د. سوسن إسماعيل العسّاف
من دفع رئيس الوزراء البريطاني للإستقالة، النقمة الشعبية أم التمرد الحكومي؟ ومن هم المرشحون الأوفر حظا لقيادة حزب المحافظين والحكومة الجديدة؟ وهل سيكون هناك تغيرا جوهرياً في السياسة البريطانية؟
مع إشتداد الحرب في أوكرانيا وسيطرة القوات الروسية على اراضي جديدة، ومحاولات الرئيس جو بايدن لإحياء الدور الامريكي وتجدد التحالفات في الشرق ألاوسط اثناء زيارته الاخيرة، تعيش بريطانيا اجواء صراعات انتخابية تنافسية بين قيادات حزب المحافظين بعد الاستقالة التي قدمها رئيس الوزراء بوريس جونسون من زعامة الحزب والحكومة، نتيجة لحوادث ومشاكل كثيرة. البداية كانت إنتقادات بريطانية-اوربية لمحاولته التنصل عن بعض بنود إتفاقية الخروج من الإتحاد الأوربي التي وقعها بنفسه، حيث اعتبر العديد من السياسيين البريطانيين المخضرمين هذا العمل لا يليق بالتقاليد السياسية البريطانية المبنية على مبدأ احترام الكلمة والالتزام الدولي. من ناحية اخرى تأثرت سمعة جونسون الشعبية كثيراً بفضيحة عدم احترامه لشروط الحجر والتباعد بعد تفشي جائحة كورونا، ووصل الامر الى ان تجري الشرطة تحقيقا (وفق مبدأ لا أحد فوق القانون). تواكب هذا الامر مع انزعاجات وتذمر شعبي من معالجات الحكومة للاثار السلبية الناجمة عن كورونا المتمثلة بإرتفاع الاسعار وزيادة نسبة الضرائب وتسريح عدد من الموظفين وتصاعد نسبة الفقر والتضخم مع تباطؤ النمو الاقتصادي. وكمؤشر على عدم الرضا هذا هو خسارة حزب المحافظين مقاعد انتخابية في جولات تكميلية لمناطق كانت تعتبر من قلاع الحزب. أضف الى ذلك تراكمات أحداث سابقة أخرى ناجمة عن مواقف متناقضة للحكومة مثل، قرار الانسحاب غير المدروس من أفغانستان، بالتبعية الأمريكية، والوعود التي وصفت بالفارغة بعدم التخلي عن الشعب الأفغاني، وأهمها قبول عدد قليل من اللاجئين الافغان لاينسجم مع الأعداد التي تستحق ذلك، مقابل حملة وزيرة الداخلية ضد طالبي اللجوء. ثم كان الإصطفاف مع الولايات المتحدة واستراليا في حلف (أوكوس) لمواجهة الصين وروسيا، الذي أغضب أوربا حيث أعتبرته خروج بريطاني كامل عن مبادئ الأمن الدفاعي الأوربي. وحتى التأييد الكبير الذي حصل عليه جونسون نتيجة لإندفاعه في الوقوف الى جانب أوكرانيا في حربها مع روسيا، وتقديم المساعدات المادية والعسكرية والمعنوية (زياراته لكييف)، ظهر هناك من إنتقده على أساس انه لم يوازن بين دعم اوكرانيا وضرورة التعاون مع اوربا من اجل ايجاد حل دبلوماسي تفاوضي للمشكلة، والذي أعتبر أيضا تنفيذا لأجندات امريكية لا تأخذ مصالح اوربا بعين الإعتبار. ولم يكتف جونسون بفرض العقوبات الاقتصادية على روسيا وإرسال الاسلحة والدعم العسكري وتدريب المقاتلين بقيمة وصلت الى أكثر من 1.6 مليار دولار، انما زاد على ذلك بان قدم مئات الملايين من الجنيهات الى حكومة اوكرانيا، في وقت تعاني فيه بريطانيا من مشكلة اقتصادية وخصوصاً فيما يخص اسعار الطاقة. حتى المعاهدات الامنية التي عقدها مع السويد وفنلندا لطمأنة دخولها الناتو، قد فسرت على انها التزامات تثقل كاهل بريطانيا وطريقة للهروب من الوضع الاقتصادي الداخلي المتأزم. ثم إرتفعت حدة الإتهامات له من لجان في الحزب والبرلمان بعد تسرب معلومات عن لقاءه بضابط مخابرات روسي لوحده، ولم يبلغ الجهات المسؤولة عنه، وعَدَّ البعض هذه الامر خطراً ومساساً بالامن القومي البريطاني. ثم جاءت الفضيحة الأخلاقية لنائب رئيس لجنة الإنضباط في الحزب لتأزم الموقف أكثر. إثر ذلك بدا ما يمكن وصفه تمرد حكومي داخلي ضد رئيس الحكومة أخذ شكل سلسلة استقالات (60 إستقالة) لوزراء ومسؤولين كبار. حاول جونسون الاصرار على التمسك بمنصبه وطرح مسألة الثقة بحكومته للتصويت، وفاز بأغلبية بسيطة أعتبرت بمثابة هزيمة له، وعالج امر الاستقالات بتعيينات جديدة، لكن في النهاية أجبرته النقمة الشعبية والسياسية داخل حزبه والحزب المعارض على الإستقالة. هذه الإستقالة فتحت باب التنافس بين قيادات حزب المحافظين على رئاسته، (والذي يعني صراع على منصب رئيس الوزراء). تُرى من سيخلف جونسون؟ والأهم هل سيستطيع هذا المرشح إعادة الثقة والمصداقية التي أهتزت بحزب المحافظين؟ وكيف ستكون سياسة حكومته المرتقبة؟ هل سيميل الى التركيز على سياسة داخلية تعيد اصلاح ولملمة ما بعثرته الحكومة السابقة؟ أم ستضع رئاسة الحكومة الجديدة الاولويات في سياسة خارجية تنهض بأمجاد بريطانيا القيادية؟ في البداية اتفق المرشحون على التحديات التي تواجة المملكة المتحدة والمتمثلة في: الضرائب والتضخم الاقتصادي، بروتوكول ايرلندة الشمالية ومشاكل الخروج من الاتحاد الاوروبي، بقاء اسكتلندة ضمن بريطانيا، الحرب الاوكرانية وقيادة الغرب، مشكلة اللجوء واللاجئين بالاضافة الى التغيير المناخي.
وفقا لضوابط الحزب يتم الإنتخاب على مرحلتين، الأولى من قبل اعضاء الحزب داخل البرلمان، حيث يتم تصفية المتنافسن في جولات خمسة حتى يتبقى أثنين فقط، الثانية يتم طرح الأسمين على كل أعضاء الحزب في عموم البلاد لإختيار شخص واحد فقط. بعد جولات التصفية الأولى والثانية والثالثة التي جرت على مدى الايام الماضية، إستطاعت خمسة أسماء ان تحظى بتاييد نواب البرلمان. الأسم الاول الذي قفز لصدارة المرشحين هو وزير المالية السابق ريتشي سوناك (ذو الاصول الهندية) ، وربما يكون سبب الشعبية التي حظى بها التدابير المالية التي اتبعها لمواجهة الحظر الشامل الذي فرضته جائحة كورونا، ولانه ركز حملته الانتخابية على الوضع الاقتصادي الذي يشغل غالبية البريطانيين. ومع إنه لم يتعهد بتخفيضات ضريبية ولكنه اعطى اهمية لمسألة مكافحة التضخم المرتبط بضغوطات عالمية مازالت قائمة (كورونا والحرب الاوكرانية)، مؤكداً ان الاستثمار والاصلاح والتعليم اهم المفاتيح لحل الازمة. أهم الانتقادات التي وجهت اليه هي، أولاً سياساته المالية التي تسببت في تعريض الاقتصاد الى الركود، ثانياً موضوع تهرب زوجته من الضريبة وامتلاك كارت الإقامة الامريكي الاخضر، ثالثاً اختلاف ارائه حول الخروج البريطاني من الاتحاد الاوروبي الذي صوت لصالحه واعتبرهُ فرصة وإن كان بدون اتفاقية، ولكنه عاد ليقول ان احد اسباب تراجع التجارة في بريطانيا هو الانسحاب من الاتحاد، ثم عاد وتعهد مؤخراً بإلغاء او اصلاح قوانين الاتحاد الاوروبي التي تعترض عمل الشركات البريطانية. رابعا موقفه المتذبذب من قضية استقلال اسكتلندا، فبعد أن كانت رؤيته في عام 2017 بإمكانية قيام استفتاء أخر في اسكتلندا بعد الخروج من الأتحاد الأوربي، عاد وعارض ذلك بشدة مؤخرا موضحاً أن ذلك سيؤثر على الوضع الإقتصادي البريطاني وهو من أهم اولوياته. علما ان أحد مقترحاته هو تخفيض نسبة المساعدات الخارجية من 0.7 الى 0.5% أي ضمان 4 مليار دولار للتعامل مع أثار جائحة كورونا الاقتصادية، والذي سيؤثر على الالتزامات الدولية البريطانية خصوصاً مع بعض الدول الفقيرة والحليفة لبريطانيا في الشرق الاوسط وافريقيا.
الوزيرة بيني موردونت التي خدمت في البحرية الملكية البريطانية التي شغلت عدة مناصب وزارية عديدة لحكومات المحافظين جاءت بالمركز الثاني. فهي أول سيدة تسنمت منصب وزيرة الدفاع في بريطانيا؛ وقبل ذلك وزيرة الدولة لشؤون القوات المسلحة، ووزيرة التنمية الدولية ووزيرة المرأة والمساواة وحالياً هي وزيرة التجارة الدولية. استطلاعات كثيرة أعتبرتها المرشحة الأقوى لقيادة الحزب والحكومة، ومنافسة شرسة لسوناك، نظرا لما تمتلكه من قابليات كثيرة، وخاصة في مجال الخطابة وشخصيتها القوية، ويعتبرها انصارها بأنها قادرة على توفير القيادة التي تحتاجها بريطانيا، لا سيما وأنها أطلقت حملة ترشيحها بوعد إصلاح “نموذج القيادة الفاشل” لحزبها. عُرفت بدعمها القوي لخروج بريطانيا من الاتحاد الاوروبي وبتأكيدها على الفوائد والارباح الضخمة التي ستجنيها بلادها من ذلك. واعلنت عن تمسكها بالالتزامات مع الناتو، بزيادة الانفاق على الدفاع بنسبة 2.5% بحلول 2030، من منطلق الدفاع عن القيم الاوروبية المشتركة. كما أوضحت موقفها من الحرب الاوكرانية حينما شددت على أن روسيا “يجب أن تخسر الحرب” والاكثر من ذلك قالت وبحماسة “لا يمكن أن يكون هناك أي أرض يتم التنازل عنها لروسيا”. اجتماعياً ركزت موردونت الان على مسألتين مهمتين اولهما تكلفة المعيشة وخفض الضريبة المضافة على الوقود بنسبة 50%، وثانيهما مسألة المساواة بين الجنسين مع دعم حقوق المرأة ورعاية الاطفال. كما اكدت على رفض فكرة إستفتاء جديد حول إستقلال اسكتلندا. قد تعطي المواقع الوظيفية الوزارية التي شغلتها موردونت خبرة وميزة في إدارة الدولة وتعطي الانطباع لرؤيتها الدولية القادمة وهذا الامر يفتقده مرشحين اخرين. في ما يخص الشرق الأوسط، فقد قامت بزيارة للمنطقة واشرفت على عمليات لمكافحة الارهاب، حيث تواجدت في مقر القيادة البريطانية المشتركة لعمليات مكافحة داعش في العراق وسوريا 2016. أكدت على ضرورة تعليم الاطفال الفلسطينيين في الاراضي المحتلة (الاورنوا) عبر توفير المساعدات الانسانية وخصوصاً البريطانية لهذا الغرض. وفي الوقت الذي علقت فيه على الاضرار الناجمة عن الحرب في اليمن على الاطفال، وحذرت انذاك من نتائجها على العلاقات البريطانية-السعودية اذا لم يتم إتخاذ اجراء يخفف من الوضع الانساني في اليمن، ألا إنها لم تنتقد التعامل الاسرائيلي اليومي مع اطفال ونساء وشيوخ غزة والضفة الغربية في فلسطين المحتلة. المسألة المهمة هي ان التأييد الشعبي لترشيحها كرئيسة لحزب المحافظين ولرئاسة الوزراء يتصاعد بسرعة كبيرة. وأصلاً حققت بيني تقدم في مكاتب المراهنات التي تشتهر بها بريطانيا. بالمقابل شنت صحيفة الديلي تلغراف المقروءة من قبل اغلب المحافظين حملة تحقيقية استقصائية واسعة للتناقضات الكلامية في التصريحات التي تدلي بها موردونت، وهذا الموقف اذا ما تصاعد فانه قد يؤثر على حظوظها.
في المركز الثالث حلت ليز تراس، التي شغلت حقائب وزارية متعددة خلال ثلاث حكومات محافظة منذ 2014، وزارة الدولة للعدل، ولشؤون البيئة والغذاء، التجارة الدولية، المرأة والمساواة وأول وزيرة من حزب المحافظين تشغل وزارة الخارجية حالياً. لم تستقيل من حكومة جونسون تعبيرا عن ولائها له، واصرت على عدم تغيير مواقفها، معتقدة أن هذا الأمر يمكن ان يحسب لها وتتمكن من قلب الامور الانتخابية لصالحها. ولكنها سرعان ما أكتشفت خطأ هذا النهج وبدات تتحدث عن قدراتها على التغيير الذي تترقبه المملكة المتحدة والذي تصفه بأنه سيكون صعبا وحازما، وبحاجة الى قرارات قوية وعنيفة، واكدت “أنا مستعدة لأكون رئيس الوزراء”، كما وعدت ليز بخفض فوري للضرائب ومعالجة الوضع الاقتصادي المعيشي الذي يقلق القاعدة الشعبية. تعتبر تراس من المحافظين المعارضين خروج بريطانيا من الاتحاد الاوروبي واطلقت حملتها انذاك بريطانيا أقوى مع اوروبا، ولكن بعد الانسحاب تم تعيينها كبيرالمفاوضين للخروج من الاتحاد الاوروبي، وقدمت مشروع قانون غير مرن لإلغاء اجزاء من بروتوكول ايرلندة الشمالية. وهذا ما يثير القلق والشكوك حول إمكانياتها ونهجها في حل مشاكل الخروج من دون خسارة دبلوماسية. ومع أن تراس دعمت العقوبات الاقتصادية على روسيا بنتائج مكلفة على بريطانيا ألا إنها ترى ذلك ضرورة للوقوف بجانب اوكرانيا ولانهاء بوتين حسب وجهة نظرها. وهذا الامر يتضارب مع التوقعات البريطانية في استمرار هذه الحرب لأمد طويل، وإشكالية حدود الالتزام مع اوكرانيا وفق الحسابات السياسية-الاقتصادية والدفاعية-الامنية. كسبت تراس رضا وقبول البريطانيين بعد نجاحها في مفاوضات اطلاق سراح المعتقلتين البريطانيتين في ايران، ومطالبتها ايران بالافراج عن كل المحتجزين البريطانيين لديها، اذا ما ارادت تحسين العلاقات مع بريطانيا، وفي الوقت نفسه دعت ايران الى العودة الى الاتفاق النووي. حاولت إجراء مفاوضات مع ضغوطات على الحكومة العراقية لاقناعها في اطلاق سراح عالم اثار بريطاني مسجون في العراق بتهمة محاولته تهريب اثارعراقية. كما قامت تراس بعدد من الزيارات الى دول الخليج العربي من اجل تعزيز العلاقات الامنية والاقتصادية في ظل ازمة الطاقة والبحث عن البدائل للضغط على روسيا. وبذلك فإذا ما فازت بمنصب رئاسة الوزراء فحتماً ستعكس خبرتها الدبلوماسية هذه على التعامل مع كل ما يضمن المصالح البريطانية الدولية وبالاخص في الشرق الاوسط. الاعتراض الاساس عليها هو انها اصلا جاءت من حزب الديمقراطيين الليبراليين. ومع ان حظوظ فوز المرشحين الآخرين النائبين توم تاغندهات (رئيس لجنة الشؤون الخارجية والبعيد عن العمل الوزاري)، والوزيرة المستقيلة كيمي بادينوك، بسيطة خصوصاً بعد ان فقدوا اصوات لصالح المرشحين الاخرين في الجولة الثالثة. إلا أن أدائهما في المناظرة التلفزيونية الاولى والثانية بين المرشحين جميعا أكسبهما تاييدا ونقاطا أحيت آمالهما. ولكن تبقى التوقعات ومتغيرات الدعم من قبل اعضاء الحزب الاخرين ذات اثر في جولة الانتخابات القادمة من اجل الإبقاء على إثنين فقط، وكل المؤشرات تقول ان الإسمين هما سوناك وموردونت، إلا اذا حصل ما لم يكن في الحسبان، (مثل نشر فضائح عن احد المرشحين ما قد يمكن تراس من القفز كمرشحة ثانية نهائية). هناك من يقول ان كيمي بادينوك قد تحدث المفاجأة الأكبر بان تقفز هي كأحد المرشحين الأثنين الآخيرين لتكون اول مرشحة سوداء من أصل نايجيري لهذا المنصب. إلا إن المشككين يؤكدون أن المحافظين المتشددين سوف لن ينتخبوا سوى شخص بريطاني الأصل ومن العرق الانكلو-سكسوني، وهذا ما يعزز حظوظ تراس او مودونت. كل هذه الامور سوف لن تتوضح الا باعلان التصفية النهائية للأسماء مع نهاية هذا الشهر والتي ستحدد من يخوض التنافس النهائي على منصب رئيس الوزراء.
613 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع