الدكتور عدنان هاشم
خاطرة العدد:
إلى الله أشكو أنني كلَّ ليلةٍ
إذا نمتُ لم أُعدَمْ طوارقَ أوهامي
فإن كان شرّاً فهو لا بدَّ واقعٌ
وإنْ كان خيراً فهو أضغاثُ أحلامِ
هذان البيتان من شعر أبي العلاء المعري، شاعر المعرة الشهير، وهما يوضحان بصورة صادقة روحه السوداوية المتشائمة التي كانت تلاحقه حتى في أحلامه. فهو يشكو طوارق الأوهام التي تنتابه كل ليلة وكثرة أحلامه التي تزعجه في نومه، فأكثرها تنذر بالشر وهو يظن أنها لا بد أن تقع له في اليقظة. أما أحلامه الجميلة فهي على قلتها لن يتحقق له أي منها له، لذا فهي بمثابة أضغاث أحلام كاذبة ولا يأمل منها شيئا.
للمعري ديوانان معروفان، أحدهما نظمه في شبابه وهو "سِقط الزَّنْد"، وهذان البيتان منه. والآخر نظمه في شيخوخته وهو الأضخم وسماه ديوان "لزوم ما لا يلزم" حيث ألزم نفسه بقوافي غير ملزمة لغيره من الشعراء وهو أن يكون الحرفان الأخيران من كل بيت شعر متماثلين في قافية كل أبيات القصيدة. وقد ضمن المعري في شعره آراءه في الدين والدنيا والناس وأخلاقهم ونفاقهم، وقلة ثقته بالمرأة وعبث وجود الإنسان الذي بسببه فسدت الأرض، وفي كل هذا تظهر روحه السوداوية التشاؤمية.، فهو لم يكن يرى في البشر خيرا قط ويتمنى لو أن البشر يمتنعون عن النكاح لينقطع النسل وتختفي الشرور، وقد ظلم أبو العلاء المرأة ولم ير فيها إلا أنها أداة للخداع والغدر ولا تعرف الوفاء وما أكثر ما تخون زوجها وتجود برضابها لعشيقها، لذا فهو يرى أن الأنسب أن توأد الوليدة وهي حية لتنتهي شرورها كما في قوله:
ودفنٌ والحوادثُ فاجعاتٌ لإحداهن إحدى المكرماتِ
لقد ظلم المعري المرأة ظلما عظيما، وحكمه عليها فيه الكثير من التجني، فقد عاش المعري عمره أعزب ليس له زوجة يأوي إليها ولا أبناء يحنو عليهم، وهو في كل عمره المديد لم ير امرأة ولم يتذوق جمالها ولم يستمتع بدفئها ولا ودادها وحبها.
ثم هو يبدي رأيه في الخالق وهو الله والأنبياء واليوم الآخر؛ وفي جميع ذلك يظهر فيها شكه في الأديان وتردده بين الإيمان والإلحاد وسوء ظنه بالأنبياء، فقد أنشد في لزومياته:
هفت الحنيفةُ والنصارى ما اهتدت ويهودُ حارت والمجوسُ مضللةْ
اثنان أهلُ الأرض ذو عقلٍ بلا دينٍ وآخر ديِّنٌ لا عقلَ لهْ
لذا اتهم المعري في حياته وبعد مماته بالزندقة والإلحاد، ومن يقرا ديوانه "لزوم ما لا يلزم" يجد روح الإلحاد واضحة في طيات شعره أكثر مما يجد أبياتا تدل على إيمانه. ويبدو في شعره أحيانا أنه مؤمن باليوم الآخر والحساب والثواب والعقاب، فهو مثلا يقول حول اليوم الآخر:
قال الطبيبُ والمنجمُ كلاهما لا تحشر الأجسادُ قلت إليكما
إن صح قولُكما فلستُ بخاسرٍ أو صحَّ قولي فالخسارُ عليكما
ولكنه سرعان ما يعود إلى شكه وريبه في هذه العقيدة، وأحسب أن ما أنشده المعري من أبيات تظهر فيها روح الإيمان فهي إما لتأرجحه بين الشك والإيمان، أو من باب ذر الرماد في العيود ليدفع عن نفسه تهمة الإلحاد. فتراه كثيرا ما يعمد إلى الغموض في شعره والتورية والرمزية للتغطية على عقائده التي لم يعلنها صراحة في اغلب الأحيان.
وحتى البيتين الآنفي الذكر تدل على شكه ولا تدل على إيمانه، لأنه يقول إن كان هناك اليوم الآخر أم لم يكن فليس بخاسر في الحالتين، وأحسب أن هذا النوع من الإيمان المتهافت لا يساوي عند الله جناح بعوضة.
ظن أبو العلاء أنه بالعقل يمكن أن يصل الإنسان إلى الإيمان بالخالق دون الحاجة إلى أنبياء، ولكنه نسي أو تناسى أن الفلاسفة أكثر الخلق استعمالا للعقل في البحث والاستقراء والنظر والتحليل ولم يتفقوا أبدا حول هذه المسألة التي شغلت اهتمام البشرية، فالعقل البشري خلق ليبت في شؤون الحياة التي تطرأ على الإنسان في حياته والتي تحكمها البيئة الاجتماعية والخبرات الشخصية المتراكمة وجلها مستمدة من الماديات ومما يسمع ويرى، حتى إذا تطلع العقل إلى الكون والخالق والغيبيات تراه يتيه فيها ولا يصل بعقله إلى قرار، فكيف لنا أن نستغني عن الأنبياء وما يأتون به من أوامر السماء.
وتمجيد العقل هو وحده في عقيدة المعري الدليل المؤتمن في هذه الحياة. وقد أكثر في ديوانه في مدح العقل وجعله القول الفصل فيما يعرض للإنسان من أفكار وعقائد. ولهذا سمي أبو العلاء فيلسوف الشعراء. ولكني لا أعتبره فيلسوفا بالمعنى المعروف، حيث لم يكن له منهج فلسفي واضح يسير على ضوءه وإنما هي آراء شخصية مبعثرة في شعره ذات مسحة فلسفية. ويبقى المعري أحد عمالقة الشعر العربي الذي خاض في أمور فلسفية قلما خاضها غيره من الشعراء، فلا عجب أن يبقى ذكره خالدا على مر العصور.
الدكتور عدنان هاشم
30 كانون الثاني 2024
4073 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع