إشكالية المثل القدوة في بلاد العرب

                                                         

                            د. علي محمد فخرو

إشكالية المثل القدوة في بلاد العرب

في الماضي السحيق كانت الأجيال الجديدة من البشر العاديين تقبل بأن تكون مصادر فهمها وحكمها على معنى والتزامات الحياة المحيطة بها نابعة، باقتناع واحترام وثقة مطلقة، من وسط رجال الدين. ما يقوله قادة الدين، من علماء وفقهاء ومدعين ومسؤولين، عما هو مقبول او غير مقبول في حياة الانسان الشخصية او الجمعية، اعتبرته تلك الأجيال سليماً وملزماً وأقرب إلى تحقيق سلامة العيش ورغده.

في تاريخنا العربي تمثلت تلك الظاهرة في المكانة القائدة المؤثرة الموثوق بصدقها لكبار شخصيات الفقهاء، على سبيل المثال، مالك وأبي حنيفة والشافعي وابن حنبل وجعفر الصادق.
وبعد ازاحة الدين من مكانة الصدارة في الحياة الحديثة من قبل الحضارة الغربية، وصعود مكانة الفلسفة والايديولوجيات وعلوم الاجتماع، حل مكان القادة الدينيين الأقدمين الفلاسفة والمفكرون الايديولوجيون والعلماء المخترعون، من امثال روسو وتولستوي وكارل ماكس وأينشتاين وفرويد واللورد راسل وجان بول سارتر وغيثارا وغرامشي. وفي بلاد العرب حل امثال محمد عبده وطه حسين ومحمد عابد الجابري وميشيل عفلق وحسن البنا وجبران خليل جبران وكثير غيرهم. وبالطبع لا يتسع المجال لذكر المئات الآخرين على مستوى الوطن العربي وخارجه.
المهم ان التاريخ يعلمنا بأنه لا تخلو عوالم اي جيل من اسماء اشخاص اعتبرتهم تلك الأجيال مصادر اشعاع فكري او نضالي سياسي جديرة بالاحترام والاقتداء بأفكارها وأفعالها واكتشافاتها.
ومع ان بعض اولئك الأشخاص القدوة انتهوا احياناً بارتكاب الأخطاء الفادحة وأحياناً آخر بالوصولية وخيانة الأمانة الفكرية والنضالية، ومثلوا بالتالي احد مصار فواجع ويأس اتباعهم ومريديهم، الا ان ظاهرة وجود المثل القدوة او الاشعاع الابداعي المتميز ستبقى متواجدة في حياة المجتمعات البشرية إلى الأبد. انها ظاهرة لها اسبابها النفسية والعاطفية والذهنية والاجتماعية الملازمة للانسان.
من هنا اهمية طرح السؤال التالي: ما انواع وصفات الأمثال القدوة في حياة الجيل الشاب العربي الحالي؟ هل هم قادة الفكر والايديولوجيا والاكتشافات والنضال السياسي المضحي المتميز ام انهم من قادة وتميزات نشاطات وعوالم اخرى؟ وهل لهذا التبدل في الأمثال القدوة نتائج سلبية، بل وكارثية؟
الجوانب يكمن في ما طرحته التغيرات العربية والعولمية الهائلة التي رانت على حياة البشر في الآونة الأخيرة.
أولاً: الثقافة العولمية التي يكونها وينشرها نظام اعلامي وفني هائل يركز على خلق ونشر وتشجيع التفاهات وذلك من خلال تمجيد افكار وأخلاق وسلوكيات المجتمع الاستهلاكي والانغلاق على الذات الفردية الأنانية المنشغلة دوماً بعالم الاثارة الغريزية في كل اشكالها وبأي ثمن كان. وأمام هذا الفرد ألوف كتب وأفلام وأغاني التنمية الفردية التي تشير إلى ألوف طرق الوصول إلى تلك الذات المريضة.
ثانياً: اضافة إلى تلك الموجة المكتسحة من الثقافة العولمية تتميز غالبية الحياة الجمعية العربية بتجذر ثقافة دينية سطحية مظهرية، تحارب كل تجديد فكري ديني ضروري، وترفض اي خروج من دائرة التجمد الفقهي الاجتهادي السلفي. كما تتميز بثقافة اعلامية قبلية تعادي كل ما هو ديموقراطي تجديدي في السياسة وتنشر كل ما هو سطحي وغوغائي في عوالم الفنون والرياضة والأنشطة الاجتماعية.
ثالثاً: انزواء الكثيرين من المثقفين العرب عن الانخراط في الحياة السياسية النضالية الجادة، والاكتفاء في افضل الأحوال بممارستها بكثير من الحيطة في القول والكتابة والممارسة اليومية. لقد ذهبت تلك الفترة التي كان المثقفون في طليعة المتظاهرين وفي قلب صخب الخطابات الجماهيرية ومن اوائل الموقوفين والمسجونين.
بالطبع، ما كان ذلك ليحدث لولا القبضة الأمنية الحديدية والمحاربة الظالمة في الرزق والابعاد المتعمد عن كل منابر التعبير في الحياة المجتمعية الوطنية او القومية.
والنتيجة هي اختفاء اشخاص القدوة من المفكرين والمثقفين الملتزمين والمناضلين بشجاعة وبطولة، ليحل محلهم ابطال الرياضة والرقص المبتذل والأغنية البليدة المائعة والخارجون على الأعراف الاجتماعية الأخلاقية المتزنة والمهرجون الشعبويون في امور الدين والسياسة المبتذلة المجنونة.
غياب الشخصيات القدوة، المعنيين بالتغييرات والتجديدات الكبرى، الملهمين والمحركين لعقول وأرواح الأجيال الجديدة، وليس غرائزهم ورغباتهم التافهة.. هذا الغياب يمثل كارثة تضاف إلى كوارث هذا الوطن العربي المنهك.

  

إذاعة وتلفزيون‏



أفلام من الذاكرة

الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

811 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع