د. سعد ناجي جواد*
كيف يبرر من يحكم العراق الفشل المستمر لعقدين من الزمن؟
لا يوجد هناك مجموعة قادرة على تبرير الفشل اكثر من السياسيين، وخاصة أولئك الذين يحرصون على الاستمرار في الحكم. وربما تكون اكبر نسبة من هذه النماذج موجودة في الوطن العربي. فباستثناء الرئيس الراحل جمال عبد الناصر لم يظهر سياسي عربي واحد امتلك الجراءة على الاعتراف بفشله او تنحى عن الحكم نتيجة لاخفاقاته. الظاهرة الاخرى الأكثر استفزازا ان الفاشلين، وبسبب غياب، او تغييب الوعي الجماهيري وحرصهم على نشر الجهل والتخلف، وغياب القضاء القادر على المحاسبة، امتلكوا الجراءة، او بصورة ادق الصلافة، لكي يظهروا على العلن ويبرروا فشلهم وأخفاقهم بأسباب لا يمكن الا ان توصف بانها مضحكة.
ووصل الامر بهذه النماذج الى حد التسابق على ايجاد التبريرات للسياسيين الغربيين الفاشلين من أمثال جورج بوش وتوني بلير وغيرهم من مجرمي الحرب، مخالفين ما كانت مراكز البحوث والصحف الامريكية والغربية تنشره عن الكوارث التي ارتكبتها الإدارتين الامريكية والبريطانية. وخير مثال على هذه النماذج، بل من أسس لهذا الأسلوب فيما يخص العراق، كان احد (الأكاديميين) الأمريكيين من اصل لبناني، والذي كان في حقيقته رجل مخابرات بامتياز، الذي ظل طوال فترة الإعداد لاحتلال العراق يظهر على شاشات التلفاز ويبشر العراقيين بالمستقبل الديمقراطي الزاهر والرفاه الاقتصادي الكبير الذين ينتظرهم بعد (التحرير)، وكانت هناك مجموعة من الإمعات من نفس طينته من الذين حملوا الجنسية العراقية يرددون نفس كلامه.
ولما ثبت بصورة لا تقبل الشك ان العمل الامريكي-البريطاني-الصهيوني لم يك سوى خطة منظمة لتدمير العراق انتقل اثرها الى حالة الضياع، التي مازالت مستمرة لحد الان، ظهر علينا هذا الشخص نفسه بنظرية جديدة مفادها ان الولايات المتحدة كانت قد أعدت برنامجا متكاملاً لإصلاح الأوضاع في العراق ونشر الديمقراطية والرفاهية الاقتصادية، ولكن العراقيين افسدوا هذا البرنامج. ولم يسال نفسه كيف أفسدوا ذلك وهم لا حول لهم ولا قوة؟ وبلدهم محتل والإدارة التي تحكمه أمريكية-صهيونية صرفة تفعل ما تشاء، وكانت تخرب كل الأجهزة والإدارات، الخدمية والأمنية والأكاديمية والصحية والقضائية، بصورة ممنهجة؟ ولم تنفع كل صيحات الرفض لتلك المخططات. وعندما رحلت الادارة الامريكية المباشرة وضعت بدلا عنها ادارات (عراقية) سارت على نفس النهج. وهكذا في بلد مثل العراق الذي كانت فيه الصروح العلمية مراكز لإقبال الطلبة العرب وغير العرب من كل مكان، والبلد الذي كان يفخر بان ابناءه هم اكثر من يقرأ وانه استطاع ان يمحو الأمية وان يضع خطط إعمار وتطوير شملت كل نواحي الحياة منذ اربعينيات وخمسينيات القرن الماضي، اصبح بعد الاحتلال الاسوأ في الخدمات الصحية واليومية الاساسية والأمنية والتعليمية.
وانتشرت بين الناس افكار مفادها ان التشبث بالأولياء الصالحين افضل من الذهاب للطبيب او المستشفى، (هذا ان كانت هناك مستشفيات بالمستوى المطلوب)، وان السير على الأقدام لايام وإيذاء الابدان بطقوس بالية، افضل من العمل المنتج في دوائر الدولة او من الذهاب الى المدارس والجامعات. وغاب عن هؤلاء المتخلفين والمنحرفين والمشجعين على هذه الممارسات ان كل دول الجوار، وبالذات ايران، قفزت قفزات علمية وتكنولوجية كبيرة ووصلت بها في بعض المجالات الى مصاف الدول المتقدمة.
اخر ما تفتقت عنه اذهان بعض الساسة هو ما ورد على لسان احدهم من القادمين بعد الاحتلال، ان قال (لقد كنا نريد الإصلاح ولكنهم منعونا من فعل ذلك)، والتبرير الأحدث والأقوى هو ما صرح به احد ممثلي الأحزاب الدينية الحاكمة مؤخرا بقوله انه (لا يحق للعراقيين ان يتهموا سياسيي ما بعد الاحتلال بالفشل لان هذا يعتبر اجحاف بحقهم)، لان السبب، كما ذكر وعلى الملا، ان هؤلاء الذين قدموا كانوا (منهكون من النضال ضد الدكتاتورية) وبالتالي (فلا يمكن محاسبتهم على الفشل الذي حصل، ولا يمكن وصف تجربتهم بانها فاشلة). ولم يقل لنا المتحدث الاول من هي الجهة التي منعتهم من الإصلاح؟ ولم يخبرنا الثاني كم هي المدة التي يحتاجها (المناضلون المنهكون) لكي يستريحوا من (عناء النضال) ويبداءوا عمليات البناء والإصلاح؟ ولم يسال من يطرح هذا التبرير نفسه كم من الوقت احتاجه مناضلون حقيقيون مثل هوشي منه او ماو تسي تونغ او قادة الكوريتين وفيتنام او قادة النمور الآسيوية لكي يرتاحوا من (تعب النضال) ويرفعوا دولهم الى مصاف الدول المتقدمة، وبثروات وموارد اقل بكثير مما يمتلكه العراق؟ وياترى تلك الاطراف التي منعتهم من الإصلاح وحالة الإنهاك المستدامة التي يعانون منها، لماذا لم تمنعهم من الانغماس في نهب وسرقة المال العام والتستر على الفاسدين؟ ولماذا لم تقف في وجه عمليات القتل والتغييب التي مارسوها ضد كل مكونات الشعب العراقي لعقدين من الزمن؟
لا اريد التوسع في مناقشة هذه الامور لان كل ما ساكتبه سيكون تكرار لما هو معروف، خاصة وانه في كل يوم تتكشف فضائح فساد جديدة تزكم الأنوف وتدهور جديد ينذر بتمزيق العراق وذهابه الى حرب أهلية ستحرق الأخضر واليابس. يكفي القول انه عندما تصل حالة التدهور الى الدرجة التي تعجز فيها الحكومة ليس فقط في محاربة الفساد المستشري والمتوسع، بل وتلجا هي بنفسها الى (الفصل العشائري) لكي توقف تحدي مليشيا مسلحة لها في مقرها في المنطقة الخضراء، فان كل حديث سيكون بلا معنى.
بالتاكيد ان الأحزاب الحاكمة في العراق لن تعترف بالفشل وتتنحى، وان اعترفت شفاهة، كما فعلت اثناء اندلاع انتفاضة تشرين/اكتوبر 2019، فانها ستبتلع هذا الاعتراف كما حصل بعد قمع الانتفاضة. ولكن ان كان هناك من (حكيم) فيما بينهم او قريبا اليهم، فان من واجبه ان يسترعي انتباههم الى حقيقة ان كل الدلائل تشير الى ان هناك نهاية مأساوية في انتظارهم اذا ما أصروا على تجاهل ما يجري في الداخل. وان يذكرهم بان قبل الاحتلال سخر النظام السابق من المعارضة الكارتونية التي كانت تعيش في الخارج، وكان يهزأ من اي راي يقول ان التحالف الامريكي- البريطاني-الصهيوني قادر على إيصال هكذا معارضة للحكم لانها ببساطة تخدم مصالحه ومخططاته، وهذا ما حصل. وان يقول لهم ان استخفافهم بالرأي العام العراقي والتذمر والفساد المستشري لا يمكن ان يدوم الى ما لا نهاية. كما ان تجاهلهم لما يحدث لن ينفي وجود محاولات من قبل الاطراف الخارجية، وبالذات الاطراف التي أوصلتهم للحكم، لاستغلال هذه الامور للإطاحة بهم، ولأسباب بعيدة كل البعد عن مصلحة الشعب العراقي. بالتاكيد ان ما سيحدث سيقود الى موجات اقتتال داخلية كثيرة سيذهب ضحيتها الأبرياء والبسطاء والمغرر بهم فقط، اما قادتهم فلقد امنوا مستقبلهم بما اكتنزوه من سحت حرام خارج العراق وبجوازات سفر وجنسيات اجنبية اخرى وسيهربون عندما تحتد المواجهة. وسيكتب على العراقيين من جديد ان يعيشوا لسنين قادمة في ظل نزاعات وحروب اهلية واقتتال داخلي لن يستثني احد.
فهل هناك من معتبر وهل هناك من جهة عراقية تبدا عملية اصلاح ولو ببعض الخطوات الملموسة؟
*كاتب واكاديمي عراقي
3926 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع