د.عدنان هاشم
خاطرة العدد
نحل ويعسوب
عرف العرب النحل وأحبوا العسل واستمرأوا مذاقه اللذيذ، وخبروا النحل في غدوها ورواحها، ولاحظوا طواف النحل داخل بيوتها حول نحلة كبيرة ظنوها ملك النحل فسموها اليعسوب، ومعناه السيد المتَّبَع. ورأوا أن هذا اليعسوب ليس له ملكة تماثله ليسموها اليعسوبة، فظنوا أن كل ما في مملكة اليعسوب من نحل ويتراوح عددها ما بين 10000 إلى 60000 نحلة عاملة زوجات لهذا اليعسوب العظيم.
ثم أطلق العرب اسم اليعسوب على كل عظيم مطاع في قبيلته. وقد شرف النبي صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب بقوله
" ياعلي أنت يعسوبُ المؤمنين والمالُ يعسوبُ الظلمة " وجاء الحديث أيضا بلفظة يعسوب الدين وقد اشتهر عليه السلام بهذا اللقب الذي شرفه به النبي حتى صار علما له.
وقد ذكر الله سبحانه النحل بقوله " وأوحى ربك إلى النحلِ أن اتخذي من الجبال بيوتا ومن الشجر ومما يعرشون ثم كلي من كل الثمرات فاسلكي سبل ربك ذُلُلا يخرج من بطونها شرابٌ مختلفٌ ألوانُه فيه شفاءٌ للناس “ فجعل العسل شرابا مباركا يستشفى به المرضى. وتختلف ألوان العسل بحسب الأزهار والأشجار التي يمتص النحل منها االرحيق، فمنه الذهبي والبنيّ والأسود والأبيض والذي تسميه العرب العسل الماذيّ، وطعم العسل يختلف حسب نسبة السكر فيه، وبعضه فيه مرارة كعسل زهرالخلنج Heather Honey وهو قليل وغالي الثمن.
يروى أن بني سُلَيْم قبيلة الشاعرة الخنساء كانوا يسكنون قرب الجبال، وكان هناك نحل كثير جدا يبني بيوته على الأشجار وفي داخل الكهوف، فإذا أغارت عليهم العرب، هب بنو سُليم إلى بيوت النحل فهيجوها، فيطيرالنحل نحو السماء حتى يكون غمامة كثيفة ثم ينقض على العدو المغير بشراسة (قصف جوي مركز)، فينفض جمعهم ويهربون في كل حدب وصوب، ذلك لأن حركة الخيل والمهاجمين يفسرها النحل بأنها العدو فيهجم عليهم بلسعاته المؤلمة فيهرب المغيرون ويولّون الدبر. ولهذا ينصح خبراء النحل بعدم الحركة إذا هاجمت جموع النحل الإنسان. وقد طار خبر بني سليم ونحلها بين العرب فتحاشت غزوهم القبائل، وعاش بنو سليم في عز ومنعة حتى بزغ فجر الإسلام على ربوع جزيرة العرب.
ولكن عرف مربو النحل فيما بعد أن اليعسوب ليس ذكرا بل ملكة أنثى كبيرة الحجم طويلة الجناحين، لا تغادر مملكتها إلا عندما تكون مستعدة للتلقيح فتطير في الجو بصورة عمودية فيلحقها عدد كبير من ذكور النحل متأثرين برائحة خاصة تسمى الفيرومون Pheromone تفوح منها في الجو حتى إذا كانت على ارتفاع 50 إلى 60 مترا أسلمت نفسها للذكور الأقوياء Drones ، وبهذا تضمن الملكة التنوع الجيني Genetic variations للبويضات التي تضعها بعشرات الآلاف فيما بعد.
تتميز ذكور النحل بقصرها وضخامة صدورها، والغريب في هذه الذكور أنها كلها بلا أب لاحتوائها على نصف عدد الكروموسومات Haploid التي ورثوها من أمهم الملكة الأولى، ولكن الذكور الذين يلقحون الملكة الشابة آباء لكل عاملات وملكات الجيل التالي في مملكة النحل. وما أن تنمو الملكات الصغار حتى تشعر الملكة الكبيرة أن الوقت قد حان لها للهجرة فتأخذ معها عددا غفيرا من اتباعها لتقيم لها مملكة أخرى لها في ارض الله الواسعة.
وللحديث بقية فما أن ينتهي الذكور من تلقيح الملكة حتى يكونوا عبئاً ثقيلا على بقية النحل ( تنابلة أكل ونوم )، فقد أدوا دورهم وأخلدوا للراحة فلا يخرجون مع من يخرج لجمع الرحيق بل يكتفون بالعسل الموجود في المملكة .حتى إذا أقبلت أيام الخريف وقصر النهار وطال الليل وندرت الأزهار وشح الرحيق، فإذا بالعاملات يتكالبن على آبائهم الذكور فتطردهم من عليائهم إلى غير رجعة ، وما أن يبرد الجو في ليالي الخريف حتى تسقط الذكور ميتة تباعا على أعتاب مستعمرة كانوا السبب في وجودها (إرحم عزيز قوم ذل، وغنياً افتقر) وإنا لله وإنا إليه راجعون .
24/01/2024
1720 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع