بقلم: صفوة فاهم كامل
(عندما تَخلِق الكسّارة وزيراً...!) قراءة في كتاب معالي الأستاذ محمد داوديّة
شاءت الظروف ألا يحالفني الحظ في حضور حفل إشهار وتوقيع كتاب معالي الوزير الأردني السابق والسفير الأسبق الأستاذ محمد داودية، الموسوم (من الكسّارة إلى الوزارة) لعدم درايتي بموعده في حينها، كما لم يسعفني الوقت في قراءة صفحاته فور صدوره في شهر آذار الماضي لانشغالي بإعداد كتابي الشخصي الأخير. فصمّمت البدء بقراءته لاحقاً، وألا أقرأه قراءة تقليدية عجولة كما اعتاد القراء، بل أطالعه بكل روية وهدوء لأتمعن بأحداثه الوارفة وأتلذّذ بمفرداته الأدبية، حتى ختمتهُ وأنا في غاية السرور.
عندما أهداني السيد داودية، كتابه الأثير، أثارني في البدء عنوانه المُلتبس الذي يبعث على الغرابة في الاختيار، والعَمْد في الاختصار، لكن ما أن قرأت ما بين الغلافين حتى أدركتُ قصده بذلك، فالمُؤلّف لملمَ كل دلالات ومعاني الكتاب بهذا العنوان. وإن كان اختياره له-كما اعتقد-ليصطف مع (عناوين الكُتبْ المقفّاة)، وأيضاً لجذب عين القارئ. وهذا حق طبيعي يحرص الكثير من الكتُّاب العرب على صياغته.
تمعّنت أيضاً في فهرسته فوجدته بلا تبويبات معتادة مثل (أبواب، وفصول، ومواد، وأقسام... إلخ) كما هو حال أغلب الكتب، إنما عناوين بارزة لأحداث مختلفة وأسماء متعدّدة ومتنوّعه.
يُعتبر هذا الكتاب من كُتب السير الذاتية لشخصية معاصرة كان لها دور في الحياة العامة والحياة السياسية بشقّيها المعارض والحاكم، وكذلك كدبلوماسي مخضرم في عدّة دول، وإن اختلف أسلوب سرده للوقائع عن مثيلاتها، إلا إنني وجدته أيضاً تدويناً تاريخياً لسيرة كفاحية ومسيرة شاقّة وتجارب قاسية في الحياة والعمل، لرجل عصامي عانى الأمرّين، ضرّاءها وسرّاءها من حيث وقائعها المتعدّدة وأزمانها المتباينة خلال ستينيات وسبعينيات القرن الماضي، حتى يستشعر القارئ بأنه امتزج من حيث لا يعلم مع تلك الأحداث وسرحَ معها، وكأنّه عايش الكاتب واستأنس بصحبته على مدى تلك العقود من صَفر رحلته رغم فظاظة بعضها، وهذا ما لامس إحساسي فترة قراءتي للكتاب.
وبما أن المذكرات الشخصية هي نوع من أنواع الكتابة الأدبية الذاتية، خاصةً إذا كان المؤلف أو المعني في الكتاب هو من سطّر سطوره، دون الاستعانة بكُتّاب السير المتمرّسين، فأن الكاتب استخدم أسلوب السهل الممتنع في تدوين أحداثه، والمختصر المفيد في متونه، بطريقة روائية متوالية وبكلمات أدبية رشيقة بعيداً عن التعقيد في الألفاظ والمصطلحات، مما يجعلك تحوي مُجرياته بسهولة لتصل إلى خاتمة مطافها.
إن ذلك اليتيم الذي لم يعرف كلمة (بابا) خلال طفولته، ولا رابط الأبوّة في صباه ولا خبرة الأب بعد زواجه، لكنه تربى تحت أم طاغية وصارمة في متابعته، وعلى الرغم من شقاوته وتمرّده، كانت ليّنة وسلِسة الخلق معه، أرضعته حليباً طبيعياً فعرف كيف يجاري قساوة الأيام وساعاتها منذ أن فتح عيْنيْه على الدنيا وعاش تحت سماء وطنه وترعرع في باديتها وسَرابها فكانت أيام حاسمة في حياته فيها العناء والشقاء، إلا عند خواله فكان مدلّلاً مغنّجاً...!
عمل كل شيء وفي كل مجال من أجل الخبز ولقمة العيش، فبدء حياته متجولاً مع الصحف والمجلّات ليكون قارئاً نهماً لها قبل بيعها لزبائنه، لكن مردودها المادي كان ضئيلاً، فأنتقل إلى إحدى المطاعم الشعبية في مدينة المفرق ليصبح (شيفاً) ماهراً متلذّذاً في مهنتها، وعندما اشتدّدَ عوده توجّه إلى معمل (كسّارة الحجر) تلك المهنة التي تعتمد على قوة البدن والذراع لكنها (تُكسّر الظهر وتهدّ الحيل) و(شَغلة زْلَام) كما قالت له أمّه، حتى قال لها تالياً: (أتمنى الموت لأرتاح) من هذه الصنعة، لكن (الشقاء مكتوبٌ عليَّ) ...!
انتقل الشاب المكدود ليجرّب حظه مع التجارة ففشل فيها وخسر، وامتهن مع صديقه مزرعة دواجن، فأضاعها أيضاً، ليجد نفسه بعدها هذه المرة معلّماً في مدارس المملكة في مُدنها وقُراها، ببهائها وعنائها ليفلح فيها ويواظب عليها أحد عشر عاماً، قبل أن يَقحم نفسه في مهنة المتاعب مهنة الصحافة ويعمل في الصحف والمجلّات والأحزاب والنقابات ثمَّ في أروقة مجلس الوزراء وصولاً إلى (إعلام الديوان الملكي الأردني) تحت ظلال الملك العظيم الحسين بن طلال، صاحب الأفضال والألقاب عليه، لتُفتح له أبواب أخرى في لقاء شرائح واسعة من مثقفي ووجهاء وساسة الأردن حتى قيل له إنه (جعلَ من الديوان ديواناً...!) لكن هذا الديوان (الذي يُخرّج رجالاً لا خِرافاً) غادره فيما بعد، مستأذناً من جلالة الملك خوض غِمار الانتخابات النيابية في دورتها الثانية عشرة عام 1993، ليحظى وبدعم من أهله في محافظة الطفيلة، على ثقة ومصداقية الشعب في تمثيلهم تحت قبّة البرلمان، وإن كانت النيابة البرلمانية في ذلك الوقت تعتبر (مكان لدفع الثمن لا لقبضهِ) قبل أن يرتقي مرتبة وزير فسفير ثمَّ وزير فسفير، فوزيراً في أخر مطاف عمله السياسي، ليعود للصحافة مرّة أخرى وهو في خريف العمر ...!
فرصة قراءة الكُتب بمختلف مشاربها وعناوينها وألوانها منذ نشأته وما تلاها من غبار السنين اعتبره السيد محمد داودية، مُعلّمهُ الأول في الحياة، لتجعله مخلصاً لها ومسترسلاً معها ونهجاً ملاصقاً لحياته لغاية اليوم، لتُغدق عليه صفة كاتب ضليع بين جمهرة الكُتاب.
احتوى الكتاب بين طياته على العديد من أسماء المدن الأردنية الكبيرة والصغيرة وقرى وقصبات وبراري ومواقع طبيعية وتاريخية، تركت ذاكرتها في عقل المؤلف أو مرَّ بها، كما احتوت سطوره على عشرات الأسماء من أقارب وأصدقاء وزملاء وشخصيات عشائرية ورسمية رفيعة إضافة إلى صور تاريخية لبعضٍ منهم؛ عَلِقت في حياة داودية منذ نعومة أظفاره وحتى يفاعته ممن أثّروا وساهموا في نشأته ولهم الفضل فيما وصل إليه وآخرين رافقوه خلال حياته وخلقت معهم علاقة مستديمة وهذا بحد ذاته جزء من نكران الذات بلا حرج وصفة أخلاقية نادرة... إلا أن المؤلف قد غيّب سهواً تواريخ بعض الأحداث، كما لم يذكر مواقع وألقاب العديد من الأسماء التي وردت فيه-ربما بقصد الاختصار- أجد أنها بحاجة إلى ذكرها وتعريفها بشكل مبسّط لبعضٍ منها، لأن الكتاب وما فيه من سير لا يحاكي فئة معيّنة من الناس لفترة زمنية محدودة، بل هي دروس وقصص واقعية من الحياة اليومية لأي إنسان، ستكون منارة للأجيال القادمة يستمدّون منها العبر والقيم مهما تغيّرت الأحوال والصور خاصةً جيل المثقفين منهم والطامحين للوصول إلى مناصب عليا خدمةً لوطنهم ومنها منصب الوزير، ولكن بالتأكيد بلا مُقاساة العمل في "الكسّارة"...!
619 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع