د.عدنان هاشم
خاطرة العدد:
كنت في متحف مانشستر أتأمل اللوحات الزيتية الجميلة التي تغطي جدران المتحف العتيق، فوقعت عيني على لوحة زيتية جميلة للرسام جون ميلايز (John Everett Millais) . لم تكن تلك اللوحة من وحي خيال الفنان بل كانت معبرة عن كارثة حقيقية حين غرقت مدينة شفيلد الإنكليزية إثر حدوث شرخ كبير في سد بني حديثا على خزان كبير للماء. كان ذلك صبيحة اليوم الحادي عشر من آذار 1864 حين جرفت المياه المتدفقة من السد معها الكثير من البيوت والمتاع وحتى البشر، وكان من ضمن الضحايا طفل رضيع لا يتعدى عمره اليوم الواحد اختطفته المياه الجارفة من بين يدي أبويه، ثم وجد ميتا بعيدا عن قريته. ألهمت هذه الحادثة ميلايز ليرسم لوحته تلك. ويلاحظ في اللوحة أن سرير الطفل الرضيع تتقاذفه المياه المحيطة به من كل مكان، وهناك قطة سوداء تشارك الرضيع سريره ويظهر عليها الهلع من الماء، ولعلها قفزت إليه لإنقاذ حياتها من الغرق، فشاركت الطفل نفس المصير حيث عصفت بهما المقادير في خضم ذلك الماء الجارف.
لم تكن تلك الحادثة الوحيدة في تاريخ الإنسانية الطويل؛ تذكر لنا التوراة وبعدها القرآن قصة النبي موسى حيث قذفت به أمه في اليم وهو وليد صغير خوفا من أن يقتله فرعون "فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدوا وحزَنا". وتذكر الألواح الطينية من بلاد الرافدين قصة مثيلة حيث تحدثنا أن سرجون الأكدي أنشأ أول إمبراطورية في التاريخ، فقد عاش في مدينة كيش في العراق، وحكم خمسا وخمسين سنة، ومن تلك المدينة انطلق ليخضع جميع المدن السومرية فوحد أرض الرافدين حتى وصل إلى الخليج العربي، ثم اتجه بفتوحاته غربا فأخضع بلاد سوريا وفلسطين ووصل إلى سواحل البحر المتوسط، ثم اتجه شرقا فأخضع بلاد عيلام وراء الحدود الشرقية للعراق، ثم وجه اهتمامه إلى بلاد الأناضول فأخضعها ووصل منها إلى قبرص. وقد ازدهرت في عهده التجارة من الخليج العربي إلى بقية أرجاء الإمبراطورية الأكدية.
وقد كتب سرجون والذي سمى نفسه شيروكين عن طفولته فذكر أن أمه كانت كاهنة من كبار كاهنات المعبد ، وكانت مختصة بالملك ، ولكنها حملت بسرجون سفاحا فخافت على نفسها الفضيحة وخافت على ابنها الموت، فاتجهت سرا إلى نهر الفرات، وألقته في سلة وقد غطتها بالحشائش لعل هناك من يلتقطها من الفلاحين فيعطف على الوليد ويربيه. فانسابت السلة على سطح الماء واختفت بعيدا عن ناظريها. وحدث أن فلاحا أبصر السلة في الماء وإذا به يجد سرجون الوليد فيها، فأخذه ورباه حتى شب عن الطوق، وإذا به فتى قوي البنية جميل القسمات، أعجبت به الإلهة عشتار فقررت أن تهبه الملك. وحدث أن ملك كيش السومري أور زبابا بَصُر بسرجون وأعجب به فقرر ان يضمه إلى حاشيته وأوكل إليه وظيفة الساقي الذي يسقي الملك الخمر. كان سرجون طموحا وذا نظر بعيد، فأزاح ذلك الملك وصار ملكا بدلا عنه، وهنا بدأت امبراطورية سرجون التي تحدثنا عنها في أول المقال
ويظهر من تتبع عادات الشعوب القديمة أن ظاهرة قذف الأطفال الرضع في الأنهار كانت معروفة في البلاد التي بنت حضاراتها على ضفاف الأنهار إما خشية من العار أو الفقر لأسباب أخرى الأم أعلم بأسرارها.
يمكن أن نستشف الحكمة من وراء هذه القصص، فلا يوجد خير مطلق أو شر مطلق في هذا العالم، وإنما يتداخل الإثنان تداخلا معقدا عجيبا، وغالبا ما نرى شرا يتولد عنه خير كثير، فمثلا انكسار سد شفيلد كثف الجهود الهندسية لبناء السدود بصورة أكثر متانة بحيث يكون احتمال تشقق السدود ضئيلا جدا. ونرى كذلك أن رمي سرجون الأكدي في النهر أدى إلى نجاته على يد أحد الفلاحين ثم ليصير أول أباطرة العالم القديم وأعظمهم. ونرى كذلك أن قذف أم موسى لوليدها موسى في النهر أدى إلى التقاطه من قبل عدوه وهو لا يعلم، وقصته معروفة في هلاك فرعون ونجاة موسى وقومه عندما عبروا البحر املا في الأرض الموعودة التي تنضح عسلا وتدر لبنا.
8 كانون الثاني 2024
1065 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع