عيوب ولادية رافقت إنشاء الدولة العبرية


قاسم محمد داود

عيوب ولادية رافقت إنشاء الدولة العبرية

لا شك أن إسرائيل تمتلك من القوة العسكرية والاقتصادية والدعم الغربي ما يجعلها أقوى من جيرانها العرب في الوقت الحاضر على الأقل. لكن الدولة العبرية هذه تكمن معضلتها في ثلاثة أبعاد مهمة تجعل ساستها ومستوطنيها في قلق وخوف من المستقبل، وذلك أن إسرائيل ليس بمقدورها أن تحسن أو تعدل أو تغير أو تصلح أي بعد من هذه الأبعاد فهي عيوب ولادية مرافقة للكيان اليهودي هذا، وتعتبر هي المحددة للمسلمات الجيوسياسية، والاستراتيجية التي اعتمدتها إسرائيل منذ ان أُنشأت في المنطقة العربية قبل خمس وسبعين عام، وهذه الأبعاد هي:
أولاً البعد الجغرافي:
لا تتمتع الدولة اليهودية بالعمق الجغرافي الذي يؤمن لها التحركات العسكرية، وهي مطوقة بدول عربية معادية لها حتى لو كانت هناك معاهدات مع بعض هذه الدول ومنها معاهدة السلام مع الأردن (معاهدة وادي عربة) في تشرين الأول عام 1994، و معاهدة السلام مع مصر عام 1979 بعد مفاوضات واتفاقات كامب ديفد في 17 أيلول 1978 بين أنور السادات ومناحيم بيغن والتي تخلت فيها إسرائيل عن شبه جزيرة سيناء التي احتلتها بعد حرب حزيران 1967 وأمنت لها عمقاً جغرافيا يقدر بـ 300 كيلومتر وكان يعد بمثابة وسيلة إنذار مبكر، تأكدت فعاليته خلال حرب تشرين الأول عام 1973، لذلك ضُمّنت المعاهدة مع مصر مُلحقاً أمنياً مفصلاً، لأن الخبراء وصانعي القرار الإسرائيليين يدركون مشكلة العمق الإستراتيجي، وهو ما يجعلهم في خوف دائم من المواجهات العسكرية، إذ أن عرض فلسطين من نهر الأردن حتى البحر المتوسط يعد مساحة غير كافية أمام هجوم بري من أي جهة معادية (يبلغ امتداد أرض فلسطين من الشمال إلى الجنوب 430 كيلومتر، ويتراوح عرضها بين 72 إلى 95 كيلومتر)، كما أن البناء الضيق للدولة اليهودية حسب قرار التقسيم أي دون الضفة الغربية، قد تسبب في كون حدودها طويلة وينقصها العمق، الأمر الذي يفاقم صعوبة الدفاع عنها، لذلك تتمسك الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة بقوة في عدم العودة إلى حدود 1967، بسبب فقدانها العمق الإستراتيجي وذلك يشكل نقطة ضعف عند الخطر، فأكبر عرض لإسرائيل في وسطها يُقّدر بـ 17 كيلومتر، وعرضها في الشمال يُقّدر بـ 7 كيلومتر وعرضها في الجنوب 10 كيلومتر، جغرافياً عرض الضفة الغربية هو 55 كيلومتر، وبعد بعض المدن الرئيسة بالداخل المحتل لا يزيد عن 2 كيلومتر، وأن جبال الضفة الغربية ترتفع 1000 متر عن تل أبيب، والضفة الغربية تحيط بمدينة القدس التي يريدها اليهود عاصمة ابدية من ثلاثة اتجاهات "شمال وشرق وغرب". في حين يمثل الفلسطينيين في قطاع غزة والضفة الغربية أكبر خرق للعمق الإستراتيجي لإسرائيل؛ ما يجعله مهدداً رغم محاولات السيطرة عليه. "وبرغم تطوير الجيش الإسرائيلي لقدرات غير مألوفة لتدمير أعداد كبيرة من الأهداف المتنقلة والثابتة في آماد كبيرة وبدقة عالية كحل لمشكلة العمق الإستراتيجي، إلا أن حروباً قد تشنها قوة لا دولانية تتحرك بتقنيات تخفِ متطورة يمكنها أن تعيد الدولة لذات المعضلة التي كانت في البداية". وتسببت معضلة العمق الإستراتيجي في أن الدولة اليهودية منذ سنوات باتت لا تستطيع استخدام إستراتيجيات المعارك على أرض العدو كحل لمشكلة الجغرافية الضيقة. وهو ما يعني تضاعفاً في المخاطر الأمنية، وقدرة أعدائها على التأثير في الحياة والاقتصاد في إسرائيل؛ ما يمثل معضلة أمنية اقتصادية مركبة. لذلك فأن النظرية الأمنية التي بلورت في السنوات الأولى من إنشاء الدولة اليهودية على أرض فلسطين، تؤكد على أن الاستيطان والضم هو جزء مهم من النظام الدفاعي الجغرافي، وعليه أن يُخلق عمقاً اصطناعياً يسمح بإيقاف قوى المقاومة ويمكّن من دعوة قوات الاحتياط وحملهم إلى ساحات العمليات، أي الإنذار المبكر كما أسلفنا.
ثانياً البعد الديموغرافي:
يتعامل العالم مع الديموغرافيا كمعطى اقتصادي فيما يتحول لدى إسرائيل التي أُنشأت على أساس ديني، لشأن أمني حيث صار "التهديد الديموغرافي" تعبيراً طبيعياً يفهمه الكل بسهولة: ينبغي أن يفوق عدد الأطفال اليهود عدد نظرائهم العرب. وهو مفهوم غير مريح لمستوطني الدولة اليهودية التي تضع الأمن في المركز الأول وتحول الخوف لجزء من وعيها، وتتصرف كدولة عسكرية، تظاهر دائم بالقوة والعظمة وحالات الطوارئ والسلاح واللغة العسكرية واستعراضات عسكرية وطقوس استذكار لضحايا الصدامات. واتبعت الحركة الصهيونية وسيلتين لتحقيق غاياتها في فلسطين، تمثلت الأولى: بجذب يهود العالم إلى فلسطين، والثانية: بارتكابها مجازر عديدة بحق أصحاب الأرض الشرعيين لدفعهم إلى الهروب للخارج، وبهذا كان اليهود الركيزة الأهم لقيام الدولة على حساب الأرض الفلسطينية وسكانها العرب. وتعاظمت مخاوف الإسرائيليين من تعاظم الوعي القومي المتنامي لدى فلسطينيي 48، وارتفاع معدلات الخصوبة لدى الفلسطينيين في الضفة الغربية وقطاع غزة، وفشل الحكومات المتعاقبة في تحقيق التوازن الديموغرافي على الرغم من الإغراءات التي تقدمها الحكومة والوكالة اليهودية لزيادة عدد الولادات ولجلب مهاجرين جدد. ففي كتاب "من ديموغرافيات إسرائيل"، يذكر المؤلف: "أن فقدان أغلبية يهودية من أصل مجموع مواطني إسرائيل يقوض وضع إسرائيل كدولة يهودية".
ويشار إلى أنه بقي في المناطق الفلسطينية التي أنشئت عليها إسرائيل عام 1948 والبالغة (78%) من مساحة فلسطين التاريخية البالغة 27009 كيلومتراً مربعاً، بقي نحو 151 ألف فلسطيني تتركز غالبيتهم في الجليل الفلسطيني، أما في الوقت الحالي فقد ذكرت دائرة الإحصاء المركزية الإسرائيلية في أحدث تقرير نشر في يوم 26 / 4/2023 (يوم الاستقلال)، أن نسبة السكان العرب في إسرائيل (فلسطينيو الداخل) تشكل 21.1 في المئة من إجمالي عدد السكان.
وقالت الدائرة (حكومية) في تقريرها السنوي، إن "إجمالي عدد السكان في إسرائيل بلغ 9 ملايين و727 ألف نسمة، لكن هذا يشمل الفلسطينيين في القدس المحتلة والسوريين في الجولان المحتل، من بينهم 2.048 مليون نسمة من السكان العرب بينهم أكثر من 400 الف في المناطق المحتلة، وهو ما يشكل 21.1 في المئة من إجمالي عدد السكان ونوه التقرير، إلى أن "السكان اليهود بلغ عددهم 7.145 مليون نسمة بنسبة مقدارها 73.5% في المئة من إجمالي عدد السكان، إضافة إلى 534 ألفاً ( 5.5%) يمثلون أعراقاً أخرى وهم مسيحيون ليسوا عرباً وأبناء ديانات أخرى أو من دون تصنيفهم دينياً في السجل السكاني وغالبيتهم العظمى من المهاجرين من دول الاتحاد السوفيتي السابق. وأضاف أن "17 في المئة من الزيادة السكانية في إسرائيل كانت بسبب الهجرة الدولية من روسيا". وعند أنشائها في عام 1948، كان عدد السكان في إسرائيل يبلغ 806 آلاف نسمة. وحسب تقديرات إسرائيلية حكومية نشرت في عام 2018، فإن عدد الفلسطينيين سيصل إلى ما لا يقل عن 10 ملايين بالضفة وغزة عام 2050، فيما سيكون هناك 10.6 ملايين يهودي في إسرائيل و3.2 مليون عربي بالعام ذاته. وعليه فأن العامل الديموغرافي هو لصالح العرب في المدى البعيد خاصة إذا أخذنا بعين الاعتبار معدلات النمو العالية بين العرب مقارنة بمثيلاتها بين اليهود، فضلاً عن تراجع أرقام الهجرة اليهودية باتجاه فلسطين المحتلة، بفعل تراجع عوامل الجذب المحلية لليهود إلى إسرائيل في المقام الأول، في حين أنه لا توجد عوامل طاردة لليهود إلى الأرض المحتلة من الدول الأوربية والولايات المتحدة الأميركية من جهة أخرى، وقد يكون صمود الفلسطيني فوق أرضه العامل الأهم في الصراع المذكور، خاصة وأن الحركة الصهيونية وإسرائيل اعتمدت فكرة الترانسفير (الترحيل) للعرب الفلسطينيين مدخلاً أساسياً من أجل التفوق الديموغرافي في المدى البعيد. ولا يمكن أغفال تراجع عوامل الطرد لليهود من دول الأصل باتجاه إسرائيل والضفة المحتلة، خاصة وأن أكثر من نصف مجموع اليهود في العالم موجودون حالياً في دول أكثر جذباً من الاقتصاد الإسرائيلي، مثل الجالية اليهودية في الولايات المتحدة (5.6) ملايين يهودي، ونحو (600) ألف يهودي في فرنسا.
ثالثاً: الاعتماد الكامل على التزام الولايات المتحدة بأمن إسرائيل ووجودها:
كتب البروفسور يحزقيل درور في جريدة (هآرتس30/3/2023) أن زعزعة العلاقات الخاصة مع الولايات المتحدة على نحو عامد من شأنها أن تشكل خطراً وجودياً لإسرائيل، وأنه ليس ثمة أي مكان للأوهام في كل ما يخص حقيقة أن إسرائيل دولة ذات سيادة من ناحية رسمية، ولكنها من ناحية وجودية ما زالت تعتمد على المساعدات السياسية والأمنية الأميركية. منذ أن أُنشأت إسرائيل كان هناك تحالف صهيوني ــ إنجليكاني يقوم عل عدد من العناصر، أبرزها الأيديولوجية الصهيونية، التي تطالب بإعادة توطين اليهود وإقامة دولة خاصة بهم في فلسطين كحل للمسألة اليهودية ويقوي العلاقات وجود المعتقدات الإنجليكانية التي يقف خلفها "التيار المسيحي الإنجليكاني"، الذي ينتشر في الولايات المتحدة، ويُعد من أقوى التيارات الدينية المسيحية التي تُقّر بأن "دعم إسرائيل فرض ديني على كل مسيحي" وأن عودة اليهود إلى الأرض المقدسة أمر مُسَلّم ديني ضمن نبوءة إنجيلية. ومع تعاظم قوة الولايات المتحدة وتزعمها قوى الرأسمالية العالمية، سعى قادة إسرائيل لتقديم دولتهم قاعدة أمامية للدفاع عن المصالح الأمريكية في المنطقة، وضمان تفوقها النوعي فيها، في ظل الضغط السوفياتي والقوى الثورية المؤيدة له آنذاك، لذلك ومع نهاية الاتحاد السوفيتي والحركات الثورية سوف تفقد إسرائيل أهميتها كقاعدة أمامية للدفاع عن تلك المصالح التي يبدو ومن خلال تحليل عمليات الدفع باتجاه التطبيع و "اتفاقيات إبراهيم" أن ضمانها يكمن في قوى إقليمية أخرى في المنطقة. بمعنى أوضح فأنه من الصعب على إسرائيل أن تكون قوة بمفردها وسط محيط جغرافي وسكاني معادي، لإنها لن تستطيع أن تكون أكثر من جناح مقاتل للسياسة الأميركية في الشرق الأوسط وبالتالي فإن قوتها مرهونة بقوة حاميها الولايات المتحدة الأميركية. وكما هو معلوم لم تدم قوة عظمى إلى الأبد، وعندما تتعرض الإمبراطوريات للسقوط يكون لانهيارها وقع، مدو، تتبعه انهيارات قوى ودول ويعاد تشكيل الخرائط والحدود حسب مصالح القوى الفاعلة، مثلما حدث مع الإمبراطورية النمساوية المجرية (هابسبورغ) والإمبراطورية العثمانية بعد الحرب العالمية الأولى، والآن تواجه القوى العظمى في العالم مستقبلاً غير مؤكد، لا يمكن استبعاد الانهيار والتفكك.

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

3388 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع