ظروف تطبيقها في الواقع لتكون مقبولة من غالبية أفراد المجتمعات ورافعة لانسانيتها.... فمن الضروري أن نعرف خلفية ولادة ومسيرة النظامين السياسيين والاقتصاديين اللذين هيمنا على المساحتين العالميتين عبر القرون الثلاثة الماضية.
الأول ما توافق الناس على تسميته بالنظام الليبرالي الرأسمالي والثاني هو النظام الاشتراكي بتلاوينه الماركسية المختلفة. لقد ولد كلا النظامين من رحم أفكار الأنوار الأوروبية التي قادت الى مطالب العصرنة والحداثة.
وضمت تلك الأفكار والمطالب ما يلي: ضرورة اجراء تحولات جذرية في الاجتماع والسياسة، الأهمية الكبرى للحرية الفردية، الايمان بأن التقدم ظاهرة حتمية، أن أحد أهم وسائل مسيرة ذلك التقدم هو المساواة في المواطنة وانتشار وترسيخ العقلانية بدلا من الخرافات والغيبيات (وهو ما سيهيئ لتنمية رأي عام مستنير)، ممارسة المواطن لحقوق سياسية متعددة تقود الى نظام حكم ديموقراطي تمثيلي ووجود مجتمع مدني نشط وفاعل في الحياة العامة موازٍ بندية لقوة سلطات الدولة، وأخيرا، وكاستجابة لانتقال المجتمعات الأوروبية من عصر الزراعة الى عصر الصناعة اعطاء أهمية كبرى لأن تكون المجتمعات منتجة اقتصاديا، على أن يخضع ذلك الانتاج الاقتصادي لشروط التبادل التجاري الحر المستقل الى حدود كبيرة عن تدخلات الدولة. هناك تفاصيل وتجاذبات كثيرة حول كل فكرة ومطلب لسنا معنيين هنا بها.
المهم أنه بمرور الزمن أنها جميعا لم تتحقق في الواقع كما أراد أصحابها لها: اما لأن جهات مستفيدة شوهتها وحرفتها واستعملتها لصالحها، أو لأن البشرية أعجز من أن تحمل مسؤولية تلك الأفكار والمطالب التغييرية الهائلة وتدافع عنها، أو لأن واقع الحياة وتطوراتها المتلاحقة جعلت بعضا من تلك الأفكار والمطالب خارج الزمن وتحتاج الى تعديلها أو استبدالها.
والمهم أيضا أن نعرف أن النظامين الرأسمالي والاشتراكي لم يعرفا كيف يستفيدان بصورة صحيحة وعادلة وشاملة مما كانت الأنوار والعصرنة قد طرحته. الآن في هذه اللحظة، هناك في بلدان منشأ الأنوار والعصرنة شكوك كثيرة حول ما طرحا، وهناك مطالب متعاظمة بمراجعة الايديولوجيتين الرأسمالية والاشتراكية، اذ كلتاهما تعيشان أزمة حقيقية، هما ومن يحملهما من أحزاب وحكومات وأفراد، خصوصا على ضوء ما رآه القرن السابق من جرائم حقوقية باسم الاشتراكية والفاشستية، وما يراه قرننا الحالي من ظلم وفقر وأزمات باسم النيولبرالية، وخصوصا على ضوء الصعود الحالي للشعبوية وللوطنية العنصرية ولأنواع كثيرة من الصراعات الجندرية والدينية.
الحديث عن بديل ثالث يجمع أفضل ما في الاثنين كثير ومتعدد، لكن ما سيقود اليه غير معروف ومبهم. لكن ما يحز في النفس هو العودة الى تأكيد البديهيات بعد ثلاثة قرون من ادعاء الأنوار والحداثة.
المهم أن فتح باب النقاش حول النظام السياسي – الاقتصادي الصالح لبلاد العرب والضامن لقيام دولة العدالة الاجتماعية لا يستطيع أن يتجاهل تلك الخلفية التي فصلنا بايجاز، حتى ولو كانت لمجتمعاتنا العربية خصوصياتها وظروفها. لكن يجب أن تبقى التجارب العربية المختلفة، عبر سنوات ما بعد الاستقلال الوطني، هي المحور الأساسي الذي يجب أن يقود ذلك النقاش وتلك المراجعة من أجل الوصول الى نظام سياسي – اقتصادي عربي حديث عادل وخادم لمطالب العدالة الاجتماعية بحيث تتبناه الجماهير العربية وتناضل من أجله.
تلك المراجعة – يجب أن ترفض الشطط في الفردية، حرية ومعيشة، وأن ترفض وجود فقر أو وجود غنى فاحش، أو هيمنة حرية الأسواق دون ضوابط تضعها دولة الرعاية الاجتماعية، أو غياب ديموقراطية شرعية تمثيلية، أو هيمنة الخرافات على العقلانية، أو استعمال الدين بانتهازية وبتبريرات منحازة للظلم وللسلاطين ولحكم الفئة في الحياة السياسية، أو اضعاف وجود مجتمع مدني نشط وفاعل ومستقل عن سلطة الدولة، أو امتلاك وسائل الانتاج الاقتصادي وخيراته من قبل أقلية، أو تخل الدولة عن التزاماتها في توفير الخدمات الاجتماعية من مثل التعليم والصحة والعمل والسكن، أو هيمنة قوى الحكم على وسائل الاعلام وشبكات التواصل الاجتماعي استغلالهما دون تنظيم ذلك من خلال القوانين التشريعية والقضاء المستقل فقط. نحن العرب، نحتاج الى هكذا نظام، بهكذا مواصفات. أما التسميات فليست هي المشكلة.
1096 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع