بقلم أحمد فخري
قصة واقعية - اليتيم / الجزء الأول
تونس العاصمة عام 1990
كان هناك رجل مسن في عقده السابع يدعى الحاج ناصر يعمل ببيع الفحم والنفط من حجرة خلفية بداره الصغير في حي شعبي يطلق عليه حي التضامن الواقع بشمال غربي العاصمة التونسية. كان دخله المتواضع بالكاد يسد حاجة اهل بيته واولاده، وليس هناك مجال لما يزيد عن الكساء والطعام. كان للحاج ناصر ولدان، الاكبر يدعى سفيان وكان في 16 من عمره اما ابنه الاصغر ذو السنتين فيدعى محمد والذي يطلق عليه الجميع لقب (حمّة). للحاج ناصر زوجة عليلة اسمها منجية وقد اثقل جسدها عليها بالكثير من الامراض المتلاحقة حتى بآخر المطاف اصابها التهاب الكبد المزمن من الزمرة (د) فتوفت عن عمر يناهز الخمسين عاما. كان حمل الحاج ناصر ثقيلاً ما بين عمله بكسب قوت يومه وبين الاعتناء بولديه خصوصاً الاصغر منهما والذي صار يقضي جل وقته بالتسكع في الشوارع بعد موت والدته. وما ان رحلت الام الى دار حقها حتى اصبح الصغير اكثر حاجة لشخص يحتظنه ويرعاه ويعمل على تلبية مستلزماته. لذلك قام جميع سكان الحي بنصح الحاج ناصر كي يتخذ لنفسه زوجة جديدة حتى تكون سنداً له في داره واماً بديلة لولديه سفيان وحمّة. لم يمر على وفاة الزوجة الاولى سوى عام واحد فقط حتى تزوج الحاج ناصر من امرأة جديدة تصغره 30 عاماً تدعى سهام. بادئ ذي بدء كانت سهام زوجة صالحة واماً لولديه تعاملهما كما لو كانت الام الحقيقية. ولما اطمأن الحاج على بيته واولاده بعد اسبوع من الزواج، رجع يعمل بزخم وعزيمة اكبر ليوفر الوقود لاهل الحي. وتضامناً منهم، صاروا يقتنون الكثير من حاجياتهم من الوقود كي يساعدوه على تسلق سلم الحياة من جديد حتى وإن لم يكونوا بحاجة لذلك الوقود، الا انهم كانوا يختزنوه لايام الشتاء القاسي.
في يوم من الايام وبينما كان الحاج ذهباً ليشتري الفحم من تاجر الجملة اصابته ازمة سعال قوية وملحة لم يعهدها من قبل. فقد اعتاد السعال على اثر الغبار الذي يثيره الفحم عندما يكيل له تاجر الجملة كميات كبيرة منه ليرجعها الى مخزنه خلف الدار. لكن السعال هذه المرة ابى ان يتوقف حتى بعد ركوبه العربة التي يجرها حماره المسن كي يعود بها الى بيته. فهو يعلم جيداً ان الحالة المادية لا تسمح بكشفية الاطباء. لكن زوجته الجديدة سهام صارت تلح عليه كثيراً كي يذهب الى المستشفى العمومي حتى لا ينقل العدوى لعائلته إن كان مصاباً بمرض خطير معد. بذلك اليوم طلب الحاج من ابنه سفيان ان يكتب له لوحة على قطعة كارتونية ويضعها خارج باب الدكان ليعلم زبائنه بانه ذاهب بمشوار طارئ وسوف يعود ويفتح الدكان في اليوم التالي. ولما وصل مستشفى الرابطة وهو المستشفى الجامعي الذي يقع بهضبة الرابطة بتونس والذي كان اسمه في حقبة الاستعمار الفرنسي (مستشفى إرنست كونساي). دخل الحاج وتحدث مع الاستعلامات فوجهوه الى قسم الامراض الصدرية. وبعد انتظار دام اكثر من ساعة ونيف وصله الدور فدخل على الطبيب وراح يفحصه بدقة ثم خلع السماعة من اذنيه ليضعها فوق رقبته ويقول،
الطبيب : يجب عليك ان تعمل صورة (راديوغرافي) ثم ترجع الى عندي.
الحاج ناصر : وما هي كلفة هذه الصورة يا دكتور؟
الطبيب : 5 دنانير يا حاج.
الحاج ناصر : لا اقوى على دفع هذا المبلغ. اليس من الممكن اعطائي دواءاً للسعال بدلاً من تلك الصورة؟
الطبيب : كلا، انها ضرورية جداً كي نعرف نوع مرضك يا حاج ولكي نزيل كل الشكوك.
الحاج ناصر : لكنني لا املك هذا المبلغ. ما هو المرض الذي تشك به يا دكتور؟ ارجوك اخبرني ولا تتردد.
الطبيب : لا اكذب عليك يا عمي ، انت قد تكون مصاباً بالسرطان.
الحاج ناصر : امري الى الله. ماذا اعمل؟ إذا كان ذلك قضاء الله فانا راض بما يقضي.
الطبيب : اعانك الله يا عمي.
خرج الحاج ناصر من العيادة يفكر بما اخبره الطبيب عن حالته لكنه كان اكثر قلقاً على زوجته الجديدة وولديه سفيان وحمّة. الا انه يعلم تماماً ان الله الذي خلقهم سوف لن ينساهم وسوف يرعاهم ويرحمهم برحمته وان الموت عليه حق. لذلك رجع الى بيته وفتح الدكان كي يعمل بجد اكبر محاولاً كسب اكثر قدر من المال ليتركه لعائلته مماته. لكن السعال لم يعتقه ولو للحظة واحدة فكان ذلك امراً مخيفاً لزبائنه حتى انتشرت الشائعات بانه مصاب بمرض السل لذلك توقف الناس عن ارتياد دكانه ولم يقتنوا من بضاعته شيئاً بعد ذلك. وبعد مرور شهرين رقد الحاج ناصر على فراشه يحتضر ووقفت زوجته الى رأسه واحاط به ولداه وهم يبكون ويقرون الآيات القرأنية حتى لفظ انفاسه الاخيرة وسلّم الروح الى ربه فبدأت مسيرة البؤس لتلك العائلة المنكوبة. اصبحت زوجته لا تحن على الاولاد كما كانت في السابق وتعمل ما في وسعها كي يغادرا البيت بشكل نهائي. نسيت ما وعدت به زوجها الحاج ناصر عندما كان يحتضر. لكن فقر الحال اجبرها كي تعمل كخادمة في منازل الاغنياء بمنطقة المنزه السادس المترفة مما اجبرها على الابتعاد كثيراً عن البيت والاولاد. حتى بآخر المطاف علمت ان ابن زوجها سفيان طرد من المدرسة بسبب غياباته المتكررة. اما الاصغر حمّة فكان متقطعاً بذهابه للروضة وكان يقضي جل وقته في التسكع بالشوارع. وفي الشارع كانت هناك زمرة من اطفال السوء تدعى (عصابة سلاح الاكحل). وسبب التسمية هو ان قائدهم ولد داكن السمرة عمره 13 عاماً طويل القامة شديد البأس اسمه صلاح (سْلاح باللهجة التونسية). يتبعه ثمانية من الاطفال المشردين الاشرار على شاكلته يتسكعون في الشوارع باغلب الاحيان ويسرقون كل ما يخرج امامهم عندما تكون الابواب مفتوحة ويكون اصحابها غافلين عن امرهم. كان اكثر ضحاياهم هو صاحب الدكان الوحيد في الحي الرجل المسكين الحاج مصطفى إذ كانوا يتربصون له خارج دكانه لساعات طوال حتى يدخل منزله خلف الدكان اما لقضاء حاجته او لغرض اداء الصلاة فيغيرون على الدكانه ويسرقون منه كل ما يحلو لهم من طعام وحلوى ومواد قد يتمكنوا من بيعها فيما بعد ثم يعودوا بعد تلك الغارات الى اماكنهم المعتادة ليلعبوا كرة القدم فيجلس حمّة بعيداً على رصيف الشارع يراقب لعبهم ويتمنى لو يلعب معهم لكنه كان على يقين بانهم لن يسمحوا له باللعب لصغر سنه.
<<<<<<<<<<
مرت 7 سنوات وبقي الحال على ما هو عليه. زوجة الاب سهام تعمل كخادمة بالمنازل، سفيان يعد العدة كي يهاجر الى فرنسا بعد ان اكمل الخدمة العسكرية وحمّة الذي اصبح عمره الآن 10 سنوات صار يغيب طوال اليوم خارج الدار بعد العودة من المدرسة.
وفي احد الايام تجرأ حمّة وطلب من العصابة الشريرة ان يلعب معهم. وكان ردهم انهم امسكوا به وصاروا يضربونه ضرباً مبرحاً حتى سقط على الارض وراحت الركلات والشتائم والبصقات تأتيه من كل حدب وصوب. ولما انتهوا من عملهم الشرير ذاك، وقفوا فوقه وتبولوا عليه لتبتل ثيابه ويبتل رأسه وجسده بالكامل. ثم هربوا بعيداً وتواروا بازقة الحي. بقي حمّة مستلقياً بوسط الشارع المقفر يتألم ويبكي حتى جائته احدى نساء الحي فعطفت عليه وحاولت ان تسنده كي يقف على قدميه الا ان رائحته كانت كريهة للغاية. سألته عن سبب حالته هذه لكنه لم يرد عليها بشيء ليلتزم الصمت فامسكت بيده واخذته الى بيت اباه وادخلته من الباب الخارجي وتركته هناك لعلمها ان زوجة اباه تعمل باحدى المنازل وليس هناك من يدخله لداخل الدار. بقي حمّة جالساً على الارض بوسط فناء الدار ولم يكف عن ذرف الدموع ولو للحظة واحدة حتى وصل اخوه الاكبر سفيان فعنفه بشدة وتقزز من الرائحة التي تصدر منه. بقي يسأله عما وقع له، لكنه آثر الصمت ولم يتفوه بكلمة واحدة. ظل يبكي ويبكي حتى رجعت زوجة اباه فهالها منظره ورائحته النتنة فامسكت بخرطوم الماء وصارت ترشه به كي تزيل عنه تلك الرائحة الكريهة ثم ادخلته الدار وصارت تضربه هي الاخرى وتصرخ عليه وتوبخه فراح يتلقى الضربات من سهام بكل صمت والدموع تنهمر من عينيه. ولما فرغت من ضربه احضرته للصالة وحاولت ان تستفسر منه عما وقع له. الا انه لم يخبرها باي شيء. لم تشك سهام ابداً بان صمته هذا اصبح امراً ينذر بمشكلة نفسية قد اصيب بها. لكن حمّة خرج عن صمته بعد بضع اسابيع وصار يتكلم كلمات مبهمة غير مفهومة. استمر الحال به حتى صار يخرج في الصباح الباكر ويجلس على ناصية الطريق يراقب الاولاد الاشرار من عصابة سلاح الاكحل وهم يلعبون كرة القدم ولا يتلفظ بشيء. كان اطفال الحي جميعهم يطلقون عليه لقب (حمّة المهبول). يسخرون منه ويقذفونه بقشور الموز والخضار الفاسدة عندما يرونه ماراً بالشارع. كان يغطي خجله بالضحك عليهم كلما تمادوا في ايذائه واهانته.
<<<<<<<<<<
بعد مرور عام كامل رجع سفيان الى الدار متأخراً ليزف للجميع خبر حصوله على تأشيرة فرنسا. فرحت سهام بذلك الخبر السعيد لانها تعلم علم اليقين ان ذلك سيمنحها المزيد من الحرية لتتصرف بالبيت كما يحلو لها. اما الولد الثاني (المهبول) فلم يكن يحسب له اي حساب. لانه بالكاد يأتي بآخر اليوم ليأكل ما تيسر وينام. رحل سفيان الى فرنسا ولم يودعه احد. كان يعلم انه سوف لن يرجع الى تونس لانه يريد ان يؤسس حياة جديدة بفرنسا.
في يوم من الايام وبعد رحيل سفيان بشهر، رجع حمّة الى البيت اثناء النهار دون عادته ودخل الصالة فسمع اصواتاً غريبة غير معتادة ترده من غرفة نوم زوجة اباه سهام. سار بخطى وجلة وبطيئة وفتح الباب ليجد رجلاً يضاجع زوجة اباه فاصابته نوبة هستيرية من الضحك. خاف الرجل الفاسق كثيراً واراد ان يهرب لكن سهام طلبت منه ان يواصل مضاجعتها لان هذا الطفل مجنون ولا يعي شيئاً فعاد وواصل مهمته بزخم أكبر. في بادئ الامر كان ذلك الامر صادماً لحمّة ولكن بمرور الايام اصبح يعتاد عليه وبدأت سهام تأمره كي لا يحدث ضوضاءاً عندما يكون لديها زوار. طبعاً، تخلت عن شغلها بتنظيف المنازل لان عملها الجديد بداخل بيتها صار يدر عليها الكثير من المال. بقيت لديها مشكلة واحد فقط وهي ان زبائنها كانوا يتضايقون ويتذمرون كثيراً من وجود حمّة في البيت وقت زياراتهم ويطلبون منها كي تتخلص من ذلك الطفل اللعين وتضعه بمستشفى للمجانين. لم تكن سهام لتتوانى عن فعل ذلك لولا ان المصحات العقلية لم توافق على استقبال حمّة فيقولون ان حالته غير مجدية ولا تستدعي استقباله. لذا كان لزاماً عليها ان تتخلص منه بطريقة اخرى غيرها.
بعد مرور سنة كاملة رجع سفيان من فرنسا في اجازته الصيفية ليمكث اسبوعين بتونس وقد بان عليه التحسن بحالته المالية فرحبت به سهام وطلبت من زبائنها الكف عن المجيء الى بيتها بتلك الفترة حتى يعود سفيان الى فرنسا. وبعد ان طبخت له اكلة الكسكسي شهيرة احتفاءاً بقدومه وانضمت اليهم جارتهم منجية. جلس الجميع بعد ان تناولوا الطعام الشهي وصاروا يتحدثون معه ويسألونه عن احواله بفرنسا فراح يخبرهم بان لديه وظيفة عامل نظافة ببلدية باريس تدر عليه بمرتب جيد وانه لديه شقة بمنطقة (براباس) المرموقة ولديه حبيبة تسكن معه. هنا التفت سفيان وسأل اخاه عن احواله لكن حمّة لم يرد عليه كعادته وراح يضحك فتطوعت سهام واخبرته بانه يعيش حياة وحيدة مزرية في تونس وان المصحات النفسية رفضت استضافته وعلاجه. فسألها عن السبب قالت له بانهم غير مقتنعين من حدة جنونه. هنا شعرت سهام ان عليها التمهيد لمغادرة حمّة وتغتنم الفرصة الملائمة لتتخلص منه بشكل نهائي حين قالت،
سهام : اسمع يا ولدي، لماذا لا تأخذ حمّة عندك بفرنسا. فهناك قد تتمكن من علاجه باحدى المصحات النفسية.
واضافت جارتهم منجية لتقول،
الجارة منجية : انها فكرة رائعة. لماذا لم نفكر بذلك من قبل؟ اجل يا بني، خذ اخاك الى جانبك واعتني به كما يليق به هناك.
سفيان : الامر ليس بهذه السهولة يا خالتي منجية. فانا عندما كنت بتونس، انتظرت طويلاً حتى حصلت على التأشيرة الفرنسية.
سهام : لكنك الآن مقيم بفرنسا وتعمل فيها بشكل رسمي. ربما سيكون الامر اسهل بانسبة للسلطات كي تتقبل التحاق اخاك بك.
سفيان : سابحث بالأمر عندما اعود.
توالت الضغوط على سفيان من اغلب اهالي الحي، خصوصاً وان البعض راح يقص عليه خبر فسوق زوجة اباه وانها صارت تمارس البغاء ببيت والده بشكل علني وذلك امر سيء للغاية. لكن سفيان لم يستغرب من خبر توجه سهام نحو الفجور لانه صار يعيش الآن بفرنسا التي رأى فيها العجب العجاب هناك من فساد الاخلاق وانحطاط القيم مما جعله يستهين بالامر. ومع ذلك فقد قرر ان يبحث بامكانية سحب اخاه فور رجوعه الى باريس.
وبعد انقضاء فترة اجازته ودع سفيان الجيران والاصحاب جميعاً وعاد ادراجه الى فرنسا. وفور لقائه بحبيبته كلوديت التي تعيش معه بشقته قص عليها كل الاحداث التي مرت به اثناء زيارته لوطنه الام تونس ومن ضمنها ما طلبوا منه بخصوص اخاه حمّة. فاخبرته بان لديها قريب يعمل كطبيب امراض عصبية بضواحي باريس سوف تتحدث اليه وتقف على رأيه لترد له الخبر لاحقاً.
وبعد مرور بضعة ايام اتصلت كلوديت بقريبها واخبرته بقصة حمّة فابدى استعداده الكامل لعلاج الولد وانه سيزودها بتقرير يخول الطفل من الحصول على التأشيرة للذهاب الى فرنسا. وما هي الا شهراً واحداً حتى ارسلت كلوديت التأشيرة الى سهام بتونس التي غمرتها سعادة لا توصف لان ذلك يعني ان البيت سيخلو لها بالكامل كي تمارس عملها المشين بحرية اكبر عندما يغادر حمّة. لذلك اخذته وذهبت به الى شارع الحبيب بورقيبة كي تقدم على التأشيرة لدا السفارة الفرنسية. وبعد الوقوف لاكثر من ساعتين في الطابور امام بوابة السفارة، تمكنت من الدخول وتحصلت على دمغة التأشيرة على جواز حمّة الذي اخرجته له كلمح البصر بمساعدة احد زبائنها الذي كان ضابطاً بالشرطة وقد سهل لها الحصول على الجواز بزمن قياسي.
بعد ان حصلت سهام على دمغة التأشيرة في جواز حمّة اخذته وتوجهت به الى مكتب الخطوط الجوية التونسية بشارع برشلونا لتشتري له تذكرة ذهاب بلا عودة كي يغادر تونس خلال اسبوع. وبتلك الفترة قامت بشراء بعض الملابس المستعملة (الفريپ) لحمّة كي يسافر بها بشكل لائق.
وفي يوم السفر اغتسل حمّة وارتدى ملابسه الجديدة ليصبح كالاطفال الذين يحتفلون بالاعياد ولو انه لم يعد طفلاً الآن بعد ان بلغ سن الثانية عشر. البسته سهام حقيبة ظهر ووضعت فيها بعض من حوائجه وحقيبة سفر اخرى مهلهلة حصلت عليها من (الفريپ) كذلك استاجرت سيارة تاكسي لتنقلهما الى مطار قرطاج الدولي. وفور دخول حمّة صالة الجمارك انتابته نوبة من الخوف وصار يريد العودة لكن موظفوا الجمارك اكدوا له ان كل شيء على ما يرام ولا داعي للخوف بعد ان حصلوا على توصية خاصة من زوجة اباه.
رجعت سهام الى تونس وهي سعيدة تملأها فرحة عارمة. قعدت بسيارة الاجرة وراحت تقلب دفتراً صغيراً كتبت فيه اسماء الزبائن الدسمين وارقام هواتفهم ممن سيغدقون عليها بالكثير من المال مقابل خدماتها المرهقة.
وفي الطائرة جلس حمّة وهو مرعوب يكاد يتبول على نفسه من شدة الهلع لان اعضاء عصابة سلاح الاكحل اكدوا له بانهم سيرمونه من الطائرة عندما ترتفع طائرته فوق السحاب. لذلك جلس بمقعده رابطاً الحزام طوال فترة الرحلة التي دامت ساعتين ونصف وهو خائف يرتعد. كان يرفض كلما قُدّمَ اليه من طعام من شدة الذعر ويتمنى المغادرة من تلك الطائرة اللعينة باسرع وقت ممكن. وفور وصول الطائرة ارض مطار شارل ديغول بباريس نزل المسافرون الى قاعة الوصول فنزل حمّة معهم ليقترب منه رجل من موظفي المطار ويسأله بالعربية وبلهجة تونسية إن كان اسمه حمّة الشواشي، فاومأ حمّة برأسه وتبعه الى شرطة المطار اين دُمِغَ جوازه فاقتاده الموظف بعدها الى الخارج ليرى اخاه سفيان واقفاً مع حبيبته كلوديت ينتظرانه بفارغ الصبر. كان اللقاءاً مؤثراً إذ كان سفيان يذرف الدموع بينما راح حمّة ينظر بعيداً ويقهقه كأنه غير مكترث لما يجري من حوله. ركب الثلاثة بسيارة سفيان وانطلقوا بها الى حي (براباس) الحي الذي تسكنه غالبية الجاليات العربية بفرنسا. صار حمّة ينظر من شباك السيارة وكأنه في حلم غريب يكاد لا يصدق انه اصبح ببلد آخر وليس من الارجح انه كان يعي اين هو ولماذا انتقل الى هذا المكان الغريب لكنه سعيد لانه اصبح مع اخاه سفيان وارتاح من جور زوجة اباه سهام التي كانت تضربه وتزعجه كثيراً بزوارها الذين لا ينقطعون عن البيت ومن ظلم عصابة سلاح الاكحل.
<<<<<<<<<<
في الصباح الباكر من اليوم الثاني وقف سفيان خارج غرفة حمّة وطرق الباب اكثر من مرة حتى سمع اخاه الصغير يقهقه من الداخل ففتح عليه الباب ليجده ما زال مستلقياً في فراشه قال،
سفيان : الست جوعاناً يا اخي؟
حمّة : جوعان، جوعان، اجل جوعان. حمّة جوعان.
سفيان : إذاً تعال الى المطبخ وتناول افطارك.
وثب حمّة واقفاً وصار يواري سريره حتى تركه منتظماً وبحالة رتيبة للغاية وكأن احداً لم يرقد فيه ثم تبع اخاه الى المطبخ فشاهد كلوديت مشغولة باعداد وجبة الافطار، نظرت اليه ورسمت على وجهها ابتسامة عريضة ثم قالت،
كلوديت : سبّاه كيير هابيبي هاما.
حمّة : هاهاها تقول هاما.
سفيان : انها فرنسية ولا تستطيع ان تلفظ العربية بشكل جيد.
هنا فاجأ حمّة اخاه وحبيبته حين قال بفرنسية نظيفة،
حمّة : انا افهم ما تقولين لو تحدثتِ بالفرنسية.
سفيان : ومن اين تعلمت (السوري) الفرنسية يا حمّة ؟
حمّة : من العم مصطفى.
فسأله سفيان بالعربية،
سفيان : من هو العم مصطفى؟ ربما تقصد العم مصطفى صاحب دكان الحي؟
حمّة : اجـ اجـ اجل العم مصطفى. كان يعطف علي ويجلسني عنده ويطعمني الحلوى ويعلمني الفر فر فرنسية.
سفيان : انت حقاً مليئ بالمفاجئات يا حمّة. هيا تناول افطارك يا اخي.
وبينما هم يأكلون قالت كلوديت بالفرنسية،
كلوديت : ماذا ستفعل اليوم يا حمّة؟
حمّة : هل لديكم ما يشبه عصابة سلاح الاكحل هنا بباريس؟
سفيان : كلا، تلك العصابة موجودة فقط بتونس. لا تقلق يا حمّة.
حمّة : إذاً انا اريد ان اتمشى وحدي بالحي.
سفيان : وهل ستتمكن من العودة دون ان تضل الطريق؟
حمّة : الا تتذكر انك كتبت لي العنوان عندما جئتنا بزيارة الى تونس؟ وقتها طلبت مني ان اكتب لك رسائل كلما تعرضت للمشاكل. لقد احتفضت بالعنوان عندي انظر.
اخرج ورقة صغيرة عليها العنوان من جيبه وعرضها على اخوه.
سفيان : اجل انت على حق. لقد نسيت ذلك تماماً. لكن كيف تذكرتها يا حمّة؟
حمّة : ربما انا مجنون لكني لا انسى شيئاً.
سفيان : انت لست مجنوناً يا اخي لكنك مررت باوقات عصيبة.
كلوديت : وهذا يذكرني باننا يجب ان نعجل في علاجه.
سفيان : اجل ولكن ليس الآن، دعه يتلقف انفاسه لبضعة ايام ويتأقلم على اجواء باريس ثم لكل حادث حديث.
حمّة : إذاً ساخرج اليوم وحدي في الحي.
سفيان : وانا ساذهب الى عملي بالبلدية ولن اعود حتى الساعة الخامسة مساءاً. اسمع يا حمّة، ساعطيك عشرة فرنكات بامكانك ان تشتري بها ما تشاء.
صرخت به كلوديت من المطبخ معترضة،
كلوديت : هـــــــــــــل جننت يا سفيان؟ ماذا سيشتري بعشرة فرنكات؟ انه لا يستطيع ان يقتني بها حتى الحلوى. ذلك عيب عليك يا حبيبي، اعطه مئة فرنك ولا تكن بخيلاً.
سفيان : حسناً ولكن اسمع يا حمّة. لا تبددها على اشياء تافهة والا توقفت عن اعطائك المزيد من النقود، افهمت؟
حمّة : فهمت، حمّة ليس غبياً.
سحب سفيان محفضته واخرج منها ورقة من فئة 100 فرنك واعطاها لاخاه ثم قال،
سفيان : لقد حذرتك يا حمّة. انتبه على النقود جيداً ولا تضيعها.
قبّل سفيان حبيبته ثم خرج من البيت بينما وقف حمّة كي يقبل حبيبة اخاه لكنها صدته بيدها وقهقهت ثم قالت،
كلوديت : سفيان وحده الذي يقبلني. هيا اخرج يا حمّة الطيب.
خرج حمّة من الشقة ونزل سلم العمارة حتى وجد نفسه في الشارع. راح يسير على الرصيف ويتفحص الناس هناك ويقارنهم بالناس ببلده تونس ثم يضحك. الناس هنا يمنحونه الابتسامة الرقيقة بينما كان سكان الحي بتونس اما يبتعدون عنه وجلاً، او كانوا يؤذونه ويسمعونه كلاماً قاسياً او حتى يبصقون عليه في بعض الاحيان. لكنه اعتاد على قساوة قلب العامة هناك. بقي يمشي طوال اليوم بين حارات (براباس) حتى شعر بالجوع فاراد ان يشتري لنفسه طعاماً. رأى احدى المحلات التي عرضت جرائد عربية وفرنسية بالخارج فدخل ليسأل البائع بالفرنسية، " as-tu à manger, j'ai faim". بمعنى هل لديكم طعام فانا جائع. نظر اليه البائع المسن، ابتسم بوجهه واعطاه علبة بسكويت ثم سأله بالعربية،
البائع : هل انت جزائري؟
حمّة : كلا، انا تو تو تونسي.
البائع : مرحباً بك يا ابن بلدي. انا ايضاً تونسي.
حمّة : كم كم كم ثمن هذه العلبة؟
البائع : انها هدية لك من عمك العيادي.
حمّة : انا لـ لـ ليس لدي عم اسمه العيادي.
العيادي : انا اسمي محمد العيادي. انها هدية مني يا ولدي.
حمّة : هي هي هي، الآن فهمت. إذاً انت عمي العيادي. اشكرك يا عمي العيادي. انت تشبه العم مصطفى بحي التضامن. لقد كان يعطيني الطعام دون مقابل. كان يحبني بينما كان الآخرون يكرهونني او يخافون مني.
العيادي : ولماذا يخافون منك يا ولدي؟
حمّة : يقولون انني مجـ مجـ مجنون ويسمونني حمّة المهبول. ربما انا مهبول فعلاً كما يقولون.
العيادي : هذا اكبر دليل على انك سوي. فالمجنون لا يمكن ان يعترف بجنونه ابداً.
حمّة : وماذا تبيع هنا غير البس البس البسكويت؟
العيادي : ابيع المجلات والجرائد والحلوى والمشروبات الغازية والمشروبات الكحولية.
نظر حمّة الى مجموعة بطاقات ملونة بالاحمر والاصفر وسأله،
حمّة : ما ما ما هذه؟
العيادي : انها بطاقات يانصيب (لوتو).
حمّة : ما فائدتها؟ اقصد لماذا يشتريها الناس؟
العيادي : بعض الناس يشترونها باستمرار. واذا حالفهم الحظ فانهم يربحون الكثير من المال.
حمّة : الكثير من المال؟ اتـ اتـ اتقصد 100 فرنك مثلاً؟
العيادي : لا يا ولدي. اكثر من ذلك بكثير. يعني مثلاً في هذا الاسبوع الجائزة الكبرى هي 220 مليون فرنك. اتعرف كم هي الملايين؟
حمّة : اجل. انها الآف الآلاف. اوه انه مبلغ كبير جداً. وكـ كـ كيف يحصل عليها الانسان؟
العيادي : يشتري بطاقة كاملة او جزء من البطاقة.
حمّة : كم ثمن البطاقة الكاملة؟
العيادي : ثمنها 250 فرنك.
نظر حمّة الى ورقة النقد التي منحها اياه اخاه وشعر بالحزن لانه لن يتمكن من شراء بطاقة كاملة فقال،
حمّة : ربما سيكون عندي المبلغ اللازم لشراء بطاقة كاملة في يوم من الايام فاشـ اشـ اشتري واحدة.
العيادي : لا يا ولدي. اسمع مني جيداً، يجب عليك ان لا تبدد اموالك بهذه التفاهات فانت مازلت صغيراً وعليك ان تتعلم جيداً ثم تعمل فيرزقك الله بالمال الحلال من خلال عرقك، لا من بطاقة يانصيب فهي نوع من انواع القمار.
حمّة : اجل يا عمي. كـ كـ كلامك صحيح.
خرج حمّة من الدكان وهو يقضم قطع البسكويت ويتفحص المارّة في الشوارع حتى وصل الى احدى المحال التي تبيع فطيرة الـ (كريـﭖ) الرقيقة فسأل البائع بالعربية،
حمّة : كـ كـ كم ثمن هذه فطيرة؟
لكن البائع لم يفهم ما قاله حمّة فاجابه بالفرنسية،
البائع : انا لا افهم ما تقول يا صغيري.
رد عليه حمّة بالفرنسية هذه المرة حين قال،
حمّة : سألتك، كم ثمن هذه فطيرة؟
البائع : انها بخمسة فرنكات للواحدة.
حمّة : إذاً، اريد واحدة بالشكلاطة.
البائع : هل لديك المال؟
اخرج حمّة الورقة النقدية من فئة المئة فرنك واعطاها للبائع فاخذها البائع وارجع له 90 فرنكاً. راح حمّة يعد النقود ثم قال،
حمّة : المبلغ ناقص، كان عليك ان ترجع لي 95 فرنكاً.
ابتسم البائع وعلم انه لا يستطيع غش حمّة فارجع له خمسة فرنكات اخرى ثم اعد له قطعتين من فطيرة الـ (كريـﭖ) وقال،
البائع : هذه واحدة لك بنقودك وواحدة اضافية كهدية لك مني لانك ذكي يا فتى وتستحق واحدة مجانية.
حمّة : شكراً لك، انا لست متسولاً. بامكانك ان تعطيها لشخص فقير جائع. اما انا فاريد واحدة فقط.
اخذ فطيرته وراح بعيداً حتى رأى اريكة خشبية شاغرة جلس عليها. وبينما كان يهم بأكل الفطيرة جائته فتاة تبدو بنفس سنه وجلست على الاريكة الى جانبه. نظر اليها فرآها فتاة شقراء ذات شعر ذهبي في غاية الجمال تبحلق بفطيرته وتبلع ريقها. علم فوراً انها جائعة فقال بالفرنسية،
حمّة : avez-vous faim هل انت جائعة؟
فاومأت برأسها وهي لاتزال تبحلق بالفطيرة. قام حمّة بقطع فطيرته الى نصفين ومدها للفتاة. فاخذتها منه وصارت تأكلها بسرعة. هنا رق لها قلبه واعطاها النصف الثاني. لكنها هزت برأسها وقالت،
الطفلة : كلا، انها لك. بما انك اشتريتها فهذا يعني انك جوعان مثلي. ما اسمك؟
حمّة : انا اسمي حمّة وانت؟
الطفلة : انا اسمي شانتيل.
حمّة : هل تأتين الى هنا دائماً يا شانتيل؟
شانتيل : اجل، انا اسكن مع امي في الشارع المجاور. وماذا عنك؟
حمّة : انا تونسي. وصلت البارحة الى باريس من تونس. واسكن بشقة اخي وحبيبته.
شانتيل : هل تريد ان تصبح صديقي؟
حمّة : اجل اريد ذلك.
شانتيل : إذاً عليك ان تأتي كثيراً الى هنا كي تطعمني لانني الآن مسؤولة منك.
حمّة : حسناً وانا موافق.
شانتيل : هذه الفطيرة لذيذة، ولكن في المرة القادمة اشتريها بسمك التونة لانها تشبع اكثر.
حمّة : حسناً سافعل ذلك.
شانتيل : شكراً لك على اطعامي. اراك في يوم ثانٍ.
حمّة : طيب. وداعاً.
شانتيل : وداعاً.
قربت شفتاها منه وقبلته من وجنته. ابتسم لِما فعلت ولمس وجهه من المكان الذي قبلته وقال،
حمّة : الا يحق لي ان اقبلك انا ايضاً؟
شانتيل : بالتأكيد، فانت صديقي الآن وهذا من حقك. تعال.
تقرب منها وقبلها من وجنتها فابتسمت بوجهه وقالت،
شانتيل : الى اللقاء حبيبي حمّة.
حمّة : الى اللقاء شانتيل حبيبتي.
بعدها واصل رحلته التفقدية بالحي وبقي يسير لساعات طوال حتى حل المساء فاستدار وعاد الى منزل اخاه وهو في غاية السعادة لانه صار يزاول نفس هوايته في التسكع بالشوارع كما كان يفعل بتونس لكنه الآن اصبح لديه صديقة لاول مرة بحياته. دخل الدار فرأى سفيان جالساً على الاريكة يتابع الاخبار من خلال شاشة التلفاز. ولما احس بدخول اخيه قال،
سفيان : كيف كان يومك يا حمّة؟ هل تمكنت من العودة الى الدار بسهولة؟
حمّة : انـ انـ انا لست مجنوناً. وجدته بسهولة.
دخلت عليهم كلوديت حاملةً طبقاً كبيراً قالت،
كلوديت : هيا يا شباب تعالوا لنتناول وجبة العشاء.
جلس حمّة وسفيان على المائدة فانزلت كلوديت طبقاً كبيراً يحتوي على اكلة تونسية اسمها الطاجين، وضعته فوق الطاولة وقالت بعربية مكسرة،
كلوديت : بيلهنا ويلشيفا.
صار الجميع يأكل وهم بغاية السعادة. هنا سألت كلوديت،
كلوديت : هل أعجبك طهيي يا حمّة؟ ارجوك قل الصراحة ولا تجاملني. هل طاجيني افضل من طاجين زوجة اباك؟
حمّة : سهام كانت تعمل الطاجيناً سيئاً للغاية بالايام الاعتيادية لكنها تعمل طاجيناً رائعاً لما يكون لدينا احد ضيوفها المميزين.
سفيان : وهل هناك ضيوف مميزين لدى الخالة سهام؟
حمّة : اجل كانوا يزوروها كثيراً وكانوا دائماً يذهبون معها الى غرفة النوم بعد تناول الطعام ليتحدثوا بحديث الكبار.
نظر سفيان بعين حبيبته كلوديت فارجعت له النظرة دلالة على انهما فهما ما قاله حمّة. لكنهما لم يرغبا التعليق على ذلك. سكت الجميع قليلاً ثم قال سفيان.
سفيان : بفترة الغداء اليوم تحدثت مع الدكتور جون ﭘيير لاﭘيير احد اقارب كلوديت بالهاتف. واخذت منه موعداً للاسبوع القادم.
كلوديت : هذا جيد يا حبيبي.
حمّة : لماذا؟ هل انت مريض يا سفيان؟
سفيان : كلا، انه معالج نفسي سيعالجك انت.
حمّة : لكنك قلت قبل قليل بانني لست مجنوناً.
سفيان : انه سيساعدك كي تتخلص من التلعثم والفأفأة في نطقك يا حمّة .
حمّة : حسناً.
بعد ان قضوا امسية هادئة امام التلفاز بدأ النعاس يداهمهم فقام سفيان وقال انه سيتوجه للسرير لحقت به كلوديت فوقف حمّة وضغط على جهاز التحكم عن بعد ليطفئ جهاز التفاز ويذهب الى غرفة نومه. في اليوم التالي وبينما كانوا يتناولون الافطار سأل سفيان،
سفيان : هل تريدني ان اعطيك المزيد من النقود يا حمّة؟
حمّة : لـ لـ لـ لازال لدي الكثير من النقود التي اعطيتني اياها بالامس.
سفيان : حسناً، اعلمني إن احتجت الى المزيد.
حمّة : حسناً يا اخي سا سا ساعلمك.
خرج سفيان من المنزل وبعد قليل تبعه حمّة ليقوم بجولة جديدة بحي (براباس). لكنه دون ان يدري اقتادته قدماه الى محل الجرائد فدخل وقال بالعربية،
حمّة : صباح الخير عمـ عمـ عمي العيادي.
العيادي: صباح الخير يا ولدي. انت لا زلت تتذكر اسمي. كم انت ذكي.
حمّة : الذكاء شيء والذاكرة شيئ ثاني. فالواحد بامكانه ان يتذكر جيداً لكنه قد يكون غبياً.
العيادي: ما شاء الله، وانت فيلسوف كذلك. قل لي حبيبي، ما هي قصتك؟
هنا جلس حمّة على كرسي خشبي امام العيادي وراح يقص عليه كيف توفت والدته ثم اخبره عن زواج والده الحاج ناصر من امرأة ثانية اسمها سهام والظلم الذي تعرض له على يدها ويد عصابة سلاح الاكحل حتى وصل الى دخوله باريس ومجيئه الى حانوت محمد العيادي.
العيادي: اتمنى ان تزورني كثيراً لانني احببتك مثلما أحب احفادي.
حمّة : وانا كذلك احبك يا عمي العيادي.
العيادي: اريد منك ان تأتي لزيارتي متى ما شئت ولا تتردد.
حمّة : سا فعل ذلك. والآن سا سا ساخرج لاتجول بالحي كي اتعرف على المكان اكثر.
العيادي: انتظر لحظة، خذ هذه العلكة انها هدية مني لك.
حمّة : لا يا عمـ عمـ عمي، انت تعمل على كسب رزقك هنا وانا لا يجوز ان اخذ منك رزقك دون مقابل. يجب ان ادفع ثمن العلكة.
العيادي: حسناً إن كان ذلك سيريحك فاعطني فرنكاً واحداً.
حمّة : لكن السعر على غلاف العلكة يشير الى انها بفرنك ونصف. تفـ تفـ تفضل يا عمي خذ المبلغ كاملاً.
استغرب محمد العيادي على نزاهة هذا الولد فقبله ثم اخذ المال منه وودعه. خرج حمّة الى الشارع وصار يتجول بين الناس في الحي فرأى امرأة فقيرة تبحث بحاوية القمامة. هرع اليها واخرج رزمة المال من جيبه وهم باعطائها 10 فرنكات لكنه تردد قليلاً ووقف ثم فكر ملياً فتذكر ما قالته كلوديت لسفيان لذلك غير رأيه واخرج ورقة بعشرين فرنكاً واعطاها للمرأة فشكرته ورفعت يداها للسماء كي يوفقه الله ويرزقه ويمنحه الصحة والعافية. واصل حمّة سيره لساعات طوال حتى شعر بالجوع فرجع الى بائع الفطائر واشترى فطيرتين معبأتين بلحم سمك التونا وذهب بهما الى نفس الاريكة آملاً بلقاء صديقته شانتيل. جلس لما يقرب من الساعة وهو ممسكاً بالفطيرتين لكنها لم تأتي. لذا اصابه الحزن الشديد ثم ازال الورق من احدى الفطيرتين وهم بالاكل لكن فجأة سمع صوتاً من خلفه يقول،
شانتيل : هل ستأكل وحدك من دوني يا حمّة؟
حمّة : شانتيل، حمداً لله، لقد اتيتِ. انتظرتك كثيراً.
شانتيل : كان لدي اجتماع مجلس ادارة بالمكتب فلم اتمكن من المغادرة حتى اعطيت لهم تعليماتي وانتهيت من جميع اعمالي.
حمّة : وهل لديك عمل؟
شانتيل : كنت امازحك يا حمّة. لقد كنت بالبيت ارتبه لان والدتي طلبت مني ذلك.
حمّة : وماذا تعمل والدتك؟
شانتيل : انها منظفة في مكاتب الشركات.
حمّة : لكنها فرنسية. اليس كذلك؟
شانتيل : وهل تعتقد ان الاجانب وحدهم يعملون بالتنظيف؟
حمّة : هذا ما كنا نعتقده بتونس.
شانتيل : على العموم، اشكرك لانك تذكرت.
حمّة : تذكرت؟ تذكرت ماذا؟
شانتيل : لقد اشتريت الفطيرة بالتونا هذه المرة. شكراً.
حمّة : لا شكر على واجب. انت اخبرتني بانك تحبينها بالتونا. فاصبحت احبها بالتونا مثلك.
شانتيل : هل جد جديد لديك؟
حمّة : اجل، سوف اقابل معالجاً نفسياً عن قريب.
شانتيل : لماذا؟ هل انت مريض نفسياً؟
حمّة : لا، ولكني افأفئ فقط عندما اتحدث بالعربية.
شانتيل : انا احسدك لانك تعرف لغتين. فانا لا اعرف سوى الفرنسية.
بقيا الصديقان يدردشان لفترة طويلة ولما فرغا من تناول الفطائر توادعا وقبلا بعضهما البعض. رجع حمّة بعدها الى المنزل لكنه لم يحكي لاخاه عن تلك الفتاة.
بقيت الايام تتوالى حتى جاء موعد الطبيب فارتدى حمّة افضل ما لديه من ملابس وخرج مع حبيبة اخاه كلوديت وركبا قطار المترو ليأخذهما الى العيادة بمنطقة (لاديفانس). جلسا في صالة الانتظار المليئة بالمراجعين حتى نادت السكرتيرة اسم حمّة فوقف ونظر الى كلوديت ليسألها،
حمّة : الن تدخلي معي؟
كلوديت : كلا يا حمّة، يجب على الطبيب ان يتحدث معك انت وحدك. وانت تتحدث بالفرنسية بطلاقة اليس كذلك؟
حمّة : اجل هذا صحيح. بامكانكِ ان تنصرفي الآن إذاً.
كلوديت : كلا، سانتظرك هنا حتى تفرغ من المقابلة.
حمّة : شكراً لكِ يا كلوديت. هذا لطف منك.
دخل حمّة غرفة الطبيب النفسي والريبة واضحة على ملامحه. وقف بالقرب من الباب بعد ان اغلقه ونظر الى الطبيب وحياه بالفرنسية بكل ادب قال،
حمّة : اسعدت صباحاً يا دكتور.
الطبيب : وانت بالامثل. بامكانك ان تناديني جون يا سيد محمد.
حمّة : وانت بامكانك ان تناديني حمّة.
جون : اقترب وتفضل بالجلوس يا حمّة.
خطى حمّة بضع خطوات الى وسط الغرفة وجلس على الاريكة الكبيرة امام الطبيب. فسأله،
جون : هل ترغب في شرب شيئ او أكل شيئ؟
حمّة : كلا، شكراً، لقد تناولت افطاري قبل قليل.
جون : يقولون لي انك تعاني من الفأفأة ولديك صعوبة في الكلام. لكني لم الاحظك ولو لمرة واحدة وانت تفأفئ يا حمّة لماذا؟
حمّة : لا اعلم.
جون : انا اتحدث العربية بطلاقة لانني عشت بالجزائر لمدة 30 سنة. هل تريد ان نتحدث بالعربية يا حمّة؟
حمّة : كما تحب.
هنا تحول حديثهما الى اللغة العربية فسأله،
جون : هل تتذكر والدك؟
حمّة : اجـ اجـ اجل كنت صغير السن لكـ لكـ لكني اتذكره جيداً.
جون : كيف كانت علاقتك مع سهام زوجة اباك؟
حمّة : كانت جـ جـ جيدة احياناً.
جون : هل كانت تحبك؟
حمّة : بعض الاحيان كانت تحبني. لكـ لكـ لكنها كانت تغضب مني كثيراً عندما اصدر الضجيج خصوصاً يوم يكون عندها زو زو زوار.
جون : لماذا؟
حمّة : لانها كانت تتحصل منهم على الهدايا. لذلك كانت تريد مني ان ان ان ابقى هادئاً صامتاً طوال فترة الزيارة.
جون : وكم كانت فترة الزيارة؟
حمّة : تختلف كل مرة. احيانا كا كا كان الزائر يمكث ساعة واحدة واحياناً يبيت حتى اليوم التالي.
جون : اخبرني اخاك سفيان بانك كنت تخرج للشارع كثيراً. وتقضي معظم اوقاتك هناك.
حمّة : اجـ اجـ اجل هذا صحيح.
جون : هل كنت تلعب مع الاولاد بالشارع؟
حمّة : كـ كـ كلا، كنت اراقبهم وحسب.
جون : لماذا؟ ألم تكن تلعب معهم؟
حمّة : لا سبب.
جون : هل كنت تتشاجر معهم احياناً؟ هل كانوا يضربونك؟
صمت حمّة وبقي ينظر الى الارض ثم صار يتنفس بسرعة وكأنه قد قام بالركض طويلاً بعدها وقف وقال،
حمّة : كـ كـ كـ كـ كـ كفا اليوم، لا اريد التحدث اكثر.
جون : حسناً حمّة حسناً. على رسلك. هل تريد ان نتحدث بالفرنسية؟
رد عليه حمّة بالفرنسية وقال،
حمّة : اجل هذا افضل. لكنني تعبت الآن واريد العودة الى البيت.
جون : كما تشاء انا اريد ان اراك بعد يومين. هل هذا ممكن؟
حمّة : اجل يا دكتور ممكن.
جون : إذاً ساخبر كلوديت كي تجلبك للعيادة بعد يومين.
حمّة : بامكاني المجيء وحدي فانا اعرف كيفية استعمال المترو الآن.
جون : انا فخور بك يا حمّة، وداعاً.
انتصبت كلوديت واقفة لما رأت حمّة خارجاً من غرفة الطبيب. اقترب منها وقال بالفرنسية،
حمّة : انتهت الجلسة الآن.
كلوديت : وكيف كانت؟
حمّة : ساخبرك فيما بعد. دعنا نعود للبيت.
كلوديت : انتظرني لحظة، اريد ان اتحدث مع قريبي الدكتور ثم ساعود اليك فوراً.
دخلت كلوديت وتحدثت مع قريبها وسألته،
كلوديت : ما رأيك يا جون وما هو تشخيصك لحمّة؟
جون : في بادئ الامر تصورت انه يبدي اعراض الاكوروفوبيا. ولكن بعد ان تحدثت معه طويلاً تبين لي انه قد تعرض للكثير من الآلام الفزيولوجية والضغوط النفسية ببلده مما دفعه لتصرفات غير طبيعية. لكني امل ان تزول عنه تلك الاعراض إذا ما بقي طويلاً هنا وتحدث بلغة غير لغته العربية.
خرجت كلوديت من العيادة ونظرت الى حمّة ثم قالت،
كلوديت : هيا حمّة فانا بدأت اشعر بالجوع.
حمّة : إن اردت فانا اود ان استدعيك لتناول فطيرة (كريـﭖ) عندما نصل الى حينا.
كلوديت : فاجأتني يا حمّة، انت وليت تعرف اموراً كثيرة وحدك.
حمّة : الفضل يعود للتسكع بالشوارع طوال اليوم.
قالها وهو يبتسم فعلمت كلوديت ان حمّة لديه روح نكتة وبامكانه ان يكون لطيفاً لو تمكن الانسان من التعامل معه بشكل صحيح وتفهمه. ولما وصل مترو الانفاق الى حي (براباس) نزلا منه وسارا قليلاً حتى وصلا بائع الفطائر فتوقف وسألها،
حمّة : ما نوع الحشوة التي ترغبين بها وكم من فطيرة تريدين؟
كلوديت : اريد واحدة فقط محشوة بسمك التونة لو سمحت.
حمّة : وانا كذلك، انتظري هنا قليلاً ساوصي البائع واعود اليك.
وقفت كلوديت تنتظر حتى عاد بعد قليل حاملاً لفافتين اعطاها واحدة ثم فتح لفافته وصار يأكلها. فسمعها تقول،
كلوديت : انها فعلاً لذيذة. متى جربتها؟
حمّة : انا تعودت ان اتناولها في جولاتي عندما اشعر بالجوع واكلها مع حبيبتي.
كلوديت : أنت بالتأكيد لا تحب إضاعة الوقت. هل لديك حبيبة الآن؟ يا سلام.
حمّة : اجل.
كلوديت : برافو يا حمّة انت تتأقلم لما حولك بسرعة فائقة.
حمّة : وكيف تمكنتِ ان تحكمي على ذلك من خلال معرفتي لمطعم الفطيرة؟
كلوديت : لا، انا لا اقصد ذلك. اقصد انك تتجول وتتمكن من ان تسجل ملاحظات ذهنية وصار لديك حبيبة الآن. وهذا يدل على ذكاء مفرط.
حمّة : هي هي ومع ذلك كانوا يلقبونني باللغة العربية (Hamma l'idiot).
كلوديت : انت لست مهبولاً ابداً، انت فقط مررت بظروف صعبة في طفولتك ونأمل ان تكون جلساتك مع جون ﭘيير مثمرة.
حمّة : انا احببت قريبك جون ﭘيير هذا لانه لا يستعلي عندما يتحدث معي. بل يعاملني كانسان بالغ مع انني لم ابلغ الثانية عشر من عمري بعد.
كلوديت : بالمناسبة، متى يصادف عيد ميلادك؟
حمّة : في الشهر القادم.
كلوديت : إذاً ساعمل لك كعكة عيد ميلاد رائعة وسنحتفل بها سوية.
حمّة : شكراً لك يا كلوديت. هل بامكاني ان استدعي حبيبتي شانتيل؟
كلوديت : بالتأكيد، انه عيد ميلادك وبامكانك ان تستدعي كل اصحابك.
حمّة : فقط شانتيل. ليس لدي غيرها. والآن قد حان الوقت كي نعود للبيت. اريد ان اساعدك بالمطبخ بينما تعدين وجبة الغداء.
كلوديت : انت شاب رائع يا حمّة وجنتلمان ايضاً. اتمنى لو يتعلم منك سفيان. هيا، دعنا نرجع.
وفور عودتهما الى الشقة واكمالهما العمل بالتنظيف واعداد وجبة الغداء سمعا صوت الباب معلناً دخول سفيان فركضت كلوديت اليه واعانته على خلع سترته ولثمته من فمه فسأل،
سفيان : كيف سارت الامور لدى الطبيب.
كلوديت : سارت على احسن ما يرام. تخيل يا سفيان، بعد العودة الى الحي استدعاني حمّة لتناول فطيرة وتحدثنا حديثاً مطولاً وجميلاً ولم يفأفأ ولو لمرة واحدة.
سفيان : ايعقل ذلك؟ هل شفي حمّة من جلسة واحدة فقط؟
نظر سفيان الى اخاه وسأله بالعربية،
سفيان : اصحيح ما تقوله كلوديت يا اخي؟
حمّة : اجـ اجـ اجل يا سفيان.
سفيان : لكنك رجعت تفأفأ من جديد.
هنا شرحت كلوديت قائلة،
كلوديت : اكتشف الطبيب ان حمّة يتكلم بصورة طبيعية وسليمة عندما يتحدث بالفرنسية والسبب في ذلك هو انه اصيب بالكثير من الاحداث المؤلمة بتونس سببت له صدمات نفسية جعلتها تنحصر بزاوية ضيقة. لكنه يشعر بارتياح كبير عندما يتحدث بلغة جديدة وبيئة جديدة بعيداً عن مسببات تلك الصدمات. لا تنسى انه فقد والديه بسن مبكر وتعرض لظلم وإجحاف زوجة اباه لفترة غير قصيرة.
سفيان : انا جداً سعيد لسماع كل ذلك. لكن هذا لا يعني انه سيتوقف عن جلسات العلاج مع جون ﭘيير لاﭘيير.
حمّة : لا، ابداً، انا احب ذلك الطبيب لانه يستمع إلي دائماً واتحدث معه بشكل جيد. ساذهب كلما طلب مني الذهاب.
سفيان : دعنا نأكل الآن فانا اكاد اموت من الجوع.
بعد مرور ثلاثة ايام عاد حمّة الى الطبيب وتحدث معه بشكل مطول لتصبح الجلسات حدثاً روتينياً يحبه كثيراً وينتظره بفارغ الصبر.
بعد ثلاثة اسابيع انشغلت كلوديت باعداد كعكة عيد الميلاد لتضع فيها 13 شمعة. ربما كانت تلك المناسبة اسعد اوقات مر بها حمّة في حياته. قام بمساعدة حبيبة اخاه باعداد الطعام وتنظيف الشقة وترتيبها وتعليق الزينة على الحيطان كي تكون مبهجة للمدعوين. اغلب المدعوين كانوا من صديقات كلوديت وزملاء سفيان بالعمل. كذلك كان الدكتور جون ﭘيير لاﭘيير حاضراً.
نادى حمّة الجميع كي يقتربوا ليطفيء الشموع لكنه طلب منهم الانتظار قليلاً لانه لازال ينتظر قدوم حبيبته شانتيل. ولما دق الجرس. فتحت لها كلوديت فدخلت شانتيل ترتدي فستاناً احمراً جميلاً ورسمت ابتسامة رائعة على وجهها إذ قالت:
السلام على الجميع.
شانتيل
فتح حمّة فمه وهو ينظر الى حبيبته اعجاباً بجمالها بينما امسكت كلوديت يدها وراحت تعرفها على الحضور. ثم اطفأ حمّة شمعاته الثلاثة عشر وراح الجميع يهنئه حتى وصلت اليه شانتيل فاقتربت منه وقبلته قبلة ساخنة، فكانت تلك القبلة الغرامية الاولى لهما.
مرت ثلاثة اشهر اخرى وتوقفت جلسات المعالج النفسي بشكل نهائي حيث اعلن الطبيب ان حمّة اصبح لا يحتاج للمزيد من الجلسات وهو بحالة جيدة جداً تجعله يتمكن من ممارسة حياته بشكل طبيعي طالما يتوقف عن التحدث بلغته الام. لذلك قرر اخاه تسجيله بمدرسة كي يكمل تعليمه هناك. لكن المدرسة لم تبدي استعدادها لاستقباله بسبب سنه. لذلك وضع بمدرسة مخصصة لاصحاب الاحتياجات الخاصة. وما ان بدأ يتلقى الدروس بانتظام حتى صار يتفوق على زملائه بشكل ملحوظ فيتسلق سلم المراحل الدراسية المتتالية حتى وصل الى المدرسة العليا ليتخرج منها وهو في سن الـ 23.
رجع يوماً من المدرسة ومر على محل الجرائد والحلوى وقال لصاحبه بالعربية،
حمّة : مسـ مسـ مساء الخير عمي العيادي.
العيادي : مساء الخير ولدي، هل استلمت نتيجتك؟
حمّة : اجـ اجـ اجل عمي لقد نجحت من الاعدادية بتقدير عالي وسوف ادخل الجامعة في الخريف المقبل.
العيادي : الف مبروك يا ابني، وماذا تنوي فعله؟
حمّة : اولاً اريد ان اشتري بطاقة يانصيب كاملة فقد وفرت من مصروفي مبلغ 50 يورو.
العيادي : لا تبدد اموالك بتلك التفاهات يا ولدي. انها اداة لاستلاب الاموال من اصحاب العقول البسيطة وانت ما شاء الله قد اثبت للعالم اجمع بانك ذكي جداً. وبالمناسبة، لا يفوز اناس كثيرون من تلك البطاقات ربما واحد بالمليون او اقل من ذلك بكثير.
حمّة : اجـ اجـ اجل اعرف جيداً لكنني اريدها لانني سافوز بها هذه المرة بالتأكيد.
العيادي : كل من يشترون البطاقة يعتقدون ما تعتقده انت لكنهم يصابون بخيبة امل عندما لا يفوزون. انا لا انصحك بشرائها.
حمّة : انا قررت ان اشتريها يا عمي وهذا آخر كلام عندي. هل ستبيعني و و و واحدة ام تريدني ان اشتريها من مكان آخر؟
العيادي : حسناً خذ واحدة وامري الى الله، ولو انني حزين على ضياع اموالك التي انت بامس الحاجة اليها يا ولدي.
حمّة : شكراً يا عمي. سوف امنحك منها 20000 يورو عندما افوز كي تشتري بها شاحنة بضاعة جديدة بدلاً من علبة الساردين القديمة التي عندك وستستطيع ان ترمم سقف منزلك. والآن يجب ان ارجع لشقة اخي، وداعاً.
اخذ حمّة البطاقة ووضعها في محفظته ليعود الى الشقة. وفور دخوله من الباب هجم عليه اربعة اشخاص كانوا يترصدون له خلف الباب وهم: الدكتور جون ﭘيير لاﭘيير واخاه سفيان وكلوديت زوجة اخاه وحبيبته شانتيل. طرحوه ارضاً وصاروا يزغزغونه ويقبلونه ليعبروا له عن فرحتهم بنجاحه بتفوق. صار حمّة يصرخ بالفرنسية ويقول، "كفا لا اتحمل الزغزغة (اريت اريت اريت ليكوشون)" لكنهم كانوا يواصلون زغزغته وكان يضحك من كل قلبه. بعد ان توقفوا وتركوه يلتقط انفاسه قال لهم، "ان نجاحي هذا هو ثمرة حبكم ومساندتكم لي لذلك اهدي لكم جميعاً هذا النجاح".
سفيان : بل انت الذي حققته بمثابرتك واجتهادك ومتابعتك الحثيثة لدروسك.
كلوديت : انت اثبت لنا وللجميع بانك انسان قمة وبالمرتبة الاولى.
جون ﭘيير : انا فخور بك يا صديقي.
شانتيل : وانا اكثر من فخورة بك يا حبيبي.
سفيان : ما هي مخططاتك للمستقبل يا حمّة؟
حمّة : الجامعة طبعاً يا سفيان.
كلوديت : وماذا تريد ان تصبح؟
حمّة : اريد ان ادرس علم الاحياء.
جون ﭘيير : لكن الطب النفسي افضل اليك بكثير، اليس كذلك؟
حمّة : كلا، اريد ان اصبح باحثاً بعلم الجينات.
كلوديت : بامكانك ان تصبح كل ما تصبوا اليه طالما كانت لديك العزيمة وروح المثابرة. دعنا نتوجه الى المائدة فاليوم طبختُ لكم كسكسي تونسي بلحم البقر.
شانتيل : يا الهي، كسكسي، يجب عليكِ ان تعلميني طريقة اعداده كي اطبخه لحمّة بالمستقبل.
كلوديت : سافعل ذلك بكل ممنونية.
<<<<<<<<<<
بعد مرور اسبوعين كاملين وفي الصباح الباكر سُمِعَ جرس الباب يدق بالحاح دون توقف. كان ذلك الجرس مدعاة لقلق جميع من في الشقة. فلا يدق الجرس بهذه القوة والاستمرارية سوى الشرطة عندما تداهم منازل المجرمين. هرع سفيان لفتح الباب فرأى محمد العيادي صاحب محل الجرائد واقفاً امامه فسأله،
سفيان : تفضل سيدي، ماذا تريد؟
العيادي : هل هذا بيت حمّة؟
سفيان : من انت وماذا تريد منه؟
العيادي : أنا صاحب دكان الجرائد على الناصية. هل هذا بيت حمّة ام لا؟
سفيان : سألتك، ماذا تريد منه؟
العيادي : اردت ان ابشره باكبر جائزة يانصيب بفرنسا. لقد فاز بـ 17 مليون يورو.
سفيان : ماذا تقول يا عمي؟ هل انت متأكد؟ هل يعقل ذلك؟
العيادي : اجل انظر الى هذه الورقة.
سفيان : ومن قال انها مطابقة لبطاقة حمّة. ثم ان حمة لا يملك المال لشراء بطاقة يانصيب كاملة.
العيادي : حمّة كان على يقين من انه سيفوز بالجائزة الاولى لذلك قام بتوفير المال من مصروفه. ارجوك دعني اتحدث اليه وابشره بالخبر العظيم بنفسي.
سفيان : تفضل، تفضل يا عمي. هل انت مغربي؟
العيادي : كلا انا عمك العيادي تونسي الاصل من منطقة جندوبة محافضة غار الدماء على حدود الجزائر.
سفيان : تشرفت بك يا عمي.
دخل العيادي وجلس في الصالون بينما ذهب سفيان وطرق باب غرفة حمّة. فاجابه حمة قائلاً،
حمّة : ما الامر يا سفيان؟
سفيان : لديك زائر، انه ينتظرك في الصالون.
حمّة : زائر؟ انا ليس لدي زوار يا اخي. ليس لدي سوى حبيبتي شانتيل وهي لا تزورني بمثل هذا الوقت.
خرج من غرفته وسار نحو الصالون فرأى العيادي جالساً قال،
حمّة : العم عيادي؟ ما الأمر؟ هل من مشكلة؟ هل تعطلت شاحنتك من جديد؟ لماذا انت هنا؟
العيادي : جئت لازف لك الخبر السعيد. مبروك يا ولدي، لقد فزت بجائزة اللوتو الكبرى لهذا الشهر انها 17 مليون يورو.
حمّة : انا كنت متأكداً من الفوز. الم اقل لك ذلك؟
العيادي : اجل يا ولدي، وكأن الملائكة قد اخبرتك بفوزك مسبقاً.
هنا جاء اخاه سفيان وسأله،
سفيان : أصحيح ما يقوله هذا السيد يا حمّة؟ هل فزت بكل هذا المال؟ ايعقل ذلك؟
حمّة : اجل يا اخي اجل لقد اشتريتها وانا متأكد من الفوز.
كلوديت : يا الهي، حمّة اصبح مليونيراً. مبروك يا حمّة. الف مبروك.
العيادي : اردت ان اكون اول من يبارك لحمة لانه كان يزورني كثيراً في المحل خلال السنين الماضية. وكنت دوماً احذره من عدم تبديد امواله باليانصيب. لكنه فعلها وها هو الآن قد فاز بالجائزة الكبرى.
وبعد ان هدأت العاصفة وخرج الجميع بسيارة سفيان ليذهبوا الى مقر الشركة المنظِمة لليانصيب. اعطاهم حمّة البطاقة فسلموه صكاً امام جمع غفير من الصحفيين والمصورين والمراسلين. تسلم حمّة الصك من المدير وعاد مع اخاه وزوجته ومعهم محمد العيادي.
بعد مرور ثلاثة اسابيع خفتَ مستوى الابتهاج والغبطة العارمة بالفوز بعض الشيء فوقف حمّة بوسط الصالون امام الجميع واعلن قراره قال، "لقد وضعت في حسابك يا سفيان مليوني يورو كي تتصرف بها كما يحلو لك. ربما ستقتني به ذلك المنزل الذي كانت كلوديت تحلم به منذ امد بعيد. كذلك اعطيت للعم عيادي نصيبه من الجائزة كي يشتري به شاحنة جديدة كما وعدته. اما الباقي فوضعته بالبنك وساتصرف به بحكمة كبيرة او ربما سافتح به مشروعاً ينفعنا نحن جميعاً. لكنني الآن عزمت على السافر الى تونس"
سفيان : هل تريد العودة الى تونس بشكل نهائي؟
حمّة : كلا يا اخي، اردت فقط زيارة تونس لشهرين او اقل قبل ان تبدأ الدراسة بالجامعة.
كلوديت : لكنني لا اقوى على السفر، فانا حامل بشهري السابع. وابن اخاك في الطريق.
حمّة : انا اريد ان اسافر وحدي يا كلوديت سامحيني.
كلوديت : حسناً كما تشاء يا حمّة. ولكن قبل كل شيء سنقوم انا وانت بجولة تسوق في ارقى المحلات الكبرى بباريس (اڤينو مونتين) لكي نقتني لك ملابس جديدة فاخرة تليق بالمليونير الشاب عندما يرجع الى مسقط رأسه.
ترى ماذا سيفعل حمّة عندما يصل الى تونس؟ هل سينتقم ممن حطموا حياته وتسببوا بايذائه؟ ام انه سيسامحهم جميعاً ويكافئهم على ما فعلوه بالحسنى؟ ستعرف الاجوبة على تلك التسائلات في الجزء الثاني من تلك القصة الحقيقية التي قمت بتكحيلها بالقليل من المواقف الدرامية.
1284 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع