هل يمكن اصلاح الوضع الاقتصادي العراقي.. وكيف؟ تعقيب على ما طرحه السيد وزير المالية عن مستقبل العراق المالي

                                                               

                              د. سعد ناجي جواد


هل يمكن اصلاح الوضع الاقتصادي العراقي.. وكيف؟ تعقيب على ما طرحه السيد وزير المالية عن مستقبل العراق المالي

تناقلت المحطات الاخبارية ومواقع التواصل الاجتماعي بشكل كثيف كلمة القاها السيد وزير المالية العراقي يوم امس عن الوضع الاقتصادي، اتسمت بالصراحة وباسلوب الصدمة لتحذير العراقيين من انهيار اقتصادي وشيك ينتظرهم في المستقبل القريب، اذا هم لم يبادروا الى تدارك الامور باجراءات اقتصادية ناجعة لتلافي هكذا كارثة. لا احد يختلف مع ما طرحه السيد الوزير، ولكن الملاحظ ان حديثه خلا تقريبا من حلول لهذه الكارثة القادمة، وهذا يعد مثلبة عليه وهو الخبير الدولي في هكذا امور. وزاد على هذا الاغفال انه اعتبر ان الاصلاح سيكون مسوولية من سياتي بعده. والسوال الاول الذي يتبادر الى الذهن هو اذا كان الوزير قد شخص الخطر بهذه الدقة فلماذا لا يقل لنا ماذا سيفعل بشانه؟ والاهم ماذا فعل لمعالجة الحالة التي كانت موجودة منذ توليه المنصب؟ باستثناء اقدامه على خفض سعر الدينار امام الدولار الامر الذي اضر بمصالح شريحة كبيرة من المجتمع، وهو يعلم قبل غيره ان الافلات من الافلاس في السنين الماضية والذي تحدث عنه، لم يات نتيجة جهوده وخططه المدروسة، وانما ما انقذ العراقيين، وانقذه هو ايضا، الارتفاع غير المتوقع في سعر برميل النفط، والذي وصل الى اكثر من ضعف قيمته في الفترة التي تبوأ فيها منصبه..

طبعا يجب ان اعترف باني لست اقتصاديا، وليست لي تجربة بهذا المجال تُجاري او حتى تقترب من خبرة السيد الوزير او خبرة اي اقتصادي مختص، ولكني ساحاول ان اناقش المشكلة من وجهة نظر مواطن بسيط يعيش في اجواء هذا الواقع الاقتصادي الكارثي، الذي وُضِعَ فيه العراق منذ عام 2003، بل وحتى قبل ذلك في ظل الحصار الظالم واللا انساني الذي فرضته الولايات المتحدة على البلاد لمدة 13 عاما.
اولا وقبل كل شيء اسمح لي يا سيادة الوزير ان اذكرك بان هذه المشكلة هي ليست وليدة اليوم، وانما بدات مع بداية الاحتلال البغيض وسوء التخطيط بل والاستهتار الذي تعامل به المحتل مع الاقتصاد العراقي وموارد البلاد، والاهم من ذلك الفساد المستشري والمتزايد وغير المسبوق. وكنت انت جزءا من الحكومات التي نصبت بعد الاحتلال وشغلت مناصب مهمة، وقمت بتثبيت هذه التجربة بكتاب قيم شرحت فيه، بعد تركك المناصب التي تبوأتها طبعا، الاخطاء التي اُرتُكِبَت. واسمح اي ان اقول لك بصراحة ارجو ان لا تزعجك انك انت احد المسؤولين عن هذه المشكلة الكارثية، على سبيل المثال فاني اذكر جيدا انك عندما كنت وزيرا للتجارة في بداية الاحتلال لجأ اليك مجموعة من اكبر الصناعيين في العراق طالبين تدخلك لاتخاذ اجراءات عادية لحماية صناعتهم وذلك عن طريق ضبط الحدود ومنع دخول الكميات الهائلة من البضائع الرديئة والرخيصة الثمن التي اغرقت الاسواق واثرت كثيرا على انتاجهم وسببت لهم خسائر كبيرة، وكان جوابك لهم ان هذا الامر قد انتهى ولا حماية بعد اليوم، وهذا سوق مفتوح ومن الافضل لهم اذا كانوا غير قادرين على مجاراة السوق ان يغلقوا مصانعهم ويتجهوا الى اعمال اخرى. واتمنى ان لا تكون قد نسيت هذه الحادثة التي لا يزال معظم اشخاصها احياء يرزقون. وبالفعل فان هذه السياسة وهذا القرار، الذي سار عليه من اتى من بعدك، تسبب في اغلاق معظم المصانع الكبرى في العراق، اهلية ام حكومية، ( التي كانت تقدر بحوالي خمسين الف مصنع) ورمي عمالها وموظفيها في الشارع، ولم يبق من المشاريع الصناعية سوى اعداد بالاف بسيطة. والان بمقدور الدولة ان تتخذ الاجراءات الكفيلة باعادة تشغيل هذه المشاريع الصناعية المعطلة والمهملة كي تستوعب مئات الالاف من العمال والموظفين الذين انقلبوا للعمل في دوائر الحكومة. ناهيك طبعا عن ضرورة حث الحكومة التي انت (عقلها الاقتصادي) على اتخاذ الاجراءات المطلوبة لمحاسبة وزراء الصناعة السابقين، وبالذات احدهم الذي حول الميزانية التي خصصت للصناعة والتي تقدر ب ثمانمائة مليون دولار الى حسابه الخاص، واسترداد ما نهبوه.
ثانيا وقبل ان تُرِعب الناس بمستقبل مظلم وافلاس محتم، وهو توقع صحيح جدا، كان الاجدر بك ان تتخذ اجراءات واضحة ومطلوبة وضمن صلاحياتك، لكي تشعر الناس بان الاصلاح ممكن ومتيسر. ومن هذه الامور مثلا ضبط المنافذ الحدودية وضبط مواردها وادخالها الى خزينة الدولة. فانت خير من يعلم بان هذه الموارد تنهب من قبل احزاب ومليشيات مسلحة متنفذة في شمال العراق وشرقه وغربه وجنوبه. وهذا المبالغ (التي لايصل منها الى خزينة الدولة الا النزر اليسير جدا) يمكن ان تساهم بصورة كبيرة في تحسين جوانب كثيرة من الوضع الاقتصادي.
ثالثا بصفتك وزيرا للمالية كان يجب عليك ان تتخذ الاجراءات المطلوبة للكشف عن الموظفين الفضائيين الذين لا وجود لهم الا في قوائم الرواتب، سواء في اقليم كردستان ان في باقي انحاء العراق، وفي الدوائر المدنية والعسكرية، حتى تجاوز عدد من يتسلمون رواتب شهرية اكثر من ستة ملايين شخص، (في وقت كان العدد عند وقوع الاحتلال لا يصل الى المليون). هذا ناهيك عن الاعداد التي تتسلم اكثر من راتب والمخصصات الهائلة غير المبررة التي تاخذها بعض الجهات. وانت تحدثت كما تحدث غيرك عن الارقام الفلكية التي تتكبدها الخزينة العامة لتوفير رواتب هذا العدد غير المنطقي وغير المعقول من الموظفين. هذه عملية لا تحتاج سوى الى لجان متخصصة تشكل بامر منك، بموجب صلاحياتك، للتحقق من الارقام. نعم ان هذه العملية تحتاج الى اجراءات صارمة للوقوف بوجه مافيات الفساد التي استفحل امرها بشكل كبير، وقد تكون اصعب من ان يتحملها وزير لوحده، بل هي مسوولية حكومة بكاملها، ولكنها تبقى ضمن مسؤولياتك، وليست مسوولية بسطاء الناس الذين طلبت في حديثك دعمهم لتلافي الكارثة القادمة.
رابعا بصفتك وزيرا للمالية فانك تعلم جيدا كميات النفط الهائلة التي تُهرَب من قبل جهات متنفذة من حقول النفط العراقية من الشمال الى الجنوب، والتي لا يدخل الى خزينة الدولة اي مبلغ منها، وكذلك مسالة عدم التزام الاقليم بالاتفاقات المتعلقة بذلك، فهل فعلت شيئا في هذا الصدد الذي يمكن ان يضمن تحسين موارد الدولة بصورة كبيرة؟ والامر الاخر الذي هو ليس من واجبك وانما من واجب الحكومة التي انت احد اعضائها بل وعمودها الاقتصادي، يتعلق بالهدر الكبير والهائل للثروة الغازية التي يمكن استثمارها بمشاريع يمكن ان تنجز خلال اقل من سنة وبمبالغ بسيطة هي اقل بكثير من المليارات التي تُصرف لاستيراد الغاز لتوليد الكهرباء، وهو الماساة الاخرى التي اضطر العراقيون على العيش في ظل شبه انعدامها منذ ان قامت قوات الاحتلال بتدمير المحطات الكهربائية اثناء الاحتلال. الا يجدر بك، وبالتعاون مع وزارة النفط، ان تبادر الى تخصيص مبالغ لهكذا مشاريع تؤمن امدادات ثابتة ورخيصة الثمن من الغاز للمحطات الكهربائية وتصدير ما تبقى منه؟
خامسا اليس المطلوب منك كوزير للمالية ان توضح للناس مقدار الميزانيات الضخمة المخصصة لجهات مستحدثة ضُخِمت اعداد منتسبيها بشكل غير معقول، وذلك ضمن خطة متكاملة لكشف عمليات الفساد والهدر، او النهب المنظم لموارد الدولة كي تبريء ذمتك وتترك لمن سياتي بعدك برنامجا كاملا اذا ما التزم به سيحقق وفرة مالية كبيرة؟ وانت بحكم منصبك وخبرتك الاقتصادية والمالية بالقطع على علم ودراية بابواب الفساد والهدر هذه. وتستطيع بكل سهولة عن طريق تفعيل ودعم عمل ديوان الرقابة المالية، الذي عُرِف على مر السنين بكفاءته في هذا المجال، الكشف عن الفساد والفاسدين للراي العام، وهذا اضعف الايمان.
سادسا بالتاكيد انت تعلم يا سيادة الوزير بامور اخرى تسبب حجب كبير (او سرقة) لموارد الدولة او تضيع فيها عملات صعبة يمكن الاستفادة منها؟ مثلا 1. ايرادات السياحة الدينية، والتي بالتاكيد انت على علم بما يمكن ان توفره للدولة من موارد، ولعلمك فان هذا المورد، والذي لم يقتنع به النظام السابق الا بعد جهد جهيد، وفر للعراق ايام الحصار موارد لم يكن يحلم بها وساهمت بشكل كبير في تعويض بعض خسائر ايقاف تصدير النفط، بحيث تم توسيعها وترتيبها وزيادة اعداد الزوار بشكل كبير ومنتظم. هذا المورد الان يذهب الى شركات ايرانية وجهات متنفذة تقوم بجلب الزوار وتاخذ منهم كل التكاليف، والادهى ان هذه الجهات لا تدفع دينارا واحدا كرسوم ضريبية للدولة. 2. مزاد بيع العملة الصعبة في البنك المركزي، والذي اصبح واضحا للقاصي والداني انها عملية مقننة لتهريب العملة الصعبة الى الخارج، وانت خير من يعلم بذلك. 3. الهدر الكبير للعملة الصعبة عن طريق فتح الباب لاستيراد السلع الرديئة وغير الضرورية، والاخطر من ذلك تضخيم اسعار هذه الاستيرادات بصورة غير معقولة ومن دون وجود رقيب او حسيب، لتهريب العملة بصورة (قانونية).
واخيرا اسمح لي يا سيادة الوزير ان اقول لك ان ما ذكرته في كلمتك من حقائق يعرفها القاصي والداني، وما مطلوب من شخص متخصص مثلك هو ليس تعداد المشاكل او التحذير، اذا ما بقيت الامور على ماهي عليه، من مستقبل مظلم آت بدون شك، وانما المطلوب هو الحديث عن الحلول بل والبدء باتخاذ الخطوات اللازمة، واعلان خطة متكاملة لاصلاح الوضع المالي للبلد. واذا كنت تشعر او تعتقد ان هناك جهات متنفذة ومستفيدة وموغلة في الفساد لن تسمح لك بالتحرك في هكذا اتجاه، وانها ستقف في وجه مثل هذا البرنامج فمن الافضل لك، واحتراما لنفسك، ولكي لا يُثَبت اسمك مرة اخرى مع اسماء اخرين تسببوا في ما الت اليه الامور، ان تقدم استقالتك، ولكن بعد عرض مشروعك الاصلاحي على الملأ، وتسمية الجهات التي يجب ان تُحاسب، والجهات التي تقف حجر عثرة امام اي اصلاح او البدء به. خاصة وانك بما يشبه الاكيد سوف لن يجدد لك كوزير للمالية في التغيير القادم، ومهما تاخر هذا التغيير. على الاقل لكي تثبت نقطة ايجابية واضحة تستطيع ان تدافع بها عن نفسك بعد ان تنتهي خدمتك. هكذا خطوة، حتى وان جاءت متاخرة جدا، هي افضل بكثير من ان تقوم بكتابة كتاب بعد تركك الوظيفة تشرح فيه ماجرى وما كنت تنوي عمله ولم تفصح به صراحة اثناء الوظيفة وعندما كان بمقدورك ان تفعل شيئا، لان كلامك وكتاباتك بعد ان تترك الوظيفة سوف لن تغني ولن تسمن من جوع، والاهم انها لن تعفيك من المسؤليه.
ويؤسفني ان اقول لك مع كل الاحترام وبصراحة الانسان الذي لا يهدف الى التجريح، والذي ربطت عائلته بعائلتك علاقات طيبة وقديمة، ان تاريخك مليء بالمحطات السلبية، بدات منذ ان قبلت ان تعمل مع الاحتلال والانخراط في النهج الطائفي الذي كان من المفترض ان يكون بعيدا كل البعد عن شخصك، كونك انسان علمي وحاصل على اعلى الشهادات ومن ارقى الجامعات الدولية، وقضيت معظم حياتك في مجتمع ديمقراطي متنور، كما انك قبلت ان تنفذ مخططات المحتل عندما كنت وزيرا للدفاع، ولم تعترض عليها رغم كارثيتها. واسمح لي ان اقول لك انك الان، وكما اخبرت العراقيين ان لديهم فرصة اخيرة لتجنب الكارثة، امامك انت ايضا فرصة اخيرة لتسجيل موقف قد يحسب لك ولعائلتك في المستقبل. وكن كما قال الرسول الكريم ﷺ (من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه؛ وذلك أضعف الإيمان)
كاتب واكاديمي عراقي

  

إذاعة وتلفزيون‏



أفلام من الذاكرة

الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

933 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع