خاطرة العدد

 د.عدنان هاشم

خاطرة العدد
"ما جاع فقير إلا بما متع به غني"

بينما كان الشاعر المتنبي يسير في سوق الكوفة إذ رأى امرأة فقيرة تبيع السمك، فجاءها رجل يمشي متبخترًا وعليه سيماء الترف والثراء، فسألها عن سعر السمك فقالت الرطل بخمسة دراهم، فقال بل الرطل بدرهم واحد، فقالت بل بخمسة دراهم، فالسمك ليس لي وقد أمرني صاحبه ألا أبيع الرطل بأقل من خمسة ثم يعطيني أجرا زهيدا على هذا العمل، فقال الرجل الثري: إذن زني لي عشرة أرطال، فلما أعطته السمك، دفع لها عشرة دراهم؛ لكل رطل درهم واحد وسار غير مكترث لولولة المرأة المسكينة وتوسلاتها ودموعها. أثار فعل الرجل الثري الفظ القاسي ودموع تلك المرأة المسكينة مشاعر الغضب والرثاء في قلب المتنبي فأنشد يقول:

بعيني رأيت الذئبَ يحلبُ نملةً ويشربُ منها رائقَ اللبنِ
يبدو هذا البيت غريبا جدا لمن يقرؤه ولكنه يفصح عن المعنى أي إفصاح باستعمال الاستعارات البيانية، فاستعار المتنبي رحمه الله صورة الذئب المفترس لذلك الرجل القاسي اللئيم الذي لا يأبه بدموع ضحيته وتوسلاتها، وصورة النملة لتلك المرأة الضعيفة المسكينة التي لا حول لها ولا قوة، واستعار صورة الحليب الرائق للمال المستخلص من تلك المرأة البائسة التي لا تملك من حطام الدنيا شيئا. وقد أحسن الإمام علي عليه السلام وصف الدنيا فقال" فإنما أهلها كلابٌ عاوية، وسباعٌ ضارية، يهر بعضها بعضا، ويأكل عزيزها ذليلها، ويقهر كبيرها صغيرها". فقلب رأسك حيث شئت فلا ترى إلا فقيرا يكابد فقرا أو غنيا يزداد مع الأيام غنى. ولعل هذه القصة مثل فاضح للقوي حين يأكل الضعيف، ولكن هناك أمثلة لا تحصى وأكثرها يخفى على الناس إلا إذا أمعن الإنسان النظر فيما يجري، فالفقر قديم قدم البشرية، وسيبقى ما بقيت البشرية على هذا الكوكب إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها. ولكن هل الفقر ذنب الفقير أم قدر من الله لا يمكن تغييره، أم أن سببه ظلم الإنسان لأخيه الإنسان؟ والجواب على هذه الأسئلة شائك ومتشعب ولكن يمكن أن نمسك بخيوطه الرئيسية لنسبر أسبابه. فقد يُفرض الفقر على الإنسان بسبب عاهة قاهرة أو مرض مزمن أو كارثة طبيعية كالفيضانات المدمرة، ولكن أكثر الفقر يحدث بسبب جشع الإنسان واستغلال أخيه الإنسان. فالفقر يكاد ينعدم في المجتمعات البدائية حيث تتكافل الجماعات البشرية الصغيرة فيما بينها فيحصل كل فرد منها على نصيبه غير منقوص، وهذا ما أطلق عليه ماركس "الشيوعية البدائية". فمن العدل أن يكون عائد العمل من المال موازيا للجهد المبذول، ولكن باستقرار الإنسان وظهور الإقطاع، برزت ظاهرة القنانة وأقنان الأرض ( Serfs and Serfdom)المرتبطين بالأرض، والذين لا يستطيعون تركها لأن ذلك يؤدي إلى جوعهم وعريهم، فيعطي مالك الأرض لهم الحد الأدنى من الأجور، ويقبض هو ما يمكن أن يسمى فائض القيمة، أي أن العائد المالي المستحصل وهو أكثر بكثير من جهد الفلاح المبذول.
وبظهور الثورة الصناعية في أوربا ظهرت البرجوازية والتي تمثلت بأرباب الصناعات والتجار، وازداد بظهورها فائض القيمة الذي يذهب باستمرار إلى جيوب التجار ومالكي المصانع، وأدى ذلك إلى تراكم المنتوجات الصناعية والحاجة إلى المواد الأولية مما أدى بالتالي إلى ظاهرة استعمار البلدان الأخرى الأقل تقدما واستغلالها أبشع استغلال مع جعلها سوقا مفتوحة لمنتجات البلدان المستعمرة. وهذا أدى إلى ظهور ما يسمى الرأسمالية ثم الإمبريالية، وتكدس الثروات الهائلة لدى قلة صغيرة جدا من أصحاب المال مع كثرة هائلة تعاني من الفقر المدقع في كثير من الدول النامية والمتخلفة إلى درجة أن 1% فقط يملكون 50% من الثروة العالمية و50% من سكان العالم لا يملكون أكثر من 1% من تلك الثروة. وينتج عن هذا الخلل الفقر المزمن لأكثر شعوب العالم، حيث يرث الإبن الفقر من أبيه ويورثه بدوره لأبنائه، ولا يستطيع كسر حاجز الفقر هذا إلا القليل. ومن أسباب استمرار الفقر ضعف التعليم أو انعدامه وضعف الرعاية الصحية مما يؤثر بصورة مباشرة على فرص النجاح في الحياة وصعوبة الدخول في منافسة شديدة في مجالات العمل، إذ كيف لابن مواطن بسيط قليل التعلم أن ينافس ابن الرأسمالي الذي تتاح له مختلف وسائل النجاح من مال وتعليم راقٍ وشبكة من المتنفذين الذين يمكن أن يوصلوه إلى ما يريد!

إن سوء توزيع الثروة والاستغلال البشع لبلدان العالم الضعيفة قد خلق حالة من اختلال العالم ينذر بشر مستطير، وقد رأينا بوادره في السنين الأخيرة مثل هجرة الأدمغة المفكرة إلى بلدان العالم المتطورة مما يؤدي إلى إفقار دولهم التي هي في أمس الحاجة لخبراتهم، وزيادة معدلات الجرائم وخطر المجاعات المتكررة والحروب المدمرة. وقد أفلح حكام الدول المتقدمة في حل مشكلة الفقر جزئيا عن طريق توفير الرعاية الاجتماعية والحد الأدنى من الأجور وتوفير فرص التعليم والطب المجاني لمواطنيها، ولكننا نرى أن هذه الخدمات المجانية في تراجع مستمر بسبب الأزمات الاقتصادية المزمنة، كما لا يمكن توفير هذه الخدمات لمواطني الدول الفقيرة. ولعل هذا الخلل العالمي لتوزيع الثروة ينذر بعواقب وخيمة فلا نستبعد أن نرى ثورة الجياع تجرف وتدمر كل شيء يقف في طريقها، وقديما قيل " كاد الفقر أن يكون كفرا".

27 كانون الأول 2023

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

4888 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع