الدكتور عدنان هاشم
إلى عشاق الأدب أهدي هذه المقالة
في الذكرى الثمانين لرحيل مي زيادة ، الأديبة التي عصفت بها الأقدار
من هي مي زيادة التي وصفت بفراشة الأدب والتي قال فيها الشاعر اسماعيل صبري
روحي على بعضِ دور الحيِّ حائمةٌ
كظامئ الطير تواقاً إلى الماءِ
إن لم أمتع بميٍ ناظري غداً
أنكرتُ صبحَك يا يومَ الثلاثاءِ
فما هو يوم الثلاثاء وما علاقته بصالون مي الأدبي في القاهرة ! هذا ما سوف نتعرف عليه في هذه العرض المختصر .
ولدت مي زيادة في اسرة مسيحية في مدينة الناصرة من أب لبناني وأم فلسطينية ، واسمها الحقيقي ماري إلياس زيادة ، اهتم والدها بثقافتها بصورة مبكرة وانتقل بها إلى لبنان، فأحبت هواءه النقي وطبيعته الساحرة ومنظر البحر الذي تتلألأ مياهه الزرقاء عن بعد . وكانت قد عرف عنها منذ صغرها حبها للأدب وإيثارها للخلوة لتنفرد بكتبها فتنهل من نمير المعارف الأنسانية ، فأتقنت تسع لغات ولكن الفرنسية كانت لغتها الأثيرة عندها فقرأت لفولتير وجان جاك روسو وهيكو وغيرهم من كتاب عصر التنوير الذي سبق الثورة الفرنسية . انتقلت إلى القاهرة فدرست الآداب العربية والفلسفة الأسلامية . وكانت مصر تعج في ذلك الوقت بكبار الأدباء ورواد النهضة الحديثة وكانت القاهرة تستقطب كل الأفكار الصادرة منها والواردة . كتبت مي في مجلة والدها ( المحروسة ) والمقتطف والهلال تارة باسمها الصريح وتارة بأسماء مستعارة فكتبت كتبا عدة منها " يوميات فتاة " و "باحثة البادية " وتعرفت على هدى الشعراوي وملك حفني ناصف الملقبة بباحثة البادية اللتين كانتا من أنصار تحرير المرأة وتعليمها وفك قيودها التي تحجم فكرها و تقزم شخصيتها فتأثرت مي بهذه الحركة النسوية وصارت من دعاة نهضة المرأة في مصر وغيرها . استمرت مي تنشر في المجلات المصرية فأعجب الناس بها وبطلاوة أدبها واطلاعها على المعارف الغربية. كتب أنطون جميل يمتدح أدبها وسعة ثقافتها "
" ما أجمل هؤلاء الرجال تذيع مآثرهم فتاة شاعرة وتمجد أرواحهم بلغة لم يعرفوا عنها إلا الأسم ، وليدة جبل الزيتون وربيبة جبل الأرز وفتاة وادي النيل بلغة أهل المضارب ". كانت بداية شهرة مي زيادة الواسعة أنها قرأت رسالة لجبران خليل جبران سنة 1913 في تكريم الشاعر خليل مطران ، فخلبت الألباب بجمالها ورقتها وطلاوة عباراتها وحلاوة كلامها . فلم يألف الأدباء مثل هذه المرأة في مصرالتي تتكلم لغات تسعا وتعزف على العود والبيانو وتكتب الشعر بالفرنسية وتتحدث عن شكسبير وهيجو كما تتكلم عن المتنبي وأبي العلاء . وكانت إلى ذلك على جانب من الثراء مكنها أن تفتح بابها فكان بيتها صالونا للأدباء والشعراء كل يوم ثلاثاء فيذكرنا هذا الصالون بمنتدى ولادة الأندلسية التي خلدها شاعر الأندلس ابن زيدون . كان من رواد ذلك الصالون طه حسين والعقاد والرافعي واسماعيل صبري الشاعر والمازني وولي الدين يكن وغيرهم ، فكانت تبدأ يومها بتقديم القهوة وتعزف لهم على العود أو البيانو ثم تبدأ المطارحات الشعرية والأدبية وتبادل الأفكار السائدة ومنها شؤون المرأة وأشياء أخرى كثيرة .
وقع في غرام مي الكثير من روادها ولكن رومانسيتها كانت من نوع آخر فلم يفز بقلبها أحد من هؤلاء ، أما قلبها فقد فاز به شاعر وأديب ورسام عبر البحار في العالم الجديد ، ألا وهو جبران خليل جبران ، فتبادلا الرسائل لمدة عشرين عاما علما أنهما لم يلتقيا مرة واحدة . كان حبها له من نوع الحب العذري الذي تغمره السعادة إن حازفقط بقلب الحبيب دون الهبوط إلى متعة الجسد . كان حبها لجبران عنيفا كما نراه في رسائلها له . كتبت له في إحدى رسائلها :
" ما معنى هذا الذي أكتبه؟ إني لا أعرف ماذا أعني به ، ولكني أعرف أنك محبوبي ، وإني أخاف الحب . إني أنتظر من الحب كثيرا فأخاف أن لا يأتيني بكل ما أنتظر. أقول هذا مع علمي بأن القليل من الحب كثير . كيف أجسر على الإفضاء إليك بهذا وكيف أفرط فيه ؟ لا أدري "
وفي رسالة أخرى " غابت الشمس وراء الأفق ، ومن خلال السحب العجيبة الأشكال والألوان حصحصت نجمة لامعة هي الزهرة ، (إلهة الحب) . أترى يسكنها كأرضنا بشر يحبون ويتشوقون . ربما وجد فيها من هي مثلي لها واحد : جبران. "
كانت بداية مأساتها وفاة أمها ثم أبيها ثم وفاة جبران سنة1931 فرحل عنها في حب لم يكتمل ، ووجدت نفسها وحيدة كئيبة تعصف بها الكآبة في نوبات سوداوية شديدة فانتقلت إلى لبنان لعلها تجد السلوى عند بعض أقرباء أبيها ، فكانت كالمستجير من الرمضاء بالنارِ . فقد طمع أقرباؤها في إرثها من أبيها ، فاستغلوا حالتها النفسية وأقنعوا الطبيب النفسي في بيروت فأدخلها مستشفى العصفورية للأمراض العقلية في بيروت سنة 1937 ، وبقيت هناك أحد عشر شهرا . قام الأديب اللبناني أمين الريحاني ومعه ثلة من سياسيي وأدباء لبنان وسورية بحملة لإخراجها من هذا المستشفى الذي هو كالسجن ، فأجريت عليها الفحوص النفسية وقرر الأطباء أنها تتمتع بكامل قواها العقلية . ولكنها لم تتعاف من تلك النكبة التي ألمت بها ففقدت ثقتها بالناس وبكل أقاربها فكأني بها تتمثل بشعر طرفة بن العبد :
وظلمُ ذوي القربى أشدُّ مضاضةً
على المرءِ من وقع الحسامِ المهندِ
عادت مي إلى مصر امرأة محطمة ، فقدت ثروتها وحبها وثقتها في وفاء الأنسان ، وقد كان يقدر لها أن تنهض ثانية من كبوتها لو أنها وجدت في مصر من يساندها في محنتها ولكن الكل قد تخلى عنها ، فقد وجدوا فيها امرأة محطمة هرمة كانت كشبح يحكي أيام عزها ، فانفضوا من حولها ولم يعد أي من الأدباء الذين عرفتهم يزورها أو يكتب لها، وجاءت الحرب العالمية الثانية فألقت بكلكلها الثقيل على الأنسانية المتعبة فزادت من شقائها ، وزاد ذلك من عزلة مي حتى أذن ربها لها بالرحيل سنة 1941 فكانت حبا لم يرتو ولحنا لم يكتمل . صعدت روحها القلقة إلى بارئها شاكية ما لاقته في دنياها من عذاب وعناء ونكران للجميل ، فلم يشيع جنازتها سوى ثلاثة ولم يكتب عن رحيلها آنذاك سوى أسطر لا تشفي الغليل.
كتبت مي زيادة يوما في رسائلها إلى يعقوب صروف رئيس تحرير مجلة المقتطف " نعم أتمنى أن يأتي بعد موتي من ينصفني ويستخرج من كتاباتي الصغيرة المتواضعة ما فيها من روح الإخلاص والصدق والحمية والتحمس لكل شئ حسن وصالح وجميل "
نعم يا بنت زيادة ، جرى قلمي بعد موتك بزمن طويل وأنا من أرض الأنكلوساكسون بأنصافك ، ولعل كلماتي المتواضعة تخرق حجب الغيب فتصل إلى روحك القلقة فتدخل إليها بعض السرور في الثناء على أدبك ومعرفتك وريادتك للأدب العربي وصدقك في وقوفك مع المرأة العربية وحقوقها لتنهض من سباتها العميق وجهلها المطبق لتلحق بركب العلم والحضارة .
الدكتور عدنان هاشم
لندن
30 أيلول 2021
1626 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع