في نشوء النظرية السياسية في الاسلام : الجزء الثاني

خالد الدوري


في نشوء النظرية السياسية في الاسلام : الجزء الثاني

لقب الخليفة:
من المعتاد تاريخيًا ان تطلق لفظة خليفة (أي السلطان الأعظم.) على حاكم دولة الإسلام، الذي أُسند اليه مهمة إدارة شؤون ألأمة. وقد تسربل بهذا اللقب الخلفاء الراشدون، ثمّ ألأمويون، ومن بعد ذلك العباسيون، ثم العثمانيون. وإن طغى لقب السلطان عندهم على الخليفة "وسنفرد له فصلاً لاحقًا". وهكذا زامن فترة من حُكم العباسيين وجود للدولة الفاطمية، حيث كان يطلق كذلك على كل حاكم تولى الرئاسة فيها لقب الخليفة. كما لُقِبَ بعض ملوك الأندلس بالخليفة. الى خلفاء آخرين في بقاع مختلفة من المعمورة. فمن أين إقتُبِسَ هذا اللقب؟، وعلى من أطلق أول مرة؟.
المعنى اللغوي للخليفة:
فمن ناحية المعنى اللغوي، فالخليفة يقال خَلَفَ فلانٌ فلانًا، إذا كان خَليفَتَهُ، ويقال خَلَفَه في قومه خِلافةً. وفي التنزيل العزيز: (وقال موسى لأخيه هرون اخلفني في قومي)(1). والخليفةُ: الذي يُستخلف ممن قبله، والجمع خلائف. جاؤوا به على الأصل مثل كريمةٍ وكرائم، وهو الخَليفُ والجمع خُلَفاء. وقال سيبويه لا يكون إلا للمُذكّر.(2)
أول لقب لرأس السلطة:
والخليفة هو أول لقب استخدم في الاسلام ليُطلق على شخص الحاكم.(3) لكن التاريخ لم يسجل اليوم الذي ولدت فيه هذه الكلمة، وإن كانت بداية إطلاقها من المهاجرين والأنصار، حيث ثَبُتَت يقينا إطلاقها على شخص أبي بكر الصديق (رضي الله عنه) وغلب هذا اللقب عليه حينما إنتُخب للخلافة، بعد بيعة السقيفة، ليخلف رسول الله صلى الله عليه وسلم في إدارة شؤون المسلمين، وهم حين أطلقوا عليه لقب خليفة لم يقصدوا ان المراد خلافته على الصلاة.- بإعتبار أن النبي في مرضه إستخلفه في إمامة الصلاة-. ولم يُسَمّه أحد بالخليفة بناءً على هذه الواقعة. كما ان من إستخلفهم النبي على المدينة أثناء خروجه (صلى الله عليه وسلم) للغزوات، كعلي بن أبي طالب، وإبن أم مكتوم ، وعثمان بن عفان، لم يسمى أحد منهم بالخليفة. وهذا يؤكد ان أبا بكر هو أول من أُطلق عليه لقب خليفة رسول الله (صلى الله عليه وسلم) لسياسة الدين والدنيا(4).
ويوضح إبن خلدون سبب التسمية بقوله: (واما تسميته خليفة فلكونه يخلف النبي (صلى الله عليه وسلم) في أُمته، فيقال خليفة بإطلاق، وخليفة رسول الله.(5)
لقب خليفة الله:
واختُلِف في تسميته خليفة الله، قال الزجاج: جاز ان يقال للأئمة خلفاء الله في أرضه، بقوله عز وجل: (يا داود إنّا جعلناك خليفة في الأرض)(6).. وإقتبس آخرون هذا التوصيف من الخلافة العامة التي للآدميين في قوله تعالى: (إنّي جاعل في الارض خليفة)(7). وقوله تعالى:(جعلكم خلائف الأرض)(8) ، ومنع الجمهور منه، لأن معنى الآيات ليس عليه. ومثله (ولو نشاء لجعلنا منكم ملائكة في الأرض يخلفون)(9). فالخلافة فى الآيات كما تدل النصوص هى خلافة فى الأرض. إذ المقصود من الخليفة الإصلاح ورد الفساد والعدل بين الناس فيما يقع بينهم من مظالم. وقوله تعالى: (إنا جعلناك خليفة في الأرض) أي ملَّكناك لِتأمُر بالمعروف وتنهى عن المنكر ، فتخلُفَ من كان قبلك من الأنبياء والأئمة الصالحين)(10). على أنّ هناك من رَجّحَ معنى (إنّي جاعل في الارض خليفة) اي يخلف من كان قبله من الملائكة في الأرض.
ومع أنّ لقب "خليفة الله" يأتي لتأكيد معنى الخلافة، وإعطاءه معنى الهيبة والقدسية، إلا إننا نجد أن ابا بكر الصديق (رضي الله عنه) قد نهى عن قول "خليفة الله" لما دُعِيَ به. وقال: لست خليفة الله، ولكني خليفة رسول الله (صلى الله عليه وسلم). وحسبي ذلك.(11) وهذه لفتة دقيقة وحساسة من أبي بكر الصديق. لكي لايكون هنالك كهنوت أو مبالغة وغلو في شخص الحاكم، أو في منصب قيادي وإداري. ثمّ إن القول بخلافة الله قد توحي بأمر يثير اللبس في أذهان البعض. حين يشتط الذهن الى القول أن المراد خليفة عن الله. وهذا أمر مُحال، لأن الله لا يموت حتى يخلفه أحد. وألإطلاق في لفظ خلافة عن الله، لا يمكن أن تكون فى الأرض وحدها دون السماء، بل يجب أن تكون في السماء كذلك، وهذا مُحال أيضًا. وبذلك يَبطُل الشطط. فالآيات تتحدث عن خلافة في الأرض فَحَسب.
ومع هذا، فإننا وجدنا ان لقب خلافة الله قد تم إستخدامه فعلاً حين من الدهر، فقد جرى تداوله في فترة من فترات الخلافة العباسية حينما كانت الخلافة العباسية في عنفوان قوتها وهيبتها. فكان يقال خليفة الله. فلما تلاشت وخفتت قوة الخلافة العباسية من بعد السؤدد. تقلص نفوذ ألخليفة السياسي، وتحول الخليفة الى مجرد رمز نظري للشرعية السياسية، ولا يعدو أن يكون منصب الخليفة أقرب الى القيادة الدينية، المجردة من السلطة الفعلية والأمر والنهي. تلك السلطة التي كان يُذعِنُ لها العموم بالولاء والطاعة ذات يوم.
أقوال في الإستخلاف:
ويتفق إبن حزم مع الجمهور في أنّ لفظ الخليفة تطلق على من يخلف غيره بعد موته. إلّا انه يورد تعريفا أكثر دقة وتحديدا لمعنى الخليفة، يميز فيه بين من يُعهَد اليه بالخلافة من قِبَل الخليفة السابق في حياته، ومن تؤول اليه الخلافة بدون عهد سابق. فيقول: (ومعنى الخليفة في اللغة، هو الذي يستخلفه المرء او الحاكم السابق، لا الذي يخلفه دون ان يَستخلفه هو، لا يجوز غير هذا البتّة في اللغة بلا خلاف.
تقول إستخَلف فلانٌ فلانًا يَستخلِفه فهو خَليفَه، ومُستخلَفه، فان قام مكانه دون ان يَستخلِفه هو، لم يقل الّا خَلف فلانٌ فلانًا يخلُفه فهو خالف.ومحال ان يعنوا بذلك الإستخلاف على الصلاة لوجهين ضروريين أحدهما: أنه لم يستحق أبو بكر قط هذا الاسم على الإطلاق في حياة رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ، وهو حينئذ خليفته على الصلاة طوال فترة مرضه (صلى الله عليه وسلم)، فصح يقينا ان خلافته المسمى هو بها هي غير خلافته على الصلاة.
والثاني: أنّ كل من إستخلفه رسول الله (صلى الله عليه وسلم) في حياته كعلي بن أبي طالب في غزوة تبوك، وإبن أم مكتوم في غزوة الخندق، وعثمان بن عفان في غزوة ذات الرقاع، وسائر من استخلفه على البلاد باليمن والبحرين والطائف وغيرها، لم يستحق أحد منهم قط بلا خلاف من أحد من الأمة أن يسمى خليفة رسول الله (صلى الله عليه وسلم) على الإطلاق. فصح يقينًا بالضرورة التي لا محيد عنها أنها الخلافة بعده على أمته) (12).
والظاهر أن إبن حزم (رحمه الله) إستلزمه طرح هذا التعريف، كتأييد لحججه في معرض رده على من انكر خلافة ابي بكر وعمر (رضي الله عنهما)، حيث يذهب الى التأكيد على انهما عُهد اليهما بالخلافة بالنص، كلٌ ممن سبقه، وان النبي صلى الله عليه وسلم بالذات، قد عهد الى ابي بكر الصديق بالخلافة نصًا في حياته. "ويورِدُ إبن حَزم أدلةً ونصوصًا معتبرة منها خفي ومنها جلي في إثبات رأيه، ويضيف" ولهذا سمي بالخليفة، ولولا ذلك مااستحق هذه التسمية. في حين يرى عموم أهل السنة أن خلافة ابي بكر تمت بالإختيار، وإستندوا في إختيارهم الى ماعلموه من النصوص الصحيحة الخفية والجليّة الدالة على صحة خلافته. (وما علموه من تفضيل الله ورسوله، وأنه أحقهم ، بهذا الأمر عند الله ورسوله، فصارت ثابتة بالنص والإجماع جميعًا)(13).
لا يعتبر شيخ الإسلام ابن تيمية (رحمه الله) التقسيم الذي وضعه ابن حزم لمعنى الخلافة أساسًا في مناقشاته للطوائف الأخرى، اذ يقول: ( الخليفة يقال لمن إستخلفه غيره، ولمن خلف غيره) (14) فهي تسمية مطلقة لمن يتولى زمام الحكم في الدولة الإسلامية. وهو ما نرى أنه أقرب للصواب ويمثل رأي جمهور علماء المسلمين.

المصادر والمراجع
(1) سورة الأعراف الآية 142.
(2) لسان العرب لإبن منظور 9/83 دار بيروت للطباعة والنشر/ بيروت 1388هـ/ 1968م.
(3) نظرية الإمامة لدى الشيعة الإثني عشرية للدكتور احمد محمود صبحي ص 19.
(4) صحة خلافة أبي بكر رضي الله عنه أ. د. مصطفى حلمي 6/9/2016 م- 4/12/1437هـ.
(5) مقدمة إبن خلدون 1 /366 تحقيق: عبد الله محمد الدرويش، الناشر: دار يعرب 1425هـ - 2004م.
(6) سورة ص الآية 26.
(7) سورة البقرة الآية 30.
(8) سورة الأنعام الآية 165.
(9) سورة الزخرف الآية 60.
(10) للتفصيل يراجع تفسير القران العظيم لإبن كثير 1/ 69 طبعة دار الفكر، إذ يقول في تفسيرها ( أي قوما يخلف بعضهم بعضا، قرنا بعد قرن، وجيلا بعد جيل). وانظر الجامع لأحكام القرآن للقرطبي. 18 /185 تحقيق الدكتور عبد الله بن عبد المحسن التركي/ مؤسسة الرسالة ط1سنة 1427هـ- 2006م. وانظر كذلك فتح القدير للشوكاني 1 / 62 دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع ، ط3، سنة 1393هـ - 1973م.
(11) مقدمة إبن خلدون 1/366 المحقق: عبد الله محمد الدرويش، الناشر: دار يعرب 1425- 2004. و"بالفاظ متقاربة"، في الأحكام السلطانية للماوردي صفحة 22 تحقيق الدكتور أحمد مبارك البغدادي/ ط1 سنة 1409هـ - 1989م. الناشر مكتبة دار إبن قتيبة- الكويت.
(12) الفصل في الملل والأهواء والنِّحل لإبن حزم الظاهري 4/ 167-177 تحقيق الدكتور محمد إبراهيم نصر، الدكتور عبد الرحمن عميرة / ط2 دار الجيل/ بيروت 1416هـ - 1996م.
(13) منهاج السنة النبوية لإبن تيمية / تحقيق الدكتور محمد رشاد سالم/ ج1/524.
(14) المصدر السابق، منهاج السنة النبوية 1/ 508.

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

1439 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع