بقلم أحمد فخري
قصة قصيرة -اليتيمة
دخل الجراح الشهير قصي الزهاوي غرفة العمليات في المشفى فوجد جميع طاقمه الطبي بانتظاره كي يشرع بأجراء عملية فتح صمام القلب المغلق. كانت تلك العملية واحدة من اسهل العمليات الروتينية التي يجريها قصي على مرضاه وذلك يرجع لخبرته الواسعة والباع الطويل بالجراحة لا سيما وانه لم يحصل فيها اي وفاة او تعقيدلت منذ بدئ العمل بها لاكثر من 10 سنين.
طلب من الممرضة تجهيز (الاينو بالون) وبدأ استعداداته كي يدخل الانبوب الطبي الدقيق من خلال ساق المريض ليصل به الى قلبه ثم يقوم بنفخ البالون فينفتح الصمام بنجاح كالمعتاد ومن دون عناء خلال دقائق معدودة.
باشر خبير التخدير بحقن المريض جرعة لازمة من البنج وما هي الا ثوان وتخدر المريض بالكامل ليصبح جاهزاً لعملية القسطرة. فور ادخال الانبوب بساق المريض بدأ جهاز المراقبة يصدر صفير انذار مدوي وملح فصرخت الممرضة قائلةً، "دكتور، لقد توقف قلب المريض". اصدر د. قصي اوامره كي يُعِدّوا له مادة الادرينالين ليحقنها في قلب المريض مباشرة حتى يعيد له النبظ لكن القلب لم يستجيب. عاد فصرخ قائلاً، "اعطني 150 فولت". فقامت احدى الممرضات باعداد جهاز الصعق الكهربائي، ولما اصبح جاهزاً قالت، "انه جاهز الآن يا دكتور". امر د. قصي بصوت مرتفع، "ابتعدوا" ثم وضع القطبين على صدر المريض واطلق شحنة كهربائية شديدة جعلت المريض ينتفض الى الاعلى لكن جهاز المراقبة لم يسجل اي اشارة تدل على استجابة القلب لتلك الصدمة. صرخ د. قصي من جديد وقال، " اعطني 200 فولت". اعدت الممرضة الجهاز على المقدار الذي طلبه فصرخ قائلاً، "ابتعدوا". ثم نَفّذَ الصعقة ونظر الى شاشة المراقبة فلم يتحرك القلب. بدأ يشعر ان المريض سوف لن يستجيب لكنه قرر ان يُصَعّدْ الصعقة عسى ان ينجح في مسعاه هذه المرة فصرخ، " اعطني 250 فولت". حاول للمرة الاخيرة الا ان المريض كان قد فارق الحياة ولم يعد هناك امل بانقاذه فحنى الدكتور رأسه الى الارض وقال، "وقت الوفاة 14:28" رجع الى موقع الاغتسال وصار يخلع صدريته وهم بغسل يديه. في هذه الاثناء خرج احد الممرضين من غرفة العمليات فوقفت امامه سوسن ابنة المريض لتسأله،
سوسن : طمني يا دكتور هل نجحت العملية؟ هل ابي بخير؟
شدراك : كلا، ابوك مات.
ماذا تقول يا حيوان؟ هل مات ابي؟
من فرط غضبها وحزنها على والدها صفعت الممرض شدراك. لكنه لم يردّ عليها بل انسحب خطوتين الى الوراء وابتعد بعيداً عنها ليسير بالممر الطويل يكظم غيضه ويحاول ان يقدر ألَمَها وحزنها على والدها. الا انها لحقت به من جديد ووضعت يدها على كتفه ليستدير ثم بصقت بوجهه وارادت ان تصفعه من جديد، ولكن بهذه المرة امسك بيدها اليمنى ليصدها فلاحظ الوحمة التي على معصمها والتي كانت على هيئة ثلاث بقع كبيرة متباينة فوق كفها فقال لها،
شدراك : هل انت مجنونة يا فتاة. انا لست من قتل اباك. لماذا لا تذهبين وتحاسبي الطبيب؟ انا مجرد ممرض هنا.
قالها وادار ظهره اليها وؤاح يمشي ببطئ بعيداً بالممر الطويل حتى توارى. جلست سوسن على الارض ينتابها حزنٌ كبيرٌ على والدها وكأن الدنيا قد حطت فوق رأسها فانضمت اليها امها بالبكاء والنحيب ولطم الخدود والصراخ المدوي ملأ كامل ارجاء المشفى.
<<<<<<<<<<
بعد مرور 4 شهور على وفاة عبد الستار دخلت سوسن في الصباح الباكر على امها ببيتهم الصغير المتواضع وقالت بيأس شديد،
نزيهة : تعالي واجلسي يا حبيبتي لتتناولي افطاركِ.
جلست سوسن وامسكت بقطعة الخبز المتحجرة فوجدتها قديمة وبائتة منذ الامس قالت بضجر،
سوسن : الى متى سيبقى حالنا على ما هو عليه؟ كيف سنواصل حياتنا يا امي؟ ما العمل؟
نزيهة : لا اعلم يابنتي فالابواب كلها موصدةٌ امامنا ولم يبقى لدينا شيئ يذكر. منذ ان رحل عنا المرحوم ابوكِ ونحن نمضي من سيئ الى اسوأ. تخلّى عنا كل الاقارب والاصدقاء واصبحوا يتجنبون النظر بوجوهنا او حتى الرد على سلامنا، وكأننا نحمل فيروسات معدية.
سوسن : لكننا لا يمكن ان نبقى بهذه الحالة مكتوفي الايدي ننتظر من الخالق ان ينزل علينا سلة ملأى بالنقود. يجب علينا ان نعمل شيئاً يا امي. الاستمرار هكذا يعد اجحافاً بحقنا، فانا اعتقد اننا إذا قمنا بـ...
وبهذه الاثناء سُمِعَ طرقاً على الباب بشكل ملح فتوقفت سوسن عن الكلام وذهبت لترى من الطارق في مثل ذلك الصباح الباكر. لم تلبث طويلاً حتى رجعت الى امها وقالت،
سوسن : انه ابو سليمان على الباب يا امي. يريد التحدث اليك. انت تعرفين ماذا يريد، اليس كذلك؟
نزيهة : لا تدعيه يقف على الباب، فليتفضل يابنتي، اعدي له قدحاً من الشاي.
دخل ابو سليمان وهو يعدل عمامته (الچراوية) ويسلم سلاماً بارداً على نزيهة ثم يجلس على الاريكة الوحيدة التي بقيت لديهم بعد ان باعوا اغلب قطع الاثاث فرحبت به وقالت،
نزيهة : اهلاً وسهلاً بك اخي ابو سليمان. كيف حالك وكيف حال اختي ام سليمان والمحروس سليمان؟
سعل سعلة مدوية، بصق في منديله وعدل چراويته من جديد، نظر اليها بازدراء ثم صار يلوح باصبعه وقال بصوت مرتفع،
ابو سليمان : لا اهـــــــلاً ولا سهـــــــلاً. جئتك اليوم كي اجد حلاً للمشكلة. فانتِ لم تدفعي الايجار منذ ثلاثة اشهر وانت تعلمين جيداً ان ابني سليمان سيتزوج عن قريب ويجب علي ان اتدبر اموري. لقد صبرت عليكم كثيراً لكن الامور خرجت من على الساطورة. اريد الايجار للثلاثة اشهر السابقة فوراً وإلا...
نزيهة : وإلا ماذا يا ابو سليمان؟ قلها بصراحة هيا، اتريد ان تطردنا من بيتك؟
ابو سليمان : كل واحد يعرف طريقه. انا فعلاً حزين لفقدانكم المرحوم ابو سوسن حين مات قبل 4 شهور ولكن عليكم ان تقدروا ظروفي انا ايضاً. فانا صاحب عائلة واريد ان ازوج ابني سليمان. لا تزعلي مني يا ام سوسن.
نزيهة : انت كنت تحب المرحوم زوجي كثيراً وكان سَنَدَكَ في محنتك عندما وقع ابنك سليمان في مأزق كبير. فلولاه لاعدم ابنك بتهمة القتل المتعمد. لكنك جئتنا باكياً وصرت تُقَبّل الايادي والاقدام فوقف زوجي بكل شجاعة وادلى بشهادته بالرغم من علمه ان الفاعل هو رجل متنفذ بالحكومة ليكون السبب في براءة سليمان فيعود لك ابنك سالماً غانماً الى البيت. اليس الامر كذلك؟ والآن تريد ان ترمي عائلته بالشارع بعد ان اخذ الله امانته؟
ابو سليمان : انا جداً ممنون له لانه ادلى بكلمة الحق وشهد لصالح سليمان. ولكن كما يقول المثل (مكروهٌ اخَيّك مو سبع). سامحيني يا اختي، اريدكما ان تغادرا البيت بمطلع الشهر القادم.
صححت له سوسن حين قالت،
سوسن : تقصد "مكره اخاك لا بطل".
نزيهة : لكننا اليوم بـ 20 من الشهر، اي لدينا 10 ايام فقط على المهلة. كيف تتوقع ان نجد مسكناُ بديلاً خلال تلك الفترة الوجيزة؟ ارجوك اخي حاول ان تجد في قلبك القليل من الرحمة وتمنحنا شهراً اضافياً على الاقل كي نحاول ان نتدبر امورنا، راعي ظروفنا قليلاً، فنحن واياكم (عشرة عمر).
ابو سليمان : لديكم عشرة ايام فقط وإلا سارمي الاثاث في الشارع وأحكِمُ اغلاق الباب بالسلاسل. مفهوم ام لع؟
وقف منتصباً واتجه خارج الدار ليغلق الباب ورائه بقوة.
بدأت نزيهة وابنتها بالبكاء لفترة طويلة ثم كفكفت سوسن دموعها وقالت،
سوسن : لا فائدة من البكاء يا امي، دعينا نذهب الى السيد جميل فقد كان من اعز اصدقاء ابي. وهو مدير المدرسة التي كان يعمل بها ايضاً. ربما سيساعدنا بايجار شهر واحد على الاقل كي يمهلنا هذا الوغد شهراً اضافياً.
نزيهة : لا اعلم إن كان سيساعدنا ام لا، لكنني ساحاول ان اتحدث اليه.
سوسن : ساتي معك يا امي فالاستاذ جميل انسان رحيم، وطيب القلب فقد كان دائماً يحملني ويداعبني ويعطيني الحلوى عندما كنت طفلة صغيرة.
غيرتا ملابسهما على عجل وتوجهتا الى موقف الحافلات كي يذهبا الى المدرسة التي يعمل بها جميل. وبعد 50 دقيقة دخلا ساحة المدرسة وسط ضجيج الطلاب وصخبهم. سارتا نحو مكتب الادارة فاوقفهما الساعي وسأل عن الوجهة فاجابت نزيهة بانهما يريدان مقابلة المدير. ادخلهما بعد ان اخبر المدير بقدومهما فترك المدير مجلسه وابتسم بوجهيهما ليقول،
جميل : اهلاً وسهلاً بكما يا احبابي. انا اعتذر لانني لم ازركما خلال الفترة الماضية لانشغالي الكبير بالطلاب وبمشاكلي العائلية. كيف حالكم؟ وكيف تقضون اوقاتكم؟ وكيف حال الدراسة معكِ يا سوسن؟
دخلت نزيهة بالموضوع دون مقدمات إذ قالت،
نزيهة : والله يا سيد جميل نحن في مأزق كبير ولا ندري كيف سنتدبر امرنا. اتينا اليوم الى هنا عسى ان نجد عندك الحل.
جميل : اخبريني يا اختي، ما الذي يقلقك وما هي مشكلتك ربما استطيع حلها؟
نزيهة : اليوم جائنا مالك الدار وطلب الايجار المتأخر ونحن لا نملك المبلغ بسبب مراسيم الفاتحة والعزاء واجرائات الدفن وما الى ذلك. مما تركنا في ضائقة مالية كبيرة.
جميل : هل تريديني ان اتحدث معه؟ هل هو انسان سلس يسهل التعامل معه؟ قد اتمكن من ان أثنيه عن قراره.
نزيهة : هذا لا يجدي معه نفعاً فهو انسان أمّي متخلف ذو دماغ متحجر ومصمم على طردنا إذا لن ندفع له الايجار المتأخر.
جميل : وكم يبلغ الايجار؟
نزيهة : ايجارنا هو 100 دينار بالشهر.
وضع جميل يده في جيبه ليخرج محفظته لكنه سمعها تضيف،
نزيهة : لقد تأخرنا في دفع الايجار لـ 3 اشهر لذلك فالمالك يريد 300 دينار.
جميل : اسمعي مني يا ام سوسن . ساعطيك الآن 100 دينار وهذا سيمكنك من العثورعلى مسكن بديل خلال شهر من الزمان، ما رأيك؟
نزيهة : حسناً ساحاول ذلك. وانا اشكرك كثيراً لانك وقفت الى جانبنا بمحنتنا بينما تخلى عنا الجميع.
جميل : لا تقولي مثل هذا الكلام ارجوكِ، فالمرحوم كان لي كالاخ وانا لا يمكن ان انسى مواقفه المشرفة معي في محنتي. لكنك كما تعلمين فانا مجرد موظف ولدي زوجة مريضة ومسؤوليات اخرى كثيرة لذلك لم اتمكن من دفع المبلغ المستحق عليكم كاملاً. ولم اعطك هذه المائة دينار كدين، لا ابداً، بل انها هبة مني ارجو ان تسدي بها حاجتك.
نزيهة : بالعكس اخي جميل. لقد كفيت ووفيت. ساحاول اسكاته بهذا المبلغ حتى يفرجها رب العالمين.
جميل : اريدكِ ان تخبريني إن كان سيتسبب بالمزيد من المشاكل حتى اعرف كيف اتصرف معه.
نزيهة : بالتأكيد اخي جميل فنحن لا نملك احداً سواك بعد رب العالمين.
خرجت الام وابنتها من مكتب المدير وهُما في غاية الغبطة والسرور ليرجعا الى البيت على جناح السرعة لانهما سيتمكنان اخيراً من تأجيل الطرد لمدة شهر اضافي حتى يجدا مسكناً بديلاً، خصوصاً وان تقاعد زوجها ال 130 دينار بالكاد يسد تكاليف الطعام والمتطلبات الاخرى.
بذلك المساء رجع صاحب الدار ثانية ليأخذ المال بعد ان بعثت له خبر توفر المبلغ لديها. دخل وجلس على الاريكة كعادته فقالت له،
نزيهة : لقد تمكنا من تدبير 100 دينار يا ابو سليمان تفضل.
اخذ رزمة الاوراق النقدية منها، لعق اصبعه وراح يحسبها ببطئ شديد ووضعها في جيبه، ترشف من قدح الشاي الذي امامه محدثاً صوتاً مقززاً ثم قال بكل صفاقة،
ابو سليمان : بقي عليكما 200 دينار. سوف تغادرا هذا البيت بعد 10 ايام إن لم تحضرا باقي المبلغ.
نزيهة : لكننا تصورنا انك ستمهلنا شهراً اضافياً لانني للتو قمت باعطائك ايجار شهر كامل.
ابو سليمان : انتِ اعطيتيني هذا المبلغ لشهر واحد فقط وانتِ مطلوبة لثلاثة اشهر لذلك سوف تغادرا البيت بعد 10 ايام كما اخبرتك هذا الصباح.
نزيهة : هذا ليس عدلاً يا اخي. نحن نساء قليلات الحيلة وقد استجدينا هذا المبلغ من مدير المدرسة الذي كان يعمل بها زوجي رحمه الله. فكيف ساطلب منه مبلغاً آخر من جديد؟
ابو سليمان : هذه مشكلتك انت يا ام سوسن، تستجدين من المدير تستجدين في الشارع تستجدين من الحكومة انت حرة. ما اريده الآن هو المبلغ كاملاً والا فسوف تخرجان بنهاية الشهر.
وقف وغادر المنزل فاغلقت سوسن الباب ورائه وقالت بحرقة شديدة،
سوسن : لا يمكن ان اصدق، كم هو حقير وخسيس وجشع. كيف يأخذ المبلغ ويطلب المزيد؟ انا لا افهم هؤلاء السفلة.
نزيهة : هناك الكثير منهم يابنتي. الناس لا ترى سوى الدراهم هذه الايام وقد نسوا الرحمة والاخلاق الحميدة.
سوسن : إذاً دعينا نتدبر امرنا. اسمعي مني، اولاً انا ساترك الدراسة من اليوم وساجد عملاً باسرع وقت ممكن وانت كذلك يا امي بامكانك ان تعملي بوظيفة تناسبك.
نزيهة : لا، لا، انتِ لا يمكنك ان تتركي الدراسة فانتِ في السادس العلمي ويجب عليك ان تتخرجي. لقد فقدتِ سنة كاملة من عمرك من جراء مرض والدك والآن نحن على مسافة بضع شهور من الامتحان النهائي.
سوسن : وما فائدة التخرج إن لم نجد المكان الذي سيأوينا او الطعام الذي سنضعه بافواهنا؟ لقد اتخذت قراري الآن ولا جدوى من الجدال. بامكاني ان اواصل الدراسة في وقت لاحق عندما تتحسن ظروفنا.
نزيهة : حسنا حبيبتي كما تشائين. اما انا فسأذهب الى عمك جميل مرة ثانية ربما سيتمكن من مساعدتنا.
في صباح اليوم التالي خرجت الام وابنتها معاً فركبت نزيهة الحافلة بينما توجهت سوسن الى المحلات التجارية القريبة مشياً على الاقدام تبحث عن عمل هناك فافترقتا. وعندما وصلت الام المدرسة دخلت مباشرة على الادارة وحيت السيد جميل فترك مجلسه ووقف يرحب بها بحفاوة كما يفعل كل مرة. جلست على الاريكة امامه وبدأت حديثها قائلة،
نزيهة : يا سيد جميل اشعر بخجلٍ كبير وانا اعود اليك بمشاكلي.
جميل : ارجوك يا اخت نزيهة لا تقولي مثل هذا الكلام فانت تعرفين مدى معزة المرحوم عندي. والآن اخبريني ماذا حصل مع صاحب الدار؟
نزيهة : بالامس بعد ان عدنا من عندك قمت باستدعائه الى بيتي لاعطيه المال.
جميل : عظيم جداً وماذا حصل بعد ذلك؟
نزيهة : بعد ان وضع رزمة المال بجيبه قال انه مازال مصراً على طردنا من بيته بآخر الشهر لانه يريد المبلغ كاملاً لشهرين آخرين.
جميل : يا الهي ما احقر هذا الانسان. يبدو انه طماع ولن يرتاح له بال حتى يرميكما على قارعة الطريق. اسمعي مني، اريدك ان تعطيني اسمه وعنوانه فوراً كي اذهب واتحدث اليه بنفسي. ساعرف كيف اتعامل معه.
نزيهة : لا، ليس هناك جدوى من ذلك فهو انسان متخلف وغبي ومصمم على طردنا من البيت حتى لو اعطيناه المبلغ كاملاً. اعتقد انه يريد ان يزوج ابنه فيه.
جميل : وما العمل إذاً؟ كيف ستتصرفون؟
نزيهة : لقد قررت سوسن ترك الدراسة والعمل باحدى المحلات التجارية، وانا كذلك ساجد عملاً ملائماً. لكن صاحب الدار لا يترك لنا المجال لنتدبر الامر. جئتك اليوم لاخبرك بما وقع لي مع هذا الانسان عسى ان تجد لنا حلاً بديلاً. فانا لا اريد لابنتي ان تخسر دراستها.
جميل : انت تعلمين يا اختي بانني اعيش مع زوجتي المريضة منذ امد بعيد ومنزلنا ليس كبيراً. ولكن لدينا غرفة شاغرة بالطابق الارضي لا يسكنها احد. فانا اقترح عليكن ان تأتين وتسكن معنا.
نزيهة : لا يمكن ان اسمح كي نكون عبئاً عليكم. فانت قمت بمساعدتنا كثيراً في السابق.
جميل : لا عبئ ولا هم يحزنون. زوجتي مريضة وتحتاج الى رعاية خاصة من شخص متفرغ. بالوقت الحالي تعمل لدينا مدبرة منزل كانت دائماً تهددنا بالمغادرة لكننا نتشبث بها ونتوسل اليها ونزيد بمرتبها كي تقتنع بالاستمرار في عملها عندنا، لاننا لن نجد احداً يرضى على العناية بزوجتي احلام. فإذا وجدتِ في نفسك القدرة على العناية بها بنفسك فسوف تكون لنا فرحة كبيرة وسنسعد بمعيشتكما معنا وسوف لن تضطر سوسن للعمل. وبدلاً من ذلك، ستركز على دراستها.
نزيهة : لا اعرف ماذا اقول لك يا اخي جميل! لقد غمرتني بعطفك واخلاقك الرفيعة. ساخبر سوسن بذلك وستفرح كثيراً انا متأكدة من ذلك.
جميل : اخبري سوسن عن اقتراحي، وإن وافقت فستنتقلون الى بيتنا غداً.
نزيهة : اليس الاجدر بك ان تستشير زوجتك بخصوص انتقالنا عندكم؟
جميل : انها لن تعارض، انا اعرف ذلك تماماً. بامكاني ان اتي اليكما مساء الغد لابدأ بنقل حوائجكم بسيارتي.
نزيهة : هذا لطف كبير منك. لا نعرف كيف سنرد لك افضالك.
خرجت من الادارة لترجع الى منزلها مسرعة وهي متفائلة كي تزف الخبر السعيد لابنتها. دخلت ابنتها الدار في وقت متأخر من ظهر ذلك اليوم وتحدثت بغضب شديد إذ قالت،
سوسن : عليهم اللعنة جميعاً. كلما طلبت من احد ليوظفني كان يطلب مني شهادة. وكأنني ساعمل بوزارة الخارجية وليس كبائعة حقيرة في متجر ملابس وضيع. لقد زرت كل المحال التجارية بحارتنا والحارة المجاورة دون جدوى وانا اتضور جوعاً الآن.
نزيهة : لا عليك يابنتي فالفرج آتٍ باذن الله. لقد وجد لنا عمك جميل حلاً رائعاً يناسبنا جميعاً. انه يريدنا ان ننتقل الى منزله فنعيش هناك بشكل دائم ولا يريد منا اي شيء بالمقابل.
سوسن : وكيف حصل ذلك؟ هل سيقوم بالصرف علينا؟
نزيهة : انت تعرفين يا سوسن ان زوجته مريضة بالقلب وتحتاج الى رعاية مستمرة. وبما انني ساكون في البيت اغلب الوقت. فبامكاني ان اعتني بزوجته وقت غيابه.
سوسن : هذا مستحيل يا امي، هل ستصبحين خدامة لديهم؟ ايعقل ان تصبح زوجة الاستاذ عبد الستار مؤلف كتاب الفيزياء لطلبة السادس علمي، خادمة منزل؟
نزيهة : كلا يابنتي الامر ليس كذلك ابداً. الرجل فتح لنا بيته كي نسكن معهم وانا ساقوم بمساعدة زوجته من باب الانسانية والرحمة لا غير.
سوسن : وماذا سافعل انا؟ هل ساقوم بتنظيف المنزل وغسل الملابس والصحون؟
نزيهة : لا، لا طبعاً. لقد اكد جميل ان كل ما عليك فعله هو الاهتمام بدراستك والتخرج من الاعدادية للدخول الى كلية الطب كما كنت ترومين دائماً.
سوسن : وكم علينا ان ندفع له ايجاراً؟
نزيهة : لا شيء بتاتاً. سوف يكون سكننا هناك مقابل العناية بزوجته المريضة.
سوسن : بصراحة يا امي، لدي شكوك كثيرة بمثل هذا الاتفاق. فهو بذلك قد حصل على خدامة مجانية.
نزيهة : كل هذا ليس صحيحاً. انت تعرفين ان ابو سليمان يقف لنا بالمرصاد وهو مصر على طردنا من بيته هذا. فهل الافضل ان نبيت بالشارع؟
سوسن : حسناً دعنا نجرب بيت عمي جميل وامرنا الى الله.
نزيهة : إذاً، دعينا نتناول وجبة الغداء الآن سوية فقد اعددت مرقة القرع ولكن من دون لحم. بعدها سوف تخرجين الى الدكان الذي الى جوارنا وتتصلين بعمك جميل كي يأتي غداً مساءاً ليساعدنا بالنقل.
سوسن : كما تشائين يا امي.
عند السابعة من مساء اليوم التالي دق جرس الباب ففتحت سوسن الباب لتجد جميل واقفاً امامها يسأل،
جميل : هل انتما جاهزتان؟
سوسن : اجل يا عمي، لقد وضعنا كل الاغراض بداخل صناديق كرتونية لكننا سوف لن نتمكن من اخذ الاثاث معنا.
جميل : بامكانكم بيع الاثاث لان الغرفة التي جهزتها لكم ببيتي كبيرة الحجم وتحتوي على سريرين وسجاد وقد وضعت فيها منضدة صغيرة ومصباح كهربائي كي تتمكني من الدراسة عليه. وهناك ايضاً دولاب خشبي كبير سيتسع لجميع ملابسكم وإذا كانت لديكم متطلبات اخرى فسوف اوفرها لاحقاً.
سوسن : لا نعرف كيف نشكرك يا عمي. ها هي امي جائت تحمل بيدها بعض الصناديق.
جميل : ابواب السيارة غير موصدة، بامكانكما وضع الاغراض بداخلها.
نزيهة : حسناً ساضع هذه الوجبة من الصناديق واعود للمزيد.
بقي الثلاثة ينقلون الاغراض حتى امتلأت السيارة برمتها ولم يبقى سوى الكرسي الى جانب السائق شاغراً قال،
جميل : بامكان احداكما ان تأتي معي كي نفرغ الاغراض ببيتي ثم نعود للمزيد من الاغراض.
سوسن : لتبقى امي هنا لانها تعاني من الم في ظهرها وانا ساتي معك يا عمي.
جميل : حسناً، هيا بنا.
جلست سوسن الى جانب جميل واغلقت بابها فانطلق بها باتجاه بيته. وعندما وصلا هناك باشرت سوسن وجميل بانزال الملابس بحمّالاتها والصناديق الكرتونية ليدخلاها مباشرة الى الغرفة التي خصصها لهم جميل بالطابق الارضي. ثم رجعا ثانية الى البيت ليجدا امها قد قامت بتحضير المزيد من الملابس والصناديق الجاهزة للنقل وقامت بصفها امام باب الدار. بقيت رحلاتهم المكوكية مستمرة حتى اكملوا افراغ البيت برمته من كل الاغراض الاساسية ولم يبقى فيه سوى الاثاث القديم المتهالك. قالت،
نزيهة : سنترك الاثاث في البيت لعل صاحب البيت يستطيع الاستفادة منه.
جميل : ولماذا تفعلون ذلك؟ لقد كان موقفه معكم خسيساً جداً واراد ان يبتزكم بدلاً من ان يساعدكم. انا سابعث غداً مجموعة من طلابي كي يأخذوا الاثاث الى احد المعارض ومهما دفعوا به فسوف تستفيدون من ثمنه.
نزيهة : نحن مدانون لك بجميع ما قدمته لنا من عون يا استاذ جميل.
جميل : انتِ تحزنينِ بمثل هذا الكلام. أنسيتِ علاقتي بالمروحوم عبد الستار؟ لقد كانت تربطنا صداقة،هي اشبه بالاخوة منها الى الصادقة.
نزيهة : اجل اعرف ذلك جيداً. أكثر الله من امثالك ومكننا من رد افضالك التي اغرقتنا.
جميل : لحظة، لحظة، هناك امر مهم جداً قد نسيته.
نزيهة : ما هو؟
اخرج مفتاحين من جيبه واعطاها لنزيهة وقال،
جميل : هذا مفتاح لك ومفتاح لسوسن انه للباب الخارجي. اهلاً وسهلاً بكما ببيتكما الجديد.
<<<<<<<<<<
في بيت السيد جميل واصلت سوسن وامها ترتيب الغرفة الجديدة التي سيسكنان بها كي تظهر بمظهر لائق لكن اغراضهم وامتعتهم كانت كثيرة لذلك راحا يوارينها تحت الاسرة وفوق الدولاب الخشبي الكبير حتى بآخر المطاف بدت الغرفة وكأنها شاحنة لنقل الاثاث. ومع ذلك فانهما كانتا سعيدتين بها لانها ستكون مأوى آمن لهما ينقذهما من جشع ابو سليمان صاحب المنزل القديم ويجعلهما يتشبثان بالامل لوجود انسان كريم رحيم يرحمهما ويقف في صفهما. ولما حل الليل دخلت سوسن سريرها وبقيت تنتظر امها حتى دخلت هي الاخرى الى فراشها فقالت لها،
سوسن : كنت اريد ان اسألك يا امي.
نزيهة : ما الامر يا حبيبتي؟
سوسن : كنت خائفة من المواصلات من هذا البيت الجديد الى مدرستي لكنني تذكرت ان هناك حافلة رقم 18 توصلني تماماً امام باب مدرستي.
نزيهة : هذا جيد يا عمري. سوف تواصلين دراستك كما ينبغي وهذا كله بفضل عمك جميل.
سوسن : ولكن دعيني اسألك عما يدور بخلدي، لماذا لم نرى زوجة العم جميل بهذا البيت لحد الآن؟
نزيهة : هل نسيت انها مريضة بالقلب؟ لذا فهي في غرفتها بالطابق العلوي على اغلب الظن.
سوسن : قطعاً سنراها لاحقاً وسترحب بنا كما رحب بنا العم جميل. فانا اعتقد انها قد تكون مثله او حتى افضل منه بالاخلاق الراقية. فالطيور على اشكالها تقع كما يقولون.
نزيهة : اشاطرك الرأي حبيبتي، والآن دعينا نطفئ المصباح ونرتاح من هذا اليوم المضني.
يا ترى ماذا يخبئ الزمان للام وابنتها؟ وهل ستواصل سوسن دراستها ببيت عمها جميل ام انها فقدت الرغبة بالدراسة؟ سوف تعرف ذلك عزيزي القارئ في الجزئ الثاني من قصة اليتيمة.
3201 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع