د. ضرغام الدباغ
سبل تحقيق الأمن القومي
يتبنى مخططو الأمن القومي أسلوبين أساسيين لتأمين المصالح الوطنية العليا:
الأول: الأساليب السياسية.
الثاني: الأساليب العسكرية.
أولاً : الأساليب السياسية:
ونقصد بالأساليب السياسية: مجموع الفعاليات والنشاطات الداخلية والخارجية التي تعتمد بالدرجة الأولى على التوصل إلى قناعات مشتركة من أجل الشروع بفعاليات مشتركة، وهو عمل يعتمد أساساً الحوار واستبعاد اللجوء إلى القوة، وفي مجال بحثنا، تمارس الدول هذه الفعاليات كإحدى سبل تأمين المصالح الوطنية العليا.
والسياسة: (تعني بصفة أساسية) التعامل مع الحقائق والعناصر التي تلعب دوراً في إطار الوضع السياسي والاقتصادي العام في مرحلة تاريخية معينة من أجل الوصول إلى هدف تسعى إليه فئة أو فئات اجتماعية وأدواتها التي تفرزها وتمثله: الأحزاب والحركات السياسية، أو بين تحالف يضم عدداً منها. وتمارس السياسة بصورة أشمل وأعمق وأكثر فاعلية إذا جرت ممارستها من مواقع السلطة وفي قيادة الدولة، ومن البديهي أن تشمل دائرة فعالياتها، العلاقات الدولية والأحداث الدائرة على مسرح السياسة الدولية.
ولا تختلف السياسة الخارجية في جوهرها عن أهداف السياسة الداخلية لدولة ما، فهي انعكاس لها وتحقيق لتطلعاتها، فهي تمثل من جهة انعكاس لجوهر العلاقات السياسية والاقتصادية والاجتماعية الداخلية، وتحقيق لأهداف هذه العلاقات السياسية والاقتصادية والاجتماعية الداخلية، كما تمثل من جهة أخرى تحقيق لأهداف هذه العلاقات فيما يتصل بصلات الدولة السياسية والاقتصادية على السياسة الخارجية
فالسياسة الداخلية :
هي إذن مجموعة التوجهات على أصعدة العلاقات الاقتصادية والاجتماعية والإنسانية وسائر الفعاليات الضرورية الأخرى من أجل التوصل إلى نظام اجتماعي يقوم بتلبية حاجات المواطنين التي لا بد منها من أجل مواصلة العمل على كافة الأصعدة في المجتمع، وليس ذلك فحسب، بل والعمل على تعميقها وزيادة رفاهيتهم في المرحلة الراهنة وفي المستقبل.
وبطبيعة الحال، فإن التوجهات في السياسة الداخلية تختلف من بلد إلى آخر بحسب التوجه الأيديولوجي الذي ينعكس في الميادين الاقتصادية والاجتماعية، وفي السياسة الخارجية للدولة. بيد أن الدول وعلى اختلاف مناهجها الإيديولوجية والسياسية، فإنها تهدف في سياستها الداخلية إلى الحيلولة دون تدهور الأوضاع السياسية والاقتصادية بما يقود إلى الأزمات التي تشتت جهود العاملين وتؤثر على المصالح الوطنية العليا، وعلى الموقف الداخلي بكافة مفرداته تأثيراً بالغ الأهمية على جهود العاملين في ميدان السياسة الخارجية وعلى موقف البلاد على مسرح السياسة الدولية.
والسياسة الخارجية:
وهي تمثيل لمصالح الدولة السياسية والاقتصادية، وأهدافها على الصعيد الدولي، وبذلك إنما تعكس السياسة الخارجية صورة التطورات الداخلية ومغزاها السياسي والاجتماعي.
وتختلف السياسة الخارجية عن الداخلية، وإن كانت في جوهر الأمر مشتقة عنها، وانعكاس لها وفي خدمتها، ولكنها تختلف عنها من حيث: أن زمام السياسة الداخلية والعناصر التي تتعامل معها، تتحكم فيها الدولة بحدود معينة، وفي القدرة على إحداث تأثيرات بالغة الأهمية سواء كان ذلك بتشريع القوانين والأنظمة، أو بالنتائج المباشرة للفعاليات السياسية مثل حل البرلمان أو انعقاده وتشكيل الحكومة وعقد التحالفات بدرجة ليست بسيطة على الصعيد الدولي، ذلك أن الدولة تتعامل على الصعيد الدولي مع دول تماثلها في المكانة الرسمية وتفرض العلاقات الدبلوماسية قدراً من التكافؤ في المستوى التمثيلي والمساواة، باعتبارها السبيل الوحيد للتعامل على مسرح العلاقات الدولية.
وبطبيعة الحال، فإن استقرار الأوضاع الداخلية أو بالعكس، تؤثر تأثيراً بالغاً على السياسة الخارجية، فأجهزة الدولة المعنية بترجمة المصالح الوطنية العليا، هي جزء من الأوضاع الداخلية باعتبارها جزءاً من جهاز الدولة ومؤسساته المعنية بتنفيذ السياسة الخارجية، ويلعب استقرار الأوضاع الداخلية في الدولة دوراً كبيراً في نجاح مهمات مبعوثي الدولة وممثليها على صعيد التعامل الدولي، ويكسبها الهيبة والتقدير كما يمنحها فرصاً أكبر للنجاح في تحقيق مصالح الدولة الخارجية. ولسنا في وارد تعداد مزايا العمل السياسي الخارجي الدبلوماسي، فذلك يتعدى مهمة بحثنا هذا، بل التركيز على ذلك الجزء الحيوي الهام من عمل الدبلوماسية الذي يتعلق بحماية أمن الدولة ومصالحها بالوسائل السلمية، بانتهاج أسلوب التفاوض وعقد المحادثات والتوصل إلى اتفاقات وإبرام معاهدات، وخلق فرص للعمل المشترك والمصالح المشتركة، والتعاون في حفظ المصالح الوطنية والأمن القومي للبلاد مع سائر المؤسسات المولجة بتحقيق هذا الهدف الكبير.
ومن المؤكد أن الدول تسعى وتفضل الحلول السياسية والدبلوماسية للأزمات التي قد تنشأ على طريق تحقيق المصالح أو في إطار نشاطاتها وعلاقاتها الدولية العامة، والتي قد تستدعي الضرورة إلى اللجوء لصيغ التعاون الاقتصادي والثقافي والعلمي لتحقيق أقصى حجم من التبادلات القائمة على أسس المنافع المتبادلة واحترام سيادة الدول وعدم التدخل في الشؤون الداخلية.
وفي مجال الأزمات السياسية التي تنذر بالتصعيد الذي قد يؤدي إلى حدوث انتكاسة خطيرة في الموقف ومعطياته التفصيلية، فإن اللجوء إلى الحلول الدبلوماسية بتفادي تصاعد الموقف إلى نقاطه الحرجة، وإلى التدهور الحاد في الموقف السياسي الذي قد يبلغ ذروة تهدد بنشوب الصراع المسلح، لذلك فإن سلامة الأجهزة السياسية الخارجية ودقة معطياتها وبالتالي تصرفاتها، ودقة القرار السياسي يغدو أمراً في غاية الأهمية، فهو ليس أوفراً لجهة التكاليف الاقتصادية والبشرية، فحسب، بل ويجنب الدول نهايات الصراع التي لا تعرف عواقبها ونتائجها بدقة كاملة، فالصراع المسلح يطرح معطيات جديدة قد تختلف كل الاختلاف عن تلك التي كانت قبل بدء الصراع المسلح، ومن نافلة القول أن المحادثات السياسية التي تنعقد في أعقاب الصراع المسلح(الحرب الشاملة أو الجزئية) تبدأ حيث سكتت الأسلحة، وليس حيث انتهت آخر محادثات قبل نشوب العمليات المسلحة.
وفي الحقيقة فإن الفعاليات السياسية والدبلوماسية تتركز على استبعاد احتمالات الصراع المسلح، وهي فعاليات ليست عزلاء كلياً عن القوة، فهي تمتلك قوة المجتمع الدولي ومؤسساته بالإضافة إلى القواعد القانونية والأخلاقية والإنسانية، إضافة للرأي العام الدولي، بيد أن من المؤسف أن لا تلعب هذه العناصر دوماً الدور الحاسم، فهناك حدوداً يتحملها العمل السياسي فإذا ما تجاوزتها الأزمة يغدو من العسير التحكم في سير تصاعدها.
والعمل السياسي والدبلوماسي يحاول تجنيب القيادات السياسية الخيارات الصعبة، مع أن اتخاذ مثل تلك القرارات يصبح أحياناً أمراً لا مفر منه، ولا بد للدولة ولصانعي القرار السياسي من مجابهة الظروف الصعبة، فهناك دوماً تصرفات تعد من أعمال الحرب وإعلان له، فعلى سبيل المثال: فإن تغير مجرى النهر الوحيد وحرمان دولة مجاورة من مياهه يعد بمثابة إعلان للحرب على تلك الدولة، وكذلك إغلاق الممر المائي الوحيد لدولة ما، أو تهديد حرية الملاحة في المضائق الحيوية للاقتصاد ولاستراتيجية دول حوض المنطقة، أو الدول الكبرى، وبداهة يعد كذلك تجاوز الحدود الدولية بواسطة القوات المسلحة النظامية لدولة أخرى واستيلائها على نقاط مهمة، أو مساحات من الأراضي(بصرف النظر عن حجمها)، ورفضها الانسحاب أو التحكيم الدولي، فهناك حدود يحتملها العمل الدبلوماسي، إذا ما تجاوزتها الأزمة يغدو من العسير التحكم في سير تصاعدها.
والعمل السياسي والدبلوماسي يحاول تجنيب القيادات السياسية الخيارات الصعبة، مع أن اتخاذ مثل تلك القرارات يصبح أحياناً أمراً لا مفر منه، ولا بد للدولة ولصانعي القرار السياسي من مجابهة الظروف الصعبة، فهناك دوماً تصرفات تعد من أعمال الحرب وإعلان له، والحكمة تكمن في الابتعاد عن تلك المستويات الخطرة، والخطوط الملتهبة، أو التي تعد بالانفجار مما يعقد التحكم في تصاعد مسار الأزمة.
وتعد مثل تلك التصرفات استفزازات خطيرة، قد تنجح الدبلوماسية في إيجاد الحلول العادلة لها، أو تفشل تلك المجهودات بسبب تعنت الطرف الآخر بشكل يضطر الدولة المعتدى عليها صد العدوان وإيقافه ثم تصفية آثاره، فتنشب العمليات الحربية، فتصاب آنذاك الجهود الدبلوماسية بنكسة رغم أن دورها في خدمة القرار السياسي والأمن القومي لا يتوقف، فجبهة العمل السياسي لا تقل أهمية عن جبهات القتال التي تستقطب(وذلك بديهي) الأهمية الأولى في بلوغ الهدف السياسي بواسطة القوات المسلحة تحت الإشراف المباشر للقيادة السياسية للبلاد ومجلس الأمن القومي الذي يمثل (عادة) المؤسسات الرئيسية في إطار مجهودات الدولة وسكان البلاد لخدمة أغراض الصدام العسكري.
ومن البديهي أيضاً، أن تستخدم الدولة في إطار مجهوداتها السياسية، المزايا التي بحوزتها في إثبات جدوى وفاعلية النشاط السياسي مثل التجارة الخارجية وسائر الفعاليات الاقتصادية الأخرى كالقروض والعلاقات التجارية، وتجارة الترانزيت واستخدام المجال الجوي وأراضي البلاد وطرق المواصلات الدولية، لخلق التأثيرات المختلفة، ولحمل الطرف الآخر على الاقتناع بأفضلية العمل السياسي والدبلوماسي السلمي ومزاياه وفوائده.
ثانياً: الأساليب العسكرية:
لا بد بادئ ذي بدء، من تأكيد حقيقة، أن الأساليب العسكرية والتي يشكل الحرب ذروتها، إنما هي جزء من الأعمال السياسية التي تهدف في محصلتها النهائية إلى تأمين الأمن القومي والمصالح الوطنية العليا، والحرب كظاهرة ملازمة للتاريخ البشري، إنما هي وسيلة من وسائل السياسيين، وهي بهذا المعنى استمرار للسياسة، وللأمر تعقيداته في العصر الراهن، ولابد من الأخذ بنظر الاعتبار التحولات في موازين القوى.
بيد أن الحرب لا تعطل دور السياسيين، فطالما أن الهدف النهائي للحرب يخضع بصورة شبه مطلقة للتوجيه السياسي من القيادة السياسية إلى قادة الميدان العسكريين، فإن التصرفات العسكرية ذات المنحى الاستراتيجي لا تخلو من المغزى السياسي في جميع المراحل، في مراحل التصعيد، وحتى بعد نشوب العمليات العسكرية.
فقد تكون العمليات العسكرية مجرد طرق على الأبواب الخارجية، أو إشعار بخطر نشوب الحرب، فقد تكون اشتباكات ميدانية بسيطة، ولكن قصف الطرق العامة، والقرى المأهولة بالسكان، تعد تصعيداً في الموقف لا بد من اتخاذ قرار سياسي بصدده، وينتقل الأمر إلى درجة أشد خطورة عندما توجه ضربات بالأسلحة الجوية أو الأسلحة غير التقليدية على أهداف اقتصادية مؤثرة كمرافق الإنتاج الصناعي أو إنتاج الطاقة، أو خطوط المواصلات العامة المهمة، فهذه فعاليات ذات مغزى سياسي واستراتيجي في سياق المجهود الحربي لا بد أن تكون القيادة السياسية ليس على اطلاع دقيق بالأحداث فحسب، بل وفي توجيه التصرف السياسي/العسكري المناسب والملائم.
ولا تلجأ القيادات السياسية والدول إلى اتخاذ خيار الحرب عادة إلا بعد أن تتعارض فيه إرادة الطرف الآخر مع المصالح الوطنية والأمن القومي تعارضاً جذرياً، وتفشل الفعاليات السياسية في إيجاد الحلول والتوفيق بين المصالح المتنافرة، ويغدو فيه قبول فعاليات الطرف الآخر ينطوي على خسارة جسيمة وتهديد كبير للأمن القومي.(1)
ومع أن الحروب هي خيارات قاسية وشاقة للقيادات السياسية، إلا أنها في بعض الأحوال تبدو حلاً أوحداً للأطراف المشتبكة في أزمة سياسية تحولت إلى بؤرة توتر تهدد بالتطور والتصاعد إلى درجة نشوب النزاع المسلح، أو تؤدي إلى الحرب الشاملة، أو قد يفوق تفوق ساحق إلى أن يفضل أحد الأطراف خيار الحرب على خيار المفاوضات السلمية، ففي ذلك تفرض استسلاماً كاملاً لخصمها يحقق لها جميع أهدافها من جهة، كما أنها ستشكل بمثابة ضربة استعراضية لتحذر أطرافاً أخرى.
بيد أن الحرب ليست نهاية العمل الدبلوماسي والسياسي، فصحيح أن المساعي السياسية أصيبت بنكسة كبيرة، ولكن لا بد من عودة إلى طاولة المفاوضات وللنشاطات الدبلوماسية بعد المعارك الحربية، وحتى في غضونها، من أجل تقرير شكل الموقف السياسي الجديد على ضوء المعطيات التي أفرزتها ميادين القتال، فالصورة المقبلة للسلم وأبعاده وصلاحياته وعناصر الموقف الجديد إنما تحددها المفاوضات التي تجري بين الأطراف، وفي هذه الحالة يهيمن على الأغلب مبدأ القبول بالأمر الواقع على جو المفاوضات، إذ أن الموقف التفاوضي لأحد الأطراف قد لحق به الوهن بنتيجة المعارك الحربية فتخلى عن التصلب في الواقف، مما يسهل التوصل إلى نتيجة قد لا تكون عادلة ولكنها تفضي للتوصل إلى عقد اتفاق سياسي دائم أو مؤقت، وهنا تلعب كفاءة المفاوض دوراً مهماً في التقليل من حجم التنازلات أو في تعزيز المكتسبات التي تم إحرازها في ميادين القتال.
وكما أن الحرب ليست نهاية العمل السياسي الدبلوماسي، فالحرب ليست الرادع الوحيد في استخدام القوة، فالدول التي تمتلك قوى عسكرية كبيرة متطورة وهذه تشكل لوحدها قوة رادعة، سواء بالتلويح باستخدامها، والتهديد، عبر وسائل عديدة على سبيل المثال لا الحصر: القيام باستعراضات عسكرية كبيرة في العواصم يُدعى إليها الممثلون الدبلوماسيون وفي عدادهم الملحقون العسكريون، أو بإجراء مناورات واسعة، وربما في المناطق الحدودية وفي هذه الحالة فإن الرسالة ستكون أبلغ، وهو ما يعني بصورة غير مباشرة التهديد باستخدام الأزمة باستخدام القوات المسلحة، وقد تنشر وسائل الإعلام المختلفة(المقروءة والمرئية والمسموعة) عن امتلاك أسلحة جديدة أو تدشين صناعات عسكرية جديدة، وهو ما يدل على حسن استعدادات البلاد الدفاعية، بالإضافة إلى التأثيرات المتبادلة لعناصر الأمن القومي. فالقوة العسكرية لبلد ما، هي بالنتيجة تظافر لعوامل عديدة أهمها الاقتصادية، والسكانية، ومتانة الجبهة الداخلية وهي شرط مهم إذا ما اضطرت ممارسة الأساليب والخيارات العسكرية.
وقد لا تحل الخيارات العسكرية الأزمة بصورة جذرية ودائمة، بصرف النظر عن المنجزات التي تم تحقيقها فعلاً في ميادين القتال، أو التي يمكن تحقيقها، فالتناقضات، (لا سيما إذا كانت عميقة) ستبقى كامنة ما تلبث أن تستعر إذا طرحت عناصر جديدة في الموقف الإجمالي، ومنها مثلاً أن يستعيد الخصم إرادته في القتال ويرمم عناصر قوته الذاتية، أو أن تطرح الظروف الدولية موقفاً وشروطاً جديدة يستفيد منها في استعادة ما خسره، ففي هذه الحالة: فلا الخاسر يبقى خاسراً دائماً ولا المنتصر يبقى محتفظاً بانتصاره.
أو على العكس من ذلك، فإن حالة من السلم تستمر لسنوات طويلة مع تنشيط للعلاقات الاقتصادية والسياسية والثقافية والإنسانية تخفف من حالة العداء بين الدولتين إلى حد بعيد بما يستبعد أجواء التوتر ومخاطر تدهور العلاقات، مثلما هو حاصل في العلاقات الفرنسية ـ الألمانية، إذ تقدم حصيلة العلاقات الإيجابية بين الدولتين رصيداً مهماً من المكاسب والمنتجات في ميادين مختلفة، بما في ذلك الأعمال المشتركة في ميادين استراتيجية مثل: صناعة الطائرات المدنية(الأير باص، والطائرات الحربية، والصواريخ التكتيكية والاستراتيجية وأبحاث الفضاء.. إلخ)، بعد أن كان العداء الفرنسي ـ الألماني قد استمر بين الدولتين عقود طويلة، فقد احتل الألمان العاصمة الفرنسية مرتين وحاصروها مرة ثالثة، فيما احتل نابليون ألمانيا في حقبة الحروب النابليونية.(2)
وإذا كانت الحروب تخلف الدمار والكراهية، فإن العلاقات الإيجابية تطرح مزايا هائلة للتعاون المشترك، وتستبعد الخيارات الغير الودية، وتجعل من خصوم الأمس الأعداء حلفاء وشركاء اليوم، حتى ضمن التكتل الدولي الواحد، وهو ما نراه يتحقق بصورة مثالية في العلاقات الألمانية / الفرنسية حتى ضمن الاتحاد الأوربي وحلف الأطلسي.
وفي العلاقة بين الأمن القومي والمصالح الوطنية العليا: حيث لا ينبغي أن يسود الاعتقاد بأن الأمن القومي والمصالح الوطنية العليا، إنما هي حالة متماثلة بصورة مطلقة أو بالعكس، فالأمن القومي حالة تفضي إلى تأمين المصالح الوطنية العليا والعلاقة بينهما(وذلك بديهي) ليست علاقة تناقضية، بل أنها علاقة تكاملية.
فالأمن القومي كما بينا، هو مجموع فعاليات الدولة أو الحكومة لتوفير الحماية للمصالح الوطنية العليا، وهي بهذا المعنى تمتلك صفة الثبات المطلق أو شبه المطلق، ذلك أم المصالح إنما تعني في النهاية الثوابت التي لا بد منها لوجود كيان أي شعب، كالأرض بكل ما تعني من مقومات الحياة المادية للبشر، والسيادة التي تعني أن يتمكن البشر من الحياة وحفظ المقومات المعنوية الدينية والقومية وبقائهم أحرار في تلك البقعة المقدسة كوطن دون أن تستعبدهم أو تهيمن على إرادتهم وإنتاجهم المادي والمعنوي قوى أجنبية تحاول طمس السمات الأساسية لوجودهم. وسبيل المستعمرين والغزاة في ذلك، فرض لغتهم الأجنبية وتقاليد وعادات غريبة وإذلال وإهانة المواطنين في تقاليدهم الوطنية والقومية والدينية الثقافية وخلق أنماط اجتماعية تتناقض بشكل حاد مع إرادة ورغبة أبناء البلاد.
والاستقلال السياسي هو السبيل الوحيد لحفظ هذه العناصر الأساسية وتعميق المنجزات بواسطة الأجيال المتعاقبة، أو بالعكس فقد تتعرض المنجزات للإجهاض والتشتت إذا ما تمكنت قوى أجنبية من التحكم بمقدرات البلاد، كما أن الاستقلال الوطني بمغزاه العميق إنما يعني حرية الخيارات السياسية والعمل الدؤوب من أجل تقليص حجم الضغوط الموضوعية والذاتية، التي يواجهها صانعو القرار السياسي.
وبالنظر لما تمثله المصالح الاقتصادية من أهمية في المرحلة الراهنة(كما كانت دوماً كذلك) والدور المتعاظم الأهمية للعلاقات الاقتصادية الدولية، فإن الضغوط الاقتصادية التي تواجهها الشعوب تمثل إحدى الخروق الأساسية للاستقلال السياسي لاسيما في البلدان النامية حيث تمثل الثروات الطبيعية وموقعها في السوق العالمية كانت وما زالت بؤرة أطماع الدول الاستعمارية التي ما زالت تسعى إلى أهدافها ولكن بأساليب وطرق عصرية.
وبديهي أن الأمن الاجتماعي ضرورة لا بد منها من أجل ديمومة الحياة ومسيرتها على طريق تراكم الثروات والخبرات، وكونه يمثل الإطار الوطني للسكان، يطرح الأمن الاجتماعي بوصفه أدى أساسيات المصالح الوطنية العليا الثابتة.
وتدل هذه المعطيات، أن المصالح الوطنية العليا هي ضرورة غير خاضعة للتغير، أو أن فرص إجراء تعديلات مهمة ضئيلة الاحتمال إن لم نقل معدومة، كما أنها ليست متعلقة بوجود هذه الحكومة الوطنية أو تلك، وهي ليست إجراءات، بل حقائق نهائية ثابتة، وهي في ذلك متساوية الأهمية بالنسبة لجميع الدول والشعوب.
ويضم الأمن القومي قدراً من المرونة في التحكم بمرتكزاته، فالتوجهات في بناء الاقتصاد الوطني يتفاوت في اتجاهاته بين دولة وأخرى ليس في الأنماط السائدة فحسب، بل وفي هيكليته أيضاً، ويدل على ذلك التفاوت في مصادر الدخل القومي ونسبة الصناعة والزراعة والخدمات.. إلخ , من مصادر تشكل بمجموعها الدخل القومي للبلاد، أو التركيز على نمط معين من الصناعات وكذلك في مجال بناء القوة العسكرية التي تعتمد بدرجة رئيسية على أوضاع العلاقات الدولية وطبيعتها: هادئة متوترة، وحجم التحديات التي تواجهها الدول.
فعلى سبيل المثال: كان جيش الولايات المتحدة الأمريكية يحتل المرتبة السادسة عشر قبل الحرب العالمية الثانية، ثم قفز إلى المرتبة الأولى بعد الحرب، وكان ذلك بالطبع تلبية للظروف الدولية التي نشأت خلال الحرب وبعدها، واستثماراً للمكانة التي تحققت لها(للولايات المتحدة)، كما كانت بريطانيا تتمتع بأقوى أسطول بحري في العالم، ربما حتى الحرب العالمية الأولى، ليس فقط بسبب ما يمثله الوضع الجغرافي لبريطانيا كجزيرة، وإنما أيضاً تلبية لدورها الاستعماري العالمي، ولكن هذه الأهمية تقلصت بعد الحرب العالمية الثانية نتيجة اتساع النفوذ الأمريكي من جهة وبفعل تحرر المستعمرات من جهة أخرى، ولكن أيضاً بسبب انتقال الدور القيادي في العالم الرأسمالي إلى الولايات المتحدة في مواجهة الظروف الدولية المتمثلة في بروز الاتحاد السوفيتي كقوة دولية عظمى.
وبقدر أعظم من المرونة تتمثل في سبل تحقيق الأمن القومي، بل هي مجموعة من التكتيكات التي يمارسها أوساط الأمن القومي لتفضي في محصلتها النهائية إلى ما لا سبيل للتنازل عنه ألا وهي المصالح الوطنية العليا، فسبل تحقيق الأمن القومي مرنة كل المرونة في سياقاتها السياسية والدبلوماسية التي تستهدف أمراً أساسياً وهو إبعاد خيار العنف والابتعاد عن الحافات الخطرة للأزمات والصراعات المسلحة، والإرغام على قبول إرادة الطرف المقابل، ومن المعروف أن اتفاقيات الإرغام تحمل في ثناياها أزمتها الموقوتة، والدبلوماسية بلا شك إنسانية في أهدافها وفعالياتها، بيد أن تلك الفعاليات لا تصادف النجاح على الدوام، فالخيار المقابل هو استخدام الوسائل العسكرية لتحقيق الأمن القومي وهو خيار لا يخلو بدوره من المرونة، فكما ذكرنا في مطلع هذا المبحث، أن الاستفزازات العسكرية والمناورات والتهديد باستخدام القوة، أو باستخدامها جزئياً في صراع مسلح محدود أو شامل، دون أن يؤدي ذلك إلى الحرب، كالقيام بأعمال الحصار، كحصار الولايات المتحدة لكوبا بالسفن الحربية 1961، على سبيل المثال، أو بتلغيمها المياه الإقليمية لنيكاراغوا في الثمانينات.
ويلعب صانعو القرارات السياسية الدور الأساسي في تنسيق هذه المجهودات والفعاليات المهمة للغاية، مع سائر تشكيلات الإدارة السياسية، فهم الوحيدون الذين يهندسون مسيرة هذه العمليات المعقدة الشاقة، وعلى دقة وصواب أحكامهم وقراراتهم يعتمد إلى حد بعيد مآل هذه المجهودات الضخمة ومصيرها في النجاح أو الفشل.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
هوامش
1. ننصح بهذا الصدد قراءة بعض الأمثولات المهمة جداً، في المصادر المختلفة التي تعني بتاريخ الحروب في العالم، ومنها على سبيل المثال لا الحصر، استجواب وزير الدفاع الفرنسي أما الجمعية الوطنية الفرنسية(البرلمان)، عندما سأله رئيس الجمعية الوطنية باسم الأمة: هل الوطن في خطر شديد ؟ فأجاب الوزير بنعم. فسأله رئيس الجمعية مرة أخرى: ألا يمكن تفادي الحرب ؟ فأجاب الوزير: كلا يا سيادة الرئيس. وكذلك المفاوضات الطويلة المتعبة التي أجراها رئيس الوزراء البريطاني تشمبرلين، ورئيس الوزراء الفرنسي ديلاديه مع هتلر لمنع نشوب الحرب وقبولهم بالتضحية بجيكوسلوفاكيا، لإنقاذ السلم، ولكن الهجوم على بولونيا أسقط كافة فرص السلام، بين الأطراف المتنافسة، وكذلك في مفاوضات وزير الخارجية السوفيتية مولوتوف مع وزير الرايخ الألماني روبنتروب، والتي أسفرت عن اتفاقية سلام، ولكن الخطط الألمانية في التوسع تجاهلت كل المخاطر، وبالغت في استصغار القوى الأخرى وترددهم.
2. تحتل فرنسا المرتبة الأولى استيراداً وتصديراً مع ألمانيا فقد صدرت إلى ألمانيا عام 1999 ما قيمته حوالي 90 مليار مارك (45 مليار يورو) واستوردت منها بقيمة 113 مليار مارك (57 مليار يورو).
المصدر: الحكومة الألمانية الفدرالية: حقائق عن ألمانيا، ص507 فرانكفورت 2000
1957 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع