هيفاء زنگنه
الحرب الأوكرانية بريئة من تُقزّم خمس العراقيين
يعاني واحد من كل خمسة أطفال من التقزم في العراق. هذه حقيقة يحاول الصراع السياسي المفتعل دفنها، سوية، مع تبادل الاتهامات بالفساد، على الرغم من إختلاف الإثنين. فبينما بالإمكان إجراء الإصلاحات، وبعضها فوري، لتجاوز الفساد، سيحتاج علاج ما يصيب الأطفال من أضرار، وانعكاساته على حياتهم ومستقبلهم، بمختلف النواحي، إلى ما هو أكثر من جيل.
من المعروف أن السبب الرئيسي للتقزم، أي عندما لا ينمو الأطفال كما يُفترض ويكونون أقصر وأقل وزنا، بالنسبة لسنهم، هو «نقص التغذية» لأنهم لا يحصلون على ما يكفي من الغذاء. وقد برزت هذه الظاهرة، في سنوات الحصار الذي فُرض على العراق ( 1990 – 2003). حين عاش الشعب فترة تدهور اقتصادي لا مثيل له، وعانت النساء، كأمهات بشكل خاص، من عدم الحصول على ما يكفي من الطعام قبل الحمل وأثناءه، كما تشير تقارير منظمة اليونسيف، فازداد خطر الإصابة بالتقزم. وتؤكد تقارير المنظمة، كما منظمة «أنقذوا الأطفال» الدولية، وبقية المنظمات المعنية بنمو الأطفال وتنمية قدراتهم العقلية، أهمية ما تسميه «نافذة الألف يوم» أي من بداية حمل المرأة حتى بلوغ الطفل عامه الثاني، وهي الفترة الأكثر تأثيرا على إمكانيات الطفل وتطوره المعرفي في المستقبل، لأنها الفترة الحرجة لتكوين وتطور الدماغ، والتغذية الجيدة للأم ضرورية كما تستمر في لعب دور رئيسي في ضمان نمو الدماغ بشكل صحيح. وإذا كان الحصار قد ألحق الضرر بجيل من أطفالنا، فإن تراكم عوامل أخرى زادت من حجم المأساة وألحقت الضرر بالأجيال التالية. من بينها الحروب، والاحتلال، والنزوح القسري، وتعرض العديد من المرافق الصحية للضرر أو النهب أو فقدان موظفيها بسبب النزوح القسري، ونقص الإمدادات الطبية جراء تضخم حجم الفساد المالي والإداري.
في دراسة اجراها خمسة من الباحثين العراقيين بعنوان «سوء التغذية بين الأطفال بعمر 3 – 5 سنوات في بغداد» ونُشرت في دورية علمية عام 2013، أن معدل الانتشار الإجمالي للأطفال ناقصي الوزن في بغداد هو 18.2 بالمئة وأن النسبة أعلى بقليل بين الإناث مقارنة بالذكور. خلُص الباحثون إلى عدم وجود علاقة بين المستوى التعليمي للوالدين أو الحالة الوظيفية وسوء تغذية الأطفال، متوصلين إلى أن سوء التغذية يرتبط بشكل كبير، خاصة بعد حرب عام 2003 «بالعيش في أحياء غير آمنة ومقتل فرد واحد على الأقل من الأسرة خلال السنوات الخمس الماضية». كما اهتمت دراسات أخرى بالعلاقة بين العوامل البيئية والتغذية والصحة، ومن بينها ظروف الحرب، وتأثيرها على النمو البدني للأطفال.
تستند معظم الدراسات ذات العلاقة على أن الاحتياجات الأساسية المحددة للسلوك البشري والضرورية بالتالي لمستقبل البلد هي الصحة، التعليم، المساواة، العمل، والاقتصاد. وكلها، حسب منظمة الغذاء الدولية، تقريبا، في تدهور مستمر في العراق الذي يبلغ عدد سكانه 39 مليونا، من بينهم 1.2 مليون نازح و 2.4 مليون شخص في أمس الحاجة إلى الغذاء ومساعدات سبل العيش مع استشراء البطالة. مع وصول معدل الفقر إلى 31.7 بالمئة، في عام 2020. ويحتل العراق المرتبة 123 من بين 189 دولة في مؤشر التنمية البشرية للعام نفسه. وهي نتيجة متوقعة جراء سوء التغذية المزمن، الذي بقي مهملا وبلا حل، على الرغم من رفع الحصار، منذ عشرين عاما، وإرتفاع ميزانية الدولة ارتفاعا لم يشهد له العراق مثيلا. ويُظهر العديد من الدراسات طويلة المدى، من بينها دراسة لسوزان ووكر، أستاذة التغذية في معهد أبحاث طب المناطق الحارة بجامعة ويست إنديز، أن سوء التغذية لا يقلل من فرص بقاء الأطفال على قيد الحياة، ويعيق صحتهم ونموهم فحسب، بل أن الأطفال الذين يعانون من التقزم لديهم مستويات أقل من القدرة المعرفية، وضعف الإنجاز المدرسي. ويظهر الكثير منهم اللامبالاة وأنماط السلوك المشوهة الأخرى. وأن هذه الآثار تستمر حتى مرحلة البلوغ مع انخفاض معدل الذكاء، ومستويات أقل من التحصيل الدراسي، ومشاكل صحية عقلية أكثر تواترًا حين تمتد تأثيرات التقزم لتتعدى الأضرار الجسدية والعقلية المباشرة إلى الأضرار النفسية، مسببة شرخا عميقا في احترام الذات والثقة بالنفس والطموح لتغيير الوضع الذي كانوا عليه.
يأخذنا الرصد الأوسع والأبعد لهذه الكارثة في مرحلة ما بعد الغزو ورفع الحصار، إلى فشل حكومات الاحتلال المتعاقبة في توفير الاحتياجات الصحية الأساسية، من مبان وكوادر إلى الأمن الغذائي والإنساني. ويتبدى الفشل في إهمال الأراضي الزراعية والمحاصيل والاعتماد على استيراد المواد الغذائية بدلا من تصنيعها وعدم ايجاد الحلول لمشكلة الجفاف الناتجة عن تحكم دول الجوار بمصادر المياه والفساد وسوء إدارة موارد الدولة. وإذا كانت محاججة الحكومة بصدد كل المشاكل، خاصة توفير المحاصيل الغذائية، هي الغزو الروسي لأوكرانيا منذ ستة أشهر، فإن هذه المحاججة واهية تماما لأن ما يعانيه العراق من مشاكل ومن بينها سوء تغذية الأطفال وظاهرة التقزم يعود إلى عدة عقود وليس ستة أشهر من الحرب في أوكرانيا التي باتت المشجب الذي تُعلق عليه الحكومات الفاشلة، في أرجاء العالم، إخفاقاتها.
وإذا كان العراق يعاني من نقص الغذاء إلا أنه بالتأكيد لا يخلو من الافكار البّناءة والحلول وخطط التنفيذ من قبل عراقيين متمرسين في هذا المجال، فضلا عن البرامج المقترحة من قبل منظمات حماية الأطفال الدولية، وعدد منها فاعل بزخم معقول داخل البلد، إلا أن إصلاح السياسات والمؤسسات، لا سيما في القطاعَين الزراعي والغذائي، ناهيك عن الصحة والتعليم، لا يحظى بالأولوية لأن تفكيك الدولة بعد الاحتلال جعل الحكومات عاجزة عن تمويل هذه البرامج، ولا يمكنها تطبيقها لغياب نية البناء البشري والوطني من قبل الساسة المنشغلين بالصراعات المذهبية والعرقية والعشائرية والفساد المستشري. وبانتظار التغيير الحقيقي النابع من صميم الشعب، سيبقى خمس العراقيين يعانون من التقزم وانعكاساته الجسدية والنفسية والاقتصادية المُدّمرة على مستقبل البلد كله.
770 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع