قاسم محمد داود
" الكتاب الأزرق " مشروع نوري السعيد لوحدة الهلال الخصيب
في 14 كانون الثاني / يناير عام 1943 بعث نوري السعيد رئيس وزراء العراق آنذاك إلى وزير الدولة البريطاني لشؤون الشرق الأوسط المقيم في القاهرة ريتشارد بيرسي مذكرة خاصة بعنوان "استقلال العرب ووحدتهم". طبعت المذكرة في كتيب أنيق غلافه أزرق فعرفت باسم "الكتاب الأزرق"، وعرف مشروع نوري السعيد باسم "الكومنولث العربي"، ثم باسم "الهلال الخصيب"، وقد دعا فيه إلى أن "يعاد توحيد سورية ولبنان وشرق الأردن في دولة واحدة" وإنشاء "عصبة عربية ينضم إليها العراق وسوريا فوراً والدول الأخرى متى شاءت، وأن "يمنح اليهود في فلسطين إدارة شبه ذاتية"، وأن يمنح الموارنة في لبنان إدارة ممتازة، كما كان الوضع قبل سقوط الإمبراطورية العثمانية.
بدأ نوري السعيد نشاطه الوحدوي الواضح في حفل غداء أقيم في القاهرة بتاريخ 20 كانون الثاني / يناير 1939 للوفود العربية المتوجهة إلى لندن للاشتراك في "مؤتمر المائدة المستديرة ". الذي كان سيعقد في 7 شباط / فبراير 1939 لمناقشة القضية الفلسطينية، بين كلًا من مندوبي مصر والعراق والأردن والسعودية واليمن، ومندوبين بريطانيين في قصر سانت جيمس في لندن، وفي ذلك المؤتمر رفض المندوبون العرب الجلوس مع مندوبين من الوكالة اليهودية لفلسطين. حضر عن العراق رئيس الوزراء نوري السعيد، وعن مصر الأمير محمد عبد المنعم، وعلي ماهر باشا، وعبد الرحمن عزام باشا، وسفير مصر في لندن حسن نشأت باشا، وعن السعودية الأمير فيصل بن عبد العزيز، وعن الأردن رئيس الوزراء توفيق أبو الهدى، وعن فلسطين جمال الحسيني، ومعه بعض القيادات الفلسطينية.
انتهى المؤتمر بفشل ذريع في حل مشكلة فلسطين. فنظراً لتدهور الحالة في أوروبا بسبب السياسة الألمانية التوسعية قرر مجلس الوزراء البريطاني اتخاذ الإجراءات اللازمة لاحتواء الثورة العربية في فلسطين وإقناع العرب بالتفاهم مع بريطانيا. في حفل الغداء هذا قال نوري السعيد انه يأمل أن يتحول هذا الاجتماع التاريخي إلى حفل لوضع حجر الأساس لجامعة دولية للعرب, والأقطار الشرقية الممثلة في الاجتماع، كما أجرى نوري السعيد بعد ذلك مباحثات في أواخر عــام 1942 مع عدد من القوميين السورييـن واللبنانيين والأردنيين، ثم طرح فكرته في 17 كانون الأول من نفس العام أثناء زيارته برفقة الوصي عبد الإله إلى مصر على رئيس الوزراء المصري مصطفى النحاس الذي لم يستحسنها، كما حصل لقاء لنوري السعيد مع ريتشارد كيسي وزير الدولة البريطاني لشؤون الشرق الأوسط المقيم في القاهرة، وقد بين نوري للوزير البريطاني ضرورة تحقيق الوحدة العربية المنشودة، وأكد له إن الأمر يتفق مع ما ورد في تصريح وزير الخارجية البريطاني أنطوني أيدن، وان تحقيقه ليس فوق طاقة بريطانيا بعد أن انفردت بشؤون الشرق الأوسط اثر سقوط فرنسا، ورداً على ذلك طلب منه كيسي عرض وجهة نظره بخصوص الموضوع ضمن مذكرة رسمية، وذلك بوصفه رئيس حكومة حليفة لبريطانيا من ناحية، وباعتباره خبيرا في شؤون الوطن العربي، ومعاصرا لإحداثه القومية من ناحية أخرى.
كانت الدبلوماسية البريطانية قد نشطت في عام 1941 في المشرق العربي، ولا سيما بعد القضاء على ثورة رشيد عالي الكيلاني في العراق لتثبيت أنظمة الحكم المؤيدة لبريطانيا وتعزيزها واغلاق الباب في وجه حركات التحرر الوطني العربية التي كان ينتظر تحركها فور انتهاء الحرب العالمية الثانية. ويدخل في إطار هذا النشاط الدعوة التي نادى بها نوري السعيد رئيس وزراء العراق آنذاك إلى انشاء “الهلال الخصيب” وادراج فلسطين في إطار المنطقة التي يدعو إلى توحيدها.
وقد أدى هذا المشروع دوراً محورياً في السياسات المحلية والإقليمية العربية، وسياسات القوى الدولية آنذاك، ولاسيّما في أربعينيات القرن الماضي وخمسينيّاته.
وفكرة هذا المشروع السياسي تعود في جذورها إلى خذلان الثورة العربية الكبرى بقيادة الشريف حسين عام 1916 إذ كانت بريطانيا قد وعدت آنذاك الشريف الهاشمي وفق مراسلات (الحسين - مكماهون) بإقامة دولة عربية في بلاد الشام والعراق في حال قيامه بمساعدتها في تقويض السلطنة العثمانية .لكن بريطانيا وفرنسا – وبموجب معاهدة "سايكس – بيكو" عام 1916- اتفقتا على توزيع الأقاليم العثمانية بين الأوربيين، وفي مؤتمر سان ريمو1920 نالت فرنسا حق الانتداب على سورية ولبنان، وأخذت بريطانيا حق الانتداب على العراق وفلسطين والأردن. ولذلك حين دخل الأمير فيصل بن الحسين إلى دمشق عام 1918، وأعلن نفسه ملكاً على سورية، سارع الفرنسيون إلى إدخال قواتهم واحتلال سورية عام 1920 وتقويض حكم الملك فيصل، فاحتضنته بريطانيا، وأعلنته ملكاً على العراق في العام 1921، وظل حلم العودة إلى دمشق يراود الملك فيصل وأبناءه.
كذلك كان الأمير عبد الله بن الشريف حسين منذ قدومه إلى شرق الأردن يتطلع نحو وحدة سوريا الكبرى (سوريا ولبنان وشرق الأردن وفلسطين) تحت عرشه. ومن ثم يضم العراق. وبعد أن واجه معارضة في قيام سوريا الكبرى، أتجه إلى قيام الوحدة مع العراق على أساس أنها المرحلة الثانية بمشروع سوريا الكبرى، أي أنه أنطلق إلى الخطوة التالية، مما يسهل ضم سوريا بعد إتمام الوحدة مع العراق.
بعد عودته إلى بغداد كتب نوري السعيد مذكرة إلى ريتشارد كيسي تحت عنوان "استقلال العرب ووحدتهم " بعثها إليه في 14 كانون الثاني 1943، وفضلا عن ذلك وزع نوري عدد محدودا من المذكرة نفسها توزيعا شخصيا على عدد من الزعماء العرب، واطلع على مضمونها العديد من البرلمانيين البريطانيين والأمريكان، وسرعان ما طبعت المذكرة في كتيب أنيق الغلاف ازرق، فأصبح يعرف بـ " الكتاب الأزرق " الذي غدا مضمونه متداولا على نطاق واسع مع انتهاء الحرب.
ماهي الأسس التي اعتمد عليها نوري السعيد والعوامل التي كان يعتقد أنها كفيلة بإنجاح مشروعه الوحدوي هذا وماذا يعني مصطلح (الهلال الخصيب)؟
المقصود بـ "الهلال الخصيب" هو السهل الشاسع المترامي الأطراف والذي تجري فيه مجموعة من أهم الأنهار، هي دجلة والفرات والأردن، ويبدو على الخريطة شبيها بالهلال، يبدأ قرنه شرقا من الخليج العربي داخل جنوب العراق ويمتد شمالا إلى محافظة نينوى والحدود التركية العراقية وينحرف غربا بمحاذاة سلسلة جبال طوروس التركية إلى سوريا ولبنان ويظم سوريا وفلسطين، أما من الجهة الجنوبية فتتاخمه جزيرة العرب وهي لا تدخل ضمن مدار " الهلال "، أما دلتا مصر فقد يمتد قرن الهلال غربا فيحتويها إلا إنها لا تعتبر في العرف السياسي على الأقل ضمن مدار هذا " الهلال " .
هذه المناطق كانت مأهولة بأهم الحضارات المختلفة على مر العصور كالحجريّ، والبرونزيّ، ومنها الحضارة السومرية والأكادية والبابلية والآرامية. كذلك يوجد العديد من الحضارات كالأنباط، والميديّة، والآشوريّة، والكنعانيّة، والعمونيّة، والمؤابيّة، والميتانيّة، والأدوميّة، الإسلامية العربية، والفارسيّة، والسلوقيّة، والرومانيّة، والبيزنطيّة. ويتمّ تداول هذا المصطلح في الكثير من الكتب والمؤلفات ذات الجانب الأثريّ، والسياسيّ، وفي التداخل الثقافي في هذه المنطقة الجغرافيّة عبر استخدام هذا المصطلح، الذي يُفسر فيه بأنّ هذه المنطقة الجغرافيّة تجمعها بيئة واحدة، ومتشابهة إلى حد كبير، وتتميّز بوجود نسبة من المياه الجيدة سواء من البحار، والأنهار، والسدود، والمياه الجوفيّة، وتربتها الخصبة التي يمكن الزراعة فيها بطريقة سهلة جداً.
كثُرَ استخدام المُصطلح عندما تأسس الحزب السوري القومي الاجتماعي، مُعتبراً أن الهلال الخصيب هو ذاته «سوريا الكبرى» التي تُشكِّل جزءاً من الامتداد العربي الذي يتكامل مع الأجزاء الأخرى في الجزيرة العربية ووادي النيل والمغرب العربي.
الجذور العربية «السامية» واضحة في تلك المنطقة، وشعبها يتمتع بمُميزات واحدة من حيث الثقافة واللغة والتاريخ وفي عادات الطعام والشراب، وغالباً في فن العمارة وفي ممارسة مِهن الصناعة والتجارة والزراعة.
وكانت تلك المنطقة ركيزةً في تاريخ الحضارة العربية والإسلامية، ونشأت فيها الدولة العباسية والدولة الأموية اللتان أغنتا التاريخ العربي بالعلوم والفنون، وتواصلت بلاد الشام وحوض دجلة والفرات مع المساحات العربية الأخرى في بلاد الجزيرة ومصر والمغرب، لتُشكِل ما يُشبه الوحدة السياسية، بحيث كان استهداف أي من هذه المناطق، استهدافاً للعرب عامةً.
وفقاً لهذه الاعتبارات كانت الغزوات الصليبية للمنطقة من أواخر القرن الحادي عشر الميلادي حتى الثلث الأخير من القرن الثالث عشر، وعلى تلك القاعدة ذاتها كانت غزوة المغول في منتصف القرن الثالث عشر. أما الدخول التركي في القرن السادس عشر، فقد كان احتلالاً لبلاد العرب، ولو كان مغلفاً بالطابع الإسلامي.
في فلسطين – قلب الهلال العربي الخصيب – هُزم الإفرنج في معركة حطين التي قادها صلاح الدين الأيوبي عام 1187م، وفيها أيضاً هُزمت جحافل الغُزاة التتار والفرس والمغول بقيادة هولاكو في عين جالوت في العام 1260م، وتراجع الأتراك منهزمين عن هذه البقعة العربية عام 1919. أما الاستعمار الغربي (البريطاني والفرنسي) فقد فشِل أيضاً بالبقاء على هذه الأرض، لكن الكيان «الإسرائيلي» الذي زرعه هذا الاستعمار مازال قائماً.
كل الغزوات والاحتلالات، كانت ترتكز على محو المعالم العربية عن هذه البلاد. وبعضهم كان يدَّعي زوراً: أنه «يستعيد بلاداً احتلها العرب». لم يتمكن كُل هؤلاء من النيل من العروبة الصافية التي تتجذَّر في شعوب بلاد الشام وحوضي دجلة والفرات. أما الهلوسات والمُغالطات الصهيونية حول فلسطين، فهي ستلاقي ذات المصير من الهزيمة، ومهما طال الزمن.
أما في عصرنا الحالي يتكوّن الهلال الخصيب من خمس دول عربيّة، بالإضافة إلى الأجزاء التي احتلها الكيان الصهيوني من فلسطين، فيبدأ هذه الهلال من المناطق الشماليّة وهي بلاد العراق والتي عُرفت ببلاد الرافدين، وتقدر مساحتها بـ 438,317 كيلو متر مربع، وتتخذ من بغداد عاصمةً لها، والبلاد السوريّة، والتي تصل مساحتها إلى 185180 كيلو متر مربع، وتُعتبر دمشق عاصمةً لها، وحلب هي أكبر المدن فيها من حيث المساحة، والدولة اللبنانيّة، وتمتلك مساحة 10,452 كيلو متر مربع، وعاصمتها بيروت وهي أكبر مدنها، والدولة الأردنيّة التي مساحتها 89،287 كيلو متر مربع، وعاصمتها عمّان وهي أكبر مدنها، وفلسطين والكيان الصهيونيّ بمساحة إجماليّة تقدر بـ 26,990 كيلو متر مربع.
هذه المنطقة هي عقدة الوصل بين القارات الثلاث - العالم القديم: آسيا، أوروبا، أفريقيا وشكّلت عبر التاريخ منطقة جيو استراتيجية في غاية الأهمية.
- الثورة الزراعية الأولى: المحراث –الدولاب- التدجين- الهندسة والحساب...
– نشوء العمران المديني ونشوء الدول والامبراطوريات. كثافة العمران المديني وتواصله ضمن الهلال الخصيب، لا وجود لقرى أو أرياف بعيدة ومنعزلة عن التأثير المديني.
ومن الجدير بالذكر أن صموئيل كرايمر الباحث في السومريات يسجل أكثر من 25 ظاهرة حضارية بدأت في سومر.
- الملاحم القديمة – جلجامش -إينوما إيليش...
- الفكر الديني المنفتح – الى المسيحية ونشر الاسلام ومركز أهم امبراطوريتين اسلاميتين الأموية والعباسية – دمشق - بغداد.
- التشريع مع أورنامو ولبت عشتار وقوانين حمورابي الشهيرة – الى القانونيين الكبار الذين أسهموا في قسم كبير من القوانين الرومانية - الى مدرسة بيروت الحقوقية التي دمرت سنة555م.
- الأبجديات المسمارية والأبجدية الكنعانية (الفينيقية) التي انتقلت الى العديد من اللغات في العالم. (الثورة الأولى في الاتصال) قبل الفتح العربي توحّدت المنطقة في ظل الثقافة الآرامية - السريانية والمسيحية. ويتفق الكثير من الباحثين في هذا الشأن أن كل الطوائف المسيحية في الهلال الخصيب هي ذات جذور آرامية سريانية. وبعد الفتح العربي سادت اللغة العربية شقيقة الآرامية - السريانية وتحولت غالبية السكان مع مرور الوقت الى الاسلام، وأصبحت معظم الجماعات منتمية الى الثقافة العربية الاسلامية بما في ذلك الطوائف المسيحية. وأصبحت التسمية العربية التي تغطي منطقة الهلال الخصيب هي العراق وبلاد الشام. وحين نتكلم اليوم عن المذاهب والإثنيات في هذه المنطقة غالبا ما يجري تضخيم الفروقات. معظم السكان ينتمون الى الثقافة العربية، أما الذين ينتمون الى إثنيات محافظة على عصبيتها ولغتها، هم أقل من 10%. بالإضافة إلى أن الاسلام هو دين الغالبية الساحقة من السكان ويشكل المذهب السني الأغلبية المطلقة من مجمل السكان.
وفي العودة إلى مشروع وحدة الهلال الخصيب و "الكتاب الأزرق"، فقدعرض نوري السعيد في كتابه إلى الوزير البريطاني تصوره لمستقبل الدول العربية، كما أكد في الوقت نفسه أن هذا التصور يمثل وجهة نظره الشخصية لا وجهة نظر الحكومة العراقية.
أطلق على رسالة نوري السعيد إلى ريتشارد كيسي اسم “الكتاب الأزرق” وكانت بعنوان “خطة الهلال الخصيب”. وقد لخص فيها نوري السعيد تصوره لوحدة العرب وحل المسألة الفلسطينية. ورأى أن تحقيق مشروعه للوحدة العربية يتم على مرحلتين. ففي المرحلة الأولى نجد سورية ولبنان وفلسطين وشرقي الأردن ويقرر السكان شكل نظام الحكم الذي يرتضونه. وفي المرحلة الثانية ينضم العراق إلى الدول السابقة بعد توحيدها. وبذا يشكل الهلال الخصيب من جامعة دول عربية تنضم اليها الدول العربية الأخرى حسب رغبتها. وقد أخرج نوري السعيد كلا من مصر والمملكة العربية السعودية من مشروعه لأن في مصر عدد من السكان يفوق عدد سكان الهلال الخصيب بالإضافة إلى انشغالها بمشكلاتها في السودان، ولأنه يكره النظام القائم في السعودية ويكن له عداء شديداً، أما بالنسبة الى فلسطين فقد ورد في الكتاب الأزرق ما يلي: “ينبغي على حكومتي أمريكا وبريطانيا أن تصدرا بيانات مؤكدة حول مستقبل الأراضي العربية التي كانت تشكل جزءا من الامبراطورية العثمانية، وأن تقلل الدولتان من مجاهرتهما بتأييد اليهود”. كما أشار الكتاب إلى أن بريطانيا ما تزال تؤيد سياسة “انشاء دولة يهودية مستقلة في فلسطين” على الرغم من أنها كثيرا ما أنكرت هذه السياسة. واقترح على عصبة الأمم أن تصدر بياناً “ترفض فيه فكرة انشاء دولة يهودية. وقد يحتج الصهاينة على ذلك بالطبع ولكنهم سيرضون به في النهاية”.
اعترف نوري السعيد في كتابه بإخلاصه اللامتناهي لبريطانيا عندما صرح بأنه لا يسمح نشر أخبار بريطانيا المؤيدة للصهيونية حتى لا يثير المشاعر العراقية المعادية لليهود والبريطانيين. وطالب في الوقت نفسه “بالتمسك بالسياسة البريطانية الواردة في الكتاب الأبيض لعام 1939”. وأقر بأن يعطى اليهود شبه استقلال داخلي في فلسطين، ضمن دولة الموحدة على أن تكون القدس مفتوحة لجميع الأديان لأغراض الحج والعبادة. كما أقر الامتيازات التي كان يتمتع بها الموارنة في لبنان في أواخر العهد العثماني.
وقد تجاهل نوري السعيد أساس القضية الفلسطينية المتمثل في السماح للصهيونيين بالهجرة إلى فلسطين ومنحهم التسهيلات اللازمة من حكومة الانتداب البريطانية ضد ارادة سكان البلاد الأصليين وعلى حسابهم. كما أنه، ولأول مرة في تاريخ العرب، سلم بحق الصهيونيين فيما أسماه “شبه استقلال من فلسطين”.
لقد اهتمت الدوائر البريطانية المسؤولة بالمشروع الذي أعده نوري السعيد بإيعاز من بريطانيا، ويشير نوري من خلال رسالته إلى أن العراق ليس مجرد جار للدول العربية الأخرى، بل هو مرتبط بها ارتباطا وثيقا بأقوى الوشائج اللغوية والعنصرية والدينية، والثقافية والاقتصادية، وغيرها من الروابط، كما أن العراق يشارك جيرانه الأقطار العربية في استهداف الوحدة العربية، لان بغير هذا الاتحاد لا يتمكن العرب أبدا من الحصول على مكانهم في العالم، وإعادة مجدهم السالف الذي يفخرون به بحق، والعراق بالإضافة إلى هذا يؤيد الدول العربية في موضوع الوحدة العربية التي يرجو أن تتحقق في النهاية، وأعرب عن اعتقاده بان علاقات العراق بعرب سوريا التاريخية أقوى مــن علاقاتــــه مـــع عـــــــرب شــــــبه الجـــزيـــرة العربيـــــــة، بالـرغــم مــن ارتبــاط جـميـــع العــرب بالـلــغة والـعــادات والديــن، وذلك لان اقـتصــاديـات ســـوريـــا والعــراق تختــلــف عــن بـقيـــة الــدول العربيــــة وأعــلن إن الـعــراقـيـيـن يــؤمنـــون بان مثل هـــذا الاتحاد العربي لا يتحقق إلا بالحصول على الاستقلال التام لــجميـع الـدول العربيــة التي ســتختار بمرور الزمــن نـوع الاتحاد الذي يوافقها والذي من شانه أن يضمن لها مصالحها ورغباتها، ولمزيد من الإغراء انتقل نوري السعيد بمشروعه إلى الناحية الاقتصادية، فامتدح تعاون البلاد العربية في نطاق الاتحاد المقبل، وذلك بسبب وجود البترول في هذه البلاد والذي أعطاها موارد اقتصادية لم تتيسر لها من قبل، فبينما يحتاج العراق إلى منفذ إلى البحر المتوسط لبتروله ومنتجاته الأخرى، تحتاج فلسطين ومنتجاتها الصناعية إلى العراق أو إلى وقود وهذه حقائق يجب أخذها بعين الاعتبار، أما عن مصر والسعودية فقد وضح حسب منظوره إلى العلاقة مع البلدين، فانه على الرغم من عناصر اللغة والعادات والدين التي تقرب دول شبه الجزيرة العربية من العراق، فان اقتصادياتها مختلفة، ثم إن تعداد مصر يزيد كثيرا عن تعداد دول الهلال الخصيب، ولمصر مشاكلها الخاصة في السودان وغيره، وذلك فان هاتين الدولتين لن تميلا أول الأمر للانضمام إلى جامعة أو اتحاد عربي، بيد انه لو نجحت مثل هذه الوحدة بين العراق وسوريا، فمن المحتمل جدا إن ينضما إليها فيما بعد.
اختتم نوري السعيد رسالته بقوله، إن الحل في رأيه، ولضمان سلم دائم ورخاء وتقدم في المناطق العربية هذه " أي العراق وسوريا بحدودها الطبيعية " أن تعلن عصبة الأمم ما يلي:
1- إعادة توحيد سوريا ولبنان وشرق الأردن من جديد في دولة واحدة.
2- إن نظام الحكم في هذه الدولة – سواء كان ملكيا، أو جمهوريا متحدا أو اتحادا يجب أن يقرره أهالي هذه الدول أنفسهم.
3- أن تنشأ جامعة عربية تنضم إليها العراق وسوريا مباشرة، ويجوز أن تنضم إليها الدول العربية الأخرى متى شاءت.
4- أن يعين أعضاء مجلس الجامعة من الدول الأعضاء، ويرأسه شخص يتم اختياره بطريقة تتفق عليها الدول ذات الشأن.
5- أن يعين مجلس دائم للجامعة مسؤول عن الدفاع، والشؤون الخارجية، والعملة، والمواصلات، والكمارك، وحماية حقوق الأقليات.
6- حق اليهود في فلسطين في إدارة أقاليمهم في المدن والريف، بما في ذلك المدارس، والمؤسسات الصحية، والبوليس، مع الخضوع لإشراف الدولة السورية.
7- أن تجعل القدس مدينة مفتوحة لمعتنقي جميع الأديان لأغراض الحج والعبادات وتنشأ لجنة خاصة مؤلفة من ممثلي الأديان الثلاثة لضمان مثل هذا الأمر.
8- يمنح الموارنة في لبنان، إذا رغبوا، نفس الامتيازات التي كانوا يتمتعون بها في أواخر العهد العثماني.
وأصبحت رسالة نوري السعيد أساسا لما دار حوله الحديث بعدها عن مشروع الهلال الخصيب، أو سوريا الكبرى، كما صارت أساسا لمشروع إنشاء جامعة الدول العربية، وقد فسحت بريطانيا المجال أمام مصطفى النحاس لمزاحمة نوري السعيد خلال 1942- 1944 على زعامة البلاد العربية.
ظهر تصريح لوزير الخارجية البريطاني أنطوني ايدن بتاريخ 24/2/1943 حدد فيه سياسة بريطانيا في فترة ما بعهد انتهاء الحرب العالمية الثانية وأكد رغبة بريطانيا في ايجاد نوع من العلاقات العربية الوحدوية، اقتصادية كانت أو سياسية أو اجتماعية، ولكنه اشترط لقيامها “القبول العربي العام”.
لم تلق اقتراحات نوري السعيد آذانا صاغية، ولم يكن مشروعه أول المشاريع العربية ولا آخرها لحل القضية الفلسطينية بطريقة غير مرضية للرأي العام العربي.
ولكن انقلاب حسني الزعيم جاء عكس ما تمناه نوري السعيد والبريطانيون، حيث أعلن في 26 نيسان/أبريل 1949 وبعد زيارة إلى مصر: " إن الجمهورية السورية لا تريد سورية كبرى ولا هلالاً خصيباً، وسوف نوجه قواتنا ضد هذين المشروعين اللذين أوصى بهما الأجنبي."
في 14 آب/أغسطس 1949 قام الجيش بقيادة اللواء سامي الحناوي بالإطاحة بحكم حسني الزعيم وكان التأثير الفوري لهذا الانقلاب العودة إلى العلاقات مع العراق والأردن.
وعاد حزب الشعب إلى قيادة السياسة السورية، واندفع هؤلاء إلى العودة إلى التنسيق مع السياسة العراقية مجدداً، وانتعشت آمال عبد الإله الوصي على عرش العراق. لكن الجيش تحرك مجدداً بقيادة أديب الشيشكلي نائب رئيس الأركان في 19 كانون الأول/ديسمبر 1949 وبرئاسة فوزي سلو بذريعة الدفاع عن نظام الحكم الجمهوري في سورية. وإنقاذها من النفوذ البريطاني والوحدة مع العراق، حيث أعلن الشيشكلي قائلاً: " إن الجيش بالمرصاد لكل من تسول له نفسه فكرة الاتحاد مع العراق."
وفي أواخر تشرين الثاني/نوفمبر 1951 سيطر الشيشكلي على الحكم، وأعلن حل الأحزاب السياسية، وأقام دكتاتورية عسكرية لحكم البلاد، وعدّ ذلك إطاحة بكل الآمال في أي تقارب عراقي سوري. واستمر حكمه حتى العام 1954 إذ تمت الإطاحة به وعودة النظام الديمقراطي البرلماني.
في هذه المرحلة كانت الولايات المتحدة قد عادت بقوة لتؤدي دوراً رئيسياً في سياسات المنطقة على حساب تراجع النفوذ البريطاني، وبدأت مشروعات جديدة تلوح في الأفق، كحلف بغداد ومبدأ أيزنهاور بهدف احتواء المنطقة والهيمنة عليها عبر أنظمتها.
بعد قيام ثورة 1952 في مصر ودخولها في معارك ضد الاستعمار البريطاني، ولاسيما معركة الجلاء وتأميم شركة قناة السويس، وما تبعها من عدوان ثلاثي عليها في العام 1956 تأججت الروح القومية عند الشعب العربي في سورية، واتجهت الأحزاب القومية نحو اللقاء مع مصر وأولويته على أيّ محاور أخرى وقيام الجمهورية العربية المتحدة عام 1958 بين مصر وسورية .ومنذ ذلك الوقت لم يعد لمشروع الهلال الخصيب في صورته الأصلية أي حضور في الساحة السياسية العربية، ولاسيما بعد قيام انقلاب 14 تموز/ يوليو 1958 في العراق والقضاء على الملكية وقيام النظام الجمهوري..
4819 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع