هل صحيح ان الولايات المتحدة تريد اصلاح ما افسدته في العراق؟ لماذا يذكرنا الوضع الحالي بقصيدة المرحوم الملا عبود الكرخي؟

                                               

                        د. سعد ناجي جواد

هل صحيح ان الولايات المتحدة تريد اصلاح ما افسدته في العراق؟ لماذا يذكرنا الوضع الحالي بقصيدة المرحوم الملا عبود الكرخي؟

التبشير بقرب خلاص العراقيين من وضعهم البائس ازداد بشكل كبير في هذه الايام، والناس من كثرة هموهم، بل ومصائبهم اليومية التي لا تنتهي، اصبحوا يصدقون كل ما يقال، طالما انه يدغدغ مشاعرهم ويلامس تمنياتهم.

بدأت العملية قبل فترة، وتصاعدت مع تسمية السفيرة الامريكية الجديدة في العراق قبل أشهر عديدة، وازداد مع تسنمها المنصب قبل اكثر من شهر، حيث اكد البعض ان هذا التعيين هو الخطوة الاولى للتغيير، رغم ان السيرة الذاتية للسيدة السفيرة لا تظهر امتلاكها اية قدرات (خارقة)، ولم تدلِ باي تصريح يدلل على وجود برنامج اصلاحي لها. لكن سجلها يوكد، انها ضابطة مخابرات سابقة، درست في جامعة تل ابيب الصهيونية ومن المتحمسين لما عرف بالتطبيع بين الدول العربية واسرائيل، وتسبب موقفها هذا في تذمر شعب وحكومة الكويت عندما عملت سفيرة هناك قبل قدومها للعراق. بكلمة اخرى ان اهم هدف لها هو الحصول على اعتراف عراقي باسرائيل وليس العمل على تخفيف معاناة العراقيين كنتيجة للاحتلال.
ثم تحدث اخرون عن لقاءات اجرتها الولايات المتحدة مع (ضباط كبار) من الجيش العراقي السابق وشخصيات اخرى، واعتبروها مقدمة للتغيير في بغداد. لكن احدا لم يفصح عن اسم واحد من هؤلاء حتى نعرف قدراته على فعل ذلك، او على الاقل نعرف مقدار شعبيته في الداخل وهل هو نزيه ام فاسد اخر.
آخرون اعتمدوا على زيارة السيناتور الامريكي لندسي غراهام للعراق قبل ايام، والتي ادلى خلالها بتصريحات اكد فيها على نية الولايات المتحدة على البقاء في العراق، وتحدث عن (عدم رضا الادارة الامريكية عن تعثر المسيرة الديمقراطية وتفشي الفساد وعدم احترام حقوق المراءة، واسفها لفشل خطة اميركا في جعل العراق نموذجا ديمقراطيا واقتصاديا رائدا في المنطقة [كذ])، الى غير ذلك من المواضيع، التي فسرها البعض بانها اشارة امريكية واضحة للتغيير.
احد المتخصصين بالشأن العراقي، والذي يحظى بمتابعات واسعة اكد قبل ايام في حديث متلفز له ان الخلاص سيحصل (في غضون سنة او سنة ونصف)، اثار هذا الكلام، وخاصة مسالة وضع تاريخ محدد للتغيير، اهتمام الناس، وصاحبه موجة كبيرة من الاحاديث لاشخاص يدعون علمهم ببواطن وخفايا الامور. واصبحت وسائل التواصل الاجتماعي تعج بمقاطع اشرطة مسجلة بالصوت والصورة يشرح متحدثوها كيف سيتم التغيير.
ابتداءا يجب الاعتراف بأمرين. الاول ان كل ما يقال في هذا المجال، حتى وان كان محض تخيلات، فانه يعبر عن ما يجيش من تمنيات في نفوس نسبة كبيرة من العراقيين. والثاني ان الولايات المتحدة اذا ما ارادت حقا ان تحدث تغيرا في الساحة السياسية العراقية فإنها تمتلك الامكانيات على فعل ذلك، وبدون ان يفهم من هذه الكلمات بانها ترحيب باي تدخل امريكي (حاشى لله)، او انها محاولة لتكذيب ما يقال وما يتم تداوله، الا ان واجب اي طالب في مجال العلوم السياسية ان يحاول، كلما كان ذلك ممكنا، تحليل ما يقال اعتمادا على حقائق ووقائع ووثائق ان وجدت. واستمرارا لهذا النهج الذي اتمنى ان لا يُغضِب احد، ولكون شخصي البسيط بعيد كل البعد عن دوائر صنع القرار الاجنبية او العراقية، سأحاول، بناءا على ما هو متاح من معلومات، مناقشة ما يتم تداوله، وبالذات الافتراض الذي يقول ان الولايات المتحدة تريد تغيير الاوضاع في العراق وتصحيح الاخطاء، بل الكوارث التي ارتكبتها متعمدة منذ اتخاذ القرار باحتلال هذا البلد، وما تلى ذلك اثناء حكمها المباشر او بعد تنصيب إمّعات فاسدة وطائفية وشوفينية متعصبة، ويمتلك قسم غير قليل منها رغبة كبيرة في الانتقام وتصفية كل من يقف في وجه اطماعهم التي لاتنتهي.
السؤالان الاساسيان اللذان يتبادران للذهن هما: هل ان الولايات المتحدة حقيقة منزعجة مما يجري في العراق؟ والثاني هل انها حقيقة كانت تريد بناء عراق ديمقراطي ومرفه اقتصاديا كي يكون نموذجا لكل دول الشرق الاوسط؟ اعتقد وبكل تواضع ووضوح ان هذين الافتراضين غير صحيحين، لان المشروع الاساسي للولايات المتحدة ومعها اسرائيل وبريطانيا، كان مبني على فكرة تدمير العراق كدولة وتمزيق شعبه ونسيجه الاجتماعي، وهذا الهدف لا يحتاج، بعد ما يقارب من عشرين عاما، الى اية ادلة لتأكيد نجاحه بامتياز، وخير دليل على ذلك القرارات التي اتخذها سيء الصيت بريمر، والنوايا السيئة والمبيتة التي كان يضمرها تجاه العراق هو والسفراء الأمريكان السابقين (نغريبونتي وخليل زاد ومن لف لفهم)، وتجاه الشعب العراقي، وبالذات العرب منهم. وتجاه علماءه وتجاه قواته المسلحة. ثم ان كل الشواهد والدلائل، والتي كان يكذبها اولئك الذين كانوا يتعاونون مع، بل والمساهمين في مخططات الاحتلال، تؤكد ان السبب الحقيقي لكل العملية كان لحماية امن اسرائيل اولا، وثانيا للسيطرة على الثروة النفطية. والامران تحققا بنجاح منقطع النظير. فكل مقومات الدولة العراقية قد دمرت والجيش الذي كان مفخرة للعراقيين والعرب تمت شرذمته بصورة ممنهجة، حتى انتهى به الامر بان اصبح يقاد من اشخاص اقل ما يمكن ان يقال عنهم انهم غير اكفاء. (ربما من المفيد التذكير بالخطاب الذي القاه رئيس وزراء اسرائيل الاسبق اولمرت بحضور جورج بوش الصغير في نهاية فترة حكمه والذي قال فيه له وبكلمات رنانة ان اسرائيل لن تنس لك فضلك في تخليصها من خطر العراق). اما الثروة النفطية والتي تم تأميمها واصبحت ملكا للشعب العراقي عام 1972، وطُرِدَت الشركات المتعددة الجنسية (الامريكية والبريطانية والاوربية) التي كانت تسيطر على هذه الثروة، فلقد تبددت مرة اخرى وعادت الشركات الاجنبية، واصبحت هي المستفيد الاكبر من هذه الثروة عن طريق جولات التراخيص الكارثية. هذه الجولات الفاسدة التي تم بسببها سجن عدد غير قليل من اصحاب الشركات الاجنبية في عدد من دول العالم، بينما المسؤولين عن ذلك من العراقيين مازالوا طلقاء يتمتعون بما حصدوه من سحت حرام، (من العرب والاكراد على حد سواء).
ثم اصبح العراق مرتعا لأجهزة المخابرات الامريكية والاسرائيلية، بل وكل اجهزة مخابرات الدول المعادية او الكارهة لفكرة استعادة العراق لمكانته الدولية والاقليمية.
فلماذا اذا تفكر الولايات المتحدة واسرائيل في تغيير ما كان هدفا سياسيا لهما؟ المشكلة الوحيدة التي تقلق الطرفين هي النفوذ الايراني الكبير في العراق، وهذا النفوذ يمكن مواجهته، او بالأحرى يتم مواجهته، عن طريق اعتماد سياسة ضرب الاطراف العراقية الواحد بالاخر، وتعميق الخلافات فيما بينها. وهكذا نجد الان ان الانقسامات قد اصبحت داخل المكون الواحد بعد كانت بين مكون واخر.
الاهم ان الكل نسي ان الولايات المتحدة، التي ما فتئت تتحدث عن حجم الفساد في هذا العراق، كانت هي اول من بداءه بتبديد ثروات العراق النقدية، ولم تفعل شيئا لمحاربة هذه الظاهرة. بل والاكثر من ذلك فانها ما تزال تأوي عددا كبيرا من الفاسدين العراقيين السابقين، وتحمي اموالهم التي جمعوها من السحت الحرام في بنوكها. وان الحديث الامريكي (المثبت في تقارير رصينة، عن حجم الفساد). وعن النية لملاحقة الفاسدين لا ينسجم وحجم التغاضي الامريكي عن معالجة هذه الكارثة الكبيرة. (والشيء نفسه يمكن ان يقال عن تفشي ظاهرة المليشيات المنفلتة التي كانت الولايات المتحدة هي من ادخلها ومنحها الصفة القانونية وشرعن وجودها). واذا كانت الادارات الامريكية والحكومات البريطانية المتعاقبة صادقة حقيقة فيما تدعيه، فكان يمكنها على الاقل المبادرة الى ضرب مثل بسيط على جديتهما وذلك باحالة الفاسدين من المسؤولين العراقيين السابقين، الذين يحملون جنسيات هذين البلدين ويقيمون هناك، الى المحاكم المختصة ومصادر الاموال الهائلة التي نهبوها ووضعها في صندق خاص باسم الشعب العراقي. عمل كهذا فقط يمكن ان يثبت للعراقيين جدية اميركا وبريطانيا في محاربة الفساد وبداية اصلاح الوضع العراقي، وليس احاديث سفرائهم في بغداد.
اقليميا كل دول المنطقة صارت تشعر بانها مستفيدة من الوضع العراقي الحالي. فدول الخليج تعتقد انها (اصبحت في مأمن من طموحات العراق الاقليمية والخليجية)، ولا يهم ما يواجهونه من تهديدات من اطراف اخرى بعد غياب العراق. وايران وتركيا يعتقدان ان هذا الوضع مكنهم، ويُمَكِنهم من تحجيم قوة اقليمية كانت تقف بوجه طموحاتهم المتزايدة، بالاضافة الى ان الوضع الحالي يُمَكن الدولتين الجارتين من استنزاف ثروات العراق النفطية والمائية والنقدية، (تصدير الغاز الايراني للعراق باسعار مضاعفة، بيع الطاقة الكهربائية وافشال اية مشاريع عراقية في هذا المجال، خنق المنفذ المائي الوحيد للعراق على الخليج العربي، تحويل منابع الانهار العراقية الى داخل الاراضي الايرانية والتركية، بناء السدود على الانهار الرئيسية في البلدين والتسبب في موجة جفاف غير مسبوقة لكي يستورد العراق احتياجاته الغذائية من الدولتين، حصول تركيا على النفط المهرب من كردستان العراق باسعار بخسة…الخ) كل ذلك لا يمكن ان يجعل الدولتان تفكران في تشجيع اية عملية تكون بداية لاستعادة العراق لدوره الاقليمي او للتخلص من الفاسدين. على العكس فان وجود الفاسدين والفاشلين في الحكم يقدم للدولتين خدمات ومنافع لا تعد ولا تحصى.
اخيرا ان من يعول على دعم امريكي، كالذي حصلت عليه ما سميت ب(المعارضة الخارجية) قبل 2003، لا يمكن الا ان يوصف بانه اما ساذج او واهم، او ان صاحبه يُخدع من قبل الادارة الامريكية كي يقوم بكل ما يُجَّمل صورتها القبيحة في المنطقة، (هذا اذا ما افترضنا حسن النية!) لانه كما ذُكِرَ سابقا ان الاسباب التي دفعت اميركا واسرائيل وبريطانيا لتقديم ذلك الدعم ونشر وترويج الاكاذيب عن النظام السابق قد انتهت وانتفت، ولم يعد العراق يمثل اي شيء في ميزان القوة الاقليمي والدولي. الاحتمال الوحيد المتبقي والذي يمكن ان يجعل الولايات المتحدة تتدخل في العراق، بل وربما اعادة احتلاله، هو ان ادارة الرئيس بابدن قد وصلت الى قناعة بان هذا هو الحل الوحيد لانتزاع اعتراف عراقي رسمي باسرائيل. نعم هكذا حل يمكن ان يكون انجازا آنيًا امريكيا كبيرا في ظل الصراع مع ايران وروسيا وفي عملية فرض اسرائيل كحليف على بعض الدول العربية، ولكن هل ان الولايات المتحدة قادرة على تحمل تبعاته وموجة المقاومة التي ستلي هكذا اجراء؟
خلاصة الامر يمكن القول انه لا يوجد في الافق ما يدلل على ان هناك نية دولية او اقليمية للعمل على اصلاح الاوضاع في العراق، او لمساعدة ابناءه للتخلص من وضعهم المزري. وان الحقيقة ستظل تقول ان العراقيين وحدهم، ووحدهم فقط يمتلكون القدرة على فعل ذلك. وان ما جرى في سيرلانكا قبل ايام يمكن ان يكون نموذجا يحتذى من قبلهم، وان الاعتماد على الخارج لن يجلب الا المزيد من الكوارث والفساد والشرذمة. وعكس ذلك، وفي ظل ما يجري اليوم من عجز حتى عن تشكيل حكومة، سينطبق علي العراق ماجاء في قصيدة الشاعر الشعبي العراقي الكبير المرحوم الملا عبود الكرخي الشهيرة (بين حانه وبين مانه). وملخص قصة هذه القصيدة، المعتمدة على مثل شعبي معروف، ان رجلا ما كان متزوجا من امرأتين، واحدة اسمها حانه والاخرى اسمها مانه، تآمرتا عليه، فكلما ذهب عند واحدة تقول له لحيتك تزعجني يحب ان انتف جزءا منها، وهكذا حتى وجد نفسه بعد ايام بانه من غير لحية. يقول الكرخي
بين حانه وبين مانه
ياعرب ضاعت لحانه (لحيتنا)
ضاعت لحانه وصفينه
ناس غربه (غرباء) بالمدينة
السرسري (الازعر المنفلت) يضحك علينه
والمخنث والزنانة (المتشبه بالنساء).

أطفال الگاردينيا

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

762 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع