احمد الحاج
مليون تحية لـ مؤذني المساجد المحاصرة ومجددي نسخ المصاحف القديمة !
لن تعدم هذه الأمة وسيلة وبرغم كل الرياح العاتية التي تعصف بها من كل حدب وصوب من إثبات حبها لله تعالى وطاعته ، ولزوم أوامره وكثرة مخافته ، كيف لا والتقوى هي شعار الصالحين ،ودثار المتقين ، ولن تتباطأ هذه الأمة في المجاهرة بإيمانها الراسخ به جل في علاه غير آبهة بكل المغريات والتحديات والصعاب، فهذا يرفع الأذان من فوق أنقاض المساجد التي دمرها العدوان الصهيوني في غزة، وذاك يواظب على الدعاء والاذكار ويبثها من مكبرات الصوت لتذكير الناس بهذا ليوظبوا بدورهم عليها في عصر الترفيه والتسطيح والتسفيه، وآخر يرمم المصاحف القديمة أسبوعيا بشكل طوعي ، وآخر يعالج المرضى ويطوف بهم على نفقته الخاصة بين المستشفيات وشعاره "ومن أحياها "، وآخر يطعم الجياع والمحرومين حسبة لله تعالى وشعاره " ويطعمون الطعام"، وآخر يحمد الله تعالى في أقسى الظروف، وآخر يسجد شكرا لله شكرا حتى قبيل استشهاده وبما أبهر القاصي والداني وأدهشهم في أرجاء المعمورة .
وللمرور على بعض ما ذكر آنفا لابد من التذكير باحصائية وزارة الاوقاف الفلسطينية الأخيرة والتي بينت من خلالها بأن مجموع المساجد التي دمرها العدوان في القطاع المحاصر بلغ (388) مسجدا،بينها (145) مسجدا تم تدميرها تدميرا كليا بما فيها من مقتنيات وأثاث ومصاحف،فيما تعرض (243) مسجدا إلى تدمير جزئي يحول من دون إقامة الصلاة فيها مجددا قبل اعادة ترميمها ، ولو افترضنا جدلا بأن كل مسجد من هذه المساجد تضم رفوفه الداخلية (50) مصحفا فقط لاغير فيكون مجموع المصاحف التي تحتاج الى إعادة ترميم أو تعويض = 19400 مصحف على أقل التقديرات فما بالكم بـ أكثر من (350) ألف وحدة سكنية تعرضت لدمار كلي أو جزئي في غزة بما فيها من أثاث وأجهزة ومقتنيات ومصاحف ؟!
المدهش أن أهالي قطاع غزة وبرغم النزوح والجوع والعطش والحصار الخانق والقصف الوحشي والمجازر الاجرامية الحاقدة ليلا ونهارا وقد دخلت الحرب يومها الـ 108 مصحوبة بقطع الكهرباء والاتصالات ومنع الدواء والمياه والوقود والغذاء يأبون إلا أن يدهشونك بصبرهم وثباتهم وشجاعتهم وصمودهم ، ولعل من صور الشجاعة والصمود بخلاف مواجهة فلول العدوان والتربص بها والنيل منها وعلى مدار الساعة ، هو رفع الأذان في كل مكان في غزة ولاسيما من فوق المساجد المدمرة لإيصال رسالة جلية وواضحة الى الكيان اللقيط مفادها بإن أصوات قنابلكم ، وأزيز صواريخكم ، وهدير طائراتكم ، ودوي مدافعكم لن تسكت صوت الأذان أبدا ولو من فوق أطلال مساجد دمرها العدوان ! " .
ولأن الصهاينة يخشون المساجد ، وصوت الأذان المرفوع من مآذنها وقبابها ،ويناصبوهما العداء فإن المستوطنين قد اقتحموا وبحماية شرطة الاحتلال باحات المسجد الأقصى (258) مرة خلال عام 2023 وحده ، فيما منعوا الأذان من المسجد الإبراهيمي في (704) أوقات،مع اغلاق هذا المسجد الأثري عشرة أيام متتالية ، وفقا لوزارة الاوقاف الفلسطينية .
ويقابل الأذان من المساجد المحاصرة أو المدمرة خطوة أكثر من رائعة استحسنها كثير من الناس تمثلت بالدعاء لأهلنا في غزة خلال القنوت، متبوعة ببث أذكار الصباح والمساء من خلال مكبرات الصوت الخارجية لأحد المساجد الكبيرة والعريقة في العراق وبصوت هادىء وجميل ورخيم وبأداء متميز .
الحقيقة لقد تابعت عن كثب العديد من الأشخاص على أبواب محالهم وفي المقاهي والمطاعم والأفران والأسواق القريبة وهم يرددون بكل سكينة ووقار ما يتلى على مسامعهم من دعاء وذكر وحمد وتهليل وتسبيح جميل " وبعضهم وعلى حد علمي غير ملتزم دينيا أساسا " وبما لم يسبق لي مشاهدته بهذا التفاعل من قبل،ولاسيما حين يصل الذاكر الى الاستغفار،والى الصلاة على النبي المصطفى المختار ﷺ ، وحين يمر على دعاء"اللهم عافني في بدني، اللهم عافني في سمعي ، اللهم عافني في بصري لا اله إلا انت"، و " يارب العزة انصر غزة " ، حتى أن بعضهم كان يرفع أكف الضراعة عفويا وهو جالس في المقهى الشعبي القريب مؤمنا على الدعاء ، كذلك حين يصدح الذاكر بـ"أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق" و "حسبي الله لا اله الا هو عليه توكلت وهو رب العرش العظيم " و " رب أسألك خير ما في هذه الليلة وخير ما بعدها ، وأعوذ بك من شر ما في هذه الليلة وشر ما بعدها" و" اللهم أجرني من النار ، اللهم أسألك الجنة " ، و " اللهم عليك بالصهاينة الغادرين فإنهم لايعجزونك ، اللهم لا تحقق لهم غاية ، ولا ترفع لهم راية ، واجعلهم لمن خلفهم آية " .
خطوة مباركة تستحق كل الاحترام والتقدير وأتمنى على كل إدارات المساجد ولاسيما الكبيرة منها استنساخها في ارجاء العالمين العربي والاسلامي ، لتبث دعاء القنوت ، وأذكار الصباح بعد صلاة الفجر ، كذلك أذكار المساء إما بعد صلاة العصر ، أو بعد المغرب .
ومن جميل العمل التطوعي ما درج عليه الحاج أنور العراقي (73سنة) أسبوعيا ومن دون كلل ولا ملل والمتمثل بجمع المصاحف القديمة والممزقة ليقوم بتجليدها وترتيبها وصيانتها ومن ثم إعادتها الى المساجد التي أخذت منها .
الحقيقة أن ما يفعله الحاج أنور في العراق ، يتطابق تماما مع ما يفعله الحاج محمد سالم العياصرة (71 عاما) في الاردن حيث يقوم هذا الرجل وعلى مدار 50 عاما بجمع المصاحف القديمة والممزقة ليقوم بتنظيفها وصيانتها وترتيبها، قبل أن يعيد توزيعها بين المساجد ومراكز تحفيظ القرآن، أو ارسالها الى بعض الدول الأفريقية الفقيرة ،ولا يختلف الحال مع الحاج الاردني محمد سالم أبو زكريا الذي يتولى ومنذ 35 عاما جمع نسخ المصاحف والكتب المدرسية القديمة من الاماكن التي لاتليق بها حفاظا على "لفظ الجلالة " وآيات القرآن الكريم ،والحديث النبوي ، واللغة العربية - لغة القرآن - من الاهانة والتدنيس ليعيد ترميم ما يمكن ترميمه منها ، والتخلص بطريقة شرعية من ما لا يمكنه ترميمها .
كذلك الحال مع الحاج السوري عبدالله عيسى غزالة (81 عامًا) والذي يعمل على ترميم المصاحف القديمة وتجليدها طواعية منذ خمس سنوات في مخيم الزعتري للاجئين ، ولروعة ما يقوم به ومدى تأثيره لقب بـ" المجدد " حتى أن وكالة" أسوشيتد برس" تناولت ما يقوم به من عمل طيب وغير مألوف ونشرت تقريرا عنه .
في ماليزيا هناك فريق حكومي مكلف بجمع ومتابعة نسخ القرآن الكريم القديمة أو الممزقة والعمل إما على إحراقها في محارق خاصة ، ومن ثم دفنها أو إلقائها في عرض البحر حفاظا على قدسية الكتاب الكريم.
وهناك من يعمد الى شراء مصحف جديد بداية كل شهر هجري ويشرع بقراءته من سورة الفاتحة الى الناس طيلة أيام الشهر ، وبعد الفراغ من دعاء الختمة، يشرع بإهداء هذا المصحف الى أحد المساجد القريبة أو التي تشح فيها المصاحف ،وهكذا دواليك فيكون لهم واضافة الى الـ 12 ختمة سنويا ، (12) مصحفا مهدى خلال عام هجري كامل بين شهري محرم و ذي الحجة ، ليأخذوا بدلا منها (12) مصحفا قديما لغرض ترميمها وتجديدها ومن ثم إعادتها الى المساجد التي أخذت منها أو اهدائها الى مساجد أخرى تشح فيها المصاحف بعد الحصول على إذن وموافقة إدارة المساجد التي أخذت منها فضلا على التي أهديت إليها لتكون الحصيلة القرآنية السنوية واضافة الى اهداء نسخ من المصحف المجزأ الى دورات تحفيظ وتعليم القرآن الكريم الصيفية = 12 ختمة + 12 مصحفا مهدى الى المساجد + 12 مصحفا قديما مجلدا ومرمما ، ولله در القائل :
دع التكاسل في الخيرات تطلبها ....فليس يسعد بالخيرات كسلان
ولايسعني في هذا المقام إلا أن أعيد ما سبق لي اقتراحه من ضرورة تحديد أماكن يعلن عنها باستمرار في بعض المساجد الكبيرة المعروفة مخصصة لجمع المصاحف القديمة والتالفة من عامة الناس فضلا على المساجد الأصغر،إما لإعادة صيانة وترميم ما يمكن ترميمه منها، وإما التعامل معها بأحد الطرق الشرعية المعتبرة للتخلص من التالف منها حفاظا على قدسيتها ، بل وأقترح إطلاق حملة لترميم - مليون - مصحف من المصاحف القديمة ، وتوزيع - مليون - مصحف -ترجمة معاني القرآن الكريم - الى اللغات الحية المختلفة بين الدول التي تتحدث بها ، زيادة على إهداء مليون مصحف الى المساجد ومراكز تحفيظ وتعليم القرآن الكريم في الدول الاسلامية الفقيرة سنويا .
ولاشك أن ما مزق وأتلف من مصاحف في مئات المساجد والمنازل والمدارس المدمرة جزئيا أو كليا في عامة القطاع المحاصر ومنذ بدء العدوان الغاشم بحاجة الى حملات كبرى لتعويض النقص الحاصل في أعداد المصاحف من جهة ، وترميم وصيانة ما أتلف ومزق منها من جهة أخرى .
والحق يقال لقد قرأت في بطون كتب التراث والسير كثيرا عن قصص وصفات وأخلاق وسجايا ومواعظ ووصايا الأولياء والصالحين على مر التاريخ وكنت أتتبعها باستمرار لأنها ترقق الافئدة ،وتؤنس القلوب، وتهذب النفوس، لعلي ومن حولي نقتدي ببعض ما عندهم ، ونتأسى بسيرهم ، وعلى قول الامام الشافعي :
أُحِبُّ الصالِحينَ وَلَستُ مِنهُم...لَعَلّي أَن أَنالَ بِهِم شَفاعَه
وَأَكرَهُ مَن تِجارَتُهُ المَعاصي....وَلَو كُنّا سَواءً في البِضاعَه
وتأسيسا على ما تقدم فإنني أجزم بأن أبطال غزة هم ثلة من الأولياء والصالحين ومن طراز خاص وفريد من نوعه ، وأجزم بأن كل ما يجري ومنذ السابع من أكتوبر إنما هي معركة فاصلة بين ثلة من الشجعان الأولياء الأصفياء الأتقياء الأنقياء " ضد" ثلة من السفلة والمنحطين والجبناء والدخلاء والأشقياء والخبثاء"ستغير الكثير من المفاهيم حول العالم عاجلا غير آجل !
وكلما تابعت كم العصف الذهني الذي يحدثونه بصبرهم وثباتهم وشجاعتهم وصمودهم وعلى مدار الساعة في أرجاء العالم من خلال مواقع التواصل والمنصات والفضائيات زاد يقيني بولايتهم حتى أن مئات الاوربيين والاميركان ولاسيما من النساء صاروا يدخلون في دين الله أفواجا بسبب هذا العصف الذهني الذي قلب عالي أسس ونظريات وقواعد " الليبرالية ،والرأسمالية،واليسارية الالحادية،والوجودية ، والعبثية، والماركسية اللينينية ، والماركسية الماوية "رأسا على عقب ، فضلا على الحركات والفرق الغنوصية والتيو صوفية والميتافزيقية برمتها بدءا من رهبان البوذية ونساك الهندوسية ، والرائيلية، وشهود يهوه ، وهار كريشنا ،والساينتولوجي ، والجوثيك ، والبابية ، والبهائية ، والمورمون ،وأشباههم ونظائرهم من السائرين في فلك الغنوصية ، ووحدة الوجود ، والحلول ، والتناسخ ، وبل وذهب العصف الذهني الى أبعد من ذلك بكثير من خلال تصحيحه للكثير من مفاهيم -العرفان والتصوف والولاية والصلاح - عندنا في الاسلام أيضا وعلى النقيض مما صورته وسوقته لنا العديد من المصادر والمراجع لبعض أصحاب الطريق والسلوك ، ولطالما تمنيت أن يُظهر الله تعالى لنا وللبشرية جمعاء أنموذجا يحتذى حذوه للاولياء والصالحين العاملين الحقيقيين الواقعيين ممن أفاض في بيان بعض صفاتهم عبد الله بن المبارك ، في رسالته الشهيرة الى الفضيل بن عياض ، والتي يطبقها اليوم وبحذافيرها أهل غزة ومطلعها :
يا عابدَ الحرمَين لو أبصَرتَنا...لعَلِمتَ أنّك في العبادَةِ تلعَبُ
من كان يخضِبُ خدّه بدموعِه...فنُحورُنا بدمائِنا تَتَخَضَّبُ
أودعناكم أغاتي
653 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع