ها هي حضارة الغرب المركزية تمارس من جديد عادتها المحبَّبة لقادتها. فبمناسبة الضجة المفتعلة الهادفة لصيد أكثر من عصفور بطلقة إجرامية واحدة، مناسبة نشر فيلم حقير بليد تافه عن رسول الإسلام (صلى الله عليه وسلم)، ينبري بعض قادة الغرب لإلقاء محاضرة، فيها الكثير من التقريع واللوم والتعالي، على جماهير العرب والمسلمين المجروحة الغاضبة.
تدور المحاضرة هذه المرَّة حول موضوع حريَّة التعبير، الجزء المقدس من إيديولوجية الليبرالية العتيدة. وهكذا تريد المراوغة الإعلامية الأمريكية الشهيرة نقل الموضوع من ساحة السياسة الغربية، تلك الساحة المليئة بثقل تركة الماضي الاستعماري وبالاختراقات الصهيونية لكل مجالاتها وبهيمنة جشع وأطماع العولمة الرأسمالية في الحاضر وبهوس المخاوف المتخيلة بشأن ماسيأتي به المستقبل، نقل الموضوع من تلك الساحة السياسية إلى ساحة الفكر والمبادئ والحقوق الإنسانية، وهو نقل حق يراد به باطل. في ساحة السياسة القضية واضحة: هناك اعتداء شيطاني، مع سبق الإصرار، يراد به إدخال العرب والمسلمين في معارك جانبية عاطفية حمقاء تبعدهم عن التركيز على قضاياهم الكبرى: مقاومة المشروع الصهيوني الاستيطاني، منع الهجمة الاستعمارية الجديدة لاستباحة ثروات العرب الهائلة الفائضة، وإكمال دحر مؤسسات ورموز الاستبداد في بلاد العرب.
إذن لا بدَّ من حرف الموضوع إلى ساحة أكثر غموضاً، مملوءة بوجهات نظر متباينة وقادرة على اجتذاب جزء من ليبراليي العرب. وهكذا طرح موضوع حريَّة التعبير وأصبحت حريَّة التعبير في قلب ذلك الحدث المفجع. حسناً، دعنا إذن نعالج هذا الجانب من داخل الليبرالية الغربية نفسها.
بداية فإن أحد أهداف حراكات الربيع العربي حصول المواطن العربي على حقِّ حريَّة التعبير. لذلك لاحاجة لإلقاء المحاضرات عن هذا الحق فقد مات الكثير من شباب العرب من أجله.
لكن هل حقاً أن حرية التعبير ممارسة مطلقة لا تخضع لأية محدِّدات؟ إذن لماذا في بلد الحرية والإخاء والمساواة خضع المفكِّر الفرنسي جارودي عندما تجرَّأ وعبّر عن شكِّه في عدد اليهود الذين ماتوا في أفران الهولوكوست النازي، لمحاكمة جائرة انتقامية وحكم عليه بغرامة مالية ناء تحتها، وبعزل معيب في الإعلام الفرنسي وكلًّ المؤسَّسات الأكاديمية، ليموت وحيداً مقهوراً؟ وفي أمريكا ألم يعان أساتذة الجامعات ويطردوا من وظائفهم عندما حاولوا تقويم، مجرَّد تقويم، الهولوكوست بموضوعية وكسر هالة الأساطير التي تحيط بالموضوع؟ ويستطيع الإنسان إعطاء العشرات من الأمثلة.
إذن فعند ممارسة الواقع وضع الغرب لنفسه محدِّدات لحرية التعبير في موضوع يهمُّ في الأساس بضعة ملايين من اليهود. فلماذا لايستطيع وضع محدِّدات بالنسبة لموضوع يهمُّ ألف وخمسمئة مليون من العرب والمسلمين، بل ويهم الملايين من المسلمين القاطنين في ربوعه؟
ثم، هل حقاً أن حرية التعبير من الوجهة النظرية لا تقبل الأخذ والعطاء؟ أليس الموقف الليبرالي منها يختلف عن الموقف المحافظ؟ ألا يصُّر الأخير من خلال مجموعة من فلاسفته على أنها ظاهرة معقدة يجب أن لاتمارس إلا بالتزامن مع القيم، وأن المحافظة عليها يجب أن يسبقه كشرط وجود السَّلام الاجتماعي والذي بدوره يحتاج قوانين؟ إذن فالقانون والقيم هما في قلب هذا الموضوع على الأقل عند قسم كبير من أناس الغرب.
ولذا فان إدمون برك، السياسي والكاتب الإيرلندي، يقول إن “الحرية يجب أن تحدَّد من أجل أن تمتلك” ويعبِّر الشاعر الإنجليزي هارتكي كولردج عن روح القيم حين يتساءل “ولكن ما هي الحرية؟ فهمها الصحيح يجعلها رخصة كونية لأن تكون طيباً” بل إن الكاتب الساخر الشهير برنارد شو يصف الحرية بأنها تعني المسؤولية. وعندما يكتب الكاتب الإنجليزي أ.س.جريلنج عن حرية الكلام يعترف بأن هناك ظروفاً تبرر وجود محدِّدات قوية لحرية الكلام، من بين أهمَّها خطابات الكراهية. وأخيراً هل ننسى صرخة مدام رولاند الفرنسية الشهيرة “أيتها الحرية، كم من الجرائم ترتكب باسمك؟”.
لكن مع الأسف في مقابل تلك المحاذير المتَّزنة التي لا تترك الحبل على الغارب تجد أشخاصاً مثل سلمان رشدي يجرُّهم الشطط اللئيم إلى القول “ما هي حريًّة التعبير؟ من دون الحرية لن تؤذي فإن حرية التعبير تتوقف عن الوجود” ولعلَّه هنا شرَّع لنفسه ولأمثاله حرية إيذاء الآخرين.
لا، ليس صحيحاً أن حكومات الغرب لا تستطيع منع أنواع حريًّة التعبير المجنونة السفيهة المثيرة للكراهية. إن باستطاعتها أن لا تتعامل مع هكذا حرية وكأنها قيمة ميتافيزيقية مطلقة وكاملة التحرر من كل قيد قانوني أو قيمي. بل العكس هو الصحيح. ولديها تجارب غنيَّة في هذا الحقل، ولديها إرث فلسفي كبير يقول إنه لا يمكن الحديث عن الحرية من دون الإشارة إلى نقيضها، القيم والحقوق والقوانين المحدّدة لها.
515 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع