الشعراء المتقلبون بين مدح الأنظمة وهجائها كانت القصور والمنافي لهم وطنا بالتبادل !

                                                     

                              احمد الحاج

الشعراء المتقلبون بين مدح الأنظمة وهجائها كانت القصور والمنافي لهم وطنا بالتبادل !

يعلم القاصي والداني بأن الحكام المستبدين في كل زمان ومكان عبر التأريخ كانوا يقربون الشاعر"المداح الهجاء" اذا كان مدحه يدور في فلكهم، وهجاؤه يصوب تجاه خصومهم وغرمائهم ايا كانوا ، ملكيين او جمهوريين ، يساريين او يمينيين ، علمانيين او متدينين ، فأمثال هؤلاء الشعراء يكرمون ويحظون بالمنزلة الرفيعة ويقدمون على من سواهم ، وهؤلاء وامثالهم من قال فيهم الباري عز وجل " وَٱلشُّعَرَاۤءُ یَتَّبِعُهُمُ ٱلۡغَاوُۥنَ ، أَلَمۡ تَرَ أَنَّهُمۡ فِی كُلِّ وَاد یَهِیمُونَ ،وَأَنَّهُمۡ یَقُولُونَ مَا لَا یَفۡعَلُونَ " مستثنيا صنفا آخر من الشعراء ممن قال فيهم عز من قائل في الاية ذاتها " إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ "، ليقول المستبد ولكل من حوله اثناء تكريم الصنف الاول - في ذات الوقت الذي تغص فيه سجونه السرية والعلنية بعشرات الادباء والكتاب والمفكرين والشعراء من معارضي الفكر والرأي - وبلسان الحال قبل المقال أنه رقيق ،انساني ،مثقف يهوى الشعر ويكبر صنعته ويكرم اساطينه ووفادتهم !

وجل الشعراء الذين نالوا شهرتهم لا من نبوغ شعري غير مسبوق ، ولا من عبقرية أدبية فذة ومتفردة لانظير لها في سابقيهم ولاحقيهم ، وانما من جراء "شتم الأنظمة الحاكمة " فقط لاغير بإستخدام الفاظ السوقة والشطار والعيارين ، هم سواء في شهرة الشعراء التي ظفروا بها وحازوها بمدح الانظمة والتغزل بها بإستخدام الفاظ الارستقراطيين والبرجوازيين والبيروقراطين والنخبة على النقيض من اقرانهم في الجانب الاخر ، ولطالما سمعنا بشعراء تقلبوا بين مدح انظمة وذم ، الاول منهم تعشقه الجماهير المغلوبة على أمرها وتعلي من شأنه كابرا عن كابر ولو كان - شويعرا وليس بشاعر - ولو كان صعلوكا ومحششا وسكيرا ، والثاني يعظم من أمره إعلام السلطة ويقدمه في الاذاعات والفضائيات والمهرجانات الشعرية والندوات وتطبع دواوينه تباعا حتى يصير متنبي عصره وزمانه وما هو كذلك بالمرة ، وبالتالي فإن الاجيال تجد نفسها أمام شاعرين محشورين في جسد شاعر واحد ، قد ضخما -اعلاميا -بمرور الوقت، الاول مجدته الشعوب المسحوقة لجرأته في قول ما لم يكن بوسعها قوله في حقبة ما وفي مكان ما ..والثاني قد مجدته الانظمة لقوله ما ليس فيهم في زمكان آخر ...ولاسيما اذا كان المداح الهجاء هو نفسه بشحمه ولحمه يدور طوال حياته بين منفى هربا من سجن مستبد ، ليحل ضيفا في قصور مستبد آخر ..يمدح الثاني غاضا الطرف عن ظلمه وطغيانه ، ويذم الاول لظلمه وطغيانه ، واذا ما اخضعته لمقاييس معينة لن تجد صعوبة في إكتشاف سريرته وكشف معدنه الحقيقي بعد ذلك لتتعرف على من كان يهجو السلطة لا لأنه يحب الشعب ، ولا لأنه ينصر الحق والعدل والمظلوم ، ويقف بالضد من الظلم والظالمين ،وانما لأنه لم ينل حظه الوافر في قصورها ومتاعها وتكريماتها واموالها وجوائزها ومناصبها يومذاك ، او لأنه كان يخالفها طائفيا وقوميا ، أو لأنه كان يناهضها سياسيا وايدولوجيا ، هذا المقياس ببساطة لن يكلفك اكثر من امعان النظر وتقليب الطرف في مراحل الشاعر المتعاقبة بين منافي وسجون وقصور ، وستجد " كيف ان من هجا ظالما في الشرق بحدة قل نظيرها وبأقذع الالفاظ ، هو ذاته الذي يتغزل وينظم قصائد مديح لظالم آخر يفوق سلفه في الغرب والعكس صحيح " الشاعر الذي يهجو ظالما هنا ويمتدح ظالما هناك لا يؤتمن ، بالمقابل فإن مقياس الثاني هو ان يمدح الشاعر حاكمه مبررا كل استبداده ، ومن ثم يهجو مستبدا آخر في بلد ثان فاضحا كل استبداده التي تتطابق كليا مع استبداد حاكمه الذي يمدحه حرفيا ...والامثلة والشواهد ماضيا وحاضرا على ما اقول كثيرة ولا اريد سردها هاهنا ....
- سجون المستبد الذي يمدحه الشاعر في بلده هي للمنحرفين والمجرمين اما سجون من يذمه نفس الشاعر من الحكام في بلد اخر هي للمناضلين والاحرار والشرفاء فقط ...!
- مشانق المستبد في بلد الحاكم الذي يمدحه الشاعر هي للجواسيس والخونة وأعداء الوطن ..اما مشانق المستبد الاخر الذي يهجوه ذات الشاعر هي للوطنيين فحسب !
- خوازيق المستبد في بلد الحاكم الذي يمدحه الشاعر، هي خوازيق وطنية صنعت محليا خصيصا لتطهير البلاد والعباد ، ويجب ان تحترم وتبجل ولو جلس عليها نصف الشعب لأنها مباركة ويتحتم على النسوة اللائي حرمن من الانجاب ان يتبركن بها ويتوضأن بالدماء التي تسيل على جوانبها لينجبن ابناء صالحين وطنيين بررة ..اما خوازيق المستبد الذي يهجوه نفس الشاعر في بلد اخر فهي مستوردة تمثل الظلم بعينه والظلم ظلمات ، وعلى النسوة ان يلقين بالاقذار عليها يوميا ويحطمنها عاجلا غير آجل تعبيرا عن غضبهن ورفضهن القاطع لخوزقة ازواجهن وابنائهن واخوانهن واعمامهن واخوالهن تباعا بهذه الذريعة او تلك ...!
- مواكب المستبد الطويلة وحماياته الكثيرة في بلد الحاكم الممدوح على لسان شاعر مداح هي لإظهار القوة والمنعة امام الاعداء وهو امر مندوب شرعا ومحمود عرفا وعلى الشعب ان يخرج في تظاهرات حاشدة مؤيدة للدفاع عن زعميه المفدى مطالبا بزيادة طول الموكب وعرضه ولو بالتبرع من مال الشعب ، صادحا بالروح بالدم نفيدك يازعيم ...اما مواكب المستبد المناظر وان كانت اقصر من سابقتها بكثير في بلد الحاكم المذموم على لسان ذات الشاعر فهي سرقة لأموال الشعب الجائع واهدارها في غير محلها وعلى الشعب ان يثور ويتظاهر مستنكرا هذا العبث الكلي واللامسؤول بموارده وخيراته !
- قصور الحاكم المستبد العامرة بأثاثها ومقنياتها الفاخرة في بلد الشاعر المداح للنظام هي قصور الشعب ، هي العزة والكرامة ،هي بهجة الحاضر وأيقونته وتحفة المستقبل وآثاره ، اما قصور الحاكم المذموم على لسان ذات الشاعر في بلد آخر فهي الاستخفاف بعقول واموال الشعب ، هي الحسرة والخذلان والندامة ...هي زرائب الحاضر ، وخرائب المستقبل !
- نصب وتماثيل وصور المستبد الذي يمدحه الشاعر ، بركات يتوجب على الجميع التمسح والتبرك بها وطبع وتعليق المزيد منها حتى في التواليت ، بينما نصب وتماثيل وصور المستبد الذي يهجوه الشاعر ، هي اصنام واوثان وشرك يجب ان تزال فورا قبل ان تعبد من دون الله سبحانه !
الشاعر الهجاء المداح لنظامين مستبدين في آن واحد ، لابد له من ان يكون هجاءا لنظام ومداحا لآخر يقيم عنده ويحظى بحمايته ، لابد ان يكون رداحا بحضرته وان كان بنفس مواصفات من يذمهم ويهجوهم ايمانا منه بقانون الاحلال والابدال - عاش الملك مات الملك - الابدي هنا او هناك ..ولابد له من ان يهرب ذات يوم من نفس النظام الذي كان يمدحه بعد انقلاب الحاكم عليه ليذمه بدواوين شعرية هي صورة معكوسة ووجه اخر لعملة المدح السابقة " قصة المتنبي مع كافور الاخشيدي انموذجا ، فلقد فر المتنبي من الشام بعد ان كان يمتدح حاكمها سيف الدولة الحمداني ومنها قصيدته الاشهر :
على قدر اهل العزم تأتي العزائم ...وتأتي على قدر الكرام المكارم
وتعظم في عين الصغير صغارها ..وتصغر في عين العظيم العظائم
ومن ثم ليهجوه بالضد منها لاحقا بقصيدة لاتقل شهرة عن سابقتها يقول في بعض ابياتها :
ما كُلُّ ما يَتَمَنّى المَرءُ يُدرِكُهُ ... تَجري الرِياحُ بِما لا تَشتَهي السُفُنُ
رَأَيتُكُمْ لا يَصونُ العِرضَ جارُكُمُ ... وَلا يَدِرُّ عَلى مَرعاكُمُ اللَبَنُ
وعندما حل ضيفا على كافور الاخشيدي حاكم مصر بعد ان استدعاه فور علمه بخصامه مع سيف الدولة مدحه بقصيدة عصماء ، ومن ثم ذمه بأخرى مماثلة بعد الهروب من مصر بعدما ادرك جليا بأنه لم ولن ينال مراده فيها ! " وما يزال عشاق كافور يترنمون بالاولى :
حَيَاتي وَنُصْحي وَالهَوَى وَالقَوَافِيَا.. وَلَكِنّ بالفُسْطاطِ بَحْراً أزَرْتُهُ
بينما يترنم حساده بالثانية :
لا تشـتَـرِ الـعَـبـد إلا والـعَـصَـا مـعــه .. إِن الـعَـبِـيــدَ لأنـــجـــاسٌ مَـنـاكــيــد
لأن كافور الاخشيدي كان بالاصل عبدا حبشيا تمكن من حكم الدولة الاخشيدية 22 عاما بعد ضعف الدولة الحمدانية في الشام ، والعباسية في بغداد ، وظهور الدولة الفاطمية شمال افريقيا !
ولعل حال مظفر النواب الذي فارق الحياة بالامس وشيع في بغداد اليوم لايختلف عن سجية الكثير من الشعراء في ذلك وأخص منهم - المداحين الهجائين - للسلطة وانظمة الحكم فهؤلاء يمدحون تارة ويذمون اخرى ولن تجد الكثير منهم ثابتا على رأيه وفكره وموقفه لاتغيره السنون ابدا !
صحيح انه صاحب العبارة الشهيرة لتبرير فحشه الشعري ان " ابتذال اللغة تأتي على قدر إبتذال الانظمة " فهو القائل" ابول عليهم بلا حياء فلقد حاربونا بدون حياء " وهو القائل " كأنهم مؤخرة لمريض يوسخ من تحته " الا انه لم يفسر لنا حتى وفاته " كيف شتم حافظ الاسد في قصيدة واصفا اياه " بديوث الشام وهدهده " عقب مجزرة تل الزعتر ،في قصيدته " تل الزعتر بنت الصباح " بينما عاش معززا مكرما في دمشق في ظل حكم الاسد ومن ثم رثاه بقصيدة عصماء بعد وفاته والكل يتساءل ولكن ماذا عن بيع الاسد للجولان والقنيطرة فيما يصب النواب جام غضبه على كل من باع فلسطين او اسهم في بيعها بقصيدته " القدس عروس عروبتكم " والتي يقول في مطلعها :
القدس عروس عروبتكم
من باع فلسطين وأثرى بالله
سوى قائمة الشحاذين على عتبات الحكام
ومائدة الدول الكبرى ؟
كيف شتم الديكتاتوريات العربية واصفا اياها " بأولاد الـ ... " وحظائر الخنازير بينما عاش معززا مكرما و لسنين طويلة في ليبيا القذافي وكانت الاذاعة الليبية تبث قصائده في شتم الحكام العرب وقد حمل الجنسية الليببية وجواز سفرها وكانت وسيلة تنقلهانذاك لأنه من اصول هندية ارستقراطية قبل نفي عائلته بأمر من الحاكم البريطاني من الهند الى العراق ...كيف شتم حكام الخليج وعاش ومات بكنفهم وهو القائل فيهم " مولانا….يزعم ان شيوخ ابي ظبي والبحرين ورأس الخيمة يخفون ذيولا ارفع من ذيل الفأر وحين يخرون سجودا للشاه..." ووصف احد الملوك العرب بأنه " ملك السفلس الذي يستأنس بالخازوق" الحقيقة ولا اريد الطعن في الرجل شعريا ولا فنيا ولست بمعرض ذلك ابدا وقد افضى الى ماقدم ، وانما سياسيا فقط " واظنه كان كالمتنبي وقد ادرك في قرارة نفسه بأنه ولضمان الهروب الأمن من قبضة حاكم مستبد ما ، فلابد له من اللجوء الى غرمائه من بقية الحكام المستبدين ليمدحهم تباعا بعد هجاء سابق " نحو العيش بظل الاسد والقذافي ومن ثم امراء الخليج لحماية نفسه من حكم صدام !" وعلى ما يبدو فإن الرجل قد لعب على هذا الوتر طوال حياته وادرك انه لن يحاسب في بلد عربي لطالما انه يمدح حاكمه ويهجو غريمه ، فلقد هاجم كل الحكام العرب بما فيهم حكام الخليج والاردن بإستثناء حكام الكويت ، ومن ثم ركن اليهم وعاش في بلدانهم وفي كنفهم واحدا تلو الاخر من دون خوف من ملاحقة ولا اضطرار لتقديم اعتذار عما مضى وعما جرى على لسانه وسلف في قترة سابقة ..والمؤاخذ عليه برغم شاعريته وشهرته التي طبقت الافاق وحتى كتابة السطور هي أنه لم يقل كلمة واحدة في حصار العراق 13 سنة متتالية وقد مات من جرائه مليون وربع المليون عراقي ، ولا نظم قصيدة في احتلال بلده اميركيا وقد يكون الرجل وفي قرارة نفسه مؤيدا مقتنعا بما جرى برغم وصف بوش وفي زلة لسان تجسد ما يعتمل في لاوعيه من تأنيب ضمير مؤخرا بأنه " غزو وحشي وغير مبرر " وعلى هذا المنوال سبق لترامب ان وصف احتلال العراق فضلا عن بوتين ، اضافة الى عشرات من السياسيين الاميركان والاوربيين قبل غيرهم ، فكيف بالنواب الذي المه مأساة فلسطين ، أن لاينظم قصيدة ..نصف قصيدة ..ربع قصيدة ، في مأساة بلاده ، لرثاء الابرياء والمظلومين الذين ذهبوا ضحية ولاناقة لهم في كل ما جرى ولاجمل ؟! ..اما عن "اولاد الـ... " التي اشتهر بها في وصف الانظمة العربية فلقد وجدت صدى لدى الشعوب العربية المسحوقة واطربت اسماعهم ، لأن احدا منهم وان كان يرددها 100 مرة في مجالسه الخاصة بين الاصدقاء والاقرباء ، الا انه كان يخشى ومايزال وسيظل من الصدع بها بخلاف ما فعل النواب وان كان قد نزل ضيفا معززا ومكرما على بعض اولئك الذين وصفهم بأقذع الالفاظ يوما ما !!
والفت عناية الجميع الى أن النبي الاكرم ﷺ قد قال في الشعراء المنافحين عن الحق والعدل والانصاف من غير المتلونين ولا المذبذبين " ان من الشعر لحكمة "، وهو ﷺ القائل في شعر عبد الله بن رواحة " فو الَّذي نفسي بيدِه لكلامُه أشدُّ عليهم من وقْعِ النَّبلِ" ، وهو ﷺ الذي دعا لحسان بن ثابت قائلا " اللهم أيده بروح القدس" .

أطفال الگاردينيا

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

785 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع