هيفاء زنكنة
استثمارات طبقة أغنياء الحرب في العراق
حين تم غزو العراق واحتلاله قبل عشرين عاما كانت واحدة من الوعود التي روّج لها ساسة الاحتلال، وصّدقها بعض المواطنين، أن العراق سيكون بلدا يتمتع فيه المواطنون بالرعاية والرفاهية وأساسها حقوق الإنسان، أي أنه سيكون كما بقية البلدان ذات الثروات الطبيعية والنظام العادل المستقل الذي يحفظ كرامة الإنسان. بطبيعة الحال، وكما كان متوقعا، لم يحدث ذلك. حيث يعيش عموم العراقيين، حاليا، وجودا تنقصه الحياة، وعوزا تعانيه عادة الشعوب الغارقة بالفقر، وإحباطا يجعل المواطن لا يكف عن ترداد «حسبي الله ونعم الوكيل» لتغطية عجزه على إحداث أي تغيير حقيقي لما يمر به. وهو يؤكد ما توصل إليه «مؤشر غالوب» للمشاعر العالمية في أن العراق هو ثالث أكثر الدول تعاسة، بعد أفغانستان ولبنان فقط.
مقابل هذا الواقع البائس للعموم، أو بموازاته، حدث شيء مغاير. إذ نشأت، في العقدين الأخيرين، طبقة لم يشهد لها العراق مثيلا من قبل، حتى مع افتراض أن مأسسة الفساد بانت ملامحها أثناء حقبتي الحرب العراقية الإيرانية والحصار الهمجي الجائر (1980 ـ 2003).
تتكون هذه الطبقة من أغنياء الاحتلال وحكوماته، من رجال الأعمال المتعاونين مع الساسة لحصد العقود الحكومية بملايين الدولارات، من عقود ما يسمى بالإعمار إلى السلاح والكهرباء، إلى رجال الدين المهيمنين على الخمس والزكاة ومُنح الأماكن المقدسة والسياحة الدينية، ورؤساء العشائر والميليشيات، وعصابات الاختطاف، وبيع المخدرات والأعضاء البشرية، والتجارة بالأشخاص والدعارة المُنظّمة.
ساعدت شبكات المحسوبية وموارد الدولة من النفط والميليشيات على ترسيخ سلطة هذه الطبقة المتنفذة بشبكة علاقات ومصالح أخطبوطيه تمتد من أعلى موقع حكومي إلى المستفيدين من الفتات بشكل تعيينات وظيفية، في بلد تنتشر فيه البطالة ويستجدي فيه الشباب من الخريجين الوظيفة.
يعطينا إقليم كردستان نموذجا جيدا لنمو هذه الطبقة في مرحلة ما بعد الغزو الأنكلو أمريكي عام 2003. حيث يوجد هناك، مثلا، 19 مليارديرا و10 آلاف مليونير ممن تتراوح ثروتهم من 5 ملايين دولار إلى 200 مليون دولار. ويشكلون بثرائهم قفزة نوعية في سيرورة إقطاعية التحكم بالسلطة المستندة إلى مثلث العائلة وجهاز المخابرات والحماية الخارجية. مثلث متجذر في الفساد، بعيدا عن المساءلة.
وقد أزالت مجلة فوربس المعروفة بتصنيف قائمة الاثرياء في العالم كردستان من القائمة على الرغم من احتلالها المرتبة 450 بين ألف ملياردير في العالم، ويعود ذلك وفقًا لمجلة « ديبلوماتيك « إلى عدة أسباب، أهمها أن « فوربس» أزالت العراق وإيران وبعض الدول الأخرى من القائمة لأنها غير مرتبطة بنظام البنك الدولي، ويتم تبادل أموالهم خارج نظام البنك الدولي، وهناك العديد من الشكوك حول غسيل الأموال. النقطة الثانية أن رأسمالي كردستان يمتلكون الثروة بالمشاريع والعقارات، وليس النقد، وهو ما لم يمر بشكل قانوني عبر النظام المصرفي.
يعيش البلد حلقة مفرغة من رواج «الاستثمارات» التي تدر على أصحابها الربح الهائل وتُجذر بقاءهم كسلطة تتحكم، بشكل مباشر وغير مباشر، بحياة الناس، مسلوبي الإرادة، ما لم يتم طرح بديل وطني حقيقي
يقدم لنا تقرير الإتجار بالبشر الخاص بالعراق لعام 2022 الصادر عن السفارة الأمريكية بالعراق، في 27 مارس/ آذار 2023، نموذجا عن نوعية « الاستثمارات» والمشاريع الرائجة، التي تنفذها هذه الطبقة الأخطبوطية، وهي الأكثر ربحا، حاليا في البلد. وقد اخترت تقرير السفارة، بالتحديد، كون أمريكا راعية النظام القائم، فما تذكره، وهو أمر يستشفه قارئ التقرير، من باب الحرص على تنظيف صورته، قليلا، إذ لم يعد بالإمكان تحمل تلوثها الكبير الظاهر عالميا. لا ضرر إذن في بعض التلميع. فما الذي يخبرنا إياه التقرير عن « الاستثمارات» بعيدا عن التكرار أن «حكومة العراق تبذل جهودا كبيرة للحد منها»؟
يُركز التقرير، على الاتجار بالأشخاص، ليعترف بتواطؤ مسؤولين حكوميين في جرائم الاتجار وقيام عناصر من الشرطة التابعة لوزارة الداخلية، بممارسة الاتجار بالجنس. بالإضافة إلى وجود تواطؤ رسمي إزاء تجنيد الأطفال أو استخدامهم كجنود بواسطة ميليشيات مرتبطة بقوات الحشد الشعبي وتعمل تحت مظلة لجنة الحشد. وأن مسؤولين حكوميين في مناصب قيادية يوفرون الحماية للمتاجرين من التحقيق والمقاضاة أو أنهم أنفسهم يتجنبون المقاضاة نظراً لنفوذهم بحكم مناصبهم وعلاقاتهم السياسية.
على سبيل المثال، تلقى مسؤول حكومي في إقليم كردستان رشوة للتصديق بإنشاء وترخيص وكالات وشركات توظيف لجلب عمالة أجنبية إلى الإقليم والتصديق بتصاريح عمل للعمال. تستغل هذه الوكالات العمال الأجانب إلى حد تهديد العمال وأسرهم في حالة تقديم العامل شكوى ضد الشركة أو إثارة مشاكل بخصوص ظروف العمل، أو الاستغلال الجنسي للخادمات، خاصة، وإجبار المخالفات على الدعارة. وجلب الخادمات ظاهرة مستحدثة لم يكن يعرفها المجتمع العراقي سابقا ونمت مع نمو طبقة « المستثمرين» ببيع البشر. وبدلا من محاكمة المتاجرين «لايزال بعض المسؤولين يجرّمون ضحايا الاتجار ويعاقبونهم». كما تقوم الشرطة باعتقال واحتجاز ضحايا الاتجار الأجانب، بدلا من اعتقال الجناة، بعد أن يتقدم أرباب العمل ووكالات التوظيف بدعاوى كيدية كاذبة بالسرقة ضد الضحية انتقاماً منه لتقديمه بلاغاً إلى الشرطة بمزاعم الاتجار. وتغض الدولة النظر حول قيام «أفراد من الأمن وموظفين بإدارة معسكرات النازحين داخلياً بالتواطؤ في الاستغلال الجنسي للنساء والفتيات والاتجار بهن».
تستمد هذه الطبقة، الموجودة في العراق كله، فكردستان نموذج مُصّغر للبلد ككل، مع وجود فروق تستحق البحث، قوتها من ديمومة « استثماراتها» المتشابكة، وتحويل ما بدأت به بشكل بذرة إلى نبتة ذات جذور مستوطنة في البلد، وجعل ما هو طارئ يثير الغضب والاستنكار الأخلاقي، مجتمعيا عادة، إلى فعل عادي، مألوف، يُقابل بالصمت أحيانا أو، وهو الوجه الأكثر ضررا لمستقبل البلد ككل، أن تنخرط الحشود في منظومة «الاستثمارات» على اختلاف أنواعها، ويصل الأمر إلى أبشع صوره حين يبدأ الشباب بالانضمام إلى مشاريع « الاستثمار» بذريعة أنها المنفذ الوحيد المتوفر لمواصلة البقاء و«إذا لم أقم به أنا سيقوم به غيري» ليعيش البلد حلقة مفرغة من رواج «الاستثمارات» التي تدر على أصحابها الربح الهائل وتُجذر بقاءهم كسلطة تتحكم، بشكل مباشر وغير مباشر، بحياة الناس، مسلوبي الإرادة، ما لم يتم طرح بديل وطني حقيقي يفكك العلاقة بين مكونات الطبقة واستثمارتها غير الإنسانية المُتاجرة بالناس والتي فُرضت على العراق باعتبارها قدرا حتميا.
899 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع