ثورة تموز الخالدة

                                                 

                               عوني القلمجي

ثورة تموز الخالدة

جاءت ثورة 14 تموز 1958 تتويجا لنضالات الشعب العراقي ضد المحتل البريطاني الغاشم، التي بدأت فعليا مع ثورة العشرين المجيدة. حيث شارك في انطلاقتها مختلف فئات الشعب العراقي، من علماء دين وشيوخ عشائر وتجار المدن وعامة الناس. وقد اعترف بقوتها وفاعليتها العدو قبل الصديق. حيث كتب عنها العديد من المؤرخين، من عراقيين وأجانب، بينهم عبد الرزاق الحسني وعلى الوردي وعلوان الياسري والمؤرخ الكردي كمال مظهر ومحمد مهدي البصير ورضا الشبيبي وشيخ الشريعة عبد الحسين الحلي ومحمد صادق بحر العلوم وسليم الحسين ومزهر الفرعون ووميض عمر نظمي والروسي كوتو لوف والسير هولدينغ قائد قوات الاحتلال، التي شاركت بقمع الثورة، وكذلك ارنولد ولسن الحاكم العسكري في العراق. وكان من بين اهم أهدافها، الاستقلال التام للعراق، والدفاع عن عروبته، وقيام حكم دستوري، ديمقراطي، برلماني مستقل. اما نتائجها فقد وصفها المؤرخون بالعظيمة، على الرغم من فشلها عسكريا. حيث أجبرت بريطانيا على التخلي عن الحكم المباشر وتشكيل حكومة من العراقيين، ثم القبول بإعلان العراق دولة ملكية ناقصة السيادة.

هذا المكسب الوطني، على الرغم من محدوديته، حفز الجيش العراقي الوليد، لان يلعب دورا مهما في نضالات العراقيين، لاستكمال مهمة استقلال العراق. حيث قام الجيش بانقلاب عام 1936 بقيادة بكر صدقي، تلاه انقلاب ارتقى الى مرتبة ثورة قومية قادها العقداء الأربعة، صلاح الدين الصباغ وكامل شبيب وفهمي سعيد ومحمود سلمان، إضافة الى المحامي والصحفي يونس السبعاوي. وكان على راس هؤلاء السياسي الكبير رشيد عالي الكيلاني. لتعقبه انتفاضات ووثبات عديدة قادتها الأحزاب الوطنية، مثل وثبة كانون 1948، التي اسقطت معاهدة بورت سموت الجائرة وانتفاضة 1952 و1954 و1956، رافقتها نشاطات سياسية توجت عام 1957 بتشكيل جبهة وطنية من الأحزاب الرئيسية والمتمثلة آنذاك، بحزب الاستقلال بزعامة صديق شنشل والحزب الشيوعي العراقي بقيادة سلام عادل وحزب البعث العربي الاشتراكي بقيادة فؤاد الركابي والحزب الوطني الديمقراطي بزعامة كامل الجادرجي. في حين نشط عدد كبير من ضباط الجيش العراقي، الذين شكلوا قيادة تحت مسمى الضباط الاحرار. الامر الذي أدى الى تفجير ثورة الرابع عشر من تموز. ولم تجد نفعا الاجراءات التي أقدم عليها الوصي عبد الإله، بغية امتصاص الغضب الشعبي العارم، مثل تأليف وزارة توفيق السويدي، واعلانها العزم على إعادة الأوضاع الطبيعية للبلاد وإنهاء الأحكام العرفية وإطلاق حرية الصحافة والسماح بتأليف الأحزاب السياسية.

كان يوم الثورة مشهودا. حيث خرج عموم الشعب العراقي الى الشوارع من شماله الى جنوبه ومن شرقه الى غربه، يكبر باسم الثورة وبأسماء زعمائها. في حين عم الحزن والهلع في معسكر الدول الاستعمارية. حيث أصدرت الولايات المتحدة الاميركية اوامرها في اليوم التالي، أي يوم 15 تموز، بأنزال قوات الأسطول السادس المتواجد في البحر المتوسط في لبنان، للتأهب للدخول إلى بغداد واعادة النظام الملكي. في حين انزلت بريطانيا قواتها في الأردن لنفس الغرض، بعد ثلاثة أيام من اندلاع الثورة. وتحديدا يوم 17 تموز. إضافة الى إعلان حالة الإنذار لقطعاتها العسكرية في الخليج، وخصوصا في امارة الكويت والبحرين. اما موقف الشارع العربي من الثورة، وخصوصا القوى التحررية والوحدوية، فقد كان مؤيدا ومساندا. حيث انطلقت مظاهرات التأييد وألقيت الخطب الحماسية في التجمعات والساحات في عموم البلاد العربية.
على الرغم من الخلافات التي حدثت بين قادة الثورة، وعلى وجه الخصوص بين عبد الكريم قاسم وعبد السلام عارف، وعلى الرغم من تحول هذه الخلافات الى صراع انتهى بقيام العقيد الركن عبد الوهاب الشواف بانقلاب فاشل أدى الى اعدام بعض قادة الثورة، على الرغم من كل ذلك، حققت ثورة 14 تموز إنجازات مهمة وتحولات كبيرة في المجتمع العراقي، مازالت تأثيراتها حتى اليوم.
فعلى الصعيد الداخلي الغت الثورة النظام الملَكي واقامت النظام الجمهوري وأعلنت الخروج من حلف بغداد ومزقت جميع الاتفاقيات والمعاهدات الجائرة. الى جانب ذلك شجعت الثورة على تفجير الوعي السياسي لدى الجماهير الشعبية الواسعة، التي كانت محرومة من المساهمة العلنية في النشاطات السياسية. وبذلك رفع مستوى الوعي لدى الجماهير بحقوقها وواجباتها الوطنية، لتنغمر في نشاطات الأحزاب السياسية وتحقيق حرية التعبير والتفكير والعمل النقابي والسياسي والثقافي. وذلك بصدور قانون الجمعيات عام 1961، والذي بموجبه أجيز ما يقارب من 700 جمعية، بالإضافة الى إجازة الأحزاب السياسية المؤمنة بالديمقراطية. كما تم الغاء الطائفية التي مورست خلال الحكم العثماني وبدايات العهد الملكي. الامر الذي أدى الى تعزيز مقومات الهوية الوطنية العراقية.
كما تخلت الثورة عن سياسة الانحياز نحو الغرب والأحلاف العسكرية، التي تبناها النظام الملكي، والتي أدت إلى إضعاف العراق عسكرياً، لأن الدول الغربية لم تزوِّد العراق بالسلاح خلال تلك الفترة. حيث كشفت ثورة 14 تموز بأن العراق لم يكن يملك حتى شبكة رادار، بالرغم من كونه عضواً في حلف بغداد. أما سياسة الحياد التي تبناها النظام الجمهوري، فقد أدت إلى حصول العراق على الأسلحة من كلا المعسكرين الشرقي والغربي.
وبما يتصل بالسياسة العربية والمواقف القومية. فقد تم توقيع معاهدات ثقافية واقتصادية وعسكرية مع الجمهورية العربية المتحدة آنذاك. والعمل على تقوية التضامن العربي وتنشيط دور العراق ضمن مؤسسات الجامعة العربية ودعم حركات التحرر الوطني العربية، منها، دعم الثورة الجزائرية وتخصيص مليوني دينار سنوياً من الميزانية لها، وكان هذا مبلغاً كبيراً في وقته. إذ كان يشكل نسبة 2% من الميزانية العراقية. وكان العراق أول دولة تعترف بميلاد الجمهورية الجزائرية. ودعم نضال الوطنيين اللبنانيين ضد حكومة كميل شمعون والتدخل الأمريكي، كما قامت الثورة بتأسيس جيش التحرير الفلسطيني، وفسح المجال أمام الشباب الفلسطيني للتدريب والعمل في الجيش العراقي ومعاهده.
اما في السياسة الخارجية، فلقد حررت ثورة 14 تموز 1958 سياسة العراق الخارجية من كل سلطان وتوجيه خارجي، تهدف الى تحقيق مصلحة العراق ومصلحة العرب والحرية والسلام في العالم. كما ساهم العراق بدور فعال في تأسيس منظمة الدول المصدرة للنفط (أوبك)، والتي صارت سلاحاً ماضياً لحماية حقوق الدول النفطية وتوقيع معاهدة صداقة مع الإتحاد السوفيتي والدول الاشتراكية.
اما على المستوى الاجتماعي، فقد تم إلغاء العلاقات الإقطاعية، وإلغاء قانون حكم العشائر، الذي كان يخوِّل شيوخ الإقطاع بحسم القضايا الجزائية في مناطقهم، وهو قانون سنه الإنكليز لإرشاء شيوخ العشائر لكسب ولائهم. كما تم إصدار قانون الإصلاح الزراعي وإلغاء الإقطاع. وهذا بحد ذاته يعد ثورة اجتماعية لصالح الملايين من الفلاحين الفقراء.
كما قامت الثورة بتشريع قانون الأحوال الشخصية، الذي بموجبه أعاد الاعتبار للمرأة العراقية التي كانت مسحوقة قبل الثورة. وأقر القانون مساواتها بالرجل في الميراث، وشهادتها في المحاكم. كذلك عالج مسألة تعدد الزوجات في صالح المرأة. وبذلك أعادت الثورة للمرأة اعتبارها كإنسانة لها كرامتها وشعورها بأدمتيها، وفسح المجال أمامها لتلعب دورها الكامل في بناء الأسرة والمجتمع ومساواتها بالرجل في الحقوق والواجبات. وفيما يخص التعليم، فقد أزداد عدد المدارس والمعاهد العلمية وعدد الطلبة والمدرسين خلال أربع سنوات ونصف السنة من عمر الثورة إلى ضعف ما حققه النظام الملكي خلال 38 عاماً. إضافة إلى إرسال آلاف الطلبة إلى الخارج في بعثات دراسية في مختلف المجالات العلمية اللازمة لبناء الركائز الاقتصادية وإدارتها وإدامتها وخاصة المرافق النفطية.
على المستوى الاقتصادي، حررت الثورة النقد العراقي من الكتلة ألإسترلينية. وتعتبر هذه الخطوة من أهم الخطوات في تحرير الاقتصاد العراقي من قيود التبعية البريطانية. فبدلاً من الاعتماد على الإسترليني ومشاكله في تذبذب قيمته في أسواق العملة كرصيد احتياطي للدينار العراقي، اعتمدت العملة العراقية في عهد الثورة على تنوع الأرصدة، من الذهب والدولار وعملات صعبة أخرى، مما قوى قيمة الدينار العراقي، خاصة في فترات تعويم الإسترليني الذي انخفض إلى نصف قيمة الدينار العراقي.
أيضا إلغاء الامتيازات البترولية في الأراضي العراقية، ما عدا المناطق المستغلة فعلاً. فأصدرت حكومة الثورة قانون رقم 80 لعام 1961. فحررت بموجبه 99.5% من الأراضي العراقية من سيطرة الشركات النفطية العالمية. وهذا بحد ذاته يعتبر ثورة حررت العراق من شكل آخر من الاستعمار. وبذلك وضعت الأسس القوية لتأميم الثروة النفطية في وقت لاحق. كما وسنت حكومة الثورة قانون تأسيس شركة النفط الوطنية. كما أرسلت الحكومة بعثات دراسية إلى الخارج في مجال هندسة النفط، الأمر الذي سهل تأميم النفط لاحقاً. اذ لم تهتم السلطة في العهد الملكي بتدريب كوادر عراقية في مجال النفط. وتجدر الإشارة الى إبرام اتفاقية التعاون الاقتصادي مع الإتحاد السوفيتي. فبموجبه أنشأ العراق الكثير من المؤسسات الاقتصادية، مثل مد الخط العريض بغداد-بصرة ومعمل الزجاج في الرمادي ومعمل الأدوية في سامراء ومعمل الجلود في الكوفة ومعمل التعليب والألبان في كربلاء والميناء العميق، 25 ميلاً جنوب مصب شط العرب، لتصدير النفط. وبذلك حقق توسعاً في مياهه الإقليمية في الخليج ووسع من صادراته النفطية. ناهيك عن تنفيذ مشاريع عديدة منها بناء مدينة الثورة وشق طرق سريعة وإنجاز مشروع قناة الجيش وغيرها.
باختصار شديد، فان ثورة تموز هي ثورة وطنية وشعبية بامتياز، وليس انقلابا عسكريا، كما يحلو للبعض، تسميتها. حيث شارك بتفجيرها الضباط الاحرار بالتنسيق مع جبهة الاتحاد الوطني ونالت التأييد الكامل من الشعب العراقي والشعب العربي وجميع شعوب العالم الحرة. فتحية للشعب العراقي في عيد الثورة بذكراها الرابعة والستين، والتي تشكل درسا وطنيا لكل عراقي مقبل اليوم على الثورة ضد المحتلين وعملائهم في المنطقة الخضراء لترفرف راية التحرير خفاقة في سماء العراق.
عوني القلمجي
14/7/2022

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

3855 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع