من تاريخ الميكيافلية العربية

                                                       

                           الدكتور عدنان هاشم


من تاريخ الميكيافلية العربية

جاء الإسلام بتعاليمه السمحاء والتي تؤكد على مكارم الأخلاق وصدق المعاملة والوفاء بالعهود . وهذه الأخلاق لا تتلائم مع الميكيافيلية والتي تؤمن أن الغاية تبرر الوسيلة . عُرف بنو أمية منذ الجاهلية بخلق لا يتلائم وتعاليم الإسلام السمحاء ، لذا فقد حاربوه من أول يوم ، وحاولوا القضاء عليه في مهده ، ولكن الله سبحانه شاء أن يظهردينه ويؤيده بنصره ، فلم ير بنو أمية بداً من الخضوع للدين الجديد . وقد منَّ النبي عليهم وعلى غيرهم من رجال قريش بالعفو فسموا بالطلقاء .
كان بنو أمية يمثلون الميكيافيلية العربية ، فهم لم ينظروا إلى الإسلام كدين سماوي وإنما مُلكٌ حاربهم عليه بنو هاشم فغلبوهم ، فكانوا ينتظرون الكرة والإنقضاض . وقد بدرت من أبي سفيان مواقف تدل على ذلك ، منها قوله للعباس عم النبي عند فتح مكة " لقد أصبح ملك ابن أخيك عظيما " وعندما بويع عثمان بالخلافة نصح بني أمية بقوله " تلاقفوها تلاقف الكرة حتى تكون في صبيانكم وراثة ".
نأتي إلى عميد الميكيافيلية العربية ، معاوية بن أبي سفيان الذي هو موضوع هذا البحث . لقد سبق معاوية ميكيافيللي بتسعمائة عام ، مع الفرق أن معاوية طبق الميكيافيلية بتفاصيلها بصورة عملية وزاد عليها ، بينما ضمن ميكيافيللي كتابه توصيات نظرية ينبغي للأمير فعلها لتثبيت ملكه واستمراره ، ولو أن معاوية كتب كتابا يشرح فيه أساليبه الملتوية في معاملته لمنافسيه لطغى على شهرة ميكيافيللي ، ولصار له قدوة يستقي منه ميكيافيللي فلسفته السياسية .
كان يزيد بن أبي سفيان على رأس أحد الجيوش التي فتحت بلاد الشام في خلافة أبي بكر وأول خلافة عمر ، وكان يساعده في ذلك أخوه معاوية بن أبي سفيان الذي كان شديد الطموح قوي الإرادة ، فلما مات يزيد بالطاعون الذي اجتاح الشام حل معاوية محله في إمارة الشام ، وفي خلافة عثمان توسع ملكه حتى شمل الأردن وفلسطين. بدأ معاوية بتوطيد ملكه منذ البداية باتخاذ النظم الرومانية الإدارية في سياسته لبلاد الشام ، واستعان بسرجون بن منصور الرومي الذي كان نصرانيا فأسلم ظاهريا فصار كاتبه وكاتب ابنه يزيد من بعده ، وهو الذي أشار على يزيد بن معاوية أن يرسل عبيد الله بن زياد لحرب الحسين . كان من أولويات معاوية تثبيت أركان حكمه ، وكان النظام القبلي للعرب آنذاك أن الحاكم إذا كسب شيخ القبيلة فقد كسب القبيلة كلها ولو لم يأبه بأفرادها، فولاؤهم تبع لولاء شيخهم ، فأغدق الأموال على رؤساء القبائل من يمانية وقيسية فاشترى ولاءهم بالمال ، ثم كانوا أكبر عون له في حربه مع الخليفة الشرعي علي بن أبي طالب عليه السلام . كان لا يبالي من أين يكون مصدر المال ما دام يخدم مصالحه ، فرغم حرمة الخمر، فإنه كان يتاجر بها إبان إمارته حتى احتج عليه بعض الصحابة فلم يأبه لذلك ، ولم ينزع عن ذلك حتى خلافة علي ، فعند ذلك تلبس بلبوس الدين وترك تجارة الخمر وأظهر بعض التدين في محاولة منه ليكون نداً لعلي الذي عرف بعدله وتقواه . كان يميل إلى البذخ الى حد الإسراف فبنى قصر الخضراء بدمشق لسكناه والذي أنبه عليها أبو ذر رضي الله عنه عندما كان في دمشق فقال له " إن كان هذا من مالك فهو الإسراف وإن كان من مال المسلمين فهو الخيانة " . وكان يظهر بمظهر الملوك مدعيا أن ذلك مما يبعث الرهبة في قلوب الروم ، بينما قنع كثير من الصحابة بحياة الزهد تأسيا بنبيهم .
كان معاوية ينتظر اللحظة المناسبة للوثوب على الخلافة التي سنحت له بعد مصرع عثمان ، فلما حوصر عثمان في داره استنجد بمعاوية ، فبعث بجيش من الشام وأمرهم أن يعسكروا على بضع فراسخ من المدينة حتى إذا قتل عثمان سحب معاوية الجيش إلى الشام وكان عثمان يعرف منه ذلك عندما قابله في المدينة فقال له معاتبا:
لا ألفينَّكَ بعد الموت تندبني وفي حياتي ما زودتني زادا
وإذا بمعاوية يذرف دموع التماسيح ويعلق قميص عثمان في مسجد دمشق ليثير عواطف الناس فيقسمون على الثأر لمقتل عثمان ، ولم يعلموا لسذاجتهم أنهم سيسفكون دماءهم في سبيل استئثاره بالملك. كان من سياسته استقطاب كل من له مكر ودهاء إلى صفه في حربه لعلي ، فدعا إليه عمرو بن العاص الذي كان مقيما في فلسطين ، والذي كان من أشد المحرضين على عثمان باعترافه ، حيث أقصاه عثمان عن ولاية مصر فحقد عليه ، فجاءه معاوية من نقطة ضعفه ، فوعده بولاية مصر إن فتحت مجددا وخرجت من سلطان علي (ع) ، فكانت صفقة غريبة كمن يشتري سمكا في نهر، ولكن كان قضاء الله أن تفتتح مصر ويصبح عمرو بن العاص واليا عليها . كان عمرو أكبر عون لمعاوية في صفين حيث أنه كان وراء حمل المصاحف وانشقاق أهل العراق وعصيانهم لإمامهم بعدما كاد معاوية يولي الأدبار من شدة القتل ووصول جند الإمام إلى سرادقه .
في أول أيام صفين سيطرجيش معاوية على ضفاف الفرات ، ومنع معاوية جند العراق من الماء وأقسم أن لا يدعهم يشربون الماء حتى يموتوا عطشا ، فما كان من جيش علي إلا أن هجموا على جند الشام فأجلوهم عن الماء ، فطلب أهل العراق من أمير المؤمنين أن يمنعهم من الماء فرفض عليه السلام الطلب ، وسمح لجيش الشام بشرب ماء الفرات أسوة بجيشه ، ولم يحفظ بنو أمية هذا الجميل فقتلوا الحسين عطشانا بشط الفرات في كربلاء .
كان من أساليب معاوية في حربه مع علي نشر الرعب بين السكان الآمنين القاطنين في أطراف العراق والحجاز فتكررت الغارات حتى أزهقت فيها آلاف الأرواح ، وكان أشدها غزوة بسر بن أرطاة الذي كان قاسيا سفاحا على اليمن والتي قتل فيها الأطفال حتى جابهته امرأة بقولها " إن سلطانا لا يستقيم إلا بقتل الأطفال لسطان سوء ".
ليس الإرهاب وحده كان سلاح معاوية ، فقد كان السم أحد أسلحته ضد خصومه وقد عرف عنه قوله " إن لله جنودا من عسل " عندما دس السم لمالك الأشترعند ذهابه إلى مصر واليا من قبل علي ، وكان لمعاوية طبيب نصراني اسمه ابن أثال متخصص بمعرفة السموم ، فدس معاوية السم إلى الإمام الحسن بن علي عن طريق زوجته جعدة بنت الأشعث ، عندما وعدها بالمال وتزويجها من يزيد ، فأعطاها المال ولم يزوجها ليزيد خوفا عليه من غدرها.
ومن سياسته اللين حين لاتنفع الشدة والشدة حين لا ينفع اللين ، فعرف عنه شعرة معاوية وهي قوله " لو كان بيني وبين الناس شعرة ما قطعتها ، إن شدوا أرخيت وإن أرخوا شددت " وكان يترك الأعمال القذرة البالغة القسوة لولاته ، ومنهم السفاح زياد بن أبيه الذي أسرف في قتل أهل العراق والذي استلحقه وهو يعلم أنه ابن زنا خلافا لقول رسول الله " الولد للفراش وللعاهر الحجر " ولكنها السياسة الملعونة . كان معاوية لا يبالي بنقض العهود والمواثيق إذا رآى في ذلك تثبيتا لحكمه ، وقد أبرم للإمام الحسن عهودا لتنازله عن الخلافة فنقضها واحدة تلو الأخرى وجعلها تحت قدميه.
يخطئ من يظن أن معاوية غلب عليا بكيده وحسن سياسته ، فإن سياسة علي عليه السلام هي سيرة النبوة التي لم يحد عنها قيد شعرة إطلاقا ، ومن يقرأ الكتب التي جرت بين علي ومعاوية والتي جاوزت الثلاثة والعشرين يرَ أن عليا عليه السلام نقض في كتبه كل كذب وخداع وكيد لمعاوية واحدا بعد واحد وكان يقول " والله ما معاوية بأدهى مني ولكنه يغدر ويفجر ولولا كراهية الغدر والفجور لكنت من أدهى الناس " ولكنه جاء بعد اندلاع الفتنة الكبرى وتمرد قريش عليه التي كانت تبغضه لأنه وترها في فلذات أكبادها في بدر وأحد والخندق ، والتي عبر عنها عمر بقوله " تنظر قريش إلى علي نظر الثور إلى جازره " ثم ابتلي بأسوء جند وأخبثه من أهل العراق حيث يأمر فلا يطاع .

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

1632 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع