ثقافة الشكر للأقوياء

                                               

                   د يسر الغريسي حجازي


ثقافة الشكر للأقوياء

"تتمركز قوة الروح في الضمير البشري، ويتم ذلك من خلال إدراك أن لكل فرد الحق في كرامته. أولئك الذين يمثلون الناس، هم إما الحكماء الذين يسمحون لأنفسهم أن يسترشدون بالاعتبارات الأخلاقية، أو هم الشياطين الذين يسمحون لأنفسهم أن يهتدوا بغرائزهم الدنيا.

لا يوجد أناس طيبون بدون اعتبارات أخلاقية عالية، كما لا رخاء بدون تضامن الشعوب واستقامة الحكومات تجاه شعوبها. ان حالة الانكار يتسم بها أعداء البشرية، اما كلمة الشكر لا يتسم بها الا الأقوياء".

ان كلمة الشكر تدل على الامتنان وتشهد على شجاعة البشر، وحبه للأخرين واحترامه للكون. يبدأ ذلك بالتضامن وبناء الثقة، وينتهي بالشكر والتقدير والانسجام الانساني. كما إن راحة القلب، تنزع الخوف وتعزز الكرم والاستقامة عند الناس.
ما هو الفرق بين الناس الذين يخوضون حالة الشكر والامتنان، والأخرون الذين يخوضون حالة الإنكار؟ علي سبيل المثال في الوطن العربي، كم مرة يتم تقدير الإنجازات التي يحققها الموظف في عمله؟ ولماذا نجد صعوبة في تقدير وقول كلمة الشكر للمواطن المبدع؟ من الضروري معرفة أن الشكر ثقافة تنبع من المصداقية والوفاء، خاصة إذا أردنا ان نعيش في الازدهار والرفاه المتواصل. كما ان الامتنان مذكور في كل الديانات السماوية، حيث ان شكر الانسان وتقديره٫ يساهم في إرساء مبادئ النزاهة وحسن النية في العمل، في الزواج، مع الأصدقاء، وفي الأسرة. انه مصدر للطاقة والدافع الديناميكي الجسدي والمعنوي، لبناء مجتمع امين ومخلص لوطنه. فاعلم أن اظهار الامتنان للآخرين، يزيد من التساهل والكرم تجاه بعضنا البعض، وسنشهد أقل صراعات على المستوي الاسري والاجتماعي. يعرّف مصطلح الاعتراف في اليونان القديمة، بالعملية المعرفية التي من خلالها نحدد الهوية الشخصية. بالنسبة لأفلاطون، يحدث هذا في سياق معرفي حيث يتعلق الأمر بـ "فهم إمكانية الخطأ والحكم الخاطئ". بينما يُنظر إلى الاعتراف على أنه الخطأ المتمثل في تحديد الهوية الزائفة، أو حالة الارباك (ثيودور أو ثياتيتوس). يتمحور السؤال حول التعرف على الانسان. كيف يتم استخدام هذا المصطلح؟ وهل يتوافق مع الهوية الاجتماعية والفكرية؟ استخدم أرسطو مصطلح الاعتراف على أنه "العبور من الجهل إلى المعرفة، والوصول إما إلى التحالف أو إلى العداء، لأولئك الذين تم تحديد مواقفهم فيما يتعلق بالسعادة أو سوء الحظ" (هونيث: مجتمع الازدراء،2007).
في اليونان القديمة، نشأ مصطلح الشكر مع الامتنان وتقدير الاخرين ضمن ما يحدده التصرف في العلوم الاجتماعية. اعتبر الفلاسفة مثل أرسطو وأفلاطون ومونتين ولاروشيفوكولد، أن الشخصية الاجتماعية ترمز الي الضعف البشري، بسبب ان الأنا لدى الإنسان تسعى باستمرار إلى الحصول على قبول الآخرين لما نفعله او نقوله. لكن في القرن الثامن عشر ومع ظهور فكرة كرامة الفرد، أجمع الفلاسفة على ضرورة الاعتراف بالإنسان. لا يمكن أن يوجد التماسك المجتمعي، دون الاعتراف المتبادل. قال أرسطو: "الرجل الذي لا يستطيع أن يكون عضوًا في المجتمع، أو الذي لا يشعر بالحاجة إلى ذلك لأنه مكتفٍ ذاتيًا، ليس جزءًا من المواطنة بأي حال من الأحوال. وبالتالي فهو إما متوحش أو إله". لهذا السبب، اعترف الفلاسفة منذ فترة طويلة بالطابع الاجتماعي للبشر. لكن الثورة التي قادها جان جاك روسو، هي اعتبار أن الإنسان يحتاج حقًا إلى وجود الآخرين. والآخرون ليسوا فقط بيئة طبيعية للفرد، بل هم ضروريون للوصول إلى حالة الإنسانية. وقال روسو: «الهمجي يعيش داخل نفسه، اما الرجل المرتبط بالمجتمع هو دائما غاضب لأنه لا يمكنه العيش بدون رأي الآخرين وموافقتهم له. وإذا جاز التعبير، فهولا يستطيع العيش الا من خلال حكمهم. كما يستمد شعوره من خلال وجودهم".

ثم يميز الفيلسوف روسو ثلاثة مشاعر: "حب الذات بالمفهوم الإيجابي، الذي يتوافق مع غريزة الحفاظ على الذات وذلك ينطبق لأي كائن. من ناحية المعاكسة، فإن تقدير الذات هو شعور سلبي وقريب من الغرور. مما يدفع الانسان إلى مقارنة نفسه بالآخرين، لأنه يريد ان يري نفسه متفوق على الجميع". أندريه، جي بي برون، بي برواد. الاعتراف، 2013). ومع ذلك، فإن مثال الظلم الاجتماعي وعدم المساواة، يبرهن الحالة السيكولوجية المضطربة في مفهوم العدالة الاجتماعية، والتي تساهم في تدمير الأخلاق البشرية، ومنع الانسان من الوصول الي الاستقرار العقلي والجسدي والاجتماعي. ذلك ما يفسر حالة الغرابة التي يشعر بها المواطن العربي في وطنه، والالف من الشباب الذين يلجؤون الي الهجرة في دول الغرب للبحث عن حياة لائقة والعيش بالكرامة. إن الاعتراف وتقدير الانسان، يأتي من أساس الانصاف الاجتماعي والسياسي، وينتج عنه ظروف الحياة الاجتماعية المزدهرة. علي سبيل المثال، أنشأ عالم النفس الأمريكي ما سلو هرم للاحتياجات الاساسية للإنسان لشرح ان العجز في الوصول الي حياة لائقة يؤدي الي تدمير الحالة الإنسانية عند البشر. بينما ان وصول الانسان الي حقوقه الأساسية، يمنحه الثقة بالنفس وتحقيق أهدافه. وذلك يجعله مواطن صالح محب لوطنه، لأسرته، ولكل من هو من حوله. ويشمل الهرم خمس احتياجات مدرجة وهي: الاحتياجات الفسيولوجية بمعني الحق في الوصول الي المأكل والمشرب والسكن والماء والدفيء. والحاجة إلى الأمن والأمان بمعني الحماية من الإيذاء، والجوع، والبطالة. والحاجة إلى الانتماء وممارسة المواطنة، وحق الانتخاب والترشح وتحقيق الأهداف السامية. والحاجة إلى الاحترام وحق الاجتهاد، والعلاوة، والطموح المشروع في العمل والحياة.
فكرة هرم ما سلو تتمحور حول تحديد احتياجات الفرد في 3 مجالات: الجسدية والنفسية والوجودية. إذا تمت تلبية الاحتياجات الفيزيولوجية والسلامة الأساسية، يتم تحقيق الذات و يكون هناك إدراك كامل لإمكانات الفرد في تحقيق اهدافه (ما سلو،1950). في حالة وجود عجز في الاحتياجات الأساسية (السكن، الكهرباء، المياه، التدفئة، الزواج، الوظيفة، المرافق الاجتماعية، الأسرة)، لن تصل الشعوب الفقيرة الي تحقيق الذات بسبب انها غير قادرة على تلبية احتياجاتها الاساسية. نتيجة لذلك، ستصاب بالإحباط وخيبة الأمل والامراض النفسية. يعمل هرم ما سلو على الدوافع الأعلى للإنسان، فهو يبدأ من قاعدة الهرم (الاحتياجات الفسيولوجية) إلى قمة الهرم عند الإدراك الذاتي (الحاجة إلى تحقيق الذات). على سبيل المثال، من خلال هرم ما سلو تم تحديد الأدوات التحفيزية الرئيسية التي تمنح حقوق الانسان الأساسية.

في مفاهيم الفلسفة الاجتماعية، يأتي الشكر مع الاعتراف والإدراك الذاتي للإنسان، بمعني ان نتنازل عن الانانية لمنح حقوق الاخرين. وذلك فقط، في حالة وجود مجتمع أخلاقي ومعياري. يجب على الواقع الاجتماعي أن يطور مفهومًا منطقيًا، بدءًا من النضال ضد الظلم والتمييز الاجتماعي، والمحرمات، والوصم. لنكن شاكرين للكون وللاه، ومن ثم للأشخاص الذين يعتنون بنا سواء كانوا في الأسرة، أو في العمل، أو في المجتمع. واينما يتم تقديرك وشكرك في عملك، اعتبر هذا وطنك والحضن الذي يمنحك الراحة والازدهار، وعكس ذلك صحيح. وعند منح العدالة الاجتماعية، سنكون جميعا شاكرين ومحبين للأخرين.

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

3193 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع