عشرون عاما من عمر العراق للنسيان.. حتى وان زادت عن ذلك.. كيف تعاملت دول اخرى مع هكذا حالة؟

                                                         

                             د. سعد ناجي جواد

عشرون عاما من عمر العراق للنسيان.. حتى وان زادت عن ذلك.. كيف تعاملت دول اخرى مع هكذا حالة؟

ها قد حلت ذكرى غزو العراق البغيضة، ودخلنا في السنة العشرين من سنوات الاحتلال المباشر وغير المباشر. هذه السنوات العجاف التي كانت ولا تزال ثقيلة ومؤلمة واصعب ما فيها انها مازالت مستمرة، ربما يقول البعض انها فترة عابرة في عمر التاريخ، ولكن كما يقول المثل المعروف (من ياكل العصي لا كمن يعدها)، نعم هذه السنوات تعتبر لاشيء في تاريخ الامم، ومن يقرا تاريخ اية امة سيجد هنالك ما اصطلح على تسميتها (الفترة المظلمة)، وليس من خيار لدى العراقيين سوى ان يعتبروها كذلك لا بل ان يعتبروها سنين للنسيان، سنين سوداء من تاريخهم بكل ما تحمل الكلمة من معاني. سنين سادت فيها النطيحة والمتردية، سنين سُرِقَت فيها ثروات بلدهم وقُتِلَ فيها اعداد كبيرة من خيرة شبابهم ومن اطفالهم امل المستقبل، ناهيك عن من هُجِرَ وغُيّبَ وشُرِدَ من من ابناء كل مكوناتهم، القومية والدينية والمذهبية دون استثناء، واخيرا سنين لاخذ العبر منها لمن يريد ان يعتبر.

ما اثار هذا الشجن الدفين في النفس منذ يوم 9 نيسان 2003 المشئوم ولحد الان سببان، الاول غير مباشر والاخر مباشر. غير المباشر والدائم هو الحال الذي وصل له العراق الكبير بعد عقدين من الزمن، وفساد وفشل الوجوه التي سادت وحكمت، ومع ذلك فانها لا تزال تعتقد انها لوحدها الاحق في حكم العراق، وما زالت تتصارع من اجل المناصب ويعاد تدويرها عاما بعد عام على الرغم من كل ما نال العراق من كوارث سياساتها وادارتها.
اما السبب المباشر فهو تداول العراقيين لفلمين وثائقيين وثق احدهما اسماء من حكم العراق من الملوك والرؤساء والثاني رؤساء الوزراء منذ بداية القرن الماضي ولحد الان. ولا يمكن لاي شخص يمتلك ولو نزرا يسيرا من البصيرة الا ان يقارن بين القامات الكبيرة والكفوءة التي بنت العراق، حتى وان اختلفنا معها سياسيا، وبين الوجوه التي توالت على الحكم بعد الاحتلال. هناك من يقول، مع قدر من الصحة، ان الخط البياني بدا في الانحدار بعد ثورة 14 تموز 1958، واستمر حتى عام 2003، ليهبط الى ادنى المستويات بعد ذلك التاريخ وحتى يومنا هذا. وللانصاف فان من يقول بهذا الراي يظلم وجوه عراقية كفوءة كثيرة وقامات كبيرة تحملت المسؤولية ورفعت من شان العراق في كافة المجالات. بينما بالمقابل لا يستطيع احد ان ياتي بنموذج او اسم واحد بعد الاحتلال يمكن ان يطرح كمسؤول قدم انجازا واحدا للعراق والعراقيين. وهذه ظاهرة نادرة لم يمر بها العراق في تاريخه الحديث.
الاحتلال وما تلاه سبب لعدد غير قليل من العراقيين صدمات كثيرة، قسم منها ما كان متوقعا والقسم الاخر مفاجئا. ما كان متوقعا هو الانقلاب الكبير الذي حصل لشريحة غير صغيرة من العراقيين، ومنهم اعضاء في حزب البعث ومؤيديه والمنتفعين منه، والذين سارعوا للارتماء في احضان القوات الغازية وتطوعوا للعمل معها كادلاء اذلاء، وذلك لان كل من كان له بعض الدراية بالمجتمع العراقي او كان يعيش في العراق كان يعلم جيدا ان مواقف وانتماءات هذه الفئة واندفاعها المزيف والمؤذي كان لاسباب مصلحية، وان الانقلاب في المواقف عندهم بدا منذ ان فُرِض الحصار الظالم واللاانساني على العراق، حيث بدات عملية هروبهم من البلاد وارتماء اعداد لاباس بها منهم في احضان اجهزة المخابرات العالمية. ثم انقلب اصحاب هذه الفئة بعد الاحتلال، بعد ان اطالوا لحاهم، لكي يعملوا ضمن الاحزاب الدينية والطائفية والعنصرية الشوفينية.
وما لم يكن ِمتوقعا ابدا ان العراقيين الذين هبوا لمقاومة الاحتلال وسجلوا اروع صفحات البطولة، ان يعودوا ويرضوا ويستكينوا لما يجري لبلدهم، وان ينساقوا وراء ما ارادت اطراف الاحتلال (الولايات المتحدة وبريطانيا واسرائيل) نشره في مجتمعهم من افكار طائفية وعنصرية ضيقة، بحيث اصبحت النتيجة ان الكل اصبح منشغلا بهذه التفاهات والنزاعات، متناسين المصيبة التي حلت بهم وبالعراق، وكيف ان الطائفية والعنصرية والفساد نخرت بلدهم وبددت ثرواتهم وثروات اجيالهم القادمة، واعادتهم الى ايام شبيهة بايام التخلف التي عاشوها بعد سقوط بغداد على يد المغول عام 1258. واخطر ما في الحالة ان الفساد وصل الى القضاء والى النظام التعليمي، الركيزتين الاساسيتين التي تُبنى عليهما الدول المتحضرة والمتطورة، واصبح الفاسدون يعيشيون بحرية ويبرئون من جرائمهم في لحظات، واصبحت المدارس والمعاهد والجامعات اشبه بمراكز دينية متخلفة تخرج افواجا كبيرة تحسن القراء والكتابة (وربما بصورة سطحية) لكنها جاهزة للقبول بكل الاراء المتخلفة ومندفعة للتطبيل لقيادات تسرقهم وتضللهم، مما يعني ان عجلة الفساد والتخلف ستستمر بالدوران.
ما يجري في العراق هو ليس حالة فريدة او نادرة، نعم قد تكون كذلك لانها تحدث في القرن الواحد والعشرين، ولكن التاريخ يحدثنا عن حالات مماثلة لدول عديدة خضعت للاستعمار الغربي من كافة انواعه، في اميركا اللاتينية واسيا وافريقيا وحتى اوربا (المانيا مثلا)، لكنها استطاعت ان تنهض من جديد واصبحت الان في مصاف الدول الكبرى، او في اقل تقدير من الدول المتطورة.وربما تكون الصين والهند النموذج الاكثر وضوحا. فقبل الثورة الصينية كانت المجاعات تفتك بالناس وكانت البلاد توصف بانها اكثر دول العالم تخلفا وقذارة، (بالمناسبة هذا ما كنا نقراءه في كتب التاريخ والجغرافية في المدارس الابتدائية في الخمسينيات)، ثم في غضون سنوات قليلة تحول الامر الى ان تصبح الصين مكتفية ذاتيا بما تنتجه، ثم اصبحت قوة صناعية وتجارية كبرى بعد ذلك. وكذلك الهند. حتى فيتنام التي دمرها العدوان الامريكي على مدى عقد من الزمن، استطاعت بعد ذلك ان تعيد بناء نفسها وتصبح من الدول المتطورة والمستقرة والتي تعتمد على انتاجها الزراعي من الرز دولا عديدة. كل هذا بالاعتماد على القدرات الذاتية. والحال يسري على دول جنوب شرقي اسيا. وحتى مصر في عهد خالد الذكر جمال عبد الناصر سارت في الطريق الصحيح حتى اختار من خلفه الذهاب الى المعسكر الراسمالي الذي اجبر المصريين على الخصخصة ودمر كل مقومات بناء دولة تكفل الحياة الكريمة للجميع. والان يراد لكل الدول التي تفكر بذلك ان تذهب الى نفس المصير، كل ذلك بدعوى الانفتاح والعولمة. طبعا فشل التجارب العربية الواعدة لم يكن بسبب عجز قادة هذه الحركات عن ادراك ما يجري حولهم، وانما لان الاساس او السياسة التي وضعتها الولايات المتحدة والدول الغربية الكبير (بريطانيا وفرنسا)، في منطقتنا العربية هو ان لا تقوم دولة تصل الى حد معادلة الهيمنة والنفوذ والتمدد الاسرائيلي. بكلمة اخرى ان الولايات المتحدة والغرب على استعداد لتقبل كل تطور في مناطق العالم المختلفة لكن ذلك غير مسموح في المنطقة العربية حفاظا على اسرائيل وامنها.
ان ما قيل اعلاه هو ليس لتبرير ما يجري او لرفع المسؤولية عن العرب شعبا وحكومات، وانما للتذكير ان اي نهضة في اية منطقة عربية تحتاج الى جهدين، جهد لمحاربة الفساد والتشرذم الذي تفشى وانتشر بايدي محلية وجهد لمحاربة المخططات الاستعمارية التي تريد لهذا التخلف والتدهور والفساد ان يستمر بل وان يزدهر. وهذا لن يتم الا بالاصلاح، والذي يجب ان يبدا بالقضاء وبالنظام التعليمي. اما اذا بقي القضاء مسيسا وبقيت دور العلم والتعلم مراكز دينية متخلفة ودكاكين تجارية تمنح الشهادات لمن يدفع اكثر، والقضاء يصدر قرارات اعفاء الواحد تلو الاخر لحملة الشهادات المزورة، ولا يعاقب الفاسدين الكبار فان هذه الفترة المظلمة ستستمر لاجل غير محدود.

أطفال الگاردينيا

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

612 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع