د.عدنان هاشم
خاطرة العدد
ملحمة كلكامش
تحدثنا ملحمة جلجامش أن جلجامش كان ملكا لمدينة أوروك السومرية والتي تسمى الوركاء ايضا، وكانت أمه ننسون من الآلهة فكان ثلثا جلجامش من الآلهة والثلث الآخر بشري، وكان يتمتع بجمال أخاذ وجسم قوي، فطغا على سكان أوروك فكان " لا يترك ابنا لأبيه ماض في مظالمه ليل نهار، ولا يترك بكرا لأمها". ضج أهل أوروك إلى الآلهة بشكواهم من ظلم جلجامش. فأوعزوا إلى أرورو إلهة خلق الإنسان فخلقت أنكيدو من الطين ورمته في الفلاة. عاش أنكيدو مع وحوش الفلاة وغزلانها يأكل مما يأكلون ويشرب مما يشربون، فكان ذا قوة بدنية عظيمة جدا. وفي يوم من الأيام رآه راعي غنم فراعه ما رأى، وأسرع إلى جلجامش ليخبره بخبره، فقرر جلجامش أن يرسل إليه كاهنة المعبد لتغويه وتأتي به. كشفت هذه الكاهنة مفاتنها لأنكيدو فعاشرها ثلاثة أيام حتى وهنت قواه وخانته ساقاه فلم يستطع تركها، وهنا خاطبته بقولها:
" أنظر إليك يا أنكيدو، أراك شبه الآلهة، فلماذا مع الحيوان تهيم على وجهك في البراري، تعال فإني لآخذة بيدك إلى أوروك ذات الأسوق، حيث عظيم البأس جلجامش".
وقف أنكيدو تحت أسوار أوروك ووقعت عينا جلجامش عليه، فنشبت معركة شديدة بين الرجلين لم ير مثلها سكان أوروك من قبل، وكانت الغلبة لجلجامش، نشأت عقبها صداقة عميقة بين الرجلين حتى صار جلجامش لا يطيق فراق انكيدو. وهنا نرى أن سلوك جلجامش قد تغير بفعل هذه الصداقة فكف عن ظلم سكان أوروك واغتصاب بناتهم، وصار يفكر في معنى الموت والحياة وفكر ان يفعل فعلا يخلده عند أهل أوروك، فقرر هو وأنكيدو الذهاب إلى غابة الأرز البعيدة ليقتل حارس الغابة الرهيب خمبابا، واستطاعا قتله ثم عادا ضمن احتفال مهيب في مدينة أوروك. وهنا طلعت عشتار برأسها لترى جلجامش في أوج مجده وبهائه فوقعت في غرامه، وتوسلت إليه أن يتزوجها، فشتمها جلجامش وذكرها بغدرها وخيانتها لعشاقها وأزواجها من قبل، فذهبت عشتار إلى كبير الآلهة آنو شاكية من إهانة جلجامش لها وجرح كبريائها، فمكنها آنو من ثور السماء الذي سلطته على مدينة أوروك فأحدث فيها خرابا كبيرا واضطرابا في المدينة مما دفع بجلجامش وأنكيدو إلى قتل ثور السماء، وقد رمى أنكيدو بفخذ الثور على عشتار فضرب صدرها، وهنا استشاط غضب الآلهة لهذه الإهانة فقرروا أن يموت أحد الرجلين، فوقع الإختيار على أنكيدو حيث اصابته الحمى ومات بعد عدة أيام، فجزع جلجامش لموته جزعا شديدا، ولبث سبعة أيام لا يفارق جثة صديقه حتى تفسخت وخرج الدود من أنفه، وكان يندب أنكيدو بكلام مؤثر:
" إنني أبكي صديقي أنكيدو، أبكي بحرقة النساء النادبات، حلة عيدي، فرحي الوحيد، حتى سرقه مني عدو خبيث، فأي نوم هبط عليك، فغبت في ظلام لا تسمع كلماتي". ورفع(جلجامش) صوته بصراخ كزئير الأسد، وكلبوة سلبت اشبالها، صار يروح ويجيء أمام السرير، يقطع بيديه شعر راسه...
وهنا هبط على جلجامش فجأة خاطر الموت وأنه لابد أن يموت يوما ما، فليبحث عن سر الخلود وكيف يمكن للحياة ان تقهر الموت، فقرر الرحيل إلى أرض دلمون، حيث يعيش فيها أتونابشتيم، ذلك الرجل الذي وهبته الآلهة الخلود. فأبعد جلجامش في السفر حتى وصل إلى البحر من حيث تطلع الشمس، الذي يفصله عن جزيرة دلمون. وبعد رحلة طويلة مليئة بالأهوال وصل إلى أتونابشتيم، ولكن لخيبة جلجامش فقد اخبره أتونابشتيم أن الخلود محرم على الإنسان، وقد وهبت الآلهة أتونابشتيم الخلود لأنه أنقذ الحيوان والنبات والإنسان من الموت حين حشرهم في السفينة التي بناها قبل حدوث الطوفان العظيم. وقد عطف اتونابشتم علي جلجامش وعلمه سرا آخر وهو أن يغوص في البحر ليجد في أعماقه نبتة الخلود، فحين يأكلها فسوف يكون خالدا. غاص جلجامش في مياه البحر واستطاع الحصول على تلك النبتة، وقرر أن يشرك معه أهل أوروك بأكلها ليشملهم الخلود، وعندما وصل إلى اليابسة، استحم في بركة صافية المياه وترك النبتة السحرية على ضفة البركة فأتت حية والتهمتها، فنزعت جلدها وعاد لها شبابها وحيويتها، أما جلجامش فأخذ يندب حظه حيث ذهبت كل جهوده وأحلامه أدراج الرياح وعلم أن الخلود لم يكتب للإنسان وإنما يمكن للإنسان أن يخلد بعمله الذي يتركه بعد موته.
إن ملحمة جلجامش تعد أقدم ملحمة عرفتها البشرية وأرفع ملاحم العالم القديم معنى وعبرة، فهي أقدم من ملحمة الإلياذة والأوديسة بألفي عام، وأرقى منهما في المعاني التي تحملها في طياتها، فهي تبحث في لغز الحياة والموت، ومغزى الحياة، ورغبة الإنسان في الخلود في هذا العالم الذي لا يمكن أن يتحقق ولكن يمكن أن يتحقق بتخليد عمله الذي يعم نفعه على بني جنسه، ويبحث عن الصداقة العميقة الجذور التي لا يمكن أن يفرقها إلى الموت. وهنا دس أنصار المثلية أنوفهم في هذه الملحمة فادعوا أن صداقة جلجامش لأنكيدو كانت صداقة جنسية مثلية بدليل عزوف جلجامش عن النساء وإهانته لعشتار التي طلبت الزواج منه، وقد يكون ذلك حقا وقد يكون فيه تجنٍ على الملحمة بتحميلها ما لا تحتمل.
وقد ذكرت هذه الملحمة الطوفان الكبير الذي شمل كل الأرض وذلك قبل عصر السلالات السومرية الأولى وكان بطلها أتونابشتيم الذي كان له الفضل في حفظ الحياة بصنع السفينة، وقد اقتبس العهد القديم قصة الطوفان من بلاد الرافدين حيث حل نوح محل أتونابشتيم والذي مكث في قومه ألف سنة إلا خمسين عاما كما ذكرت التوراة وذكر القرآن. ونرى في هذه الملحمة ما أسميه "مرحلة الطفولة الدينية" حيث جعل الأقدمون في وادي الرافدين لكل ظواهر الطبيعة آلهة، فهناك إله القمر سين وإله النور شَمَش وعشتار إلهة الحب والجمال وهلم جرا. وهذه الآلهة في نظر الأقدمين كالبشر تتزوج وتتنافس فيما بينها وتنتقم لنفسها ولا تأنف من الخداع ولكنها خالدة عكس البشر الذي كتب عليه الموت والفناء. ونرى ذلك في ديانات الهلال الخصيب وحضارة اليونان والرومان وحتى الديانة الهندوسية إلى يومنا هذا.
هناك عدة نصوص لهذه الملحمة منذ العهد السومري القديم مرورا بحضارة أكد ثم البابليين ولكن أكملها تلك التي عثر على ألواحها في مكتبة اشور بانيبال تحت أنقاض القصر الملكي في نينوى، ولم تأت الملحمة وحدة كاملة ولكن أكمل بعضها بعضا فجاءت هذه الملحمة كاملة وهي من روائع الأدب القديم.
29 كانون الأول 2023
3159 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع