خالد الدوري
مفهوم الإمامة في النظرية السياسية: ج٣ الأصفهاني/ الطحطاوي:
نواصل طرح تعريفات علماء الأمة الذين تفاعلوا مع النظرية السياسية على مستوى التنظير، وما أثبتوه للخلافة (الإمامة) من مفاهيم وأُطر وحدود. ودَورُنا أن نفكك وندقق في تعبيراتهم، ونرى ما إعتراها من نقص أو دقّة. ومدى توافقها، وقربها وبعدها عن تعبيرات بعضهم لبعض. إذ أنَّ دراسة كل تلك التعريفات المتقدمة، والحالية في هذا الجزء، واللاحقة، مما قيل ودوّن في المراحل المبكرة من التاريخ الإسلامي، كلّها تقدم لنا - في الحقيقة - صورة غنيّة عن واقع الحوار والجدال الكلامي والفلسفي الذي شهده وخاض فيه فقهاء وفلاسفة ومتكلمي ألأمّة، فيما يتعلق بالنظرية السياسية والفكر السياسي الإسلامي ومفهوم ألإمامة منه على وجه خاص. وسأقتصر الحديث هنا على تعبيرات الإمامة "الخلافة" عند العلّامتين الأصفهاني والطحطاوي.
5- تعريف الأصفهاني:
أورد الأصفهاني (ت 688هـ) في تعريف الإمامة بأنها عبارة عن (خلافة شخص من الأشخاص للرسول "عليه الصلاة والسلام"، في اقامة القوانين الشرعية وحفظ حوزة المِلّة على وجه يجب اتباعه على كافة الأمة)(1).
وعلى الرغم من انّه إعتبر الإمامة خلافة عن النبوة، وبَيّن حقها على العباد في تحكيم الشريعة بينهم، وواجب العباد تجاهها، بالطاعة والإتباع لأنها منفذة للقانون الإلهي، وما يشعره ذلك من انَّ تخلف الطاعة لا يتحقق معه وجود الإمامة ، إلّا أننا نأخذ على التعريف ثلاثة امور، نرى أنّها مؤثرة في تصدر التعريف للتعريفات السالفة: (2)
أ- إنَّ فيه إطالة، او إسهابًا، بعكس التعريفات السابقة.
ب- لفظ خلافة (شخص من ألأشخاص) قد توهم جواز إمامة أي شخص لرئاسة الدولة، ولو لم تتوفر فيه شروط الإمامة اللازمة. إذ انّ شخص تعني جماعة شخص الانسان وغيره، مذَكّر. وقد تثبت اللفظة ويراد بها المؤنث .
الّا ان الواضح انه قيد احترازي عن الأمّة اذا ما عزلوا الإمام عند فسقه. فان الكل ليس شخصا واحدا، ثم ان ألأصفهاني فيما يبدو قد تلافى ما يمكن ان يكون من خلل حينما حدد في ختام التعريف، المستحق للإمامة بقوله: (على وجه يجب اتباعه على كافة الامة) وذلك يعني وجوب توفر شروط الخلافة في من يتصدى لهذا المنصب من ابناء الأمّة، لا ان تكون الأمّة مؤهلة، لأن قيد شخص من الاشخاص يمنع صرف الإمامة لها. كذلك فهو بهذا القيد أبعد إمامة المرأة، والصبي، وغير المؤهل، ومن ينصِّبه الامام من ناحيته، إذ لا يجب على الأمّة كافة إتّباعه، بل إتّباع من قلَّده المِنصِب خاصّة. غير انّ القيد الأخير لم يجبر التعريف جبرا محكما. اذ ان القيد نفسه، اي قوله: (على وجه يجب اتباعه) هو الآخر من الإسهاب الذي لا داعي اليه، ولا حاجه في اثباته. ذلك لأن صدر التعريف يغني عنه. فمقتضى قوله خلافة شخص... للرسول) يوجب اتباعه.
فان قيل بإحتمال انصراف المعنى اي (وجوب الاتباع) الى من يقوم بخلافة النبوة في سلك القضاء، والامارة، والنيابة، وقيادة العسكر، وغير ذلك، رددنا عليهم الشبهة، لِاستبعاد إنصراف المعنى الذهني اليه. ذلك لأنّ ما عدا الإمام الأعظم لا يُسَمَّون خلفاء الرسول، وانّ من يَعهَد اليهم الإمام بمنصب، او مقام معين، فانه يدعى به، ويسمى بقاضي الامام ، ونائب ألإمام، ووزير الإمام، وقائد جيش الإمام أو الخليفة.
ج- يمكن الاستغناء عن عبارة (وحفظ حوزة المِلّة)، لأن بقية التعريف تغني عنها. ذلك انّ (إقامة القوانين الشرعيّة) أي الشريعة الإسلامية بعمومها في الدولة، تستلزم حفظ ورعاية المِلّة على أتم وجه واحسنه.
6- تعريف الطحطاوي:
يقول الطحطاوي (ت1231هـ) في حاشيته على الدر المختار في بيانه للإمامة بان: (حقيقتها رئاسة عامة في حفظ مصالح الناس دينًا ودنيا، وزجرهم عمّا يضرّهم)(3)، وهو كسابقِهِ جعل ألإمامة رئاسة مطلقة لتمييزها عن الرئاسات الاخرى الخاصة والمُقَيّدة. وقيد العموم في التعريف هو الذي يفرض نقض التعريف كما يشير الى ذلك الرملي(4). فهو تعريف غير موفق. فالمفهوم من هذا التعريف، أنه ينسحب على رئاسة النبوة، باعتبارها رئاسة عامّة على كل المسلمين. والواقع ان رئاسة النبوة من أجَلّ الرئاسات. ونعتقد ان التعريف عاجز عن ايفائها حقها حين يعادلها مع سائر الرئاسات الاخرى. ذلك لأنها رئاسة مدعمة بالوحي والتشريع والعصمة. في الوقت الذي تفتقر فيه كل الرئاسات التالية لمثل هذه المميزات الجليلة. ومن هنا نرى ان التعريف لا يفي بتوضيح، وتعيين الملامح الأصلية للخلافة، حينما تتساوى فيه حاكمية البشر مع معطيات النبوة.
غير أنّ تعريف الطحطاوي أجاد في تحديد وظيفة الإمامة حينما نص على أنّها (حفظ مصالح الناس دينًا ودنيا)، لأنه لا صلاح، ولا وجود، ولا كيان للعباد، إن خَلَت مصالحهم الدينية والدنيوية ممن يقوم عليها، ويُعزّها، ويصونها من كل اعتداء. او يتهاون في حفظ هيبة الناس وكرامتهم امام المتربصين بهم.
المصادر والمراجع:
(1) مطالع الأنظار في شرح طوالع الأنوار لشمس الدين محمود الاصفهاني 228 طبع المطبعة الخيرية بالقاهرة 1323 هـ.
(2) لسان العرب لإبن منظور 7 / 45. دار بيروت للطباعة والنشر/ بيروت 1388هـ/ 1968م.
(3) حاشية الطحطاوي على الدر المختار شرح تنوير الأبصار لأحمد بن محمد بن إسماعيل الطحطاوي "الطهطاوي" 1/ 238 دار المعرفة للطباعة والنشر بيروت 1395هـ 1975م.
(4) حاشية الرملي على اسنى المطالب 4/108 طبع المكتبة الاسلامية لصاحبها الحاج رياض الشيخ.
852 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع