الأستاذ الدكتور باسل يونس ذنون الخياط
أستاذ مُتمرِّس/ جامعة الموصل
المُلا عثمان الموصلِيّ والذكرى المئوية لرحيله- الجزء التاسع
لقد كان المُلا عثمان الموصلِيّ أديبا وشاعرا مبدعا يرسم بريشته أبلغ الصور النثرية، كما كان بارعا ومتمكنا في عالم الموسيقى.
لقد كان الموصلِيّ كاتبا مرموقا في أدب النثر، وكان له أسلوبا بلاغيا متميزا يتصف بالسجع على عادة أدباء عصره في رسائله ومقدمات كتبه كقوله: (الحمد الآخذ بناصية كل مزقلة ماشية، والمطرّز في زوايا الأرض من عولم الحكم كل حاشية، والسلام على المستيقظ الأول والموقظ الذي عليه المعول...) وغير ذلك من الكتابات التي يدونها في رسائله ومقدمات كتبه.
وفي رسالة كتبها الموصلِيّ إلى الأديب المعروف أحمد عزة الاعظمي قال فيها: "كَحلَّتَ بصيرتي لا بصري، وأجَّلت نظر فكري لا نظري بلطائفٍ صدرت عن عربي النزعة والمجار، وطرائف برزت من أعظمي الإقدام والاستبصار... جوّالة في بحار الفلسفة، لاوية العنان عن كل سفَه، حريّة أن سترشد بها من استرشد، أتْهَمَ فيها أو أنجد، فحينئذ طَفِقتُ أسأله عن هويته.. وكشف القناع عن ماهيته".
ويذكر الشيخ عبد الرزاق البيطار في كتابه (حلية البشر) عن لقائه بالمُلا عثمان في تركيا: "لما سافرت إلى الإستانة العلية، في أوائل ذي القعدة الحرام سنة ألف وثلاثمائة وست هجرية: (اجتمعتُ بهذا المترجم ذي الشمائل البهية، فرايته شاعر الزمان، وناثر الأوان، يصبو القلب إليه ويحن، وينثني له غصن البراعة ويرجحن، ففي أوصافه للروح عبق، ومن ألطافه يروق كأس المصطبح والمغتبق، وله أخلاق أقطعها الروض أنفاسه، وشيم يتنافس بها المتنافسون لطافة ونفاسة، وقد أنشدني أفانين من غزلياته، تعزل برونق الصدغ في لباته، وأطربني في ألحانه...)". وغير هذا كثير، لا يكاد يحصيه قلم التحبير، وعلى كل حال فهو حلية العصر، ونادرة الدهر، قضى له بالأدب الوافر منذ طلع من مهده طلوع البدر السافر، فظهر رشده قبل أوانه، ولا ريب أن الكتاب يعرف بيانه من عنوانه.
ويزيد قائلا: "وقد اسمعني من نثره خطبته التي ابتدأ بها تخميسة لقصيدة المرحوم عبد الباقي أفندي العُمري (1788-1861م) المسماة (الباقيات الصالحات) وهي:
أحمد من أسبغ علينا من سوابغ المانحات نشبا
وبلغنا بالباقيات الصالحات إربا
ونظمنا في سلك مدائح أهل العبا
واصلي وأسلم على حبيبه المجتبى
وآله الذين تمهدت بهداهم فدافد وربا
وصحبه الذين بمجاراتهم جواد الضلال كبا
وبعد فيقول العبد العاجز الفقير، ذو الباع القصير، المتوسل لعلاه بحب آل علي، عثمان بن الحاج عبد لله الرفاعي الموصلِيّ: لما كانت مدائح آل المصطفى هي من أعظم الوسائل، للنجاة يوم العرض والمسائل، وكان ممن أحرز قصب السبق في هذا المضمار، الجدير بأنواع الفضائل والفخار، فاروقي الأرومة والنجار الذي اشتهر بالآفاق، وفاق أدباء عصره على الإطلاق، الشاعر عبد الباقي أفندي الموصلِيّ وذلك في قصيدته البائية الموسومة بالباقيات الصالحات التي تنشر لديها برود القصائد، وتنثر عندها أفئدة الفرائد، وكانت كالعروس العذراء، ما اقتضها شاعر، ولا اقتحمها ناثر".
لقد وصف شِعر عثمان الموصلِيّ المرحوم إسماعيل فرج بقوله: "إنه ناصع البيان بديع الألفاظ، غزير المعاني، يقول الشعر ارتجالاً ويلجأ إليه في مراسلاته". وقد ذَكر أن من أجمل شعره قصيدته التي يقول في مطلعها:
ماذا علَي إذا خلعتُ عذاري ... بهوى الملاح وحدتُ عن أشعاري
وهجرتُ عذّالي وما طاوعتهم ... وهتكتُ في شرع الهوى استاري
يا لائمي كيف السلُو ومهجتي ... ذابتْ إلى كم يا عذول تُماري
كما أبدع الموصلِيّ بضرب آخر من ضروب الشِعر وهو (حِساب الجُمل)، أي نظم التاريخ الشِعري ووضع تاريخ إحدى المناسبات في الشِعر حسب الحروف والكلمات. ويُعد حِساب الجُمل من أصعب فنون الشِعر ولا يقدر عليه سوى من يمتلك موهبة خاصة في هذا المجال.
لقد كان (حِساب الجُمل) يُمارَس قديماً في مناسبات كثيرة فيُجعل البيت الأخير تاريخاً لحادث معين بأن يقابل كل حرف من الشِعر عدداً من الأعداد وبحيث يكون مجموعها تاريخ السنة المقصودة. وما كان أحد يباري الموصلِيّ بهذا الفن، حيث كان ينظم الشِعر الذي يتضمن التاريخ بمنتهى السرعة.
فقد زار مرة المُلا عثمان الشيخ أبو الهدى الصيّادي (1849-1909م) في تكيته، وذلك سنة 1902م، ووجده قد انتهى من تأليف رسالة اسمها (خلاصة البيان) فقال مرتجلاً يؤرخها (سنة 1320ﻫ):
(والموصلِيّ مرتجلاً أرخها ... خلاصة البيان مجدنا بها)
ومن شخصيات بغداد الذين كان الموصلِيّ يلتقي بهم أستاذه علّامة العراق السيد محمود شكري الآلوسي (1856- 1924م) الذي درس عليه علوم العربية قبل سفره إلى استانبول، وكان يحضر مجلسه، وقد عزاه بوفاة أخيه حسن الآلوسي مؤرخا تأريخ وفاته شعرا:
أيها الحِبر اصطبر عن فقده... فأخوك اليوم بالخير العميم
إذا لبستَ الصبر عن فقدانه... (فزت بالإحسان والآجر العظيم)
وقد نشر الآلوسي هذه الأبيات في كتابه (المسك الاذفر).
عثمان الموصلِيّ والشيخ الرضواني:
لقد كان الشيخ الجليل محمد الرضواني (1852-1942) من كبار علماء الموصل في زمنه، وكان يسعى إلى إعطاء طلبته المكانة التي يستحقونها. فأقام احتفالا كبيرا في مدرسته الرضوانية دعا إليه جمع غفير من العلماء وكبار شخصيات الموصل بمناسبة حصول الأخوين رشيد الخطيب وسعد الدين الخطيب على الإجازة العالمية.
وكان الشيخ الرضواني قد حصل على إجازته العالمية من والدهما الشيخ صالح الخطيب الذي توفي وما زال ولداه طفلين، فرعاهما الشيخ محمد الرضواني برا بأستاذه الذي أخذا العلم على يديه.
وأثناء مراسيم منحهما الإجازة قال فيهما الرضواني (رحمه الله) قولته الشهيرة: (إنهما فقدا والدهما وهما لم يبلغا الحلم فلم يُضيّعوا العلم الذي ورثاه عن أبويهما). ثم قال ما تناقلته الألسن لحد الآن: (هذه بضاعتكم رُدت إليكم).. مشيرا إلى أن هذا علم والدهم الشيخ صالح الخطيب الذي منح الرضواني الإجازة العلمية يوم كان طالبا واليوم يعيد إليهما الأمانة.
لقد كان المُلا عثمان الموصلِيّ مقرئ تلك الليلة وقد أرخها بأبيات من الشِعر قال فيها:
ورق الهدى صدحت بألحان الهنا... والعلم امسى آمنا من مينِ
شبلا خضم العلم صالح أهله... حازا اجازته من الطرفينِ
فهما اليتيمان اللذان تفردا... ومن العلوم استخرجا كنزينِ
منقوله حازاه مع معقوله... وكلاهما منه حوى الشطرينِ
وابوهما قد كان حبراً صالحاً... فهما لأهل العلم قرة عينِ
لاشك شيخهما الجليل محمد... كالشمس والفتيان كالقمرينِ
فأشر بشيخهما العلوم وعنهما... يا رب وارعى الكل في الدارينِ
نعماك يا ذا الفضل نادت ارخوا... (حق المنى بإجازة الأخوينِ)
كما أبدع الموصلِيّ بالشِعر الغزلي ووظفه لصياغة أروع الألحان، ومن جميل شعر الموصلِيّ:
قدك الميّاس يا عمري... يا غصين البان كاليسرِ
أنت أحلى الناس في نظري... جل من سواك يا قمري
وقد أبدع في غناء هذه القصيدة الراحل الكبير صباح فخري (1933-2021) ونال من خلالها شهرة واسعة.
إصداراته من الكتب:
لقد عكف عثمان الموصلِيّ على إصدار عدد من الإصدارات الخاصة به أو لغيره من الكتب. وكتبه الخاصة به هي مجموعاته الشِعرية، وهي:
1- الابكار الحسان في مدح سيد الأكوان، 1895، وقد طُبع ببغداد عام 1914م.
2- أبيض خواتم الحكم ( في التصوف).
3- مجموعة سعادة الدارين، وهو مجموعة شعرية ونثرية طُبعت في مصر عام 1898 ثم أعاد طبعها في إسطنبول بعد سنتين.
4- المراثي الموصليّة، ويضم قصائده في رثاء عدد من الشخصيات المصرية، وقد طبع في مصر عام 1897.
5- تخميس لامية البوصيري، 1895.
6- مجموعة التخاميس، طبع في استانبول سنة 1889.
7- تحقيق ديوان عبد الباقي العمري المسمى (الترياق الفاروقي) مع إضافة ما يحفظه من القصائد العائدة للشاعر، وقد طبعه سنة 1899.
أما الكتب التي سعى إلى نشرها، وهي لغيره، إعجابا بها، فهي:
1ـ التوجع الأكبر بحادثة الأزهر.
2ـ الترياق الفاروقي، وهو ديوان عبد الباقي العُمري 1898.
3ـ الطراز المُذهب في الأدب لأبي الثناء الآلوسي.
4ـ الأجوبة العراقية عن الأسئلة الإيرانية لأبي الثناء الآلوسي 1890.
5ـ حل الرموز وكشف الكنوز للشيخ علي الدده.
وذكرت بعض الكتب أن للموصلي كتبا أخرى غير المطبوعة، مثل كتاب (نباتي) ذكره أدهم الجندي في كتابه (أعلام الأدب والفن)، وذكر إسماعيل باشا البغدادي في (إيضاح المكنون) أن للموصلي كتاب باسم (بديع النظام على سجع الحمام).
لقد فتح الموصلِيّ دكانا (مكتبة) في إسطنبول لبيع الكتب. ومن اصداراته أيضا مجلته في مصر.
ففي العام 1896، وأثناء وجوده في مصر في رحلته الثانية لها ومكوثه فيها نحو خمس سنوات، أصدر مجلة أدبية باسم (المعارف)، وهي جديرة بالبحث والتحقيق، وفيما يلي بعض ما نشرته المجلات العربية عنها.
- "المعارف: ورد علينا العدد الأول من مجلة معنونه بهذا الاسم لصاحبها ومحررها الفاضل (مُلا عثمان أفندي الموصلِيّ)، وهي علمية سياسية تاريخية أدبية إخبارية. فيما نعهد في حضرة محررها المشار إليه من غزارة الأدب والبراعة في صناعة الإنشاء وما يضمره لها التقدم بين الصحف العربية. فنحث المتأدبين من أبناء هذه اللغة على الاشتراك فيها ونتمنى لها ماهي أهل له من الرواج والانتشار". عن مجلة البيان العدد الرابع السنة الأولى الصادر في أول يونيو 1897، لصاحبها الشيخ إبراهيم اليازجي والدكتور بشارة زلزل الصفحة 186.
- "المعارف: تلقينا العدد الأول والثاني والثالث من هذه المجلة العلمية السياسية التاريخية الأدبية الإخبارية لصاحبها ومحررها الكاتب الشاعر (مُلا أفندي عثمان الموصلِيّ) وهي فصيحة العبارة حسنة السبك وقيمة الاشتراك بها عن سنة كاملة 40 قرشا في داخل القطر و50 في خارجه فننشط منشئها الفاضل ونسأله لمجلته الثبات والعمر الطويل". عن مجلة الهلال/ السنة الخامسة 1896 ص 838.
رحم الله المُلا عثمان الموصلِيّ في الذكرى المئوية لوفاته، فقد كان عالما ومقرئا وفنانا وأديبا لن يتكرر، وقدَّم عطاءا أصيلا ومُميزا لبلده ولأمته وللبشرية جمعاء.
(مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ ۖ فَمِنْهُم مَّن قَضَىٰ نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ ۖ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا) (الأحزاب: 23).
https://www.youtube.com/watch?v=fWeePV6vBcY&t=112s
879 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع