بسام شكري
لكل زمان دولة ورجال
عندما تقاعد جدي لامي من خدمته الطويلة في قيادة الحرس الملكي العراقي قبل وفاة المغفور له الملك غازي الأول بشهر واحد تقريبا بسبب حادث سقوطه من على ظهر الحصان وهو يلعب البولو واصابته بارتجاج في الدماغ وتهشم ركبته اليمنى وقد تقاعد في أثرها من الخدمة , لم يكن لجدي ما يعمله خلال اليوم في بيته الكبير الذي استغرق بنائه ثلاث سنوات في منطقة العيواضية في بغداد سنة 1931 فبعد ان يستيقظ من النوم كان يصعد الى غرفته الخاصة في الطابق الأول ويبدا بحلاقة ذقنه في صباح كل يوم كعادته وكأنه مازال ضابطا في الجيش ويستعمل عدة حلاقة قديمة كان يضعها في صندوق خشبي مشبك بعد الانتهاء من الحلاقة , وكان يعمل قهوة الصباح بنفسه و يحرص على ان يعملها بنفسه بنفس الطريقة التي كان يعملها أيام كان ضابطا في الجيش العثماني وكانت عدة القهوة عبارة عن طباخ صغير رصاصي اللون ارتفاعه عشرين سنتمترا يعمل على السبيرتو له فتيلة بيضاء ودلة قهوة نحاسية ومجموعة فناجين بورسلان يضعها في علبة خشبية مرصعة بالأصداف بعد ان يقوم بغسلها وتنشيفها جيدا عند الانتهاء من شرب قهوة الصباح ويضع الصندوق في صينية مقرنصة من الفضة وكانت تلك عادته منذ انتقاله من الجيش العثماني الى الجيش العراقي بعد تأسيسه سنة 1921برتبة نقيب , وكان دائم التأمل في اخر لوحة رسمها لم تكتمل وقد وضعها على قاعدة خشبية بثلاثة ارجل وتحتها أقلام الفحم والرصاص مختلفة الاحجام والاشكال وبعد تلك الطقوس ينزل الى الطابق الأرضي لتناول الفطور مع جدتي في الحديقة الواسعة صيفا او في الصالون الكبير شتاء وكان يقرأ يوميا جريدة الصباح ثم يقضي يومه متنقلا بين الحديقة الامامية والحديقة الخلفية والتي كانت مليئة بالزهور واشجار النخيل التي تظلل عشرات من أشجار الحمضيات المختلفة والفواكه والتين بأنواعه وكان يجلس يوميا تقريبا امام حوض الأسماك الملونة الموجود في الحديقة الامامية يتأمل منظر الاسماك الملونة وهي تسبح عندما يقوم برمي بعض من فتات الخبر لها ببطء شديد يتمتع بالنظر اليها وهي تسبح متنافسه لتناول الطعام فيما لم يكن مهتما بحوض الأسماك في الحديقة الخلفية في الوقت الذي كانت أخته غير الشقيقة جميلة تحب الجلوس الى حوض السمك في الحديقة الخلفية للبيت وقد سالتها في احد الأيام عن سر اهتمامها بالجلوس في ذلك المكان وفي تلك الزاوية بالذات فأجابت بان الملك غازي رحمه الله عندما كان يزورهم في بعض الأحيان صباح أيام الجمعة لتناول الإفطار مع جدي كان يحب ان يجلس بقرب حوض السمك في الحديقة الخلفية وكانت تجلس بصمت وتنظر الى الحوض وكأنها تتذكر ذلك الزمن الزاهر وبساطة الملك غازي رحمه الله وكيف كانت تقدم له الخبز الساخن الذي كان يحب ان يأكله مع العروك البغدادي , والعروك هو نوع من الكباب باللحم والخضروات والكاري والمقلي بالزيت وكان اكل العروك في افطار يوم الجمعة تقليدا بغداديا معروفا في ذلك الزمن .
كان جدي ينتظر موعد القبول الشهري الذي يقيمه لرجال المحلة والقبول هو تسمية لدعوة شاي شهرية تتم بالتناوب بين سكان المنطقة الواحدة حيث يختار كل واحد منهم يوما معينا له وهو تقليد بغدادي كان سائدا في ذلك الوقت حيث يجتمع الرجال الساكنين في نفس المنطقة في وقت العصر لتبادل الاخبار والحكايات وتناول المعجنات والكيك وشرب الشاي والقهوة وكان موعد القبول الخاص بجدي الأول من كل شهر في حين كان موعد قبول النساء الذي كانت تقيمه جدتي للنساء هو الخامس من كل شهر وكان القبول يقام في الحديقة صيفا وفي غرفة الضيوف شتاء حيث يتم اشعال المدفأة الكبيرة التي تتوسط جدار الغرفة الطويل والمرتبطة بمدخنة تصعد الى الطابق الثالث من البيت لتصريف الدخان وتسمى في اللهجة البغدادية "صوبة الحائط " و تعمل على الخشب والحطب وكان السماور سيد الحفل حيث يتم اعداد الشاي بطريقة بغدادية قديمة حيث يتخمر الشاي لأكثر من ساعة كاملة على البخار المتصاعد من ماء السماور المشتعل وكانت حياتهم بسيطة لا تتعدى تناقل الاخبار التي تصلهم عن طريق الراديو او التلفزيون ذو المحطة الواحدة , كان جدي لامي المولود سنة 1891 في مدينة السليمانية من اب عربي من مدينة الموصل كان يعمل تاجرا للحبوب وكان شيخ طريقة صوفية معروفة في الموصل ونواحيها ومن ام من مدينة السليمانية وهي ابنه شيخ قبيلة السادة البرزنجية , كان جدي طويل القامة ورشيق الحركة وهو من قادة صنف الخيالة في الجيش العثماني وبعده الجيش العراقي , لذلك تم اختياره ليكون امر الحرس الملكي العراقي مرتين الاولى في عهد المغفور له الملك فيصل الأول مؤسس العراق حيث خدم فترة طويلة هناك وقبل وفاة المغفور له الملك فيصل الأول بعدة اشهر اصبح حاكما لمحكمة عسكرية في مدينة كركوك وعند تولي المغفور له الملك غازي الأول فقد طلبه ليكون امر الحرس الملكي مرة ثانية باعتباره من الحرس القديم المقربين من والده المغفور له الملك فيضل الأول ومن أعمامه عبد الله وعلي , ولخبرته في الحرس الملكي والتشريفات وخدماته الجليلة في الجيش العراقي الذي كان احد ابرز مؤسسيه وكانت قيادته للحرس الملكي بكفاءة عالية لفترة طويلة قد دعت المغفور له الملك غازي الأول اصدار قرار بان يستمر في اخذ راتبه من مخصصاته الشخصية مدى الحياة إضافة الى راتبه التقاعدي عندما يتقاعد من الخدمة اثر سقوطه من على ظهر الحصان, وعندما تقاعد من الخدمة كان يذهب الى البلاط الملكي الواقع في منطقة الكسرة في الأول من كل شهر ليأخذ راتبه الخاص من البلاط وعند حصول انقلاب تمور 1958 ومقتل العائلة المالكة لم يتجرأ احد من العائلة إبلاغه عن تلك المجزرة خوفا من رده فعله وقد بلغ من العمر في ذلك الوقت 67 عاما وبدأ عليه النسيان وعدم التركيز خصوصا بعد حادثة سقوطه من على ظهر الحصان , وما ان حل يوم استلام راتبه من البلاط في بداية شهر اب بعد أسبوعين من الانقلاب المشؤوم حتى ذهب كعادته الى البلاط الملكي ودخل مباشرة الى قسم الحسابات فاخبروه هناك ان الملك قد قتل وان النظام تحول من الملكية الى الجمهورية وليس لديه راتب فصرخ بهم صرخة واحدة تجمع الموجودين حوله : لماذا قتلتم الملك ؟ كان صوته الجهوري وقامته الطويلة التي تصل الى المترين تقريبا ارعبت من حوله وهو الضابط المخضرم والمعروف لدى الجميع فلم يجيبه أحد ورجع الى البيت مهموما ثقيلا لا يقول سوى كلمة واحدة وهي لماذا قتلتم الملك؟ وبقي مصدوما لفترة طويلة الى ان عاد الى طبيعته بعد أشهر وفي ذلك الوقت سمع بتلك الحادثة المغفور له جلالة الملك الحسين بن طلال عاهل الأردن فبعث له بشخص يقول له ان جلالة الملك حسين يهديك التحية ويرسل لك راتبك الذي كنت تتقاضاه من الغفور له الملك غازي إضافة الى راتبك التقاعدي فرفض اخذ الراتب وقال للمرسال اشكر جلالة الملك حسين على كرمه وأخبره بان الذي امر براتب إضافي من البلاط قد قتل وانتهى الامر.
كان جدي رساما بارعا فقد كان يرسم بقلم الرصاص والفحم على الورق وهو اول من رسم المقصلة في الدولة العثمانية بشكلها المخيف المرعب ومازالت صورة المقصلة التي رسمها موجوده الى يومنا هذا في المتحف العثماني في قصر طوبكابي في إسطنبول وكان يعزف على العود وكان امهر لاعب بولو في الجيش العراقي حيث كان الخيالة في الجيش العراقي في ذلك الوقت يلعبون البولو وهم على ظهور الخيل ومن ذلك فقد ورث خالي الدكتور نوري مصطفى بهجت مؤسس العلاج الطبيعي في الشرق الأوسط قد ورث عن جدي الرسم وقام بتأسيس جماعة الرواد مع الدكتور خالد القصاب وبقية الفنانين المعروفين في سنة 1941 وقد ورث خالي كذلك العزف على اله الكمان وكان من مؤسسي الفرقة السمفونية الوطنية العراقية .
كان جدي الذي كان يطلق عليه الناس في ذلك الوقت شيخ مصطفى باعتباره ابن شيخ الطريقة قليل الكلام كثير التأمل وكان جميع من في البيت يخضع لنظام صارم قام هو بتأسيسه وقد بقي ذلك النظام معنا لغاية اليوم وهو الاحترام للكبير والعطف على الصغير ومساعدة الفقراء وتوزيع الصدقات والزكاة ونظام تناول الاكل وتنظيف البيت وطريقة اكرام الضيوف وتنظيم الحديقة المنزلية وكانت مواعيده ثابتة فالإفطار كان في السابعة صباحا والغداء كان في الثانية عشر ظهرا والعشاء في السادسة مساء وكان ينام في الثامنة والنصف وعندما كان يسمع أي أصوات او ضوضاء في البيت بعد دخوله في الفراش حتى لو كانت الساعة التاسعة مساء فانه يستيقظ ويخرج من غرفه نومه ويصرخ بالجميع في لهجته الموصلية : الدنيا نصف الليل ... فيهرب جميع اخوالي الستة وامي وخالتي ونحن الصغار من المكان وقد تعلم الجميع انه عندما ينام على الجميع الهدوء وعندما يدخل الى أي غرفة في البيت على الجميع السكوت والوقوف احتراما له , وكانت لديه جملة واحدة بقي يرددها الى ان توفاه الله سنة 1979 والجملة هي " لكل زمان دولة ورجال " وكنا لا نعرف أهمية ومغزى تلك الجملة وكان يقولها بجدية وحزم وبعدها يقول المثل البغدادي الشهر " ثلاثتهم بالحمل يجودون "قاسم واحمد أغا وحسين عفون " وكان يضحك ويقهقه بصوت مرتفع كلما ذكر ذلك المثل ونحن صغار نسال أهلنا من هم هؤلاء قاسم واحمد اغا وحسين عفون معتقدين انهم رجال معروفين فكان أهلنا يضحكون ويقولون لنا هذا المثل للكبار فقط وليس لكم ومع مرور الزمن وقد كبرنا علمنا قصة ذلك المثل , فقد كان هناك رجل فقير في بغداد يعمل حمالا ولديه ثلاثة بغال اطلق عليهم اسماء جاسم واحمد أغا وحسين عفون وعندما كان يساله الناس عن حاله يقول انا اغنى رجل في بغداد وبالي مرتاح فيسالوه كيف وانت الفقير المدقع فيقول " ثلاثتهم بالحمل يجودون ( أي يحملون الاثقال الكبيرة ) جاسم واحمد اغا وحسين عفون " ويقصد البغال الثلاثة , لكن الواقع كان غير ذلك فقد كان ذلك الحمال بخيلا لا يطعم البغال ما يكفيها والتي كانت تحمل مواد البناء الى البيوت التي تحت الانشاء وعند مرورها من فوق جسر او قنطرة في بغداد تقوم بالركض بسرعة ورفس بعضها البعض لتسقط ما عليها من طابوق ومواد البناء فيقوم صاحب المواد بتغريم الحمال ثمنها او لا يدفع له ثمن الحمل ومع ذلك فالحمال البخيل يتباهى بالبغال الثلاثة امام الناس , لكن جدي قد غير من اسم البغل الأول من جاسم الى قاسم وكان يقصد به عبد الكريم قاسم الجزار قاتل العائلة الهاشمية في انقلاب تموز 1958.
في الشهر الماضي تذكرت قول جدي " لكل زمان دولة ورجال " عندما شاع في العراق مصطلح الانسداد السياسي للدلالة على عدم التمكن من تشكيل الحكومة العراقية والصراعات المستمرة بين الأحزاب الدينية التي تحكم العراق حاليا وبما ان الطبقة الحاكمة في العراق اليوم هي طبقة فاسدة سرقت موارد الشعب وباعت ارضه ومياهه واستقلاله بثمن بخس, فان تلك الطبقة السياسية الفاسدة تتحدث باللغة اللائقة والمناسبة لها وهي لغة قذرة تتماشى مع واقعها فالانسداد بمعناه المتداول في العراق يستعمل لانسداد مجاري دورات المياه , الم تجدون مصطلحا اكثر نظافة من مصطلح الانسداد السياسي يا مجاري دورات المياه القذرة ؟ وأنتم بالحمل تجودون؟
رحم الله جدي عندما كان يقول " لكل زمان دولة ورجال"
الباحث
بسام شكري
عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.
2184 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع