الفريق الركن صباح نوري العجيلي*
دروس من الانسحاب الامريكي من افغانستان
عام:
الأنسحاب من أصعب وأعقد صفحات القتال والتي تتطلب قيادة وسيطرة ومنظومة اتصالات متطورة ، واستحضارات مسبقة وتخطيط محكم في ضوء معلومات دقيقة لإعداد خطط مفصلة ومرنة قابلة للتعامل مع المستجدات والطوارئ ، وعادة ما تتضمن خطط الانسحاب على التوقيتات المحسوبة لضبط ايقاع وحركة وتنقلات القوات بدقة .
كما وينبغي توفر قوات احتياط او طوارئ تكلف بمهام تأمين الانسحاب من التدخل المعادي في سير العملية والذي قد يفرض مواقف غير محسوبة ويحول الانسحاب الى هزيمة وفوضى ، كالذي يحدث بالوقت الراهن خلال عملية الانسحاب الامريكي الجارية من افغانستان ودخول حركة طالبان العاصمة بشكل فاجأ الجميع وخارج تقديرات الاستخبارات الامريكية .
2.الحقائق على الارض
أ.افغانستان دولة برية (حبيسة) ، تقع في اسيا الوسطى تحدها كل من طاجكستان واوزبكستان وتركمانستان من الشمال وايران من الغرب والصين من الشرق فيما تحدها باكستان من الجنوب . عدد السكان 38.04 مليون والمساحة 652,860 كم 2
ب. افغانستان ذو موقع جيوستراتيجي يربط شرق وغرب وجنوب ووسط اسيا.
ج.احتلت الولايات المتحدة، افغانستان في اعقاب هجمات 11 سبتمبر 2001 في نيويورك وانهيار برجي مركز التجارة العالمي لغرض ملاحقة تنظيم القاعدة وتدمير قواته ولاستعادة هيبتها كدولة عظمى التي اهتزت بعد هذا الحدث الكبير.
ح. غطست دول عدة في المستنقع الافغاني عبر التاريخ، منذ عهد الاغريق تحت حكم الاسكندر الاكبر والمغول والبريطانيين والسوفيت واخيراً وليس اخراً الولايات المتحدة التي شاركها حلف الناتو بالمهام القتالية ، وكانت النتائج عموما انتهاء الاحتلالات على صخرة صمود ومقاومة الافغان.
خ.افغانستان دولة فقيرة الموارد ولكن شعبها مقاتل عنيد تراكمت لديه خبرات قتال الغزاة التي توارثتها الاجيال .
د.تكبدت القوات الامريكية للفترة (2001- 2019) ، 2400 قتيل والالاف من الجرحى والمعاقين وبلغت الصرفيات 750 مليار دولار ، بينما كانت خسائر حركة طالبان خمسون الف قتيل والالاف من الجرحى والاسرى
ذ.ظهرت طالبان بالساحة الافغانية عام 1994 وخلال عامين سيطرت على معظم مناطق افغانستان ودخلت كابل عام 1996 واعلنت نفسها الحاكمة للبلاد ، واستمرت بالحكم حتى قيام القوات الامريكية في عهد الرئيس الامريكي جورج بوش الابن ، بغزو البلاد في 7 تشرين الاول 2001 في اعقاب هجمات 11 سبتمبر 2001 . وبعد عشرين عاما تعود الحركة مجددا وتدخل العاصمة والقصر الجمهوري بخطاب جديد ومرونة سياسية واضحة. بعدما هرب الرئيس الافغاني اشرف غني وقيادات الجيش وانهيار القوات المسلحة وقوى الامن الداخلي
ر. استبعاد الجانب الامريكي سقوط كابول بيد طالبان ، لكن الواقغ أظهر عكس التوقعات.
ز سيطرت الحركة على 33 ولاية خلال اسبوع
قوات الطرفين
3.لدى طالبان 75 الف مقاتل وقد يزيد العدد الى 200 الف مع حساب العناصر المؤيدة، مقارنة بالقوات الحكومية التي تقدر بأكثر من 300 الف جنديا .
تسليح وتجهيز طالبان ، تقليدي ومحدود بينما ارادة القتال عالية ولدى قياداته وعناصره دوافع عقائدية وايديولوجية وعقيدة قتال ، تتمسك بهدف واضح هو تغيير النظام القائم واستعادة السلطة .
مقاتلوا الحركة اكثر معرفة وخبرة بالمناطق الجغرافيةوالديموغرافية في مسارح العمليات. وتستخدم الحركة الخطاب الديني والشحن العقائدي لكسب الموالين والمؤيدين.
تسليح وتجهيز القوات الحكومية جرى من قبل الولايات المتحدة باسلحة متطورة ، لكنها مؤسسة غير منضبطة ينخرها الفساد ،تعتمد على دعم القوات الامريكية وحلف الناتو وقيادته فاسدة.
تعاني مؤسسة الجيش والشرطة من ظاهرة الفضائيين او الوهميين وهناك شكوك حول صحة تقارير القوة القتالية للجيش وقدرته على القتال.
يعد الجيش الافغاني من اكبر الاستثمارات الامريكية ، اذ انفقت مايقارب 100 مليار دولار منذ سنة 2002، ولكنه لم يجعله هذا مؤهلا لمواجهة المعارك الكبرى بسبب ضعف ارادة القتال وفساد قياداته السياسية والعسكرية التي كانت تتصرف كأمراء الحروب. وان الانتماء للجيش مشروع للحصول على المنافع والمحسوبيات.
لقد فشل الجيش الافغاني في بناء عقيدة عسكرية وطنية بل تاسس حسب عقيدة اتكالية تعتمد على دعم القوات الامريكية وحلف الناتو.
4. نقاط قوة طالبان
تمتاز حركة طالبان بالمميزات الاتية:
وحدة القيادة والقرار
عدالة القضية التي يؤمن بها المقاتلين والاستعداد للتضحية في سبيلها
توخي ووضوح الهدف
البناء العقائدي والايديولوجي والمعنوي
ارادة القتال العالية التي لم تضعف بسبب تفوق الجانب الامريكي واستخدام القوة المفرطة وصعوبة التمويل بمواد القتال الضرورية
تحصين المقاتلين أمنيا وفشل محاولات الخرق المعادي
تراكم خبرة القتال في البيئة الافغانية حيث انكسرت موجات الغزاة على تلك الارض الطيبة التي اصبحت مقبرة للغزاة.
قرار الانسحاب الامريكي
5.طوال العشرين سنة من الاحتلال ،شكل الوضع السياسي والامني الهش والضعيف والفساد الحكومي في افغانستان مصدر قلق واستنزاف للادارة الامريكية وحلف الناتو الذي حقق مكتسبات بالحد الادنى على الرغم الاموال التي صرفت والارواح التي زهقت.
تقرر خلال فترة ولاية الرئيس الامريكي السابق (دونالد ترمب ) انسحاب القوات الامريكية من افغانستان ، وهو ماسمي في حينه ب (الهروب الكبير)من المصيدة والاستنزاف الذي لايتوقف.
و تبنت ادارة الرئيس الامريكي (جو بايدن) مشروع الانسحاب من افغانستان كجزء من استراتيجية خفض التصعيد وحددت تاريخ 11 سبتمبر 2021 موعدا لاعلان الانسحاب النهائي من هذه البلاد لتقرر مصيرها بعيدا عن الوجود الاجنبي.
نعتقد صواب قرار الانسحاب لفشل المشروع الامريكي ولو جاء متاخرا جدا بعد سنوات قتال صعبة بين القوات الامريكية وحلف الناتو من جانب وحركة طالبان من جانب اخر. استنزفت الكثير من الخسائر البشرية والمادية.
كما وان استمرار الوجود الامريكي والناتو بافغانستان لن يحقق اي فائدة مرجوة ولن يخدم الامن القومي الامريكي. وعلى طول الخط كان الشعب الافغاني هو الضحية والاكثر تضررا.
طالبان وانتهاز الفرصة
6.لقد انتهزت حركة طالبان الفرصة واستغلت البيئة والظروف الناجمة من عملية الانسحاب الامريكي وتحركت بنشاط وفعالية للتقدم السريع والسيطرة على الولايات الافغانية الكبرى التي سقطت بيد عناصرها كقطع الدومينو مما ادى الى هروب القوات الحكومية وقياداتها دون قتال. مما تسبب في ايجاد خلل أمني وارتباك واضح بالعاصمة كابل ، وعندما اصبح مقاتلوا الحركة على تخوم العاصمة هرب الرئيس الافغاني والقيادات السياسية والعسكرية، ليغيب الجيش والشرطة عن العاصمة وتدخل عناصر الحركة بجماعات صغيرة دون وجود مقاومة تذكر.
لم تطبق القوات الحكومية الخطط الدفاعية عن المدن والعاصمة ولم تتدخل القوات الامريكية لصد الحركة عن دخول العاصمة.
لقد كان ادامة الزخم وسرعة تدخل الحركة اجراءاً سليماً لارباك خطة الانسحاب الامريكي وتحويلها الى هزيمة لاسيما عندما تم هروب السفارة الامريكية والسفارات الاجنبية الى المطار بمشهد مرتبك وفوضي.
ورفض الحركة تأجيل دخول العاصمة لمدة اسبوعين الذي اقترحه المفاوض الامريكي، ودخول العاصمة على الفور كان قرارا ذكيا استثمر حالات الفوضى وفقدان التوازن لدى القوات الحكومية والامريكية، ومكن الحركة من قلب الموازين والسيطرة على العاصمة والسلطة.
تقديرات الاستخبارات الامريكية
7. اشارت تقديرات الاستخبارات الامريكية الى احتمالية سقوط العاصمة بيد طالبان بعد 6 اشهر ، بينما جرى دخول كابل في 15 أب 2021 و قبل الموعد الانسحاب النهائي في 11 سبتمبر 2021. مما اوهم الجميع والحلفاء بمتانة الموقف في العاصمة التي يمكن ان تصمد امام حركة طالبان طيلة هذه الفترة المحددة بينما كل الشواهد تدل على قرب الانهيار والهروب الكبير من العاصمة.
لقد تفاجأ الجميع أبتداءاً من رئيس الولايات المتحدة نزولاً ،بسرعة التحولات في البلاد ودخول طالبان العاصمة ، بسبب عدم واقعية ومصداقية تقارير الاستخبارات الامريكية والغربية.
وهذا يشكل خلل أمني واخفاق كبير للاستخبارات الامريكية الموجودة في قلب الحدث وسوء تقديراتها وضعف معلوماتها .
خطة الانسحاب الامريكية
8.شرعت القوات الامريكية وحلف الناتو بالانسحاب والترقيق وفق التوقيتات المحددة وصولا الى الموعد النهائي. وثبت من الناحية العملية ان الخطط كانت تعاني من سلبيات كثيرة ، وما تشهده الساحة الافغانية لاسيما العاصمة من فوضى ومأسي ما هو الانتيجة لهذه الاخفاقات.
لم تأخذ الخطة حسابات تدخل حركة طالبان خلال سير العملية واعتمدت على المحادثات الجارية في قطر لتشكيل حكومة تشاركية تضم اطراف النزاع.
أدى دخول طالبان العاصمة الى هروب السفارات الاجنبية بما فيها الامريكية وكذلك المتعاونين والمترجمين الى المطار بمشهد مأساوي.
لم تتضمن الخطة تخصيص قوات طوارئ او قوات حماية لتأمين عملية الانسحاب ومعالجة الحالات الطارئة بينما أظطر الرئيس الامريكي للموافقة لاحقا على ارسال جنود أضافيين وبوقت سريع الى افغانستان لتامين انسحاب ماتبقى من القوات و اجلاء اعضاء السفارة الامريكية والسفارات الاجنبية والاعداد المتزايدة من المتعاونين الهاربين.
كان اعداد خطة الانسحاب الامريكية ناقصاً وقاصراً وولد ارتباك شديد على كافة المستويات ولم يراعي الموقف السياسي والامني وتطوراته ، وتتحمل المسؤولية عن هذا الاخفاق وزارة الدفاع (البنتاغون) والقيادة الوسطى.
وتتحمل وزارة الخارجية الامريكية المسؤولية عن الخلل السياسي والنظرة القاصرة للاحداث ، وسوء تقديراتها للموقف السياسي القائم.
غنائم طالبان
سيطرت طالبان على ترسانة كبيرة من الاسلحة والمعدات والتجهيزات التي كانت لدى القوات الحكومية وسبق وان جهزتها بها القوات الامريكية وحلف الناتو ، سوف تساعدها على انشاء جيش جديد مستقبلا . وتشير التقديرات الغنائم الى : 270 طائرة ، 1065 مدرعة ، 116000 بندقية ، مدافع 120 ، راجمات 25، اليات مختلفة عدد 8500
خطاب طالبان الجديد
تتبنى طالبان خطاب سياسي واعلامي جديد و معتدل لطمأنة الشعب الافغاني بالداخل ودول العالم بالخارج ، وتحسب هذه الخطوة للحركة تمهد لقبول المجتمع الدولي بها والاعتراف بها ، لاسيما هناك تخوف من تكرار الممارسات السابقة بخاصة في مجال حقوق الانسان واحترام الاقليات ،والتي قد تستغل لعزل وتطويق الحركة .
9.الاستنتاجات
– للاحتلال نهاية محتومة مهما طال الزمن وان نهج المقاومة الشعبية هو السبيل الوحيد لانهاء الاحتلال وسلطة اعوانه مهما بلغ من قوة وسطوة .
هناك خلل واضح في اعداد خطط الانسحاب على المستوى الاستراتيجي الامريكي وضعف المعلومات عن طالبان ونواياها وتحركاتها.
سوء تقديرات الاستخبارات الامريكية فيما يخص قوة طالبان وقيامها بتحديد توقيتات خاطئة عن دخولها العاصمة ، مما اربك الموقف لصالح تحركات طالبان
لم تراع الخطة احتمال تدخل الحركة في سير عملية الانسحاب ولم تخصص قوات لحماية القوات والسفارات المنسحبة .
استغلت طالبان الموقف بذكاء وحنكة وادارت العملية بمهنية وسرعة محسوبة ، حيث اسقطت الولايات الافغانية الكبرى التي مهدت الى سقوط العاصمة وزرعت الخوف والهزيمة في نفوس السياسين الافغان والقيادات العسكرية التي هربت من الميدان.
تدخل قوات حركة طالبان بعملية الانسحاب دون حلول لمثل هذه المواقف الطارئة ، ولد خلل كبير بخطة الانسحاب الامريكية واحدث فوضى وارباك في العملية وهروب اعضاء السفارات الاجنبية ونزوح المتعاونين واحدث فوضى اشبه بالهروب من سايغون فيتنام عام 1975.
– قرار الانسحاب الامريكي بعد 20 عاما من الاحتلال هو قرار صائب ولو جاء متأخرا لاعادة السلطة الى الشعب الافغاني الذي يقرر مصيره.
فشل عملية بناء الجيوش من قبل قوات الاحتلال اومايسمى بالمستشارين سواء كان بافغانستان أوالعراق والذي يفتقد الى البناء الوطني والمهني، وهذا ما جرى ايضاً بمعركة سقوط الموصل في العراق في حزيران 2014 حيث انهارت قوة الجيش العراقي تقدر باربع فرق متفوقة عددياً وتسليحاً امام اعداد تقدر بالمئات من مقاتلي تنظيم داعش.
هروب الرئيس الافغاني والقيادات السياسية والعسكرية فتحت الابواب امام انهيار الجيش الافغاني وسقوط العاصمة.
افتقدت القوات الحكومية لارادة القتال وهي مهزومة في داخلها بينما العكس لدى عناصر طالبان التي يمتاز مقاتليها بارادة قتال جيدة واقدام ومطاولة.
حسابات البنتاغون والقيادات العسكرية في تقدير قوة الجيش الافغاني وقدرته على حماية المدن والصمود فيها ، كانت غير صائبة والاحداث الاخيرة ثبتت العكس حيث تبخر الجيش دون قتال.
فشل تقدير الموقف السياسي للخارجية الامريكية وتقييمها للوضع الافغاني القائم قاصر .
عدم احتكاك حركة طالبان بالقوات الامريكية والاجنبية يدل على ادراك قيادة الحركة وعدم الانزلاق الى مواقف جانبية قد تكون في غير صالحها.
القاء اللوم من قبل الرئيس جو بايدن ووزير الدفاع الامريكي لويد اوستن على الرئيس الافغاني في هذا الانهيار هو للتهرب من المسؤولية عن الاخفاقات الحاصلة.
خطاب طالبان الجديد والمعتدل سوف يقطع الطريق امام محاولات عزلها .
الخلاصة:
مهما طال زمن الأحتلال الأجنبي، ومهما أمتلك من الة حربية غاشمة ،فان مصيره الانسحاب والهزيمة وتبقى الاوطان ملك للشعوب وتتحطم على صخرة صمودها موجات الغزاة والطامعين . وقرار الانسحاب الامريكي من افغانستان قرار صائب ولو جاء متاخراً ، لطي صفحة سوداء من الماضي الأليم الذي تسبب في تدمير افغانستان و كذلك العراق وشعوبها.
تزامنت خطة الانسحاب الامريكي وجود عدة سلبيات تتحمل مسؤوليتها القيادات العسكرية والسياسية الامريكية ، ابرزها ، الثقة الزائدة بالقوات الحكومية وامكانية صمودها بوجه طالبان ، فضلا عن سوء تقدير وتقييم قوة حركة طالبان وسرعة استثمارها للموقف وتمكنها من قلب الطاولة على حكومة اشرف غني وقياداته السياسية والعسكرية واجبارها على الهزيمة.
*ضابط عراقي برتبة فريق ركن
494 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع