بقلم: معاذ محمد رمضان
الاقطاع والفلاح في لواء العمارة
صدرت الطبعة الأولى من كتاب "الاقطاع والفلاح في العراق الملكي ـ لواء العمارة انموذجاً" للدكتور حميد حسون نهاي 1 ، وهو في الأصل رسالة ماجستير قُدّمت الى كلية التربية الجامعة المستنصرية في عام 2015 تحت اشراف الباحث الاقتصادي الدكتور عبد الله شاتي عبهول 2 وحصلت على الامتياز.
قَسّمَ نهاي كتابه الى مقدمة وثلاثة فصول وخاتمة وعِدة ملاحق:
تناول الفصل الأول: لواء العمارة ، تقسيماته الإدارية ، تركيبته الاجتماعية ، أُسس تكوّن الاقطاع في العراق.
وتناول في الفصل الثاني: علاقة الاقطاعي بالفلاح في العراق 1932 ـ 1958 ، طبيعة علاقة الاقطاعي بالفلاح في لواء العمارة بشكل عام ، علاقة اقطاعيي البو محمد وآل ازيرج وبني لام مع فلاحيهم ، نتائج علاقة الاقطاعي بالفلاح في لواء العمارة.
أما الفصل الثالث فكان: الموقف الرسمي والشعبي من علاقة الاقطاعي بالفلاح في لواء العمارة 1932 ـ 1958.
كانت مصادر الباحث متعددة ومتنوعة:
1ـ الوثائق غير المنشورة: ملفات الحكم الجمهوري ـ ملفات مجلس الوزراء ـ ملفات وزارة الداخلية ـ ملفات وزارة الاعمار.
2ـ الوثائق غير المنشورة: محاضر مجلس النواب ـ محاضر مجلس الاعيان ـ المطبوعات الحكومية.
3ـ المذكرات الشخصية.
4ـ المقابلات الشخصية: كانت ثلاث وخمسون مقابلة مع عدد من الشخصيات العارفة والقريبة من الاحداث آنذاك ، منها على سبيل المثال لا الحصر: مؤرخ العمارة الأستاذ جبار عبد الله الجويبراوي في 5 حزيران 2014 ـ المؤرخ العراقي المعروف الدكتور جعفر عباس حميدي 3 في 8 نيسان 2014.
5ـ الرسائل والاطاريح الجامعية: فكانت تسع وستون رسالة واطروحة.
6ـ الكتب العربية والمعرّبة والآجنبية: عددها مائتان وأربع وأربعون كتاباً ، أما الآجنبية فكانت أربعة كتب.
7ـ الصحف والمجلات: ست وأربعون صحيفة ، واحدى عشر مجلة.
8ـ البحوث والدراسات المنشورة: واحد وثلاثون مبحثاً.
9ـ الموسوعات: أربع موسوعات.
10ـ مواقع الانترنت: موقع واحد.
ما هي أهمية هذا الكتاب في الوقت الحالي؟ قد يتساءل القارىء باستغراب ويقول:
ما الفائدة التي سنجنيها من الحفر في حقبة مضت واندثرت وأصبحت في ذمة التاريخ؟ وعليه فسنقول:
لم تذهب هذه الحقبة تماماً ، نعم ذهبت من الواقع ، لكنها حاضرة في رؤوس الكثيرين الآن! خصوصاً عند الشباب الذين لم يُدركوها ، لكنهم في الوقت نفسه يتحسّرون على ذهابها!! وهنا العجب ، اذ كيف لي أن أتحسّر على حقبة لم أعشها!! وماذا لو كان جد الشاب الذي ينعى هذه الحقبة من الكادحين؟! من الذين ضربتهم سياط الاقطاع!! ماذا سيقول هذا الجد لحفيده ـ لو عاد الى الحياة الآن ـ ورآه يتحسّر على حقبة أنزلته "الجد" الى الدرك الأسفل! وفي الوقت نفسه يرى ارتفاع صوت هذا الحفيد في المطالبة بالتعددية السياسية والحرية والعدالة في عراق ما بعد صدام حسين!!! تناقض ما بعده تناقض!
والأهمية الاستثنائية لهذا الكتاب برأينا ، هي أنه يتناول تاريخ مدينة كاتب هذه السطور "العمارة ـ محافظة ميسان".
ما يُحسب للباحث الدكتور نهاي أنه لم يكن "محايداً" في طرحه ، بل كان في صف الكادحين ، فتجاوز نهاي "الكتابة الوصفية" السائدة تقريباً في الدراسات الجامعية ، فكان شجاعاً بحق هنا ، مع ضرورة التأكيد على أن "عدم الحياد" لا يعني تجاوز الحقيقة الموضوعية ، أبداً. ويُذكّرني الآن بالدكتور حيدر عطية كاظم ، صاحب الكتاب القيّم "الصرائف في بغداد" 4.
حاول الوالي العثماني المُصلح مدحت باشا حل مشكلة الأراضي من خلال القضاء على المنازعات العشائرية حول الأراضي الزراعية ، وسعى بكل جدٍ وإخلاص لتحقيق تلك الأهداف ، فتساهل كثيراً في قيمة الطابو ، وكان في أحيان كثيرة يمنح سندات الطابو بثمنٍ بخس 5.
لم ينجح مدحت باشا في مسعاه ، خصوصاً في تفويض الفلاح ابن العشيرة في التعامل مع الدولة دون وساطة رئيس العشيرة ، وكانت أسباب هذا الفشل:
قوة التنظيم العشائري ـ فقر الفلاح المدقع وعدم تمكّنه من توفير قيمة الطابو وخشيته من التجنيد الاجباري والضرائب ، فضلاً عن تخلّف الجهاز الإداري 6.
فماذا كانت النتيجة؟ فُسح المجال أمام أثرياء المُدن وتُجارها وكبار الموظفين في الحصول على عقود تفويض الأراضي مقابل دراهم قليلة 7.
كانت محاولة مدحت باشا الإصلاحية محاولة جريئة هنا ، وهي خروج عن المألوف في السياسية العثمانية ، لكن لم يُكتَب لها النجاح كما أسلفنا.
جاء البريطانيون الى العراق ، فعكسوا مسار التاريخ باحتضانهم شيوخ العشائر 8 ، وكان لاسناد هؤلاء الشيوخ جوانب سلبية كثيرة أكدتها ألمس بيل ، فقالت:
(ان سياسية اسناد الشيوخ بهذه الطريقة كانت لها جوانب سلبية كثيرة ، فالشيخ أصبح طاغية في منطقته ، مما انعكس ذلك على سمعة الحكومة التي كانت تسنده ، وعليه فإن النقمة على الشيوخ من هذه الحيثية أحد روافد الحركة الوطنية الاستقلالية) 9.
سنتعرض الآن لنماذج من علاقات الاقطاعي بالفلاح ، ثم نُعَرّج بعدها على موقف الطبقة السياسية الملكية الحاكمة.
كانت خشية الفلاحين في لواء العمارة من الاقطاعي كخشيتهم من الله أو أشد 10 ، ويُروى أن احدى خادمات شيخ كبير تُدعى جريوه ، كانت تتبختر وتذكر سيدها باستمرار ، فعندما تدخل جريوه لواء العمارة ، كانت تُرعب الكثير 11 ، وكانت تُفرَض على الفلاح عدة ضرائب ما انزل الله بها من سلطان ومنها ضريبة السكتة 12 ، وقام جلاوزة أحد الاقطاعيين بقلع أظافر فلاح شاب 13 ، وقد ندبت احدى الفلاحات حظها العاثر ، فقام الاقطاعي بجلدها بالخيزران 14.
هذه عَيّنةٌ بسيطة من هذه العلاقات الظالمة ، أما عن موقف النظام الملكي من الاقطاع ، يقول الدكتور نهاي ناقلاً عن الأستاذ عبد الرزاق الظاهر:
(ان الاقطاعية في لواء العمارة نقطة سوداء في جبين المملكة العراقية ، انها البهتان الأعظم) 15 ، وفعلاً كانت بهتاناً أعظم ، فقد كان الاقطاعيين ، لا سيما الكبار ، ملوكاً غير مُتَوّجين 16 ، فقد كان النظام الاقطاعي غريباً وخارجاً عن مسار التطور الاقتصادي والحضاري في العراق والاقليم وحتى العالم ، لأنه يفتقر للأسباب الموضوعية الداعية لوجوده ، لكنه كان يُحقَن بأسباب الحياة من خلال تأييد الحكومات العراقية المتعاقبة له وبريطانيا 17. تُحتّم الموضوعية علينا هنا ، أن نُسَجّل بأن حكومة السياسي المعروف حكمت سليمان 18 قد كانت استثناءً ، فقد تَعَهّدت بحل مشكلة الأراضي وتوزيعها على الفلاحين بشكل عادل 19 ، والمفارقة هنا أن حكمت سليمان قد وصل الى الحكم عن طريق انقلاب عسكري قام به الجنرال بكر صدقي في عام 1936م!!
سعت الحكومات العراقية بكل قوة الى إيجاد الأساس القانوني لتجريد الفلاحين من حق التصرف في الأرض ، فكانت تطبيقات "قانون اللزمة" من أكثر الإجراءات التي اتخذتها الحكومات العراقية المتعاقبة في تدعيم المشايخ وترسيخ النظام الاقطاعي 20 ، وكانت النتيجة لقوانين "اللزمة والتسوية" هو حرمان الغالبية العظمى من أبناء العشائر من حقوقهم التاريخية في التصرف بالأرض ، فانقض العديد من رؤوساء الوزراء والوزراء وكبار موظفي الدولة وبعض التجار والمُلاّك على الأراضي الأميرية واستحوذوا على آلاف الدونمات دونما مراعاة لضمير أو وازع ديني أو مصلحة وطنية 21.
سنذكر الآن نماذج من حيازات الطبقة الحاكمة من الأراضي بالدونم بموجب هذه القوانين بين سنتي 1933 و 1939:
حمدي الباجه جي: 27،872 في الكاظمية.
رشيد عالي الكيلاني: 25،819 في العزيزية.
الملك فيصل الأول: 1597 في الدورة.
صباح نوري السعيد: 2312 في بغداد المحمودية (يُلاَحَظ هنا أن ممتلكات نوري السعيد كانت باسم ولده صباح ، ويُذَكّرنا هذا بما أورده حنا بطاطو ، فقد ارتفعت حيازة صباح السعيد من الأراضي في عام 1958 لتصل الى 9294 دونم) 22.
الأمير علي بن الحسين: 23،232 ، هذه عينة من جدول أورده الدكتور نهاي 23.
أنزلت هذه القوانين التي سنتها الدولة الفلاح الى منازل العبيد ، خصوصاً "قانون حقوق وواجبات الزراع" 24 ، فما هو موقف الملوك الثلاثة من الاقطاع والاقطاعيين؟
حاول الملك فيصل الأول في مذكرته التي وجهّها الى الساسة العراقيين في آذار 1932 أن يُقدّم تصوّره لحل مشكلة الأراضي ، لكنه أكّد على: لا يجب أن يشعر الشيوخ والأغوات بأن قصد الحكومة القضاء عليهم ، وانما يجب أن نُطمئنهم على معيشتهم ورفاهيتهم 25.
أما الملك غازي فقد وقع تحت التأثير الكبير للإقطاعي جاسم محمد العريبي 26 ، وبشأن موقف البلاط الملكي في عهد الملك فيصل الثاني فقد كان ضعيفاً ، لكن الأمير عبد الاله بقي مدافعاً صلباً عن الاقطاعيين حتى آخر أيامه 27.
أما نوري السعيد فقد تَخَلّى عن عقله تماماً وداس بأقدامه على معرفته وخبرته في شؤون العراق ، والتي لا يُضاهيها أحد من الساسة ، عندما تحدث ونفى وجود الاقطاع في العراق 28.
من حقي كمواطن عراقي أولاً ، وكباحث تاريخي ثانياً ، أن أتساءل:
ماذا لو سمع "الملكي العراقي" الآن ، في القرن الحادي والعشرين ، أن سياسياً عراقياً ـ عادل عبد المهدي ، نوري المالكي ، محمد الحلبوسي مثلاً ـ قد امتلك أراضٍ واسعة في منطقة معينة من العراق ، فماذا سيكون ردّه؟ سيصبّ اللعنات عليهم وعلى كل العملية السياسية الحالية بكل تأكيد ... طيّب ، لماذا عندما تسمع وتقرأ بأن صباح نوري السعيد قد امتلك آلافاً من الدونمات لا تفعل الشيء نفسه؟! لما التبرير ولَيّ عنق الكلمات والنصوص؟! ومما يجدر ذكره أن هؤلاء الشيوخ والاقطاعيين المدعومين من النظام الملكي ، لم يستعبدوا الفلاح في الأرض فقط ، بل وقفوا بالضد من تأسيس المدارس في مناطقهم ، لدرجة تهديد المعلم بالقتل ، ولم يُفلح مدير معارف العمارة في فتح مدرسة في منطقة اقطاعي كبير 29.
تُحتّم علينا الموضوعية الإشارة الى أن الدكتور نهاي قد فَرّق بين الاقطاعيين من خلال تعاملهم وقسوتهم مع الفلاحين ، فكان اقطاعيو آل ازيرج منفتحين ويصغون لكلام الفلاح 30 ، وكانت علاقة معظم اقطاعيي بني لام مع فلاحيهم جيدة 31 ، الشدة كانت مع اقطاعيي البو محمد 32.
وقبل أن نختم المقال ، لا بُدّ من التَطَرّق لتعليل قيّم قُدّم عن "وفرة الإنتاج الزراعي في زمن الاقطاع" ، يقول المؤرخ الدكتور جعفر عباس حميدي:
نستطيع أن نُرجع هذه الوفرة الى قسوة الاقطاعيين ونهبهم لقمة الفلاحين من أفواههم وأفواه أطفالهم 33 ، والنتيجة أن نظام الاقطاع نظام لا انساني ، كما أشار الدكتور نهاي بحق 34.
الحواشي:
1ـ حميد حسون نهاي: الاقطاع والفلاح في العراق الملكي لواء العمارة انموذجاً ـ دراسة تاريخية ، مراجعة: الدكتور عبد الله شاتي عبهول ، وزارة الثقافة دار الشؤون الثقافية العامة بغداد ط1 2020
2ـ الدكتور عبد الله شاتي عبهول باحث مختص بالتاريخ الاقتصادي ، له في مكتبتنا: تجربة العراق الملكي في الاعمار 1950 ـ 1958 ، تجربة عبد الكريم قاسم في التخطيط الاقتصادي.
3ـ سنتعرض لاحقاً لتعليل حميدي القيّم عن "وفرة الإنتاج" في العراق الملكي.
4ـ حيدر عطيه كاظم: الصرائف في بغداد 1932 ـ 1963 دراسة في التاريخ الاجتماعي ، وزارة الثقافة دار الشؤون الثقافية العامة بغداد ط1 2018
5ـ نهاي: المصدر السابق ص78
6ـ المصدر السابق ص79
7ـ المصدر السابق ص80
8ـ المصدر السابق ص86
9ـ المصدر السابق ص90
10ـ المصدر السابق ص136
11ـ المصدرالسابق ص137 حاشية رقم 1
12ـ المصدر السابق ص140
13ـ المصدر السابق ص165
14ـ المصدر السابق ص168
15ـ المصدر السابق ص157
16ـ المصدر السابق ص144
17ـ المصدر السابق ص113
18ـ عن حكمت سليمان يُنظَر:
عكاب يوسف الركابي: حكمت سليمان والانقلاب العسكري الأول في العراق عام 1936م ـ دراسة تاريخية تحليلية ، العارف للمطبوعات بيروت ط1 2024
19ـ نهاي: المصدر السابق ص207 و 208
20ـ المصدر السابق ص100
21ـ المصدر السابق ص104
22ـ حنّا بطاطو: العراق ك1 ـ الطبقات الاجتماعية والحركات الثورية من العهد العثماني حتى قيام الجمهورية ، بترجمة: عفيف الرزاز ، مؤسسة الأبحاث العربية لبنان ط3 2003 ، منشورات دار القبس الكويت ص394
23ـ نهاي: المصدر السابق ص106
24ـ المصدر السابق ص110
25ـ المصدر السابق ص202 و 203
26ـ المصدر السابق ص204
27ـ المصدر السابق ص204 و 205
28ـ المصدر السابق ص213
29ـ المصدر السابق ص149 و 150 و151
30ـ المصدر السابق ص173
31ـ المصدر السابق ص177
32ـ المصدر السابق ص158
33ـ المصدر السابق ص276
34ـ نفس المصدر والصفحة
981 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع