طارق احمد السلطاني
عودة الميلاد
The Return Christmas
قصه انسانية عن جرائم الارهاب بقلم الروائي العراقي
لقاء في المكتبة
تتردد مار لين !! ثم تصعد السلم ببطء. فقد شعرت بالجوع والشوق إلي طعام الغداء. أول مرة تشاهد فيها قاعة الطعام طيلة أيام زياراتها الأسبوعية إلي مكتبة سافير. كانت قاعة كبيرة، بهية ورائعة وقد اكتظت بالناس. فالمطعم مزدحم بفترة الغداء. لكنها وجدت ألان جواَ احتفالياَ يسود بين الزبائن، فهم يتناولون الطعام، ويحتسون البيرة، ويثرثرون بارتياح. وبين لحظة وأخرى تنفجر ضحكات بعضهم وهم يستمتعون بأنغام الموسيقى الهادئة الناعمة. خطت خطوتين داخل القاعة، لم تعثر على آية مائدة خالية. راودتها العودة إلي قاعة المطالعة، وحين استدارت في صحن السلم، لمحت رجلا منفرداَ وحده، يجلس إلي مائدة في الركن القصي من القاعة. لم تميزه بوضوح، فلا يظهر منه سوى فروة رأسه. كان منشغلاَ بمطالعة صحيفته. صعد الدم إلي وجهها وهي تتقدم إلي مائدته. تجرأت وبصوت خافت استأذنت منه وجلست على أحد المقاعد الشاغرة قبالته. علقت حقيبتها على طرف ظهر الكرسي، وضعت كتبها أمامها على الطاولة. فتحت كتاباَ وقلبت صفحاته ووجدت قراءته ثقيلة وان كان فيها بعض التشويق. تقدم إليها رئيس الخدم وسألها عن طلبها، أجابته قائلة :ـ بطاطة محشوة باللحم المثروم وخبز محمص و…. لكن !! رئيس الخدم تركها رأساَ دون ذكر بقية طلباتها، حتى انه لم يدرج شيئاً على اوراق الطلبات كما هي العادة في المطاعم. لم يزعجها تصرف رئيس الخدم فيمكن ان يكون قد حفظ طلباتها في ذهنه او أنها مجرد شكليات تفرضها عليه طبيعة العمل.
واصل الرجل الجالس أمامها تدارس جريدته التي تعنى بأمور المجتمع دون أي التفات او انتباه اليها. فقد ظل منشغلاَ يتتبع أخبار الزواج والموتى من النساء والرجال وأنباء متفرقة اخرى عن حالات الهجر والطلاق , وكل أحداث المجتمع في مدينة نيوهوم بينما كان عدد الحضور الى المطعم اخذاَ في الازدياد. خاصــةَ من فئات المثقفين وذوي الدخل المتوسط. لان المطعم الملحق بمكتبة سافيير الكبرى ظل محافظاَ على تقديم
وجبات جيدة ومنوعة وطازجة، وبأسعار مناسبة، يبقى مفتوحاَ حتى ساعة متأخرة من الليل، فقد خصصت له بابان رئيسيان للدخول. الأولى تطل على الشارع الجانبي مباشرة اما الثانية فمن داخل المكتبة لكن الباب الثانية تغلق عند انتهاء الدوام المسائي في المكتبة. بعد مرور ربع ساعة حضر الخادم يدفع عربة الخدمة محملة بانواع الطعام، اطباقاَ من اللحم البقري المقلي وصوب وجبن وبطاطة وزلاطة خضراء وشرائح مقطعة من لحم الدجاج المشوي وكمية من الخبز المحمص. انزلت الطلبات الى المائدة سويةً وبوقت واحد. طوى الرجل صحيفته بتأنِ ووضعها فوق المقعد الخالي بجانبه، غطت الصحيفة كتب مارلين التي كان الخادم قد وضعها على نفس الكرسي عند جلبه الطعام، اخذ ينظر الى مارلين متعجباَ من غير ان يتكلم، لكنه اخذ يتحدث داخل نفسه، يا الهي ؟! من تكون هذه الفتاة الجميلة؟!
ظل ينظر اليها وهو مدهوش غاية الدهشة، الى الفتاة الجالسة قبالته. وقد تعذر عليه، لاول وهله، ان يتعرف اليها.
اما مارلين فقد شعرت بحرج شديد !! فقد تغير لونها حاولت ترك القاعة نهائياً، او طلب في تغيير مائدتها، لكنها عدلت عن ذلك، لان آداب اللياقة تقضي عليها بالبقاء. بقيت لكنها ظلت صامته.
على الفور، شعر رئيس الخدم انه كان السبب في هذا الحرج الذي وقع على المائدة. وهل هي المصادفة وحدها التي أوقعته بهذا الموقف ؟ فعلية ان يتصرف بسرعة لازالة هذا الحرج جلب قنينة شراب احمر وكأسين من الكريستال. رفع غطاء القنينة وصب لهما الشراب، ودعاهما الى الاكل، واصفاً النبيذ انه لذيذ ومناسب مع اللحم البقري.
بدأ الاكل بصمت، يصاحبه نظرات بطيئة ما بين لقمة واخرى. صمت لا يقوى اللسان على النطق او التحرك لمتابعة سرعة الكلمات التي تنطلق من داخل القلب والعقل البشري !! ان لحظات الصمت والنظر لدى الانسان في اليقظة تشبه تماماً الرؤيا (الاحلام) التي تتخللها الصور والحوادث اثناء النوم.
ان الصور ودوي الاصوات تتحرك سريعة داخل نفسيهما، وقلبيهما، وعقليهما. اخذ هاتفهما الداخلي يحدثهما:
ـ هل هذا الرجل مصاب بالصم والبكم؟
ـ ما حل بهذه الفتاة ؟ هل اصيبت بشلل فجائي في لسانها؟
ظل رئيس الخدم واقفاً بالقرب من مائدتهما. يحدق الى المائدة بنظرة فاحصة الى كأسيهما التي ظلت مملوءة بالنبيذ، دون ان تمسها شفة أي منهما. نظرة رئيس الخدم جلبت انتباه الرجل، وفك عقده لسانه، حيث خاطب مارلين قائلاً.
ـ تفضلي الى تناول كأسك، عفواً انا لم اعرف اسمك.
ـ انسه مارلين … مارلين جورج هامر.
ـ تشرفنا بمعرفتك انا جيمس … جميس سافيير.
تصافحا وهما لا يزالان جالسان الى المائدة ثم اردف جيمس قائلا :
ـ أن هذا النبيذ مفيد صحيا، ليس مسكراً، معتق منذ عشرين سنة مضت، مجرد عنب اسود. خذي قطعة من هذا اللحم، انه لذيذ مع النبيذ.
ـ شكراً يا سيد جيمس. فأنا اتناول طعامي وفق نظام صعب ودقيق.
ـ ان وجبة الغداء ضرورية للانسان، ومهمة جداً، اكبر اهمية من وجبتي الفطور والعشاء.
ـ لكن!! الزيادة والتنويع في طلب المأكولات يتطلب ايضاً نفقات كبيرة، تكون فيها قائمة الحساب باهظة، وارهاق لمحفظة النقود والجيب بنفس الوقت.
ضحكا سويةً . لان حديث مارلين كان اشبه بمن يطلق نكته مفاجئة او نوعاً من المزاح. ظلت الابتسامة مشرقة على شفتي جيمس. فقال :
ـ لا تخافي حدوث أي ارهاق لمحفظة نقودك. فلا توجد اية قائمة حساب، او دفع أية مبالغ لهذه المائدة. المائدة رقم (10) في هذا المطعم.
سألته مارلين مستغربه.
ـ لماذا ؟ لماذا لا تدفع اقيام الطعام لهذه المائدة ؟
ـ هناك اسباب حقيقية لقصة واقعية قديمة.
- لن أقرأ قصصاً عن مثل هذه الموائد السحرية. ولم اسمع في الماضي ان هناك حقائق بمثل هذه الغرابة ؟!.
ـ ورثت هذه المكتبة عن جدي. حينذاك كان يتسوق طيلة ايام الاسبوع. انواع اللحوم والخضار والاجبان والخبز. وقد خصص لكل موظفي المكتبة، وجبتي طعام يومياً، فقد كان يجهز الطعام بمطبخ كبير في الطابق الارضي لانه كان يعتقد رحمه الله ان موظف المكتبة يقوم بعملين في آن واحد، عمل جسماني وعمل فكري.
لذلك، فالموظف بحاجة الى الغذاء. ولما كان الدوام طويلاً في المكتبة بعض الاحيان، فأن تقديم الطعام والشاي والقهوة ضرورياً لهم.
ـ لقد كان جدك رحمه الله،رجلا نبيلا بحق.
_ اسمحي لي اتمام الحديث. ولو انه طويلا لبعض الوقت.
_ تفضل ياسيد جيمس، فانا مجازة،والحديث حلو، وليس لدي عمل ضروري
اقوم به الان، سوى المطالعة فقط.
_ عندما استلمت المكتبة قبل خمس سنوات، صارت هذه العملية استهلاكية الى درجة كبيرة. كانت السبب الرئيسي لخسائر مالية فادحة، لذلك تم بناء طابق إضافي للمبنى، اقيم فيه هذا المطعم، وخصص له باب ثان خارجي يمكن دخول الزبائن بواسطته من غير القراء الذين يواظبون الحضور الى المكتية بانتظام. كما انني لا زلت محافظا على فكرة جدي الاصلية نفسها.
_ انها فكرة ممتازة، انتاجية ومربحة ايضا.
_ لذلك، فلا يزال الطعام يقدم مجانا لكل العاملين في المكتبة.
_ وما هي قصة المائدة رقم (10) التي نجلس عليها الان ؟
_ ان المائدة رقم (10) محجوزة دائما، لي، ولضيوفي، كما انها محجوزة للموظفين ايضا.
_صحيح،فقد تعجبت من تصرف رئيس الخدم !! عندما حضر يسألني عن طلباتي.
_ ربما اعتقد انك ضيفتي، او انك موظفة جديدة في المكتبة.
_ ياسيد جيمس، ان رئيس الخدم لم يسجل طلباتي على اية ورقة ملاحظات.
ـ وما الداعي ؟ وما الفائدة من التسجيل ؟ والى القيام يوميا بتكرار كتابة انواع واقيام المأكولات التي تقدم الى كل موظف في هذه المكتبة. اننا في حساباتنا وتقديراتنا ان اقيام الطعام المستهلك تضاف تلقائياَ الى اقيام المصاريف الرئيسية. وبهذه الطريقة نقلص الزمن الذي ينفذ في الكتابة كما نقتصد بمصاريف الحبر والورق كذلك نوفر الجهد ونوفر الراحة من إطالة العمل في تدقيق الارقام ومراجعة الحسابات.
ـ ان هذا الأجراء اسهل بكثير من البيروقراطية الغبيًّة التي تسير عليها الإجراءات في الكثير من مطاعم العالم.
ـ ان إجراءاتنا تعزز الثقة بالنفس وتنشط العمل وتزيد الانتاجية لان الموظفين الذين يقدم اليهم الطعام مجاناَ يدخلونه الى بطونهم , ولا يحتفظون به في جيوبهم.
ـ وهذا يخفف ايضاَ إجراءات التدقيق لجباة الضرائب.
ـ انه يجعل الحياة تسير بكل سهولة وثقة وهدوء.
ـ ياسيد جيمس , ليس ما سأقوله تملقا , بل الحقيقة انك قمت بعمل جبار حفاظاَ على بقاء المكتبة وانقاذها من الانهيار التدريجي.
رفعت كل صحون الطعام الفارغة. استبدل الخادم غطاء المائدة بشرشف اخر جديد , قدم اليهما الشاي بطقم كامل من الفرفوري الرقيق، الاحمر الفاتح، كلون حب الرمان، تزينه مجموعة كبيرة من غزلان البر الذهبية.
لكن مارلين وجيمس عادا الى صمتهما ثانية، وهما يرتشفان الشاي ببطء وهدوء. وقد يستعمل الصمت كدفاع عن النفس، وما ان يسرحا بخيالهما في افاق جديدة , ويبدو ان هذا ما كانا يفكران فيه.
فجيمس يحمل وجهاَ يدل على الصلابة، بعيون واسعة رمادية اللون وملامح توحي بقوة الشخصية ومضاعفة العزيمة.
ومارلين تحمل وجهاَ من جمال فتان بيضاوي الشكل، ذو وجنات وردية وشعر اشقر , شقراء جميلة بدون اية مواد كوزماتيك، عيون زرقاء وسط دائرة بيضوية سوداء، انه كحل طبيعي اسود وهبه الله لها … ليزين هذين العينين الجميلتين التي لاتحملها الا اناث قليلات على وجه الارض !!
ووجه مدور يشبه القمر ليلة البدر التمام.. وفم صغير يحمل شفتين غليظتين ورديتين … ترتدي قميصا وتنورة قصيرة.
استمرا النظر بعضهما الى بعض وهما صامتان . كان ذلك فوق الاحتمال , فكان لابد من قطع السكوت. كان لابد من قطع لذة السكوت. يتبادلان النظر مرتبكين, كلا الاثنين , انهما اشبه بأموات خرجوا من قبورهم للتو !!
فجيمس يدفن نفسه يومياَ من الصباح حتى المساء يدير هذه المكتبة الكبيرة، ومارلين تدفن نفسها خمسة ايام في الاسبوع بمستشفى الرحمة للولادة والاطفال. تعمل بقسم رعاية الاطفال الخدج، كما انها تأخذ دروساَ وتدريباَ اضافياَ بقسم الولادة وبنفس المستشفى.
عمت الفرحة قلب جيمس عند حضور احد موظفي المكتبة مستأذناَ اخذ الصحيفة, فحين رفعها من المقعد ظهرت كتب مارلين التي ظلت على نفس المقعد، فحين رفع الصحيفة ظهرت كتب مارلين ووضحت عناوين الكتب بارزة للعين المجردة. حين رأها جيمس اتيحت له فرصة التحدث. قال لمارلين مع ابتسامة لاول مرة بعد هذا الصمت المفاجئ:
ـ انسة مارلين هل تطالعين الروايات الادبية بأستمرار؟
ـ نعم اطالع الروايات كما اطالع القصص والمسرحيات الادبية والاجتماعية التي نشرت في العالم , وللعديد من الكتاب والمفكرين المشهورين وغير المشهورين من النساء والرجال.
ـ ان مشكلة الكاتب الاساسية , ان يعرض مشكلات الحياة والمجتمع.
ـ وعلى الكاتب ايضاَ ان يكتب دون تمييز، فكل مااحتوته الكتب فيما يخص الحياة الانسانية من ((مأساة )) و((ملهاة)) و((خيال)) و((حقيقة)) يتوضح لنا ان ((الانسان)) هو البطل الحقيقي لكل تلك الروايات والقصص والمسرحيات التي صدرت في العالم اجمع.
- انسة مارلين اضيف الى كلامك: ان مهمة الكاتب ان يكون شاعراَ بنقل مشاعر واحلام البشرية ويفسرها.
- ياسيد جيمس، لايمكن لاحد ان يحقق احلامه وحده او بمعنى اخر بمفرده , كما كشف لنا الماضي , وما نراه ونحس به اليوم (الحاضر).فأن الرجل والمرأة ـ منذ القدم ـ يستمد كل منهما الشجاعة من الاخر , لمجابهة مشاكل الحياة ومشاكل العيش.
ـ اود ان اخبرك عن موعد وصول مجموعة كبيرة من الكتب الادبية القيمة،وفي غضون نهاية الاسبوع القادم.كانت تعود للمرحوم البروفيسور رايز , فقد قمت بشراء مكتبته الخاصة لان ورثته قد اهملوها لانشغالهم في اعمال التجارة والصناعة، فلم يعد لهم اية حاجة بمكتبة ادبية ضخمة، تحتوي على الكثير من مؤلفات بلزاك وزولا وهوجو وكارنيجي وكتاب اخرين غيرهم.
ـ ان ايام اجازتي عن العمل في المستشفى يومي الجمعة والسبت من كل اسبوع.
ـ اذن يكون موعدنا يوم السبت , يمكنك الحضور صباحاَ الى مكتبي مباشرةَ في الطابق الارضي.
ـ شكراَ ياسيد جيمس. سوف احضر في الموعد المحدد يوم السبت. اكرر شكري لوليمة الغداء التي قدمتها لي دون سابق معرفة. استأذن الان في العودة الى البيت.
خرجا من المطعم , سارا سويةً , توادعا عند الباب الرئيسي للمكتبة.
ذكريات مؤلمة
بعد ان ماتت زوجة القاضي الدكتور جورج هامر، اشتدت عليه وطأة الوحدة والعذاب والبؤس !!
لقد كانت وفاة زوجته المفاجئة بالنسبة اليه مصيبة كبرى، غيرت كل حياته، بعد الالفة العذبة بينهما، فلم تبق لديه هذه الصدمة سوى ذكريات مؤلمة لرحلة الايام والسنين الماضية التي عاشها معها، بكل حب ومودة واخلاص وحنان مفرط له ولأبنهما هنري، وابنتهما مارلين.
فأعتزل القضاء. لكن ظلت زوجته المتوفاة تتراءى له في كل غرف المنزل وزواياه!!
مما اضطره الى بيع المنزل والانتقال الى بيت آخر. كان بيتاً قديماً وكبيراً، يقع في ضواحي مدينة نيوهوم الجنوبية.
وبعد اجراء بعض التصليحات، خصص غرفة مكتب لطيفة، وضع فيها مكتبته الكبيرة التي تحوي كتباً قانونية مجلدة، كما وضع ازهاراً في اوان.
اشترى كراسي كبيرة ومريحة جديدة. وثبت نافذة تفتح الى الخلف،تشرف على منظر جميل لمرتفع من الحقول والاشجار التي تغمرها الشمس في النهار.
كما بنى مدفأة لطيفة من الحجر تتصل غرفة المكتب بباب الى اليسار وباب مواجهة الى اليمين تصل الى غرفة الاستقبال، وجعل الالوان الغالبة لون الحجر، رمادي كلون ورق السيجار وبقع زاهية اللون.
كان يجلس الى مكتبة على كرسي متحرك. وفي كل صباح ينهك نفسه في تصفح كتب القانون. انه قد اصيب حديثاَ بالنقرس، ولهذا تجد قدمه اليسرى مربوطة.
وهو رجل نحيل هزيل في الخامسة والخمسين من العمر. يغلب على محياه التهذيب واللطف وغرابة الاطوار، دخلت عليه ابنته مارلين من باب غرفة الاستقبال :
ـ صباح الخير ياوالدي العزيز.
ـ صباح الخير مارلين. تقربي الي، لدي عتاب قصير معك، لن أؤخرك عن عملك.
ـ تفضل ياوالدي، كلي اذان صاغية اليك.
ـ لماذا لم تحضري ظهر امس لتناول الغداء في البيت ؟ لقد انتظرناك طويلا، انا واخوك هنري مما اضطره اخيراَ الى تسخين الغداء بنفسه. انك تعرفين انه السبت، وهو يوم عطلة مدبرة المنزل.
ـ لقد تناولت الغداء بمطعم المكتبة، أرجوكما ان تتحوطا إلى ذلك في الأسابيع القادمة أيضا لأنني سأكون مشغولة بدراسة معمقة عن الحضارات الإنسانية من خلال قراءة أنواع الروايات والقصص التي تكتب عن تلك المجتمعات المختلفة.
ـ هذا بحث ممتاز، ستتوصلين من خلاله إلى معرفة الكثير عن اوجه التشابه والتقارب بين تلك الحضارات الإنسانية، القديمة منها والحديثة.
ـ أين هنري يا والدي ؟ لعله يوصلني عند خروجه إلى المستشفى.
ـ لقد خرج مبكراَ هذا الصباح، لحضور جلسة افتتاح المحكمة في مدينة مود رن هوم، لترافعه عن قضية السيد اليسون رايت في الدعوى المرفوعة ضد مغتصب لاراضيه، رئيس مجموعة شركات النجمة المدعو ديفيد منشي.
ـ سأضطر لآخذ سيارة اجرة، فالحقيبة ثقيلة ولا يمكن حملها في الباص. مع السلامة يا والدي.
ـ مع السلامة مار لين.
أنفلونزا
حل السبت الثاني، ظلت مار لين تكبل نفسها بسلاسل الوحدة القاسية، وهي مأخوذة في العمل والقراءة، كبرت، اصبحت الان في الثالثة والعشرين من العمر.
كانت تلازم البيت ايام العطل حتى بلوغها هذه السن فليس لديها صديق للخروج معه في نزهة او الذهاب برفقته الى مرقص او مطعم. ولما كانت القراءة هوايتها المفضلة فقد اختارت من الكتاب خير صديق عزيز على قلبها.
لكن!! المصادفة التي جمعتها مع السيد جيمس، وتعارفهما جعل الامر اكثر صعوبة بالنسبة لها هذا الصباح ؟!
فهي مترددة ما بين الذهاب الى المكتبة او ملازمة البيت ؟
شعرت انها في حيرة من امرها كتائهة في صحراء.
وبعد موازنة دقيقة ما بين نكث موعدها او الايفاء به !! تبين لها ان بقائها في البيت يضيع الكثير من الفرص، فهي تعمل لهدف اساسي كي تمتلك الفرصة لقراءة اكبر عدد ممكن من الكتب القديمة والحديثة النشر.
والاهم من ذلك ان عدم ذهابها هو نكث لوعد قد التزمت به امام السيد جيمس. غيرت ملابسها.
خرجت مسرعة من البيت.
ـ صباح الخير ياسيد جيمس.
ـ صباح الخير انسة مارلين، تفضلي بالجلوس.
ـ شكراَ، كيف الصحة ؟ وكيف حال العمل في المكتبة؟
ـ بخير جداَ، ولكن ما يؤسف له اليوم، هو عدم حضور أمينة مخزن المكتبة،
فقد اتصلت تلفونياً هذا الصباح طالبةً الحصول على اجازة عن العمل لثلاثة ايام. فهي مصابة بالانفلونزا،وستلازم الفراش حتى تزول كل اعراض المرض.
ـ هل الانفلونزا منتشرة في نيوهوم هذه الايام ؟
ـ لا، ليست منتشرة لكن أي تغيير فجائي في الجو، او انتقال للانسان من مكان الى مكان اخر، فالجو المحيط به يسبب الاصابة بالانفلونزا، والانفلونزا مرض شديد وسريع العدوى !! اعتقد ان انتقال الانسان من الاماكن الباردة الى الاماكن الحارة دون ارتداء ملابس مناسبة، خاصة لمنطقة الصدر، مما يسبب الاصابة بالأنفلونزا ايضاَ.
اشبه بتزاوج مادتين. مادة تتطاير في الجو والاخرى تنطلق من داخل نفس الانسان.
يلتقيان ويقيمان عرسهما داخل القفص الصدري.
ـ قد يعتقد البعض ان الانفلونزا هو عارض بسيط. بينما الحقيقة انها مرض خطير لحياة الانسان!!
ـ صحيح.اود ان اضيف حاشية تاريخية : ففي الحرب العالمية الاولى، ما يسمى بالحرب العظمى التي بدأت صيف عام 1914 حتى تشرين الثاني(نوفمبر) 1918 (حتى شتاء 1918) كانت الخسائر عشرة ملايين انسان فقدوا ارواحهم.
وبعد انتهاء هذه الحرب اجتاح العالم اخطر وباء قاتل وفتاك من الانفلونزا ، ووصل عدد من ماتوا بسبب الانفلونزا في ذلك الحين، ما يقرب من عشرين مليوناً من البشر.وهذا اكثر بكثير من ضحايا الحرب العالمية الاولى ذاتها.
ـ وهذا الوباء العالمي المتفشي، اخر وباء من نوعه يشهده العالم.
ـ وبالمناسبة، ومن اجل السيطرة على عوامل الفناء، الحروب والمجاعات والامراض، عقد مؤتمر باريس الذي يتميز عن المؤتمرات الدولية السابقة، بأنه اخرج الى حيز الوجود فكرة كانت تداعب الخيال الانساني منذ اجيال. وهي فكرة ايجاد هيئة عالمية تضم جميع الدول، تكون وسيلة لحفظ السلام، وتسوية الخلافات الدولية سلمياً، وقد تجسدت هذه الفكرة بعصبة الامم.
ـ ان اهداف السيطرة على عوامل الفناء، لايمكن ان تتحقق اذا لم يتخلص البعض من نزعة التوسع والسيطرة على الاخرين دون وجه حق.
ـ انظري انسة مارلين، هناك، الى تلك الناحية التي امام تلك الطاولة، تلك هي الطرود التي تحتوي على الكتب التي وعدتك بها في الاسبوع الماضي.
ـ هذا عمل بسيط،يمكنني معاونتك في توظيب هذه الكتب، فأنا اتمتع بأجازة من المستشفى طيلة هذا اليوم.
تناول جيمس سكيناَ. اخذ يقطع اشرطة النايلون التي تحزم بها تلك الطرود الكارتونية. بينما اخذت مارلين توزع الكتب فوق الرفوف المخصصة لها، وفقاً َلنوعية مادة الكتب وليس بأسماء مؤلفيها.
فمخزن المكتبة الرئيسي، المجاور لمكتب جيمس، تخزن فيه كتب الروايات والتاريخ والسياسة والقانون، كل مجموعة على حده.
وقفت مارلين في اعلى السلم المتحرك، الذي على شكل حرف ـA ـ في اللغة الانكليزية، ترص الكتب فوق الرفوف العالية، وجيمس يناولها من الاسفل على الارض.
وبعد فترة طويلة من العمل. التقطت مارلين انفاسها بشدة، كانت عينيها لامعتين وهي تراقب جيمس، ونظرت، بسرعة، الى الاسفل، ولكنها سقطت من السلم!! استقبلها جميس بين يديه، تبعثرت بعض الكتب على الارض.
ـ تعالي، اجلسي هنا يا عزيزتي.
ـ اعذرني اني متعبة.
ذهب جيمس ليتناول زجاجة شمبانيا وكأسين من دولاب، يضع الكأسين على المكتب ويبدأ في فتح الزجاجة، ينزع الغطاء، يملأ الكأسين وينظر اليها. يتناول كأسه، يرفع الكأس ثم يلاحظ ان يدي مارلين فارغتان، فيحضر الكأس ويناولها لمارلين قائلاً :ـ
ـ فلنشرب نخب سلامتك، خذي هذه الكأس.
وتقرع كأسها بكأس جيمس. يتبادلان النظر مرتبكين،
كلا الاثنين، صمت طويل.
اخذ جيمس يتمشى في الغرفة جيئة وذهاباً. ثم يذهب الى المكتب، يضع الكأس ويفكر يلتفت نحو مارلين ما زال يحتفظ بمظهر البهيج.
يذهب ثانية الى المكتب، يصب لنفسه كأس شمبانيا، ويشرب، تنتابه نشوة المخمور، خفيفه ولكنها واضحة.
ينهض جيمس ويذهب نحوها، ينظر في عينيها، تقاوم نظراته، قضيا وقتاً طويلاً في الثرثرة، كان كل منهما يجد لذه روحية في الاستماع الى اراء الاخر، ويقتنع بنظرته الى الحياة.
افترق الاثنان، بعد ان توادعا، وهما اكثر شوقاً الى اللقاء من جديد.
هوة الحب
تواصلت لقاءات جيمس ومارلين في المكتبة وخارجها.فقد كانا يذهبان الى المتاحف ومعارض الرسم والحدائق العامة، ولا يملان من التجوال في شوارع نيوهوم.تركت هذه اللقاءات اثراً حاداً في نفس جيمس، صار تأثير هذه الصداقة كتأثير السحر!!
فحين تدخل مارلين الى مكتبه، تتعطل مواعيده، تلغى، او تؤجل الى يوم اخر.
وقد بات العاملون في المكتبة يعرفون ذلك تمام المعرفة طيلة الشهر الماضي.
وذات مساء، عند رجوع جيمس الى المنزل، خلا الى نفسه، واستعاد في ذاكرته قصته مع مارلين اخيراً استقر رأيه على ان يدرب نفسه بالتدريج على عدم لقائها كل اسبوع.؟!
طبق جيمس على نفسه هذه التجربة الصعبة، تحمل قسوتها وعذابها اربعة عشر يوماً، قطع فيها كل لقاءاته مع مارلين، خلق اعذاراً وهمية للبعاد عنها، رغم انها تروق له، وتحرك لديه احساساَ بالتقدير.
ومرت عليه الايام ثقيلة وكئيبة فأصبح سريع الغضب في عمله، وفقد شهيته للطعام، ونام ليلة مؤرقة وكان يتقلب على فراشه طوال الليل كأنه يفترش الحجر!!.
وفي صباح اليوم التالي، وجد نفسه بحركة لا شعورية يدير قرص التليفون ليحدث مارلين في المستشفى. واعتذر لها عن عدم مقابلتها. وارتبط الاثنان بموعد جديد.
ووجد جيمس نفسه يتلهف الى هذا الموعد الجديد أضعاف ما كان يتلهف على مواعيده السابقة.
وحمل رأسه بين يديه واستغرق في تفكير عميق لقد اعترف بينه نفسه انه احب مارلين !!.
احبها رغماً منه، او لعل طريق الكتب انزلق به الى هوة الحب.
وسط الغابة
انطلق جيمس بسيارته نحو الغابة القريبة من بحيرة الضباب جلست مارلين الى جانبه في المقعد الامامي، وقد جلبت معها الكثير من الاطعمة المعلبة والجبن والخبز والعصير. دفعت كل اقيام هذه المأكولات والمشروبات من قبلها، فقد كان هذا شرطاَ مسبقاَ لموافقتها الخروج معه في هذه النزهة.
جلسا على احدى المصطبات التي صفت على طول الممشى الذي يتوسط الغابة الكثيفة بأشجار الصنوبر والحشائش.
بعد فترة قصيرة من تناولهما اكلهما وشربهما العصير، اخرجت مارلين من حقيبتها كتاباَ تأريخياَ عن نشأة وتطور النشر في الوطن العربي، اخذت تقرأ بعض الفقرات في صوت مرتفع ليسمعها جيمس:
(( لم تكن صناعة الكتاب من حيث التأليف والطباعة والنشر والتسويق وما يتعلق بها غريبة على الوطن العربي. فقد كانت اجراءَ مألوفاَ ولها تاريخ حافل ومزدهر سارت في خطوات واسعة في نشر الحضارة والفكر …. واذا تجاوزنا عصور التأريخ السحيق القدم ايام السومريين والبابليين والآشوريين في العراق، والفينيقيين في لبنان والفراعنة في وادي النيل ـ والذين كانت لهم نشاطات فعالة في صناعة الكتاب تأليفاَ وجمعاَ وحفظَاَ على اوعية مختلفة منها الواح طينية وقطع من البردي والرق (الرق:وهو جلد رقيق).
وقد جمعت هذه الاوعية الفكرية في مكتباتهم، فكانت نتاجات فكرية ووثائق وادلة صادقة على حضارتهم وفكرهم في مجالات المعرفة كلها اذا تجاوزنا هذه الحقب واقتصرنا الحديث الموجز عما كانت عليه صناعة الكتاب ايام الحكم العربي والاسلامي التي بدات في القرن الهجري الاول (القرن السابع الميلادي).
وظلت هذه الصناعة في نمو وازدهار، وظلت شعلة وهاجة تنقلها الاجيال فيتسع لمعانها في تعاقب السنين والقرون.
وقد دفعت العرب الى تسجيل هذه الافكار تطور ادوات الكتابة واوعيتها، فكان التحول من الاوعية القديمة تدريجياَ الى ان وصلت نضوجها بصناعة الورق في بغداد في القرن الثامن الميلادي فكان سبباَ في نشر الكتاب وازدياد تعدد النسخ للكتاب الواحد، وسهل تجميع الكتب في مكتبات كثيرة أسست لخدمة الناس وطلاب المعرفة وعلماء البحث والراغبين في الدراسة والتأليف.
ومن هنا كثر التأليف على شكل مخطوطات بلغ عددها اليوم اكثر من ثلاثة ملايين مخطوطة مبعثرة بين مكتبات العالم العربي وفي اوربا وامريكا واسيا وافريقيا...))
ظلت مارلين تقرأ بينما كان جيمس يرهف السمع اليها وينظر في اعجاب شديد الى شفتيها الجميلتين وهما يخرجان الكلمات في رنة جميلة …
توقفت عن القراءة، فجأة، هبت ريح عنيفة وقوية، رشقتهما بوابل من الغبار وبقايا النفايات والاوراق التي يتركها بعض زوار الغابة، مبعثرة على الارض. كانت الريح قد كنست الغابة تماماً ونظفتها من هذه النفايات.
ارتفعت الشمس الحارة. كانا يسيران في طريق الخروج من الغابة. صار الهواء جافاً وحاراً وطقطق اغصان الصنوبر والصفصاف من الحرارة.
رأى جيمس وهجاً ضعيفاً، على الفور، صاحبه تصاعد لهب ودخان الى عنان السماء، شعر بالخوف فجأة. اثار مشهد تصاعد النيران ارتباكه.
شعرا بالاطمئنان لدى صعودهما الى السيارة. فقد اتيحت لهما فرصة الكلام والتنفس بهدوء. فطيلة جلوسهما في الغابة لم تتح الفرصة لجيمس ان يقول كلمة. فسبقها الحديث قائلاً :ـ
ـ انسه مارلين، تبين لي اليوم، اننا ضعفاء كثيراً في معرفة التأريخ.
ـ كيف ؟
ـ لم تكن لي اية معرفة سابقة من ان الفضل الاول في صناعة الورق يعود الى بغداد، الى العرب.
ـ يا سيد جيمس، يقول مثل تركي عن بغداد : لا توجد ثمة حبيبه مثل الام، ولا ديار تضاهي بغداد.
لدى وصولها الى الساحة التي يتفرع منها شارع جانبي. اوقف جيمس السيارة وقال :ـ
ـ مارلين، انظري !! كم هي جملية هذه البحيرة ؟؟
غداً، ننظم سفرة اليها، لنعوض يومنا هذا على ضفاف بحيرة الضباب.
ـ طيب، يقولون ان السفر يوسع الافق.
الارهاب ! عدو الانسانية
اصبح تقسيم العمل اليوم، عنصراً مهماً في تسيير امور الحياة ان كان ذلك، في المنزل، او المصنع او المدينة او الشركة او أي مرفق اخر.
وان غياب احد هذه العناصر الانسانية عن العمل، قد يؤدي الى احداث الخلل او الشلل المؤقت في الهيكل العام لذلك المرفق، ولو لفترة قصيرة من الزمن، وقد يكون مقلقاً ومزعجاً للاخرين في كثير من الاحيان.
وهذا القلق قد يشعر به طالب المدرسة الصغير السن عند غياب معلمته المفاجئ.
كما ان هذا القلق والازعاج قد انتاب الدكتور جورج هامر وولده المحامي هنري، واشغل بالهما كثيراً، فأن غياب مارلين عن المنزل طيلة النهار، ايام عطلتها الاسبوعية من المستشفى يومي الجمعة والسبت قد اثار لديهما الكثير من التساؤلات ؟؟.
فتصرفها هذا عكس ما اعتادت عليه في الماضي،فقد كانت تلزم البيت. خاصة ايام السبت يوم عطلة مدبرة المنزل الاسبوعية.
فقد سبب لهما غياب مارلين الكثير من الارهاق والارباك في البيت. خاصة لفترتي الغداء، وشرب الشاي، حيث اخذا يتعاونان على تسخين الغداء واعداد الشاي . والذي يعتبر بالنسبة اليهما من الامور الصعبة لسببين رئيسيين الاول انهما رجال، والثاني انهما لم يعتادا على القيام بالاعمال المنزلية في السابق.
اما بالنسبة لمارلين كامرأة، فيعتبر ذلك بالنسبة اليها من الامور السهلة، لما تحمله المرأة من يدين ماهرتين ونشيطتين في تدبير شؤون المنزل، والعناية بالاخرين. وعلى وجه الخصوص العناية بالاطفال وتربيتهم حسبما يتطلب منها خلقها وكيانها القائم في البيت والمجتمع.
كل هذه الاسباب التي ولدت هذا القلق كانت تدور بفكري الدكتور جورج وولده هنري. فأثناء جلوسهما لاحتساء الشاي ظل الدكتور جورج يتطلع عبر النافذة متأملاً، يغوص في بحر الظلمات المحيطة بالفكر الانساني فيما يتعلق بالمشكلة الكبرى لغياب ابنته مارلين الطويل عن البيت ؟! استدار فجأة وقال:ـ
ـ يوم امس عادت مارلين الى البيت في حالة تتطلب الرثاء، كانت حزينة جداً، وكان الحزن ظاهراً على وجهها بجلاء !! لم اسئلها عن سبب حزنها ؟؟ او عن سبب تغيبها عن المنزل ؟ او عن هذا التأخير الطويل في بعض الاحيان ؟ لانها ليست طفلاً حدثاً انها امرأة، امرأة في الثالثة العشرين من العمر لديها مشاعر، ويجب ان تكون لديها تجارب في الحياة.
ـ هل تعتقد يا والدي ؟ ان سبب خروجها من البيت هو السبب الرئيسي لحبها وشغفها لقراءة الكتب؟
ـ لا، لا فأنا اتحسس ان وراء هذا الغياب المستمر عن البيت طيلة الاسابيع الماضية، لابد من وجود صديق في حياتها.
ـ اوافقك هذا الاعتقاد، انه تصور واحساس حقيقي.
ـ ازيدك علماً يا هنري، فقد تصرفت اليوم بغضب لقد اتصلت تلفونياً بمكتبة سافيير سائلاً عن مارلين ؟
لكنني فوجئت عندما اخبروني انها لم تحضر الى المكتبة هذا اليوم.
ـ وانا ايضاً ياوالدي، فقد ذهبت الى المكتبة، قبل مجيئي الى البيت، بقصد توصليها الى البيت بسيارتي بحثت عنها في صالة عرض الكتب وصالة المطالعة وجناح المطعم، لكنني لم اعثر عليها هناك.
ـ احذر ان تسألها أي شيئ عند عودتها الى البيت، او التكلم معها عن أي موضوع تحس من خلاله اننا قد سئلنا عنها. ربما تغضب كثيراً عندما تشعر اننا كنا نتجسس عليها.
ـ صحيح ، انها بالغة سن الرشد. ولها حق التصرف في شؤونها الخاصة بحرية كاملة.
ـ لا يا ولدي هنري، ان الحرية الكاملة ليست معناها الحرية المطلقة لنوازع النفس الانسانية دون ضوابط والتزامات في المجتمع. فثقافتنا الشخصية واخلاقنا تحتم علينا المحافطة على ابنائنا، واحترام حقوق المرأة في الاختيار حتى اخر نفس في حياتنا. وان تبقى الروابط العائلية قائمة وقوية، لان تفكك العائلة يورث الى الانهيار الخلقي، وفي كافة نواحي الحياة.
بعد توقف قصير واصل الدكتور جورج حديثه قائلاً:
انني اليوم في حيرة شديدة !! فقد خرجت مارلين هذا الصباح تحمل معها حقيبة ملابس صغيرة،مسرعة، صامتة، شاردة الفكر. حتى انها نسيت ان تلقي علي تحية الصباح كما اعتادت عليه منذ طفولتها.
ـ ربما استطعنا في المستقبل القريب اجلاء الغموض الذي يكتنف وضعيتها؟.
ـ اصبت كبد الحقيقة.
قطع الدكتور جورج الكلام عن ابنته مارلين. سأل ولده هنري قائلاً.
ـ اخبرني يا هنري، اين وصلت قضية اليسون رايت؟
في الدعوى المقامة ضد ديفيد منشي رئيس مجموعة شركات النجمة.
ـ في الجلسة السابقة للمحكمة، حضر العديد من الشهود اثبتوا ان ديفيد وجماعته قد نزحوا من الشمال. فلم يكن صاحب ارض، ولا زارع ارض. فقد دخلوا الى الارض غرباء. زاحموا اهلها ثم استأثروا بالسيادة في مواقع منها، كما هاجر منها او (لم يهجرها) فريق من ابنائها.
ـ يبدوا ان الوضع خطير في مدينة مودرن هوم ؟!وقابل للتفجير في اية لحظة.وان الصمت تجاه ديفيد لا يعني الاستسلام.
ـ ان جذور مشكله الارض، وتطورها، وتذبذبها بين القضاء والعنف وفرض القوة لا يحل المشكلة. جماعة ديفيد مجرمون حقيقيون.
ـ عندما كنت قاضياً في السابق، نظرت دعاوي عديدة رفعت ضد ديفيد منشي، اذكر لك واحدة من تلك الدعاوى، فقد دمر واتلف الكثير من مزروعات السيد اليسون رايت من قبل حصان جامح !! كان يملكه ديفيد. مما اضطر احد الفلاحين لقتل ذلك الحصان الجامح.
ـ ان الفلاحون يطاردون الفئران السوداء التي تهاجم محاصيلهم حتى موت الفأر. فكيف يسمحون لحصان جامح بإتلاف مزروعاتهم ؟؟ انهم يدافعون عن محاصيلهم دفاع اليائس.
ـ انني اذكر ديفيد، واتذكر ملامح وجهه، له وجه رجل لا يتورع في ارتكاب اخطر انواع الاجرام لهدف يناله، او اتقاء شر يلحقه.
ـ ومثل هؤلاء المجرمين لا يتورعون في اسكات ضحيتهم اذا ما داهمهم الخطر.
ـ ولدي هنري سأذهب الى غرفتي، واوي الى فراشي لان التعب اخذ يدب في جسمي.
اما المحامي هنري فقد دخل غرفة المكتب لدراسة بعض القضايا المرفوعة ضد مجرمين آخرين امثال ديفيد منشي وعصابته. اعداء المجتمع والانسانية، هذه العصابة التي اضافت عاملاً جديداً الى عوامل الفناء : الحروب والمجاعات والامراض.
فقد اضافت هذه العصابة لفناء الانسانية هو : الارهاب وجرائم القتل والاعتقالات والعدوان بقوة وحشية وهمجية خلافاً للقوانين الدولية والشرائع الدينية السماوية دون رحمة او وازع من ضمير...!
حب ... فوق مياه بحيرة الضباب
تسلم جيمس مفاتيح البيت من ادارة المجمع السياحي لبحيرة الضباب. كان يحمل الرقم 3 ويتألف من غرفة رحبة للنوم. وغرفة اخرى للجلوس بها ركن صغير لتناول الطعام، ذو ابواب تؤدي الى المطبخ والحمام. كما يوجد مخزن صغير بجوار الحمام تخزن فيه ادوات الاستحمام.
وتشمل النظافة جميع انحاء البيت، ومؤثث بأثاث حديث يدل على سلامة الذوق، ومرتب على احسن نظام، ويتكون من طابق واحد.
حمل جيمس زوجان من المزالج المائية من المخزن الخاص بأدوات الاستحمام.
وقف مبهوراً !! حين رأى مارلين في لباس الاستحمام مأخوذا فيها بجمالها. تقرب اليها تكلم بصوت خافت هادئ، هدوء الصباح. فقال :ـ
ـ مارلين، خذي، انتعلي هذا الزوج من المزالج المائية.
احتذيا هذه المزالج، اخذا يجريان بها على مياه البحيرة بيسر، فيجريان على سطحها الهادئ. وكان هذان المزلاجان يتركان ورائهما على الماء اثراً خفيفاً ضيقاً، يتمهد بسرعة.
تسابق الاثنان كثيراً في السباحة لم يتقدم أي منهما على الاخر بوصة واحدة الى الامام. فقد كانا يسبحان جنباً الى جنب، متجاورين، وكل منهما يضرب الماء بنفس قوة الاخر، قوة الشباب، تتصارع فوق مياة بحيرة الضباب. وقضيا وقتاً سعيداً.
عند رجوعهما الى البيت الجاهز دخلت مارلين الى الحمام مباشرة لاخذ دش. خلعت ثياب الاستحمام. اغتسلت بعد تعب السباحة فوق مياه بحيرة الضباب. فماء الدش نظيف وبارد، شعرت حال نزوله على جسدها برعشه طيبة، فأنتفض جسدها، وحالاً بدأت تدلك صدرها وبطنها وظهرها وباقي اجزاء جسدها…
بقطعة قماش قطن ثخينة وصابون معطر.
كانت البرودة منعشة، لذيذة، وسرقها الوقت، لم تدر كم مضى عليها من زمن وهي تحت الدش؟ تدلك وتلتذ ببرودة الماء. كانت تنظر الى جسدها وهو يقطر بالماء، مبهورة بجمالها، فجأة مارلين، رأت بياض جلدها، وفرحت بجمالها، ارتعشت، واضطربت، فصاحت بصوت عال:ـ
ـ جيمس ارجوك اجلب لي المنشفة، من حقيبتي الموجودة في غرفة النوم.
حين مد جيمس يده اليسرى، يناولها المنشفة من الباب الموارب، وهو يدبر ظهره اليها، سحبته بقوة الى داخل الحمام قائلة :ـ
ـ تعال يا جيمس، سوف ادلك جسمك من دبق ماء البحيرة.
ظل جيمس يدير ظهره لمارلين وهي تدلك جسمه برشاقة وحيويه، بدأت تدلك رقبته وظهره وباقي اجزاء جسمه من الخلف. استعملت في الدلك قطعة قماش وصابون. ثم طلبت منه تغيير وقفته وقالت: ـ
ـ اغمض عينيك، واستدر الى الامام، سأقوم بدلك فروة الرأس والوجه.
فقال لها جيمس :ـ
ـ انني اعجب لصبرك مع المرضى ؟!
اجابته مارلين :ـ
ـ ينبغي على الانسان ان يكون طيباً مع اولئك الذين يتألمون. ارفع يديك الى الاعلى.
استمرت مارلين في دلك جسم جيمس، وجهه، صدره، بطنه … ساقيه، فتحت ماء الدش. اخذ هدؤها البارد يعذب جيمس في داخله ونهديها البارزين يلتصقان بصدره فقال لها:
ـ يبدو انك اخذت خبرة التدليك من خلال عملك في المستشفى ؟
ـ صحيح، أراهنك انك لم تغسل جسمك منذ طفولتك مثل هذه المرة؟
ـ فعلاً، لم يحدث ذلك. هل انتهيت؟
ـ لا يجب غسل فروة الرأس مرة ثانية.
اخذت قطعة الصابون، وهي تواجهة الان الاثنان عراة زادت من قوة نثر ماء الدش، تتطاول على اصابع قدميها من اجل غسل فروة رأس جيمس بصورة تامة، فمست شفتاها عن غير قصد ذقناه المنداة بقطرات الماء التصق جسدهما بقوة، لم يتمكنا من فكهما، اخذ نهديها البارزين، الصارخين، الصلبين، يدقان ابواب صدره، اخذت عيناه الرماديتان تبثان اشارات ساخنه ؟!
ادركت مارلين انه كان قد اخذ يشم منها رائحة الانثى.
وهي تشم منه رائحة الذكر. رغم ما يبدو من انه يعبق بها، ويمكن شمها من مسافة بعيدة.
اخذت الحرارة تدب في جسده اخذ يشعر ان ماء الدش قد اصبح شديد الحرارة فتح عينيه، اشتدت عليه رائحة جسد الانثى، كلما ازداد تقرباً منها، والتصاقاً بجسدها!!
اخذا يعبثان بنثر ماء الدش على جسديهما سويتاً، يتدافعان، يتسابقان الحصول على الماء كطفلين مغمورين في حوض حمام دافئ.
التهبت دماؤهما، اخذ توهجها يذيب الثلج الكامن في جسديهما رويداً، رويداً. اخذ جيمس المنشفة، بدأ ينشف جسد مارلين، ينشف قطرات الماء من تحت ابطها وفوق صدرها ونهديها وبطنها … التقت العيون، وتلاحم الفم على الفم بقبلة حارة طويلة!!.
صارا جسداً واحداً، نسيا نفسيهما، عادا الى عشرة الاف سنة الى الوراء. كونا اصغر مجتمع بشري المرأة والرجل، مارلين وجيمس، عراة في النهر، عراة في الغابة، عراة في الكهف.
توهج الحب الكامن داخل نفسيهما وعقليهما وقلبيهما !!
عادت مارلين واضعة يدها فوق كتف جيمس وهو يجذبها من خصرها ويقبلها بحرارة.
يتساوى الامر لدى المرأة ان كانت مثقفة اوغير مثقفة فعندما تتفجر فأنها تتفجر، صار عناقهما سريعاً وعنيفاً دون تقبيل، يشبة صراعاً من اجل الحق ومن اجل السيطرة، اكثر مما هو اتحاد من اجل اللذة وشعرا بالراحة التامة كأن جسديهما قد توصلا الى اتفاقية تؤشر طريقة جديدة في الحياة.
واستسلما لامر الحب الكامن داخل نفسيهما، الحب الذي يصوب الى قلوب وعقول الناس، العالم وكل انسان فوق كوكب الارض منذ القدم. يوم كان يتم لقاء المرأة والرجل في الانهار والغابات والكهوف. تلك اللقاءات التي توصف بالوحشية !! صارت اليوم، يطلق عليها اسماء رقيقة ومتعددة. مثل الحب،
والصداقة، والعشق والغرام، والمتعة، واللذة … من اجل اشباع هذه الرغبة الكامنة في النفس الانسانية، فهي موجودة لدى كل البشر، لدى الأبيض والأسود والأحمر والأصفر.
تنهدت مارلين وقالت:
ـ جيمس لقد تعبنا من الوقوف في الحمام ؟! لنسترح قليلاً في غرفة النوم.
عرس عذراء
سارا عاريين، كل يمسك بذراع الاخر. انعطفا نحو غرفة النوم تمددا ليستريحا على الفراش. بدأ جسدها امامه مشرعاً، واضحاً، اقترب منها بأندفاع ظاهر، طوى جسده قربها، وضمها اليه بقوة، بعد ان زحفت مبتعدة غير مرة.
حرارة ما، انسربت الى جسدها، اوقدته، فأبتهجت فبعد الحرارة تأتي اللذة، وانتظرت.
ازدادت الحرارة. لاصقها اكثر. شدها اليه، احست انه ذوب عظامها، واصبح جسدها كله قطعة من العجين.
قبلها ثانية كادت تختنق !! ورغم ذلك شعرت بلذة غير عادية. توقفا عن النطق. اخذا يتحدثان من داخل نفسيهما بهمس:
ـ آه ! ما اجمل هذه الارض العذراء ؟؟ ما اجمل المروج الخضراء الرمادية التي لم تطأها اقدام البشر من قبلي ؟؟ انها منطقة عميقة ومنعزلة والاصح انه لا ينفذ اليها الا من خلال الثغرات التي واجهتها. الامر الذي يجعلني اؤكد انني كنت المغامر الاول الذي عبر تلك المنطقة ؟!
ـ اه، خلصني، انقذني، اطفئ لهيب النار الحارقة فوق هذا السرير…!!
اقترب منها جيمس باسماً، وجهه احمر متورد وجميل جداً جسده متناسق، حلو، كأنه جبلة من الكرستال والضوء، اقترب اكثر، ولاحمها، ارتعش رأسها وانتفض، تورد وجهها وتوهج، تيار ما غور داخل جسدها، واوقد ارتعاشها، كانت ترتعش بكامل جسدها … ثم كفت ببطء شديد، فكفت!! قبلها طويلاً ودلكها طويلاً، ولاحمها طويلاً. تمنت في ساعة الرضا تلك، لو انها تستطيع احتضانه، وابلغته امنيتها من خلال رعشتها وذبول عينيها، وحنو ذراعيها، فاستجاب لها، وفرحت، نظرت الى نصفها السفلي، رأته نصفاً مصبوغاً بالدم … واللون الاحمر يسيل فوق عشب الزغب الاصفر الذي يتلالأ فوق ساقيها المكتنزتين.
نصفها غارق في الرقص والرعش الجميلين … واغفت بعد ان ظللتها سحابة الطمأنينة، اغفت واستسلمت لسلطان النوم العميق.
اثناء نومها. غرقت مارلين في بحر عظيم من الاحلام ؟!
فقد حلمت انها ترتدي بدلة عرس بيضاء، حاملة في يدها باقة ورد طبيعي. واقفه امام القس في كنيسة القيامة ويقف الى جانبها جيمس يرتدي بدلة زرقاء اللون وبعد ان اتم القس مراسيم الزواج الكنسية قائلاً:
(( الزواج شركة مقدسة. كتب وسوف يكتب عن عهد الزواج، الذي وضعه الله منذ بدء الخليقة وباركه وحصنه بشريعته المقدسة. اذ به يقيم الرجل والمرأة، برضاهما الشخصي المتبادل، الذي لا رجعة فيه، شركة بينهما تشمل الحياة بأسرها. وهو مرتب اساساً لخير الزوجين، وانجاب الاولاد وتربيتهم. وان هذه الشركة بين الرجل والمرأة لهي التعبير الاول عن شركة الاشخاص واتحادهما.
فالانسان بأعماق طبيعته كائن اجتماعي، ولا يستطيع ان يحيى وينمى مؤهلاته بدون ان تقيم علاقة مع الاخرين والعلاقة في هذه الشركة ليست حسب هوى الانسان ولا نتيجة قرارات وشرائع بشريه طارئة او خبرة تاريخية وتطور اجتماعي وثقافي، حتى يمكن تغييرها حسب المقتضيات والظروف والأمكنة،لكنها ثابتةَ في كل العصور والظروف والأمكنة لان الله الخالق هو الذي وضعها وجهزها بشرائع خاصة، ان الخالق أسس هذه الشركة بحكمة وعناية ليحقق في البشرية تصميم محبته …))
نثرت فوق راسيهما الورود والحلوى. ثم اخذ الحضور من الاهل والاقرباء والاصدقاء والجيران يقدمون لمارلين وجيمس احر التحيات والتهاني والقبلات، بكل محبة وبهجه وسرور.
لكن هذا العرس قد انتهى بكارثة مأساوية، فعند خروجهما من الكنيسة، وبعد ان صعدت مارلين الى سيارة الزفاف المزينة بالشرائط الحريرية الملونة وباقات الورود وبينما كان جيمس يهم الصعود الى السيارة، من الباب الثانية الخلفية والجلوس الى جانب مارلين. فحين مد يده لفتح باب السيارة، تقدم نحوه ثلاثة رجال مقنعين وجروه بقوة، وصعدوا به الى سيارتهم السوداء التي لا تحمل اية لوحة ارقام، فقد خطفوه وهربوا مسرعين الى جهة مجهولة؟!
نزلت مارلين من سيارة الزفاف وهي لا تزال بكامل بدلة عرسها، تولول، تركض في الشوارع تصيح بأعلى صوتها :ـ
ـ جيمس، أعيدوا لي جيمس!!
ضاع صوتها لم يستجب لنداء الاستغاثة من شدة الزحام ! البشر والسيارات، وكثرة الاصوات المنطلقة من منبهات السيارات الخاصة، واصوات الانذار لسيارات الشرطة والاسعاف والمطافئ.
استيقظت مذعورة !! قفزت على قدميها ونادت على الفور بصبر نافذ وقلق الرؤيا التي طافت بها وهي نائمة :
ـ جيمس ما هذه الاصوات ؟؟ انها قوية تمزق الآذان
ـ عزيزتي مارلين كان هذا صوت الجرس فقد ظل عامل المطعم يضغط على الزر. لقد احضر لنا طعام الغداء.
مضت مارلين الى الحمام ثانية. تحمل حقيبة ملابسها الصغيرة اغتسلت وتطهرت وارتدت ثوباً ابيض اللون، وهو ضيق وقصير الى ما فوق الركبتين وبلا اكمام يكشف عن الصدر والكتفين. واذا يه يلتصق بجسمها التصاقاً محكماً، مبرزاً تفاصيل قوام رشيق متناسق الاجزاء، وصدراً نافراً، ناهداً.
بدت اكثر جاذبيه، وهي في عز سنوات الشباب والاثارة. فشعرت بالرضا التام عما فعلته حتى الان وسرحت شعرها على كتفيها العاريتين، فظهرت كخيوط لامعة من الحرير المذهب الاصفر، ومنسجماً كل الانسجام مع بشرتها البيضاء في وجهها المدور ثم اعلى صدرها العاجي المكشوف، ففستانها الناصع البياض اكتنف بتمشيطه، ثم تناولت من الحقيبة علبة الزينة واخذت تجري من محتوياتها بعض اللمسات السريعة على خديها وشفتيها وعينيها ثم نظرت الان الى المرآة لاخر مرة فوجدت ان وجهها قد استعاد الان بعض ملامحه. ولم يبق امامها سوى ان تستطلع منظر جسمها.
حين قطعت غرفة الاستقبال، وهي تمشي في وقار التفت جيمس اليها، ظل يتابعها متفحصاً جسمها من قدميها الى فروة شعرها الاشقر المنهمر فوق كتفيها فظهرها، فحصاً متأنياً.
هذا جسم انثوي لامرأة في اوج شبابها، مشبع نضجاً وفتنة. فلا ينقص صاحبته اذن شيء في الشكل على الاطلاق. فأبتسم في سره، مطمئناً الى انه اذا شاء:
ـ فبأ مكانه اجتياز الطريق بأمان، مرة ثانية.
مطعم الوردتين البيضاء والحمراء
كانت المائدة ذات شكل فخم محملة بالصحون ترزح تحت اثقال الطعام. كان على المائدة من اللحم ما يكفي لا طعام عائلة كبيرة. اما طريقة الترتيب فكانت بجهود جيمس وذوقه الرفيع. رغم الافكار الملتهبه التي كانت تسيطر عليه. فحين ينظر الانسان الى المرآة يرى صورته نفسها ظاهره امامه كما يراها الناس الاخرون !! نفس الوجه، العينين، الايدي، الارجل، الطول، السمنة، والضعف،اللون، كل هذا الجسم الانساني الظاهر، البين للعين المجردة اما ما ادخره، او خزنه، او حفظه داخل هذا الجسم داخل هذه النفس، داخل هذا القلب، داخل العقل في الوعي او اللاوعي، في اليقظة او النوم، في الاثم او انكار الاثم، فهذه الحقائق الصادقة يعرفها ويعيشها هو وحده، ولا يعرفها غيره من الناس على الاطلاق.
كل هذه الافكار اخذت تثير لديه بعض الخوف من المجهول الذي اخذ يغوص الى اعماق نفسه !! اخذ يساوره القلق لان مارلين ظلت في غرفة النوم. لا يدري ماذا تفعل؟
اهي نائمة ؟ اهي تصلي ؟ اهي تكتب مذكرات ؟ اهي تطالع؟
اخيراً، قال فجأة :
ـ مارلين،هـل ستبقين في الغرفة اليوم كله دون ان نأكل شيئاً ؟!
اجابته صائحه :
ـ طيب. سوف احضر حالاً
بعد فترة وجيزة اخذت مارلين تدور بنظرها حول المائدة قائلة :
ـ عظيم ! رائع ! هيأت مائدة لاحتفال عظيم!
استغرب جيمس !! بل وتألم عندما رأى مارلين تأكل بشهيه كأنما لم تأكل منذ زمن بعيد. اخذته الدهشةٍ !! للتغير المفاجئ الذي طرأ على تصرفات مارلين. خاصة لطريقتي اكلها وتحدثها. فقد تغير تصرفها وصوتها بصورة مفاجئة ومغايرة عما كانت عليه وهي عذراء !
اخذت تأكل بنهم وشهيه مفتوحة وتتكلم بسرعة وبصوت عالٍ وهي تروي مشاهد من حلمها والمواقف المحرجة التي تخللها هذا الحلم.
صمتت لحظة حالمة ثم تابعت :ـ
ـ جيمس، يتبين لي ان صاحب مطعم الوردتين، البيضاء والحمراء، لديه معرفة كبيرة ومعمقة عن الحضارات الانسانية القديمة والحديثة. وذلك من خلال المأكولات والمشروبات التي يقدمها.
ـ لقد اطلق على مطعمه اسم الوردتين البيضاء والحمراء، للدلالة على انه يقدم اللحوم البيضاء والحمراء.
ـ انه يقدم كل انواع اللحوم المشوية ومع اللحوم البيضاء يقدم قنينة من الشراب الابيض ومع اللحوم الحمراء يقدم قنينة من النبيذ الاحمر. انه يجمع بين حضارات وعادات الشعوب في شرق الارض وغربها.
ـ بالفعل، ومأكولاته لذيذة ومفيدة للانسان فشرائح اللحم تشوي على فحم الخشب وهذه هي الطريقة الاولى التي تعلم فيها الانسان اكل اللحم المستوي والمطبوخ، بدلاً من اكله نيئاً.
ـ لكن الانسان اليوم قد طور طريقة عمل اللحوم المشوبة فأخذ يثبت قطع اللحم على أسياخ حديدية طويلة مقاومة للحرارة. تثبت في نهاياتها مقابض من الخشب كما يضاف للشواء مقبلات منوعة من الطماطة والفلفل الاخضر والبصل والثوم، تشوى الى جانب اللحوم.
ـ مارلين. انظري الى المائدة ! لا تنسي الزلاطة الخضراء الطازجة والخيار المخلل الناعم والخبز المحمص الحار.
ـ لذيذة، كلها اكلات لذيذة.جيمس، لقد حكيت لك الحلم الذي رايته عند نومي ظهر هذا اليوم.لكنني لازلت الان اكذب عيني. فليس ابهج عندي من ان اراك حرا طليقا !! بعد ان اختطفوك مني ساعة زفافنا !! لقد كان حلمَا اشبه بحوادث حقيقية وواقعية.
ـ ان الرغبة التي تبرز ضمن الحلم قد تكون مادة معاشة. نحن الان في اليقظة، وليس نياما حتى نحلم. هل تقبلين الزواج مني ؟؟
لكن مارلين لم ترد عليه.فبعد انتهائها من تناول الغداء اخذت تشعر ان الارض تميد تحت قدميها، وان الغرفة تدور بها ؟! احست بحاجتها الى الهواء الطلق. حتى تأخذ انفاسها بسهولة.
وقد لاحظ جيمس ذلك بادياً عليها، فصحبها الى الخارج وتأبط كل منهما ذراع الاخر.
يسيران على ضفاف بحيرة الضباب، مستمتعين بمنظر البحيرة المحاطة بأشجار الصنوبر التي تصعد الى السماء، سيقانها ورائحتها، تمايل اغصانها حينما يتحرك النسيم.
ـ سألها جيمس قائلاً:
ـ اراك شاردة لم تردي عليّ؟
ـ فنظرت اليه برقه وقالت :
ـ وماذا هناك يقال؟
ـ يقال ما يسعدني اعظم السعادة وهو قبولك الزواج مني وبأسرع ما يمكن.
فأجابته بصوت متهدج:
ـ لن نضيع دقيقة لاتمامه اذ يسعدني ذلك اكثر مما يسعدك ولكن !! حبي الشديد للمناسبات يحتم علينا الانتظار. ارجوك يا جيمس ان يكون موعد خطوبتنا عند حلول مناسبة عيد الميلاد، حتى لو كان قبل حلولها بأيام قلائل، ويكون الزفاف عند حلول مناسبة رأس السنة الجديدة.
ـ لا مانع لدي. اقبل رأيك هذا، ولو انه يعتبر شرطاً مسبقاً لقبولكٍ الزواج مني، لكن هذه الاشهر الاربعة القادمة ستجعل من هذا الوعد والعهد الذي تم بيننا هذا اليوم عقداً قوياً لا ينفصم.
اخذها بين ذراعيه وامطرها بوابل من القبلات، اخذا يضحكان كثيراٍ، ورنين ضحكهما يتردد صداه، حتى عودتهما الى البيت الجاهز.
كانت الشمس في طريقها نحو الغروب بلونها الاحمر، والظلال تستطيل فوق مياه بحيرة الضباب.
المحكمة
عقدت محكمه مودرن هوم جلستها لمحاكمة ديفيد منشي رئيس مجموعة شركات النجمة، اثر الدعوى المقامة ضده من قبل السيد اليسون رايت لقيامة في الاستيلاء على مساحات واسعة من اراضيه.
لكن قاضي المحكمة رفض طلباً تقدم به المحامي هنري جورج هامر يؤكد فيه استقدام بعض الشهود ووفقاً للطرق القانونية، بسبب رفضهم المثول امام المحكمة للادلاء بشهادتهم حتى الجلسة الاخيرة للمحكمة. على الرغم من تسلمهم اشعاراً بذلك. كما ان هيئة المحكمة قبلت الاجراء الذي قام به الادعاء العام في اسقاطه العديد من التهم الفرعيه الموجهة ضد ديفيد منشي، واقتصار المحكمة على قضية الاراضي فقط.
قبيل اصدار الحكم النهائي لهذه القضية. طَلب من المتهم ديفيد منشي ان يدلي باقواله قبل صدور قرار الحكم اضافة الى الدفاع الذي قدمه محاميه، فلم يجد المحامي هنري مايعترض عليه ازاء اجراءات المحكمة.
اشتدت مناقشات واعتراضات الكثير من الحضور وبأصوات عاليه وغضب متزايد حال انتهاء المتهم ديفيد منشي من الإدلاء باقواله امام هيئة المحكمة التي انسحبت من القاعة للتداول.
استمر تنديد الحضور ضد اجراءات هيئة المحكمة المنحازة الى جانب المتهم ديفيد منشي بشكل واضح حتى عودة القاضي وهيئة المحكمة الى القاعة بعد انقضاء نصف ساعة من المداولات خلف الكواليس.
اخذ القاضي يدق بالمطرقة قائلاً:
النظام، النظام، اذا حدث هذا الشغب مرة اخرى سوف أخلي القاعة من كل الحضور!!
حين ساد الهدوء قاعة المحكمة. وقف الجميع عندما بدأ القاضي يتلو قرار الحكم الذي جاء فيه:
(( تحال قضية الاراضي المتنازع عليها بين ديفيد منشي واليسون رايت الى المجلس البلدي لاجراء التسويه الكاملة والنهائية بينهما. على ان تشكل لجنة خاصة من الخبراء في تقدير قيمة الاراضي والمنشآت المقامة عليها وتقدير قيمة الاضرار الذي سببه هذا النزاع. على ان تحدد اقيامها وفقاً للاسعار السائدة عند التقدير يحق لطرفي النزاع استئناف القرار لدى المحكمة العليا خلال المدة القانونية من تأريخ صدوره. صدر القرار بالاتفاق، وافهم علناً )) رفعت الجلسة.
صراع من اجل الارض
ـ مساء الخير انسه جولي.
ـ مساء الخير سيد اليسون .
ـ اسمحي لي بالجلوس قليلا.
ـ تفضل. سوف ابلغ المحامي هنري بوصولك.
ـ شكرا انسة جولي.
كان السيد اليسون رايت يشعر بتعب شديد، واعياء كبير في جميع اعضائه، حتى ليكاد يعجز عن جر ساقيه، فلم يستطيع ان يصل الى المقعد الا بعد لأي.
فالشقة المستأجرة من قبل المحامي هنري تقع في طابق ثاني من مبنى قديم مشيد من حجر كستنائي اللون، لا يوجد فيها مصعد كهربائي، والسلم شاهق جدا. وهي تطل على المركز الرئيسي للسوق الكبير في مدينة نيوهوم. وفي نفس المنطقة كانت المساكن تتهدم بسرعة،لكي تفسح المجال الى ناطحات السحاب. وان الضجيج المتواصل للحفريات ليلا ونهارا جعل العيش امراً غير مرغوب فيه. لكن المحامي هنري فضل البقاء في هذا المبنى لقلة ايجاره. فالشقة تتكون من غرفتين واسعتين. الاولى التي تقع عند المدخل تشغلها السكرتيرة الانسة جولي، والغرفة المجاورة خصصت ميدان عمل المحامي هنري، تتوسطها نافذة عريضة يظهر من وراء زجاجها منظر ناطحات السحاب، والى اليمين مكتب عريض شبيه بالمنضدة والى اليسار مقاعد مصفوفة في نصف دائرة قبالة المنضدة. كما توجد في غرفة المكتب مكتبة تحتوي على كتب مجلدة وعدد من الملفات.
استقبل المحامي هنري جورج هامر بمكتبة السيد اليسون وخلال المقابلة،طلب السيد اليسون تقديم استئناف الى المحكمة العليا، لكن الانقباض والحزن الشديدين كانا يبدوان واضحين عليه. فكل انسان لديه مشاعر واحاسيس، وان اية مشاكل او مصائب يتعرض اليها من قبل الاخرين تكمن داخل نفسه، داخل عقله، داخل قلبه، مسببة له الالام والاحزان !!
لكن هذا الانسان !! حينما يشكو مشكلته، او مصيبته الى عزيز على قلبه، او قريب او صديق مخففا من وطأة ألامه واحزانه، يشعر في الكثير من الراحة، متنفسا ملء رئتيه، لانه اخرج هذا الهم الذي يختلج في داخله، مثلما يشعر به المريض من راحة تامة حال شفائه من حرارة حمى شديدة. وهذا ما دفع السيد اليسون رايت، لأعادة شرح قضيته من جديد امام المحامي هنري قائلا:
ان ديفيد منشي وجماعته نزحوا منفيين من الشمال، تمركزوا على اطراف مدينة مودرن هوم أولا.لكنهم اخذوا يزحفون نحو الشرق واستولوا على الكثير من ممتلكات اقاربي التي ورثناها عن آبائنا وأجدادنا. هذه الارض التي عاشوا عليها آلاف السنين. ان مقبرة عائلتنا واجدادهم باقية حتى اليوم. وهذا خير شاهد ودليل ووثائق مثبتة ومكتوبة على الارض. وحين ننام في الكرم او البيت. ايام الربيع والصيف، اننا نشم رائحتهم الطيبة في الارض رحمهم الله.
ان القضية قد عرضت سابقاً على المجلس البلدي، منذ سنين طويلة ؟! وقد طلب المجلس اجراء التفاوض بين الاطراف المتنازعة واجراء تسوية رضائية. لكن !! المجلس البلدي اوقف التفاوض وجمد القضية. وان قرار المحكمة الجديد مجحف بحقنا لانه ولد ميتاً !!.
فقد جمّد قضية المطالبة بأستعادة الاراضي المغتصبة من قبل ديفيد وعصابته. وجمَد ايضاً كل إمكانات السلام والامن في المدينة.
لقد كان التفاوض مجرد لعبة قصد بواسطتها تخديرنا للايحاء بأن المحكمة المدنية داعية للسلام في حل هذه القضية. لا من اجل تحقيق تفاوض مرتعش ومتردد ورخو اوقف الحديث عن اعادة الاراضي المستولى عليها وصار همنا النفاوض ما بين المجلس البلدي وعصابة ديفيد واقول لك:
ما كان ايهما سيجدي نفعاً؟؟
فالنفع الحقيقي ما تنجزه من حقائق على الارض.
ارجوك يا حضرة المحامي هنري ان يكون طلب الاستئناف الى المحكمة العليا مفيداً. فغالباً ما تكون قرارات المحكمة العليا ناجحة ونوعية، وعلينا ان ننفذ قراراتها، فهي الحماية الحقيقة لنا جميعاً، وليس هناك بديل سواها.
ـ الن تعاد لكم اية مساحة من الاراضي عن طريق المجلس البلدي في السابق؟
ـ لا يا سيد هنري لقد بدا من الوهلة الاولى ان المجلس البلدي لم يكن جاداً في يوم من الايام بالنسبة لتفاوض مسطح، هش مهزوز، مطوق ومحجم منذ ان بدأ قبل سنين طويلة والذي طالما اعترض عليه ديفيد وعصابته، ونادى بوقفه، وانه ليس الا واجهة لمحتوى بلا مضمون.
ـ هل حدثت بينكما نزاعات اخرى خلال فترة المفاوضات السابقة ؟
ـ نعم، فقد قام بعض العاملين بمزرعتي بضرب عدداً من جماعة ديفيد الذين تسللوا واتلفوا مساحات واسعة من الاراضي الزراعية، وقاموا بقلع اعداد كبيرة من الاشجار المعمرة المثمرة !! وكان هذا سبباً في تعليق المفاوضات منذ تلك الحادثة، وان المجلس البلدي منذ ان بدأ التفاوض، ولديه نيًّه تعليقها امام أي مبرر. وقد جاءت الفرصة، وتعللت بعملية الفلاحين الذين ضربوا جماعة ديفيد المعتدين.
ـ وماذا كان رد فعل الطرف الاخر ؟
ـ لقد اخذ ديفيد وعصابته المتعصبة المتشددة، رفع شعارات العدوان وتشرع التهديد سلاحاً لوجوده، ووجود مؤسسات ومزارع النجمة.
ـ هل لديك ادلة جديدة يمكن اضافتها الى الاستئناف بخصوص اعادة النظر لقضية الاراضي ؟
ـ خير دليل هو وقف التفاوض من قبل المجلس البلدي قبل صدور قرار المحكمة الجديد. انه عمل غير مسؤول، يضر بعملية الامن والاستقرار في المنطقة وبمصداقيه المجلس البلدي كقوة ادارية في المدينة كما يظهر تواطؤ المجلس مع ديفيد من مناورة رسمها بحرفيه بالغة منذ ان تبنينا من جانبنا لهجة الاعتدال من خلال مباردتنا السلمية ونبذ اعمال الارهاب.
ـ صحيح. ان الالتزام بوقف ومكافحة الارهاب كأولوية، اهم بكثير من الجهود التي تبذل من اجل السلام والامن.
ـ ولا يفوتك يا سيد هنري ان تذكر ارهاب ديفيد وعصابته الذي يمارس يومياً
لسحق الفلاحين العزل في الكثير من المناطق. يوجد في هذا الملف جدولاً تفصيلياَ عن كل اعمالهم وجرائمهم الارهابية. كما ان المجلس البلدي يشجع ديفيد وعصابته على المضي في سياسة القمع والارهاب في الاراضي المستولى عليها.
ـ سوف ادرس القضية من كافة الجوانب.
ـ ان قرار تجميد المفاوضات من قبل المجلس البلدي في السابق قرار مستغرب!!
لانه لا ينم عن الحكمة، يعصف بعملية السلام ويعود بها القهقري الى الوراء.
كما انه يساعد على انتصار نغمة المتشددين من اقربائنا. ويحجم نغمة الاعتدال.
ـ قرار تجميد المفاوضات ابتزاز مكشوف. ما كان للمجلس البلدي ان يتخذه في السابق.
ـ يبدو ان المحكمة المدنية عندما شرعت بهذا القرار، لم تكن جادة في توجهها، ولم تود أجراء او تفاوضاً حقيقياً. ويمنح انطباعاً واحداً الان، وهو انه لا امل في حل القضية. والسبب ببساطة ان المحكمة المدنية وديفيد وعصابته يفضلونها اصلاً بلا حل.
وفي هذه الاثناء سمعا طرقاً على الباب دخلت السكرتيرة الانسة جولي وقالت :
ـ عفواً استاذ هنري. انا اسفة لمقاطعتي حديثكما لان السيدة نانسي روبرت تنتظر منذ مدة طويلة. وهي تلح الان في مقابلتك. لديها قضية مهمة ومستعجلة؟!.
على الفور. نهض السيد اليسون رايت مستأذناً في الذهاب بينما ظلت السكرتيرة واقفه عند الباب الموارب.
قال السيد اليسون :
ـ سوف اجلب غداً بقية النسخ من سندات ملكية الاراضي الى المكتب.
اجابه المحامي هنري قائلاً:
ـ غداً الاحد. المكتب مغلق، يمكنك احضارها الى نادي المحامين بشارع رقم 20 المحاذي للنهر الساعة السادسة مساءً.
ـ طيب، السادسة وقت مناسب لي ايضاً.
ـ ستجد اسمك مدرجاً في سجل الزيارات عند مدخل النادي.
ثم تصافحا وتوادعا، رافقته السكرتيرة الانسة جولي، وودعته عند باب المكتب الخارجي.
سطو مسلح
تاهت عينا السيد اليسون في اغوار اعمق من غور بهو الطعام الظليل وكانت الموائد المنفصلة التي صفت الى جانب شرفة تطل على النهر بمنجاة من الظلمة.
ولان هذه الموائد هي افضل الموائد في نادي المحامين، فمن الطبيعي ان تخصص الى ارفع الأعضاء مقاماً. يغص النادي هذا المساء، بضيوف كثيرين من الرجال والسيدات ليتساروا ببعض الكلمات مثنى وثلاث.
ابتسم عندما شاهد المحامي هنري يلوح تلويحه رشيقة مرحة بيده قاصداً دعوته عندما كان يحدق الى الموائد الاخرى التي تبعد قليلاً عن مائدته. وحال جلوسه الى المائدة سلم الملف الخاص بصور سندات ملكية الاراضي.
بعد ان طلب من النادل جلب قدحين من عصير البرتقال اخذ المحامي هنري يتفحص السندات مستغرقاً استيعاب درس وهو يتطلع الى مستندات تثبت الحق المشروع للسيد اليسون رايت في ملكية هذه الاراضي. انها تعود له الان ومن ثم تعود الى ابنائه واحفاده من بعده. هذه سُنًّة الحياة فوق الارض. وما تقره كل الشرائع والقوانين منذ الازل.
لكن !! قيام الاخرين في الاستيلاء على هذه الاراضي، وبقوة السلاح. يعتبر عملاً باطلاً يتنافى مع كل الشرائع والقوانين.
سأل السيد اليسون محاميه قائلاً:
ـ لست ادري ان كان الطريق الى المحكمة العليا هو طريق آمن ؟
ـ ما دمنا ندين الباطل كله، فنحن على الطريق الصحيح، لا يهم على أي نقطة من الطريق نحن، ولا يهم كم فيه من المنعطفات والعثرات ؟ ولا يهم كم يستغرق المشوار؟
تلك التفاصيل تتفاوت في الاهمية. فالطريق ذاته هو الاهم.
ـ حال الانتهاء من قلع جذور هذه النزعات الشائكة والمنتشرة فوق الارض. تصبح الحدود آمنة لجميع الاطراف، من اجل ان تعيش الاجيال القادمة على أسس من المحبة والتعاون والوئام والسلام.
* * *
أوقفا حديثهما حال سماعهما صوت اطلاقات ناريه كان الصوت قوياً وقربياً. جرى بعضهم ليستفسر عما حدث ؟ والتفت بعض اعضاء النادي نحو زملائهم الجالسين في المشرب.
اخذت بعدها تسمع اصوات انطلاق صفارات سيارات الاسعاف والشرطة.
بعد مضي نصف ساعة تقريباً طلبت ادارة النادي من السادة الاعضاء والسادة الضيوف الى الانتباه للاعلان الذي سيذاع عليهم بعد قليل؟!.
تكرر اذاعة هذا النداء عدة مرات من مكبرات الصوت المثبته في اركان متباعدة من البهو الكبير للنادي.
واخيراً أذيع الإعلان، وقد جاء فيه ما يلي :
(( في الساعة السادسة والنصف من مساء هذا اليوم تعرضت ساحة وقوف السيارات التابعة الى النادي الى سطو مسلح. وبعد تدقيق سجل ارقام السيارات الداخلة الى الساحة والمغادرة منها لهذا اليوم. تبين لمحققي الشرطة ان السيارة المرقمة 1221.أم.اج قد سرقت من قبل الجناة الذين لاذوا بالفرار بعد اطلاق الرصاص على حارس الساحة، وقد اصيب بساقه الايمن. نقل اثرها الى المستشفى ندعو اليه الشفاء العاجل. كما نرجو من صاحب السيارة المذكورة آنفاً الى مراجعة مركز الشرطة لتأكيد الأبلاغ عن سرقة سيارته اكمالاًَ للتحقيق شكراً للجميع.))
مهما يكن الاثر الحاد الذي تركته هذه الحادثة في نفس السيد اليسون، فأن هذا الاثر سرعان ما تلاشى بعد ان انقشعت غيوم الكآبة والرعب والحسرة. لكن ! شعور الغضب الذي ولدته هذه الحادثةظل يلازمه طوال فترة الصمت اللا ارادي المفاجئ.
تكلم بعصبية غريبة قائلاً:
ـ ان السيارة التي سرقت هي سيارتي !! لاشك انهم جماعة ديفيد هم الذين قاموا بهذا العمل انهم يراقبونني دائماً ويلاحقونني في كل مكان.
ـ يتوضح من هذا العمل، ان ديفيد قد بدأ يشن حرباً منظمة ضدنا.
ـ ان ديفيد يحب التسلط، ويتمنى زيادة رقعة الاراضي التي يديرها اتساعاً كل يوم.
ـ انه يطبق شريعة الغاب والارهاب.
ـ انهم يحاولون تخويفي، وتثبط عزيمتي لوقف استمراري في المطالبة باعادة حقوقي كاملة سوف اذهب الى مركز الشرطة.
ـ سأذهب معك انا ايضاً.
لدى اطلاع المحامي هنري على محضر التحقيق في مركز الشرطة تبين ان ثلاثة مسلحين قد اقتحموا ساحة وقوف السيارات التابعة لنادي المحامين. وان احدهم اوصل بسرعة اسلاك (الكونتاكت) وأدار محرك السيارة ثم انطلقوا بسرعة بعد ان تصدى لهم الحارس محاولاً منعهم من سرقة السيارة. لكنهم اطلقوا عليه النار فأصيب برصاصتين في ساقه الايمن وانه لا يزال في المستشفى لتلقي العلاج.
وقع السيد اليسون رايت على المحضر الذي نظم بشأن الابلاغ عن سرقة السيارة، بعد أضافة افادته التي جاء فيها :
ـ انه قد ترك ابواب السيارة مفتوحة. لان احداً لم يخطر بباله من ان شخصاً ما، يقوم بسرقة سيارة من امام نادي المحامين ؟! المحامون الذين هم يدافعون عن حقوق الهيئة الاجتماعية وعن تطبيق النظام والقانون.
عش الغرام
تواصل ذهاب مارلين وجيمس الى عش الغرام. يكرعان كؤوس الهوى والوصال، يلتقيان في ذلك البيت الجاهز على ضفاف بحيرة الضباب وكأنهما في معزل عن العالم كله، طيلة الاشهر الماضية.
كانا شديدي الفرح عندما حل يوم العشرين من كانون الاول (ديسمبر) حملاً معهما رزماً من لفائف الطعام وتوجها نحو عشهما، يربطهما الحب المتأجج بينهما.
ضحكت مارلين ضحكة غريبة !! تحولت الى نشيج. اخذها جيمس بين ذراعيه، قربها بجانبه على السرير. اختفى نشيجها تدريجياً.
تدمع عيون الكثيرات من النساء ايام الفرح والحزن، لما تحمله المرأة من عاطفة جياشة داخل نفسها وعقلها وقلبها وروحها. كما ان بعض الناس يحتفلون بعيد الحب، او بـ (يوم الحب) في 14 شباط (فبراير) (فيفري) من كل سنة ميلادية كذلك قد يطلق البعض على هذا اليوم بـ(يوم العشق) كما جرت العادة الى تقديم الهدايا وتبادل بطاقات التهنئة بهذا اليوم. وتجرى فيه احتفالات كبيرة اشبه بتلك الاحتفالات التي تقام عند حلول مناسبة دينية او وطنية او قومية.
حب وعشق وعناق. هذا ما اعتادا عليه مارلين وجيمس، وما يشعران به من سعادة حقيقية منذ اربعة اشهر منذ عرفاً طيب العناق وضمة الهوى واكتشفا بفضلهما العالم.
لم يكن يتصورا ؟! ان لقاء اثنين يمكن ان يخلق هذا الانسجام العميق الذي يريان من خلاله صورة الجنة الحقيقية كما ان وجود آدم وحيداً مع حواء في الجنة لا يقلل من قيمة عواطفه نحوها. فما اروع شيء هو ان تفتح القلب والفرحة والارتعاشة والاغنيات التي تخطر على الشفاه. احياناً كلمة واحياناً وردة.
ـ مارلين حبيبتي !
يقبلها وحالما تمس شفتاه شفتيها تمد ذراعها حول رقبته.
ـ جيمس. اني احبك. احبك
ويلتقيان بقبلة اخرى.
ـ وانا احبكِ ايضاً، والحب هو الحياة.
ـ وان الحب اولاً هو الفرحة التي تسري من الرأس الى القدم ويسري مثل الدم في العروق.
ـ مارلين، قلت لكِ ان الحب يمنح الإنسان السعادة. ويجعل الفرحة تتمشى في عروقه. لقد كنت ساعتها جاداً غير انه يخيل للانسان ان الحب يتكاثف مع مرور الايام. ويشتعل في الدم، ثم يصبح ثقيلاً يصعب حمله. ويضيق المرء حتى يتمنى ان يتقاسمه مع غيره.
ـ لقد تقاسمت معك حمل هذا الثقل، هذا الحب وانت تعرف يا جميس ان حياتي، هي حياة الاستقامة والورع.
ـ هذه هي الحقيقة الخالصة، وسيقوى حبنا بعد الزواج.
ـ اقول لك الحقيقة يا جيمس : اني احبك اكثر من حياتي.
ـ انظري الى عيني يا مارلين !! سترين اني احبك بجنون فلست زير نساء، بل محباً للحياة العائلية.
ـ الحياة معركة كبيرة، والمهم ان نعيشها بأقل قدر من الخسائر.
ـ لقد قررنا انا وانت كرجل وامرأة، ان نقضي بقيه عمرينا معاً فيجب ان تكون لدينا خطة واسلوب في الحياة.
ـ الحياة جامعة. نتعلم فيها الشيء الكثير وكل ما نحن في حاجة اليه، هو ان يحب كلانا الاخر حباً سليماً.
ـ كما سنبقى دائماً محبين للخير والانسانية غداً عند حلول المساء سنزوركم انا ووالدتي لطلب يدك من والدك واعلان خطوبتنا. انني احبك واريد ان تكوني زوجتي.
ـ اننا معاً منذ اربعة اشهر، ترى كيف اشرح لك الامر ؟؟
ان نتزوج بل الواقع انني اصبحت زوجتك فعلاً!!
ـ خير زوجة فاضلة ووفية وقربك مني يكمل حياتي ويملأ فراغ قلبي.
ظلت مارلين تتقلب فوق السرير وهي راقده بجانب جيمس ثم التقى جسداهما بعد ذلك، وسقط شعرها الذهبي ليضع ستاراً بينها وبين وجه جيمس. ولم تعد تبالي الصراخ، الالم، الاوجاع، لم تؤثر فيهما. لقد كانا في عالم آخر ؟!
غائبين في خلوتهما منذ الظهر، بوافر السعادة التي ينعم بها العشاق. حتى هبوط الليل، الذي نشر رداءً من السكون الشامل.
خلطا المياه معاً الحارة منها والباردة، صار الماء دافئاً منعشاً لجسديهما، اغتسلا سويتاً، فقد اعتادا على ذلك منذ يوم تفجر الحب بينهما. ثم ارتديا ملابسهما ومعطفيهما. كان الليل قد جاوز منتصفه عندما غادرا البيت الجاهز.
ـ اه ! انظر يا جيمس ياله من منظر ساحر !! ما اجمل هذه الليلة النيرة المضيئة، فقد انقشع السحاب من السماء واشتدت اضواء النجوم، تنعكس على صفحة مياه بحيرة الضباب.
ـ كما تنعكس على صفحتها النجوم البعيدة. انظري كيف تتراقص على مياهها؟!.
ـ انظر الى القمر، وقد اكتمل بدراً كاملاً هذه الليلة
ـ انظري اليه كيف يرتعش ؟ في بقعه ذهبية ضخمة على مياه البحيرة الناعمة.
ـ اه !! يا حبيبتي مارلين. اصعدي الى السيارة لنسرع في العودة الى البيت. قد تأخرنا كثيراً هذه الليلة.
ـ نعم يا حبيبي جيمس. لنعود حتى لا نزعج هؤلاء النائمون، لندعهم ينعمون بنومهم واحلامهم تحت هذه المظلات الحمراء الضخمة، المنتشرة على طول شاطئ بحيرة الضباب
موت حب
اطل صباح اليوم التالي. لكن مارلين ظلت مستغرقة في نوم عميق. فقد اقتربت الساعة من التاسعة وهي لا تزال نائمه، ليس كعادتها، فهي تستيقظ مبكرة كل صباح.
اخذ القلق يساور مدبرة المنزل السيدة لوسي التي اخذت تسأل نفسها قائلة:
ـ هل تكون مارلين مريضة هذا اليوم ؟ سوف اصعد الى غرفتها، سأوقظها، ولو ان النوم صحة للانسان ! وحين فتحت عليها الباب نادتها بصوت هادئ قائلة:
ـ مارلين حان وقت القيام.
فتحت مارلين عينيها مقاومة اليقظة المفاجئة، تتلوى، ثم قفزت جالسة على السرير، يمتلكها رعب شديد من كوابيس واحلام !!.
فقد حلمت انها كانت تتجول داخل مدينة مجهولة خالية من الناس، شوارعها طويلة، نهاياتها مغلقة، مسيجة بأسيجة عالية شيدت من الطابوق الاحمر والجص.
اخذت تشعر بتعب شديد من كثرة المشي والبحث عن طريق الخروج من هذه المدينة انتابتها نوبة فرح قصيرة حين عثورها على شارع بدا لها قصيراً. لكنها فوجئت في نهاية هذا الشارع بنفق طويل وعميق تحت الارض ؟! اشبه بأنبوب ماء كبير القطر، طوله على مدى البصر ومن خلال نظرها الى الفوهة الكبيرة لهذا الانبوب لم ترى اية نهاية لهذا النفق.
عادت مسرعة، خائفة، يمتلكها رعب شديد من مدخل هذا النفق العميق تحت الارض!!
لكنها فوجئت بمنظر غريب اخر فوق الارض. فقد رأت ان الارض قد نثرت ببذور الكلاب. ثم نمت وكبرت وتكاثرت وامتلات بها الارض. كانت تشاهد كل هذا التكاثر التدريجي امام عينيها !!
يشبه تماماً زراعة الحنطة والشعير.
حتى صارت نهايات الكلاب البعيدة تلامس السماء، كتلامس نهايات مياه البحار مع السماء الزرقاء.
اشتد خوفها !! وهي وسط مليارات الكلاب التي احاطت بها من كل جانب ووضعتها داخل دائرة متساوية القطر بمقياس هندسي دقيق ومضبوط الى ابعد الحدود.
نهض من بين هذه الكلاب كلباً كبيراً ابيض اللون، ضخماً بضخامة الفيل او الحصان !!
تقدم نحوها الى وسط الدائرة التي ظلت محبوسه داخلها وقف الى جانبها ثم اخذ يدور حولها كأنه يقوم بحراستها.
بينما اخذت بقية الكلاب تنظر اليهما، الى مارلين والكلب الابيض الضخم، وهي خائفة، مذعورة من هذا الكلب الابيض الضخم، دون أي نباح او عواء ! بل بقيت جميعها صامته !
ومهما يكن التشابه البصري بين الحلم وعالم اليقظة، فأن الصور في عالم الحلم تكون مغايرة. ففي اليقظة عادة ان نهمل هذه الغرابة التي تترأى لنا في الاحلام.
اخذت مارلين تجمع افكارها، ففي الادراك الحسي والمعرفة والعاطفة يمكنها الوصول الى حقيقة الاحلام، او حتى الاقتراب من هذه الحقيقة ؟!
فهل هذا السرير الذي تجلس عليه الان هو نفس السرير الي كانت تنام عليه في الليلة الماضية مع جيمس ؟؟
لقد كانت في الامس تتمتع عليه متعة الاحلام الحقيقة.ذلك السرير الذي فتح الباب على مصراعيه امام رغباتها الجنسية التي ظلت مكبوته سنين طوال.
عادت مدبرة المنزل الى صياحها من الطابق الارضي:
ـ مارلين فطورك جاهز على المائدة، هيأت لكِ قهوة ساخنة وزبد وخبز محمص
ـ طيب وشكراً يا امي.
ابعدت عنها الاغطية وقذفت بساقيها خارج الفراش، لبست خفيها وردائها المنزلي.
انشغلت بفرشاة اسنانها امام المرآة المعلقة فوق حوض الغسيل.
كان عمل مارلين في المنزل كثيراً هذا اليوم. بحيث لم تسنح لها فرصة الاتصال بجيمس. فقد قامت بتغيير كل الستائر المسدلة على نوافذ المنزل، واستبدلتها بأخرى جديدة. زينت شجرة عيد الميلاد وجربت أضاءتها، ثم نظفت غرفة المكتب، ووظبت خزائن المكتبة بالكتب القديمة والحديثة، ورتبت طاولة المكتب وما منثور عليها من اقلام ومحابر ومصباح منضدي ومنفضة السيكاير. كما وزعت الزهور الطبيعية العطرة في غرف المنزل. وضعت شجرة عيد الميلاد في غرفة الاستقبال، تلك الغرفة التي كانت مفروشة بأثاث جميل ومرتبه بشكل بالغ الاناقة.
عند حلول المساء. وقف الدكتور جورج هامر متأملاً المصابيح المضاءة حول شجرة عيد الميلاد وباقات الزهور العطرة. اخذت هذه العطور تهز عواطفه وتحركها، وتثير في ذاكرته ذكريات عذبه حفل بها ماضيه. وترجعه الى الايام الخوالي السعيدة التي قضاها مع زوجته ايام كانت لا تزال على قيد الحياة.
نزلت مارلين الى قاعة الاستقبال. تغمرها الفرحة بكل بهجة وانشراح، ترتدي فستاناً جديداً تزين وجهها بمساحيق تجميل فاتحة اللون. عند اقترابها من المصابيح النيرة، اخذ وجهها الفتان الناصع البياض يبرق وهجاً مضيئاَ فسفورياً طويلاً، ينير بحراً من الظلمات.
ظل الفرح مشرقاَ على وجهها، والابتسامة الخفيفة الهادئة لم تفارق شفتيها، وهي تستعد لاستقبال مناسبتين مهمتين عزيزتين ومؤثرتين تأثيراً عميقاً في حياتها !! بعد ايام قليلة يطل عليها عودة الميلاد، وخلال دقائق معدودات يطل عليها جيمس ووالدته طالباً يدها من والدها للزواج واعلان خطوبتهما رسمياً وامام الجميع.
مضت ساعة على موعد حضورهما، ومارلين لا زالت تجلس في غرفة الاستقبال
تطمس نفسها بمقعد قبالة باب الدخول الرئيسي تنتظر حضور جيمس ووالدته. لكنهما !!
لم يحضرا حسب الموعد الذي حددته مع جيمس. وهو الساعة السابعة من مساء هذا اليوم.
بقيت صامته يكتنفها الوجوم. فقد اخذت الساعة تقترب من التاسعة ولم يحضرا؟! اخذ يساورها قلق شديد لعدم معرفتها سبب هذا التأخير؟؟ فقد استجد لديها سبب اخر زاد من قلقها وعذابها النفسي اثناء هذه الفتره من الانتظار. اخذت تلوم نفسها عن تقصيرها في عدم ابلاغ اهلها عن موعد الزيارة. فهي لم تبلغ والدها بل لم تبلغ حتى مدبرة المنزل التي تعتبر بمثابة امها الثانية، والتي تناديها دائماً بـ ( امي ) وليس بأسمها الحقيقي (لوسي) رغم انها كانت امرأة جميلة وفي نحو الاربعين من العمر. كان من المفروض عليها ان تخبرها وتفاتحها منذ اليوم الاول لعلاقتها مع جيمس لكنها !! احتفظت بعلاقتها سراً، ولنفسها وحدها، وخزنته داخل قلبها وعقلها الى يومها هذا. سابحة في بحر من احلام اليقظة !!
تتقاذفها امواج ذكريات الماضي وحياتها الحاضرة. متأملة شجرة عيد الميلاد. وكيف كانت توضع اسفلها الهدايا الكثيرة ؟؟
انواع اللعب والحلوى.. تتأمل فرحها الشديد وهي تفتح هذه الهدايا ذلك الفرح الذي كان يتفجر من القلب، قلب الطفلة البريئة، تلك القلوب البيضاء، التي لا تعرف الكره او الحقد او الحزن او الالم.
قطع حبل تفكيرها طرقاً شديداً على الباب. عندما فتحته كان الطارق اخيها المحامي هنري. وهو بحالة رعب شديد يرتجف اصفر اللون. فبادرته مارلين قائلة:
ـ ما بك يا هنري ؟ ماذا حدث لك ؟
ـ بينما كان الكثير من الناس في السوق الكبير، يتسوقون استعداداً لاستقبال عيد الميلاد ورأس السنة الميلادية الجديدة، والمحلات الجميلة التي اضيئت وزينت احتفالاً لهذه المناسبتين، انفجرت سيارة مفخخه في الشارع الجانبي امام مكتبه سافير وقد اسفر هذا الانفجار عن مقتل 27 شخصاً على الفور وجرح العديد من المارة انه عمل ارهابي خطير. وقد اقامت الشرطة الحواجز على الطرق كما نشرت الحوامات (طائرات الهيلوكبتر) بحثاً عن منفذي الهجوم الذي تعتقد الشرطة انهم فروا في سيارة ثانية بعد ان وضعوا السيارة الملغومة امام المكتبة. وتردد ان رجلان شوهدا يوقفان السيارة الملغومة ثم يغادران المنطقة قبل وقوع الانفجار بقليل. وقد نجوت من الموت بأعجوبة !! لانني كنت ماراً امام محل قريب من مكان الانفجار ساعة وقوعة.
وفي هذه الاثناء دق جرس الهاتف فالمتحدث هو السيد اليسون رايت الذي اكد للمحامي هنري بأنه قادم بعد ساعة ليصحبه بسيارته الى مركز الشرطة. فقد طلبوا منه الحضور فوراً. لاسباب ضرورية وهامة يجهلها؟!
ولدى وصولهما الى مركز الشرطة. وجهت التهمة الى السيد اليسون في الاشتراك بتفيجر السيارة الذي وقع هذا المساء !!
حيث تم العثور على لوحة ارقام سيارة تعود ملكيتها اليه والتي تحمل الرقم 1221 أم. اج.
بعد اطلاع المحامي هنري على محاضر التحقيق. تبين له ان اقوال الشهود مختلفة:
يقول القسم الاول منهم : ان لوحة الارقام قد خلعت من السيارة بسبب قوة الانفجار.
اما القسم الثاني فيقول : سقطت لوحة الارقام من سيارة كانت تسير بسرعة شديدة.
والقسم الثالث يقول : رميت لوحة الارقام من سيارة كانت تسير بسرعة.
بعد تقديم الادلة الدامغة، والتي تثبت بأن سيارة السيد اليسون رايت قد سرقت منذ قرابة ثلاثة اشهر وبعد التأكد من وجود ابلاغ عن السرقة ووجود محضر تحقيق سابق عن حادث السرقة التي تمت في الساحة التابعة لنادي المحامين.
قرر القاضي اخلاء سبيله بشرط ان يقدم تعهداً خطياً بعدم مغادرة مدينة مودرن هوم الى الخارج خلال الستة اسابيع القادمة حتى يمكن حضوره في حالة ورود اية ادلة جديدة عن هذه الاحداث.
وحيدة بلا امل
تلقت مارلين نبأ الأنفجار بهدوء محير وبرباطة جأش اول الأمر. اتصلت بمطعم المكتبة تلفونياَ. لكن رنين جرس الهاتف يدق دون اجابة ؟! وهذا ما أثار لديها الكثير من التساؤلات : ما اثقل هذه الليلة ؟
كيف ستصلين الى المكتبة في مثل هذا الوقت من الليل.
لم القلق قبل الأوان؟
اخذت تذرع الغرفة بخطوات بطيئة محددة. صار بقائها في البيت دون معرفة تفاصيل الأحداث التي جرت امام المكتبة امراً لا يطاق !!
وهذا ما يعتقده كل انسان عندما يبلغ به القلق اشده . اخذت تحدث نفسها قائلة :
ربما كان لدي الصبر، ولكن ليس لدي متسع من الوقت ؟ لابد من الإسراع فالوقت لا يحتمل أي تأجيل.
حملت معها مفتاح الباب الرئيسي للبيت، وطلبت من سائق سيارة الاجرة ا الاسراع بها نحو مكتبة سافيير قرب السوق الكبير. حال وصولها الى المكتبة رأت الطابق العلوي مظلماً.
فقد اغلق المطعم هذه الليلة. عكس الليالي السابقة التي يبقى فيها مفتوحاَ حتى ساعة متأخرة من الليل. لكن ضوءاً خافتاَ كان ينبعث من خلال الزجاج المحطم لغرفة الحارس التي يقيم فيها عند سلم الصعود الى المطعم. دقت باب المطعم بعنف ! وعلى الفور، ظهر اليها الحارس، لابد انه كان ساهراَ حتى هذه اللحظة. سألته قائلةَ:
ـ اين أستطيع العثور على السيد جيمس الأن ؟؟ لدي موعد هام معه.
اجابها الحارس بتأتأة قائلاً :
انه المرحوم جيمس !! وقد سجيت جثته في البيت هذه الليلة، تحيط بها الشموع وأكاليل الورود !! فقد كان احد الضحايا الذين سقطوا اثر انفجار السيارة الملغومة قرب المكتبة.
جفلت مارلين حين سماعها هذا الخبر الأليم،وانفجرت باكية بدموع فظيعة !!
عادت مسرعة الى سيارة الاجرة التي بقيت في انتظارها.وفي صباح اليوم التالي.اتصلت بالمستشفى وطلبت منحها اجازة عن العمل ولثلاثة ايام.لبست ملابس الحداد السوداء، تخيم على وجهها ظلال الكآبة والحزن والخوف !!
لفقدها حبيبها وزوج المستقبل جيمس. حزنت كثيراً لانها بقيت وحيدة بلا امل.
شاركت عن بعد، بمراسيم التشيع والدفن والعزاء …
آنساها حزنها كل الفرح الذي كانت تستقبل فيه عودة الميلاد. فقد كان مقتل جيمس المفاجئ بانفجار سيارة مفخخة بالنسبة اليها مصيبة كبرى.حتى ان عقلها كان يرفض الإقرار بحدوثها. حزينة، متأملة ,باكية، تزوره كل يوم جمعة، تقف أمام القبر، تناديه :ـ
ـ جئتك بهذه الزهور يا حبيبي جيمس !!
امرأة ... تقاوم الارهاب
برزت الى المجتمع امرأة نبيلة يشار اليها بالبنان.
فقد نالت هذه المرأة الشهرة والإعجاب من الجميع. انها ليست بطلة سينمائية او ملكة جمال او أميرة !! فهي مخلوقة نبيلة، وزوجة وفية، وآم حنون.
ادت كل فروض المرأة رغم تقدمها في السن. انها السيدة ماري سافيير، والدة المرحوم جيمس، ام ثكلى،قادت حملة شعواء للتنديد ببشاعة الأعمال الإرهابية،وفي كل المحافل الاجتماعية،خاصة عند حضورها اجتماعات الجمعيات النسائية التي تنتمي اليها.تندد بهذه الأعمال التي يذهب ضحيتها الكثير من الابرياء. مرددة أقوالا مأثورة منها :ـ
- اذا كان الشر موجوداً على الأرض فالإرهاب اقبح أنواع هذا الشر.
- ان الإرهابي يحمل روح عمياء، ليس لديه أي احترام للحياة البشرية.
- ان الأعمال الإرهابية في العالم، أعمالا تقترف ضد حقوق الانسان في الحياة.
- فلو أعطيت الحقوق كاملة الى المجتمع الإنساني فلن تبقى هناك آية أعمال إرهابية في العالم، وسيعاقب أي إنسان بقوم بهذه الأعمال، اشد العقوبات في العالم كله.
- ان الارهابي يعتبر خارجاً على قانون التآلف الانساني وفاقداً لكل الاعراف والخلق الانسانية.
- ان الأعمال الارهابية تعود بالإنسانية الى الوراء، تعود بها الى عصور الظلم والظلام
اثمرت هذه الحملة الى دفع رجال الشرطة في تكثيف جهودهم بالبحث عن الجناة الحقيقيين لاعمال الارهاب.فقد تم فك اللغز المحير عندما تم العثور على السيارة المسروقة العائدة للسيد اليسون رايت حيث عثر عليها متروكة في مرآب قديم على اطراف مدينة نيو هوم، وقد صدمت من المقدمة، والتصقت بسيارات محطمه اخرى.
لكن الشرطة وجدت لوحة ارقام الجهة الامامية سليمة ولا تزال مثبته على نفس السيارة. كما عثر بداخلها على اوراق ملكية السيارة، واجازة السياقة العائدة للسيد اليسون رايت.
اغلق ملف قضية سرقة السيارة، كما الغى قاضي التحقيق تهمة الاشتباه بمشاركة السيد اليسون رايت في قضية السيارة المفخخة.
لكن ! البحث والتحقيق مستمران في كشف الفاعلين الحقيقيين لهذا العمل الارهابي الذي ادى الى مقتل 27 شخصاً قبل ثلاثة ايام من حلول اعياد الميلاد.
لقاء في المقبرة
نزلت السيدة ماري سافيير من سيارتها الخاصة امام الباب الرئيسي للمقبرة التابعة الى كنيسة القيامة. كانت تحمل معها باقة من الزهور. سألت حارس البوابة عن موقع قبر ولدها جيمس سافيير ؟ الذي دفن في هذه المقربة قبل ثلاثة اشهر.
اجابها الحارس قائلاً : ـ
ـ الطرقة 21، القطعة 12، المقبرة رقم 88 وهناك زائرة عند القبر، حضرت قبل قليل.
سألته مستغربة :
ـ من تكون هذه المرأة الزائرة ؟
ـ اجابها ببرود :
ـ اعتقد انها زوجته، فهي تحضر لزيارة القبر كل اسبوع.
ـ شكراً، شكراً.
عند اقترابها من القبر بقليل، رأت امرأة شابه متشحه بالسواد، تلتهم قضمه كبيرة من باقة ورد ذابلة !!.
اندهشت السيدة مارى من هذا المشهد الغريب الذي تقوم به هذه المرأة النائحة الغريبة على قبر ولدها؟!
ولدى وصولها امام القبر تماماً شاهدت على بلاطة المرمر إكليلا جديداً من الزهور التي تشع منها كل الوان الربيع ! وضعت إكليلها بجانبه بحركة جميلة، ثم جثت على ركبتيها ترسم علامة الصليب، اخذت تقرأ بصمت في كتاب قداسها الذي جلبته معها، لانها كانت مناسبة ملائمة.
عندما أنهت القراءة، استدارت الى المرأة التي لا زالت تتأمل القبر. القبر الذي دفن فيه اعظم آمالها، واقوى سر في حياتها ! وهي تردد بهمس قائلة.
ـ ارقد بسلام يا حبيبي جيمس !! ثم رسمت علامة الصليب على صدرها.
عند ذلك، عرفت السيدة ماري ان هذه النائحة قد أنهت صلاتها، فتحدثت اليها قائلة:ـ
ـ انه لعطف منكِ، ان تضعي الزهور على قبر ولدي.
ـ والدة جيمس !! انه لامر رائع ان أراك.
انا مارلين، مارلين جورج هامر، كانت تربطنا علاقة قوية، علاقة حب قوي للغاية، لقد كان حبنا، حباً حقيقياً لا تشوبه شائبة.
ـ لقد اخبرني رحمه الله في الليلة السابقة لوفاته، انه سيفرحني بمفاجئة سارة غداً؟!
لكني صدمت بنبأ محزن في اليوم التالي.
ـ لقد كان ذلك اليوم مقرراً لاعلان خطوبتنا كما حددنا ان يكون الزفاف بعد اسبوع. لقد وضعتني وفاته في حيرة تامه. كان موته فاجعة كبيرة.
ـ كلامك صادق وصحيح. فقد سلمتني الشرطة حاجياته الشخصية التي كان يحملها معه في ذلك المساء المشؤوم وكان من ضمنها علبة مجوهرات تحوي طقم كامل نسائي من الذهب الخالص.
فجأة ! اخذت مارلين تتقيأ بشدة. اخذت تشعر بألام في البطن، زاد الالم اكثر فأكثر. سارا معاً، بعد ان انهيا زيارتهما للقبر. حين وصلا الى خارج بوابة المقبرة الرئيسية. قالت السيدة ماري:
ـ مارلين سأخذك بسيارتي الى المستشفى.
لدى وصولهما الى المستشفى استقبلتا بكل حب واحترام، واجريت لمارلين الفحوص الطبية اللازمة بجهود قيمة وعناية فائقة بذلت من قبل الطبيبات والممرضات وكل العاملين زملائها في المستشفى. ولما رأت السيدة ماري كل هذا الاهتمام الزائد بمارلين استأذنت وغادرت المستشفى.
بعد ساعتين تحسنت صحة مارلين وهي راقدة على السرير المخصص للحالات الطارئة. ذهبت بنفسها لاخذ نتائج التحاليل لعينات الدم والبول التي اخذت الى المختبر
الرئيسي داخل المستشفى. تملك روحها شعوراً لا تعرف له اسماً ولا اساساً. احساس يستعصي كل تحليل. عند ظهور نتائج التحليل الذي كشف :
انها حامل وتعاني من فترة الوحام !!
حين عرفت مارلين انها حامل، كانت شفتاها، شفتاها الجميلتان ترتجفان، وكانت الدموع تتجمع في عينيها العذبتين الصافيتين. اسودت الدنيا في عينيها، شعرت انها تسير وسط ظلام حالك السواد.
هل انطفأت الانوار داخل المستشفى؟؟
مدت يدها الى صدرها، الى داخل حمالة ثدييها، تخفي ورقة نتائج التحاليل التي استلمتها من المختبر. شعرت ببعض الراحة ان السيدة ماري لم تعرف هذا الموضوع فقد غادرت المستشفى قبل ظهور النتيجة.
راودتها فكرة الانتحار !! سارت الى الممر الذي ينعطف نحو السلم والصعود الى سطح المستشفى ورمي نفسها من الاعلى الى الارض واللحاق بحبيبها جيمس. لكنها تراجعت عن هذه الفكرة تجنباً من الفضيحة.
فقررت اخيراً هجر بيت والدها. لتدفن نفسها بأحدى الغرف الملحقة بالمستشفى لسكنى المقيمين. تدفن سر حملها. شاردة العينين بين حيطان الغرفة وسقفها. ساهرة الليالي في عزلتها الشديدة ووحدتها الحزينة.
* * *
تتمثل الصعوبات الخارجية بالظواهر التي نطلق عليها صفة الكوارث والفواجع التي نشاهد اثارها في البراكين والزلازل والاعاصير. والحق، ان النتائج الاليمة التي تخلفها هذه الصعوبات الخارجية ظاهرة للعيان. فهي تدمر ما بناه الانسان وتزهق ارواح العديدين وتترك وراءها البؤس والتعاسة.
وفي هذا الأختبار يتجاوز الإنسان الصعوبة لأن طاقته الداخلية تفعل على نحو واف، وفي التجربة يقبع الإنسان في ظلام ذاته دون ان يكون قادراَ على تجاوز الصعوبة فيخلق المصيبة بعجزه المتكرر.
اخذت اشباح المصائب تلاحق مارلين في يقظتها ونومها !! تصيح وراءها ، تصرخ في وجهها، تمزق اذانها، تدمر كيانها، من داخلها، سامعةَ صوت الأشباح، في الليل والنهار وهم يصيحون قائلين :
ايتها الحامل بدون زواج !!
ان حبها لجيمس، قد اوقعها بهذه المصيبة !!
الحب الذي كان ثمرته هذا الحمل. الحمل الذي جلب لها كل هذا البلاء والعزاء والاحزان. فقررت فيها ان الحياة المادية ليست ادنى قيمة، لا وجود لها. تسلحت بهذا المبدأ، فكونت لنفسها وجوداً معتزلاً متقشفاً، غريباً، موحشاً.
هجرت بيت والدها منذ ان اخذت اعراض الحمل تظهر باديه للعيان، فقد كبرت بطنها. قررت الحكم على سجن نفسها داخل المستشفى ! في وحدة وعزلة عن الناس وضعت نفسها داخل سجن انفرادي بأحدى الغرف الملحقة بالمستشفى.
عقوبة لعاطفتها الجياشة وحبها القوي لجيمس اللتين دفعاها الى تسليم نفسها اليه بكل رضا قبل اتمام مراسيم الزواج امام الناس.
لقد اعتبرته نوعاً من اعمال الزنا !!
اليس الزنا خطيئة العن من القتل؟؟
اليست المحافظة على الاصول والشرف هو جوهر سلالة عائلتها؟؟
نصب تذكاري
كانت الاحداث المأساوية التي جرت يوم انفجار السيارة الملغومة بالمتفجرات مدعاة كآبة وحزن للعوائل الثكلى، ممن فقدوا ابناءهم واخوانهم واحباءهم واصدقاءهم، اثر هذا العمل الارهابي !! فلم ينسوا احبابهم الذين يموتون ويدفنون بسرعة. انها الذكرى التي لا يستطيع أي شيء ان ينساها. ومن تقاليد مدينة نيوهوم التي طالما تساءل القراء والنقاد عن جديتها ايضاً تلك العادة المتبعة في احياء ذكرى الموتى فقد اخذوا يوقدون الشموع بنفس المكان الذي وقع فيه الانفجار، بجوار السوق الكبير. عند مغيب الشمس. عندما تحل هذه الذكرى كل عام. كما يقيمون صلواتهم وطقوسهم الخاصة على ارواح الموتى وبنفس المكان ايضاً توقد فيه الشموع لتضيء الانوار في تلك الليلة ذاتها.
لانهم يرون ان النور القوي يشتتت الفكر، بينما يساعد الضوء الخافت الهادئ على تركيز الذهن، ويهيئ الجو للعبادة. فقد اخذ عدد الحضور الى المكان يزداد سنة بعد اخرى وفي نهاية السنة السابعة لهذه الذكرى اقيم نصب تذكاري في نفس المكان. ادرجت فيه اسماء الضحايا البالغ عددهم 27 شخصاً مع تأريخ ميلاد كل منهم، لتبقى خالدة في الذكرى، والذكرى تدوم الى الابد لا تنسى.
حضر حفل افتتاح النصب التذكاري كبير قساوسة كنيسة القيامة وعمدة المدينة وعدد اخر من وجهاء المدينة. كما حضرها ايضاَ العديد من عوائل الضحايا واقربائهم واصدقائهم. فأستهل الاحتفال بأناشيد شجيه قدمتها جوقة كنيسة القيامة.
ثم القيت العديد من الكلمات والاشعار بهذه المناسبة وكان من ابرزها خطبة كبير قساوسة كنيسة القيامة التي جاء فيها :
في اليوم الثالث،(بعد ثلاثة ايام) وفي مثل هذه الليلة قبل نحو الفي سنة. ولد رسول الانسانية في مذود، وشب بين الدهماء، وعانى ما كان يعانيه ابناء قومه من ظلم الاقربين والابعدين.
واحس بالام البشريه في سلسلة من النكبات تبدأ بالاستعمار الروماني الذي كان يسود العالم المتحضر يوم ذاك، وتنتهي بكهان اليهود المعادين، وانصارهم الفريسيين المرائين، فكان نبي الرحمة، ونصير المظلومين ومؤاسي المسحوقيين والمحرومين، وكانت تعاليمه المغرقة في الانسانية والتسامح في ذلك الزمن المغرق في الهمجية والعدوان، كشهاب من السماء انار ظلمات ليل داجٍ.
واستطاعت قوى الشر ان تقضي على جسد السيد المسيح ممزقاً معذباً على الصليب صار رمزاً للفداء والعطاء.
واننا اليوم نستذكر اولئك الضحايا الابرياء. نندد ونستنكر كل هذه الاعمال الارهابية التي تقترف ضد الانسانية وعلينا ان لا ننسى ان سفك الدماء في الكتاب المقدس هو مساس بأقدس المقدسات.
كما القى عمدة مدينة نيو هوم كلمة بعنوان : مخاطر الارهاب الدولي الجديد. جاء فيها ما يلي:ـ
يولد الانسان خالياً من اية افكار او عقائد يسير عليها في الحياة (ينزل الانسان الى الارض خالياً فكرياً) اشبه بجهاز حاسوب (كومبيوتر) جديد. لم يتغذ (يزود) بعد بأية معلومات.
وهذا الانسان الحديث الولادة … المولود الجديد في هذه الحياة تكون بشرته (لون جلده) احد الالوان الرئيسية لبشرة الانسان فوق كوكب الارض البيضاء، السوداء، الصفراء، الحمراء ولكن !! تكون كل اعضاء واجهزة هذا الجسد الانساني هي نفسها لدى كل البشر، متشابهة، متساوية العدد بين كل انسان واخر. من الرأس الى اخمص القدمين، من الظاهر للعين المجردة، او المخفي داخل جسم الانسان.
منذ النشأة الاولى للمجتمع الانساني، وتطوره حتى اليوم وقعت الكثير من المنازعات والحروب بين ابناء البشريه وفي العديد من مناطق العالم. على الرغم من تطور العقل البشري !!
وازدهار الحضارة الانسانية فوق الارض. الا ان هذه النزاعات والصراعات لم تحل الى يومنا هذا ؟! رغم تطور العقل البشري الذي اشرنا اليه انفاً. ان بقاء هذه النزاعات والصراعات معلقة دون حل يولد الارهاب.
ان حل كافة النزاعات والصراعات في العالم وبطرق سلمية وعادلة ومنصفة للجميع، هو من اولويات القضاء على الاسباب الحقيقة التي تؤدي الى اعمال الارهاب الدولي على ان تبدأ مرحلة انسانية جديدة في تربية الجيل الجديد وتثقيفه وتعويده على حب الخير للجميع دون تمييز او كراهيه بسبب لون البشرة، او الجنس، او العقيدة، او الدين.
ان بعض المجتمعات الغنية قد اختارت طريق تكديس الثروات الماديه الى غير حدود على حساب البلاد الفقيرة في العالم. فأن شعوب البلاد الغنية لن تجني في النهاية الا الافلاس المعنوي والضياع الروحي، واحتمالات اعمال ارهابية دولية جديدة في وقت بات الدمار الذري الشامل يهدد البشرية بفناء ذريع.ان اعمال الارهاب هي اسوأ الانتهاكات لحقوق الانسان. ندعو الجميع الى احقاق الاخوة والعدالة والمساواة بين الشعوب.
* * *
عند ازاحة الستار عن النصب التذكاري نحر عجل سمين ابتهاجاً بهذه المناسبة، ووزع لحمه على المحتاجين من الارامل والايتام. كما وزعت المشروبات والحلوى للسيدات والسادة وكافة الحضور الاخرين الذين شاركوا بهذا الحفل بينما كانت النسوة قد اقعين على ركبهن يرسمن على صدورهن علامة الصليب والرجال يرفعون قبعاتهم من على رؤوسهم. وهم يتأملون اسماء الضحايا المحفورة على جانبي الصليب وسط النصب التذكاري ومن اعلى الواجهة للنصب بعيون حزينة ودامعة. دموعاً حارة. دموع العوائل الثكلى.
كان من بين الحضور السيدة ماري والدة المرحوم جيمس، كما حضرت الاحتفال السيدة مارلين تصطحب معها طفلها الذي يقارب سبع سنوات من العمر.
اول يوم تطلق فيه سراح نفسها من زنزانتها التي سجنت نفسها فيها وعاشت فيها بمعزل عن المجتمع.
ظل الطفل جالساً بينهما. بين السيدتين ماري ومارلين اخذ الحزن يتلاشى من قلب السيدة ماري رويداً، رويداً فقد استلفت انتباهها شكل هذا الطفل؟!.
فهو يشبه ولدها المتوفى جيمس ! كان الشبه كاملاً وضعت يدها علىرأسه، تمسح شعره. قبلته من يديه ووجنتيه بحرارة ولمرات عديدة. شعرت بجاذبية تسحبها اليه بقوة، ذبذبات تنبعث من اعماق روحها ونفسها وقلبها وعقلها !!
فجر بركاناً هائلاً ذاب كيانها، تصاعدت ضربات قلبها المثخن بالجراح، المليء بالهموم والاحزان. ازداد تعلقها وحنانها وحبها المفاجىء عندما عرفت ان اسمه جيمس.
لم تكن هذه مشاعر انسانية عابرة او مؤقته. فقد صار الطفل جيمس يعيش في قلبها فقد استبقى لنفسه ركناً سرياً في غور قلبهاٍ. اخذت تحدث نفسها قائلة :
ـ سبحان الخالق !! هل بعث ولدي جيمس الى الحياة من جديد؟
لقد كانت مناسبة هذا الاحتفال مثيرة جداً. مصادفة غريبة جمعت السيدتين ماري ومارلين والطفل جيمس بعد مرور كل هذه السنين الطويلة !! وقد اشيد بجهود الاشخاص الذين ساهموا في تشييد هذا النصب التذكاري للضحايا. كما عبروا عن فرحهم بهذا الانجاز العظيم.
عند مغادرة موقع الاحتفال ظلت السيدة ماري تمسك ذراع الطفل جيمس ثم قالت لمارلين بكل حماس وحرارة :
ـ عزيزتي مارلين. ادعوك لزيارتي. بيتي مفتوح لك ولابنك في أي وقت تشائين فيه المجيء. هناك اشياء اخرى اثارت اهتمامي لدرجة كبيرة ؟!
ـ سوف ازورك في اقرب فرصة ممكنة.
العناية الآلهيه تهشم رأس الارهاب
بعد مرور 48 ساعة على افتتاح النصب التذكاري للضحايا. والجميع في نيوهوم ينتظرون عودة الميلاد بتلهف وفرح عميقين.
كانت السيدة ماري ! الام الثكلى ! حزينة، ملازمة البيت منذ افتتاح النصب الذي حفر عليه اسم ولدها الراحل جيمس وفي مقدمة اسماء هؤلاء الضحايا.
فقد اخذت الافكار تتصارع داخل ذهنها، ذاكرة. صورته، صورة وجه الطفل ابن مارلين التي ظلت ماثله امام مخيلتها. لقد ولد هذا الطفل يتيماً !! لان عملاً من اعمال الارهاب سلب اباه، كما سلب كل حقوقه الانسانية والشرعية والقانونية في الحياة. حتى المسكينة امه ! السيدة مارلين، فقد الزمت نفسها بحداد قاسٍ. وهذه المأساة ليست مأساة شخصية او فردية فحسب، بل انها مأساة انسانية عالمية، حتى يستقر ميزان العدالة على اسس صحيحة في العالم.
استمر هطول المطر هذه الليلة بالشدة نفسها التي كان عليها قبل منتصف الليل، والسيدة ماري لا زالت مستلقية على فراشها، مضطربة، لازمتها نوبة ارق شديد.
اخذ الرعد يقصف، والبرق يسطع. انقطع التيار الكهربائي فجأة. اخذت تبحث عن علبة الكبريت في المطبخ. فور العثور عليها اضاءت الشموع الموضوعة فوق الشمعدانين الفضيين. ازدادت عليها حالة الكآبة والحزن والخوف !
اخذت ترسم على صدرها علامة الصليب وهي تنظر الىصور الشهيدين !! زوجها وولدها، الاب والابن. فوالد جيمس قد قتل لما كان ضابطاً اثناء الحرب الماضية، وجيمس قتل بريئاً بعملية ارهابية مجرمة !!
استمرت في النظر الى صورتي جيمس ووالده، المعلقتين على الحائط قبالة الشمعدانيين، صورتاهما ضخمتان ، وعلى كل اطار شريط اسود في اسفل الصورة وعلى يمينها.
قلقت كثيراً ؟! اخذت تسمع اصواتاً غريبة ! بدأت الاصوات حينئذ تتصاعد، كأن سلم الاصوات بات عاجزاً، اذ لم يبق لها امل سوى قوتها، حتى تحولت الى صراخات، يحاول صراخ، ان يتغلب على صراخ، وان تطغى عليه … ثم اختفت فجأة كلها معاً، تاركة المجال لواحد منها اقواها واعلاها …
جاءها هاتف عبر النافذة التي فتحت من شدة الريح، لقد كان هذا الصوت معروفاً لديها، فهو صوت ولدها جيمس !! لقد ميزته وعرفته، اخذت روحه الطاهرة تتكلم وهي ترفرف فوقها في هذه الليلة الممطرة، الحالكة السواد
ـ (( يا امي. يكفي البكاء. يكفي العزاء. ان دموعك ودموع مارلين التي ذرفت قبل يومين، قد تحولت الى رصاص حقيقي لبندقية هشمت رأس من دبر قتلي. انه ديفيد منشي، كما انتحر نائبه عزرا حسقيل غرقاً. افرحي يا امي. فقد اخذت رؤوس الارهاب تتساقط الواحد تلو الاخر. لقد اعترفا الان بكل جرائهما امام القاضي الاكبر)).
ـ ياللسماوات ! اتظنون ان اعمالاً شريرة كهذه يمكن ان تمر دون عقاب ؟
ـ (( امي العزيزة. اوصيك خيراً بزوجتي مارلين وولدي جيمس، ارجو ان تهتمي وتعتني بهما. انقل اليك هذه البشرى ))
ـ (( ستطهر الارض من الارهابيين، ولن يبقى الا الشرفاء الذين يدافعون عن حقوقهم المغتصبة لأعادة بناء المجتمع الانساني على اسس جديدة من السلام والعدالة والانصاف )).
- امين، امين، امين.
زيارة
نور الصباح يولد رويداَ من ظلمة الفجر. بينما الضباب كان يتكاثف. ورغم ضعف الرؤيا فقد وزعت الصحف الى كافة المكتبات والأكشاك وعلى الباعة المتجولين في مدينة نيوهوم ايضاً. وقد نشرت الصحف هذا اليوم العديد من الاخبار المنوعة عن حفلات الاعراس والمأتم وتشييع الجنازات وانباء الاستعدادات للاحتفال بحلول عيد الميلاد ورأس السنة الميلادية الجديدة. كما نشرت صحف اخرى قضايا المحاكم والحوادث التي تقع في المقاهي والحدائق العامة والحمامات.
لكن باعة الصحف المتجولين كانوا يصيحون بأعلى اصواتهم !!
ـ افرأ تفاصيل اغتيال ديفيد منشي وانتحار نائبه غرقاً في بحيرة الضباب ؟!
انقشع الضباب حين اشرقت الشمس زاهية وضاءة، وانجلى الصباح مؤذناً بحلول يوم دافيء. كانت اضواء ذهبية تتكسر على الاراضي المشجرة. بينما ضباب خفيف يرتفع من المروج الممتدة في محيط منازل الطبيبات والممرضات والمقيمات بمستشفى الرحمة للولادة والاطفال. التي كانت مارلين احدى ملائكة هذه المستشفى فهي ممرضة وام تبدي للحياة البشربة احتراماً مقدساً لا حد له.
تظل ذكريات عنايتها بالاف الاجساد من المواليد شاخصة امام عينيها، وذكرى الزفرات والعبرات والانين تلقى ظلاً كئيباً على حياتها زمنا مديداً.
كان هذا اليوم يوم عطلة مارلين عن العمل، وكل هذه الذكريات تدور في مخيلتها وهي تطالع صحيفة نشرت عشرات الصور الى جانب انباء الحوادث التي وقعت بمدينتي نيو هوم ومودرن هوم.
فقد استلفت انتباهها نشر تفاصيل موسعة عن هذه الاحداث مع نشر صور عديدة لمنزل ديفيد الجديد، والبيت الجاهز رقم 3 الواقع على ضفاف بحيرة الضباب الذي أستأجره
عزرا صباح امس الباكر، وترك فيه ملابسه وبطاقته الشخصية، ثم نزل الى الماء وغطس الى اعماق البحيرة ولم تكن لديه اية معرفة سابقة بالسباحة.
كما تم نشر العديد من التحقيقات الصحفية، ولقاءات اجريت مع الضيوف الذين كانوا قد حضروا حفل العشاء الكبير الذي كان يقيمه ديفيد منشي في قصره الجديد مساء امس.
ـ كان عدد المدعوين لحفل العشاء كبيراً. وقد صفت الموائد فوق الجزيرة التي تقع وسط البحيرة. علقت المصابيح الملونة لتضيء الممر الطويل الذي يصل الى الجزيرة من جانب الحديقة. وعند حلول الليل، بينما كان ديفيد وسط ضيوفه، تسلل احد افراد عصابته، من خلف الاشجار في الحديقة المجاورة وارشقه بوابل من الرصاص، فأرداه قتيلاً في الحال.
* تواصل العمل في بناء قصر ديفيد مدة تزيد على السنتين.
* جلب لبناء القصر عدداً من المقاولين والخبراء في تصميم الحدائق وقد تم حفر بحيرة وتتوسطها شبه جزيرة من الحجر والاسمنت المقاوم. ترتبط بممر طويل محاط بأشجار الصفصاف.
* كما الحق بالقصر مزرعة ومعمل البان وحقل لتربية المواشي والدواجن.
* شيدت مجموعة من البيوت الصغيرة المتباعدة للعمال والخدم.
* طرحت اسئلة كثيرة من قبل الصحفيين عن مصادر التمويل التي حصل بواسطتها ديفيد كل هذه الاموال لبناء هذا القصر ؟ وقد اثار هذه المسالة الكثير من التساؤلات والشكوك.
* لقد بنى هذا القصر، بعد ان هدم الكثير من بيوت الناس وهدم الكنيسه والطاحونة، كما قلع الكثير من اشجار البساتين المثمرة، المعمرة للبرتقال والتفاح والزيتون.
* وقد خرج سالماً، ولمرات عديدة من كل القضايا والدعاوى التي رفعت ضده لانحياز المحكمة والمجلس البلدي الى جانبه.
كما ان هذا النبأ الحديث الذي نشرته الصحف قد ركز مرة ثانية على ضرورة القضاء على الارهاب والخطر المرتبط به لكن الصور المنشورة !! ظلت شاخصة في ذهن مارلين ؟!
فقد اخذت صور الماضي تتراقص في مخيلتها، متألمة، حالمة منتشية بخمر ذكرياتها في ذلك البيت الجاهز على ضفاف بحيرة الضباب والذي كانت تلتقي فيه مع حبيبها جيمس ايام حبهما وغرامهما الجامح.
سرعان ما تطايرت هذه النشوة عندما احست ان سر طفلها قد انكشف، سر ابنها غير الشرعي قد عرف به الجميع الان!!
فالسيدة ماري والدة حبيبها جيمس قد عرفته رأساً، فهو يشبه ولدها الراحل تماماً.
• اليس هو من صلبه؟
* الم يكن من بذوره التي نبتت في رحمها؟
ان تعلق السيدة ماري بالطفل وحبها له كان جلياً، واضحاً صادقاً وحقيقياً.وهو دليل قاطع من انها قد كشفت الحقيقة :
* ان هذا الطفل هو حفيدها!
فطيلة فترة الاحتفال لدى افتتاح النصب التكاري للضحايا كنت اسمعها تصرخ في اذني:
* ان هذا الطفل هو حفيدي الحقيقي !!
طوت مارلين الصحيفة بتأنِ وهدوء متحدثه الى نفسها قائلةـ
ـ الجو صحو وجميل اليوم. سوف ازور السيدة ماري، واصطحب معي جيمس كما اطلعها على الصحيفة ايضاً.
خلعت ملابسها. ولكنها تراجعت عن القيام بهذه الزيارة بضع لحظات ؟! استولى عليها الخوف بصورة مفاجئة ! اوجد في مخيلتها خيالات رهيبة. ظلت عارية.
تظهر من خلال النافذة المسدلة بالستائر المزينة بالورود الحمراء. تعكس وهجاً براقاً من قسمات جسمها البض المنسق الجميل. اخذ ثدياها يرتفعان ويهبطان.
فهي لازالت تمتلك نهدين ممتلئين، عاليين وصلبين . فاتنه مدمرة ومنذرة بالخطر؟! خطر الشر والموت المتجسدة في جمال جسدها الساحر الفريد !!
كانت سعيدة بالتطلع الى جمالها، فشكلها ذي مواصفات جمالية الى امرأة ناضجة.
يوقظها ضغط الواقع الانساني الى الخروج من غياهب زنزانتها قبل ان يأخذ الضوء بالتلاشي ويحل المساء.
واذا بها فجأة، كأنها في لحظة يقظة للضمير او ذعر تلتقطها من جديد، تقطع حبل افكارها. ثم تنزلق على اطراف اصابع قدميها، لتتقدم ببطء نحو الدولاب فتحته، وتفحصت مشجب الملابس المزدحم.
رحيل الأ ُم الثكلى
شربت السيدة ماري قدحي شاي ودخنت ما لا ادري من السجائر. تبدو انها عجوز قوية. امضت ساعات العصر مع مارلين وطفلها جيمس. لم تشعر بمرور الوقت وهي غارقه في حوار سار. اتسم بتصاعد الود، واتخذ طابعاً حميماً بين اصدقاء ثلاثة،وخاصة أحداث الليلة الماضية.
واصلت مارلين شرب شايها ببطء، تتناول قطعاً صغيرة من الكعك المحلى بين رشفة واخرى. لم يبد عليها انها متعجلة في العودة الى المستشفى بينما الجدة العجوز تحتضن حفيددها اليتيم بين فترة واخرى.
* لقد عاد اليها اخيراً!
فهي تعانقه وتحتضنه تتمسك بصورته الجميلة وتغمره بقبلاتها، ويرد اليها قبلتها بوضع قطعة صغيرة من الشيكولاته بين شفتيها وهو يجلس بقربها هادئاً مصغياً وبدا انه يسمع صوت جدته اللطيف وجملتها التي لا يمكن الاجابة عليها، فقد كانت الجدة غامضة كالجبال وهي تقول :
ـ عزيزتي مارلين لقد عرفت بكل هذه الاحداث ليلة امس من ولدي جيمس!!
ـ خالتي هل جاءك في الحلم ؟
ـ لا، لا كنت صاحيه. عندما اوقدت الشموع بسبب انقطاع التيار الكهربائي.
سمعت صوته واضحاً وهو يكلمني عبر الريح ! حتى ان الامطار كانت تتساقط بغزارة والرياح تهب هبوباً قوياً.
ـ خالتي ماري قد يجوز انك سمعت صوت احد المراسلين الذي كان ينقل الانباء بواسطة هاتف خلوي في الشارع.؟
ـ لا، انا متأكدة تماماً من الصوت لقد كان صوت ابني الراحل جيمس.!
ـ خالتي ماري، في ليلة امس، عند وقوع هذه الحوادث اخذت محطات الأذاعة
ومحطات البث التلفزيوني تكرر اذاعة وبث هذه الأنباء، ولمرات عديدة، ايكون انك حلمت خلال غفوة قصيرة ؟
ـ بالعكس، ففي ليلة امس انتابتني نوبة ارق شديد، فلم يأتني النعاس الا عند الفجر.
- قد يحدث ذلك، اني قرأت العديد من كتب التاريح. فعبر تأريخ الأنسانية الطويل، يعرف الكثير من المؤرخين بأن الله الخالق الجبار يقف وراء الأحداث التأريخية.
وما من سلطة اعطيت لأحد على الأرض ما لم تكن من السماء، وما اسقط احد من الرئاسة الا بأذن الله. ليس من الأهمية ان نحدد تأريخ الأحداث بدقة.
المهم ان نعي ماعانته الأجيال السابقة من عقوبات سماوية بسبب خطاياهم، وموقف بعض البشر المعادي للسماء والإنسانية فأنقضت عليهم عقاباَ، فتكف عن اعمالهم لتنال الخلاص.
ومن حوادث الماضي تتعلم الأجيال في الحاضر والمستقبل، وان قتل ديفيد الأرهابي وموت نائبه ومساعده عزرا في مياه البحيرة، او ربما انه انتحر تبكيتاَ للضمير، ليست احداثاَ عشوائية وحسب رغبات الفرد كما يعتقد البعض. بل انها جاءت بأذن من الله القادر على كل شئ.
ـ ارى انك قارئة نهمة يا مارلين ! نحن الأن في وضع حرج !! فبعض الناس قد يساوي بين الجناة والضحايا، وهؤلاء لا يؤتمنون. فهم يعطون تعهدات غير موثوقة، ثم يقومون بأفعال شنعاء !!
ـ نحن ايضاَ ضحايا ياخالتي ماري، فالوحدة التي عشناها قاسية ومؤلمة جداً. فكل يوم يطل علي يختلط فيه الحلم باليقظة، لم يفارقني الحزن منذ وفاة جيمس رحمه الله.
ـ عزيزتي مارلين لا تحسبي نفسك الضحية المفردة لداء الوحدة ولوحدثتك انا بمتاعبي لحركت شفقتك علي … وهناك الكثيرات من امثالي وامثالك … هنا في نيو هوم … وفي كل مكان في العالم.على أي الحالات كلانا يتعذب في الداء نفسه.
كانت هذه الزيارة بالذات، وهي الاولى الى بيت السيدة ماري قدمت خلالها الى الطفل جيمس هديه عبارة عن حزمة صغيرة فيها طوابع وتقبله بحنان بين فترة واخرى، حنان الجدة لحفيدها اليتيم. تضمد جراح قلبها العميقة، وتملأ فراغ موت ابنها داخل قلبها، ذلك الفراغ الذي يحفره موت الابن في قلب امه !! فمنذ وفاة ولدها اخذت تبصر الحياة ضبابا ظلاميا، يتيه الانسان وسط دورانها وتقلباتها نحو المصير المجهول القرار، وفي تلك الدورة ينسى الانسان الحقيقة؟!
* اننا جميعاً زائلون زائلون!
كل هذه الافكار كانت تدور في ذهنها، وهي تتذكر الطريقة التي كانت تتكلم بها مارلين مراراً وتكراراً امامها.
موضحة مصيبتها منذ تلك الايام الاولى اثناء لقائهما في المقبرة. يبدو ان لا عجب في ان تظل ذكرى ذلك اللقاء حية في ذهنها طوال هذه السنين ! لا ريب انها كانت تحس بشعور معين بالذنب.
لكن الانسان ! لم يخلق للهزيمه، الانسان قد يدمر ولكنه لا يهزم. فالانسان في اقسى ساعات حياته لما يستطع ان يتناسى تلك الغريزة الهائلة : غريزة حب البقاء.
وبعد مرور صمت قليل قالت لمارلين :
ـ وعلى أي حال يمكنك ترك السكن في المستشفى، وتأتي لتسكني معي هنا كما انني قد اتخذت كافة الاجراءات القانونية هذا اليوم، من اجل اسعادك واسعاد ولدك الصغير جيمس. وبحثت هذا الموضوع مع المحامي هنري وقد ابلغته عن الاسباب القوية الخارجة عن ارادتك ؟! تلك الاسباب التي دفعتك الى هجر بيت اهلك وتحملك الام الوحدة والضعة والضيق والتبرم فأنكما ستعيشان معي وترثانني مناصفة بعد وفاتي وهذا ما كتبته في وصيتي، وقد ختمت هذه الوصية بالشمع الاحمر واودعت لدى كاتب العدل العام، كما حفظت نسخه من الوصية، مختومة ايضاً لدى اخيك المحامي هنري جورج هامر. الحقيقة انني قد اعجبت به لنكرانه لذاته في تمسكه بمبادئه وعدم مزاولته القانون على اساس تجاري.
وفي هذه الاثناء دق جرس التلفون في بيت السيدة ماري واذا بالمتحدث هو مدير اعمالها في المكتبة. تأثرت كثيراً حين بدأ المحادثة قائلاً :
ان حريقاً كبيراً قد شب في مطعم المكتبة، يكافح رجال الاطفاء الان في اخماد النيران. وقد تم العثور على بقايا مسحوق ناعم شديد وسريع الاشتعال كان قد رش في ارجاء قاعة المطعم وتحاصر النيران عدداً من الزبائن وان؟؟
فجأة ! انقطع الخط دون ان تسأله فيما اذا كان هناك وجود ضحايا ؟ ردت السماعة. اخذ صدرها يعلو ويهبط، وقد احتقن وجهها. زاولتها ثورة محتدمة، وقد انفجرت منها مشاعر السنين.جرعت فيها صدمات المصائب وويلاتها.
قالت وهي ترتجف رجفة خفيفة :
ـ لابد انهم جماعة ديفيد ! لقد اضرموا جماعة ديفيد الانذال النار في مطعم المكتبة !! هدفهم ايذائي وايلامي.
ـ اهدئي يا خالتي. ولو ان هذا الحدث يبعث على القلق.
ـ لم يحدث لي من قبل مثل هذا الحدث سبب لي نوعاً من الارهاق، ولو ان المكتبة مؤمن عليها تأميناً شاملاً ضد كافة الاخطار.
جلست على مقعدها في تصلب ويداها على مسنديه، انها تتنفس في شيء من الصعوبة، تنهض فجأة وتسرع الى المنضدة، تكاد تسقط عليها تتناول الهاتف وتدير رقماً وهي ترتعش ارتعاشاً واضحاً، وتنتظر ! لا رد. فقد قطع الخط الهاتفي مع المكتبة تماماً اخذت تحدث نفسها بهمس قائلة:
ـ لابد ان النيران قد التهمت غرفة الادارة ايضاَ!!
انهارت على اول مقعد في الصالون. يبدو كأن التعب قد نال منها، تريح رأسها على كف يدها الأخرى. تغمض عينيها وهي تقول :
ـ ياه ! حر شديد ! نكاد نختنق جميعاَ !
تتغلب على نفسها فجأةَ، وتضرب الأرض بقدمها، وهي تلتوي من الألم، راسمةَ على صدرها علامة الصليب، بصعوبة، قائلةَ :
ـ يا مغيث يا مغيث!
خيم الشحوب على وجهها، وتصاعدت دقات قلبها، اخذ الدم يجري سريعاَ في عروقها. تدلى رأسها الى الوراء، ساقطة فوق ظهر المقعد. اخذ جسمها يرتعش وبشكل عنيف.
نهضت مارلين مسرعة نحو الهاتف لطلب سيارة اسعاف لنقل السيدة ماري الى المستشفى. لكنها رفضت بأصرار قائلةَ !
ـ لاداعي لذلك. اريد ان استريح على فراشي. رفعتها مارلين بكل هدوء وتأني، اسندتها بقوة، وهي تسير بها نحو غرفة النوم، كما يساعدها ولدها جيمس ممسكا بذراع جدته اليمنى.
انهارت وهي ممددةَ على فراشها وعيناها مفتوحتان بأتساع، شهقت شهقة قوية، فجأةَ، سكت قلبها، فماتت على الفور !!
* لقد ماتت كما تمنت ان تموت، دون غيبوبة، ولا عذاب احتضار.
وقفت مارلين لحظات الصمت والتأمل والصلاة، امام المسجاة على فراش الموت، ترسم على صدرها علامة الصليب تصلي لروح خالتها التي صعدت الى السماء. حين انتهت من صلاتها، ناشدت خالتها التي قد تركتها الى الأبد ؟! قائلةَ :
(( سيدتي العظيمة ! أتسمحين لي بأن اغمض عينيك ؟))
ثم حنت رأسها وندت عنها جهشة بكاء. ولكنها استعادت رباطة جأشها فوراَ فأغمضت عيني المتوفاة، وعدلت وسادتها، وغطتها بشرشف ابيض.
ثم انزوت مارلين في ركن اريكة، غطت وجهها بكلتا يديها وانخرطت في البكاء، ذرفت احرق دموع ذرفتها في حياتها، كانت تشعر بها تسيل بين اصابعها، وعلى ذقنها، وتخنقها. دموع لا تنحدر كما تنحدر سائر الدموع!!
ان سائر الدموع تجري او تسيل، لتخفف الأثقال من خزانة الأحزان، اما دموعها، فتتساقط كحجارة تهوي من قمة جبل، لتتجمع في قاع الذكرى، كل دمعة تحفر حفرة، وكل قطرة تفتح ثغرة، ومع تساقط الدموع، يثقل ما في خزانتها من الهم ويعمق ما في قلبها من المرارة والحسرة.
صعب عليها تحمل صب هذا الخزان العظيم من الدموع !! من خلال هذين العينين الجميلتين، هذه الدموع التي تجمعت في هذه الروافد والحفر والثغرات.
مناسبات، احداث، الحياة والموت، الماضي والحاضر، الفرح والحزن، اللقاء والفراق، صراع الحق ضد الباطل.
انها دموع الأحزان من اجل ضحايا الأعمال الأرهابية، دموع الفرح يوم اعادة الحقوق لعوائل هؤلاء الضحايا.
* * *
تقرع الأجراس. تسمع اصوات المنشدين ينشدون اغنية عيد الميلاد من بعيد. بينما ظل الطفل جيمس جامداً صامتاً طيلة هذه الفترة من الزمن ! الزمن الذي تتسابق فيه الاحداث كل يوم. ليلاً ونهاراً. لكنه صغير سن لفهم مثل هذا الموقف الاليم!.
صار في حيرة عظيمة وقلق لاجله. ولم يعد يعرف ماذا يجب عليه ان يفعل ؟ ولا شك ان دموع امه كانت كافيه للتأثير فيه. فبادر والدته قائلاً !
ـ امي ! كفي البكاء. اوقفي سكب الدموع. لئلا توقظي جدتي الراقدة في النوم ملئه الراحة والسلام.
ـ هدوءاً يا ولدي، الليلة، سوف ابقى ابكي حتى تغيب شمسي ! فليغرق العالم في ليل مظلم بعد ان تركتنا.
ان وصيتها رحمها الله قد اعادت لك كل حقوقك. وقد جاءت هذه الوصية نتيجة لدوافع ذاتية من داخل نفسها الزكية، وضميرها الحي، وروحها الطاهرة البيضاء تلبيه لنداء الدم للدم !!
فرابطة الدم هي من اقوى الروابط الانسانية في الحياة تلك الرابطة التي تفتح الطريق امام عودة ثروة الاجداد والاباء الى الابناء والاحفاد. فتلك هي سُنة الحياة.
((علمنا يا رب ان نكون هادئين مطمئنين دوماً))
آمين
جثت مارلين على ركبتيها واخذت تصلي ثانية امام المسجاة على سرير الموت!!
فأغرورقت عيناها بالدموع … فقد شعرت ان سوء الطالع يلازمها دائماً، رغم انها مؤمنة بالقضاء والقدر.
بعد قليل، وعندما انتهت مارلين من صلاتها تناولت منديلاً من حقيبتها تجفف فيه عينيها الدامعتين. ثم استدارت نحو ولدها جيمس والتوتر واضح على وجهها فقالت:
ـ ولدي جيمس. عندما تكبر سوف تعرف سر حقيقة هذه الدموع ؟!
انظر الى تلك الصورة ! انها صورة ابيك الحقيقي. لقد انتهى كل شيء فجيمس نام نومته الاخيرة تحت الثرى. هذا اخر كل شيء انني لم اعد احب الشمس، ولا الزهر، فمنظرهما يؤلمني، بل انا أؤثر الايام الغائمة القاتمة، كيوم موت اباك. فالحياة التي عشناها كانت شاقة وعسيرة بعد رحيله عن الدنيا.
* * *
خيم الوجوم على المكان. اخذت تقترب الى سمعهما اصوات المنشدين اكثر وهم مستمرون في نشيدهم (( ليسعد الله ايامكم … اذا تصدقت، فلا تعلم شمالك ما تعمل يمينك…)) نشيد اشبه ببداية (السمفونية) التي جعلت، الان، تدنوا منهما، وتقترب بنغماتها القوية المشجية.
لكننا سنسمع لحناً جديداً رائعاً، هذه المرة ينطلق من حنجرة الطفل جيمس !
ـ ماما ! تعالي نذهب لاستقبال عودة الميلاد !
فذلك هو الهناء العظيم !
( تمت )
1371 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع