د.عدنان هاشم
خاطرة العدد
نسمع بين حين وآخر بالسفسطائية وهذا فكر سفسطائي، وعادة نستعملها في مجال القدح والذم، وكثير منا لا يعلم أصل هذه الكلمة وما نعني بها، وهل فقدت معانيها الآن أم أنها ما تزال مؤثرة في حياتنا! هذا ما سأحاول أن أبسطه في هذه الخاطرة.
فالسفسطائية Sophistry فلسفة نشأت في بلاد اليونان في القرن الخامس قبل الميلاد وما بعده، ويعدها الفلاسفة فلسفة ما قبل سقراط Pre-socratic Philosophy، وأبرز فلاسفتها پروتاگوراس Protagoras. وهناك حوار ممتع بين پروتاگوراس وسقراط كتبه أفلاطون نقلا عن أستاذه سقراط بهذا الإسم. ومن الواضح ان سقراط وأفلاطون لم تكن لهما نظرة محببة لهذا النوع من الفلسفة حيث حاولا نقضها عن طرق الأدلة العقلية، وأنا أتابعهما في هذه النظرة الفلسفية حول السفسطائية. تؤمن السفسطائية أن نظرتنا إلى أن ما يدور حولنا نسبي وليس بمنظار المطلق، فما أراه صحيحا أو حقا قد ينظر إليه آخر بأنه خطأ أو باطل بينما يتوقف آخر عن القرار فيقف محتارا لا إلى هذا ولا إلى ذاك وإلى هنا لا ضير في هذه النظرة إذ أن أغلب الأمور نسبية أو ما يسميها الفقهاء "المتشابهات". ولكن السفسطائيين القدماء تمادوا في هذه النظرة واتخذوها مهنة رابحة حيث كانوا يدورون في المدن والمحافل عارضين موهبتهم على الناس فيعلمونهم الخطابة والجدل والنقاش بأجور مرتفعة لأجل الفوز على الخصم بغض النظر عن كونه حقا أو باطلا، فيمكن والحالة هذه لمن أوتي قوة الجدال وذلاقة اللسان والقدرة على لي الحقائق أن يبتز خصمه ويغلبه ولو كان الحق مع الخصم. جاء في الحديث الشريف " إنَّكم تختصمون إليَّ، ولعل بعضَكم أن يكون أَلْحَنَ بحُجَّته من بعضٍ؛ فأقضي له على نحوٍ مما أسمع، فمَن قضيتُ له من حقِّ أخيه شيئًا فإنما أقطع له قطعةً من النار، فليأخذها أو يذرها" ومعنى ألحن بحجته من بعض أي أنه أمهر من خصمه في بيان حجته وليه للحقائق. وفي هذا تحذير للمسلمين من سلوك هذا الطريق الذي فيه فوز بالشيء الزائل القليل في دنياه مقابل ما ينتظره من حساب عسير وعقاب شديد في آخرته بما جنت عليه يداه ولسانه. واشتهر المحامون في هذا العصر بالسفسطائية فهم خلفاء السفسطائيين القدامى فأغليهم لا يهمهم أن يكون موكلهم على حق أو باطل وإنما ينظر إلى القضية بمنظار الربح أو الخسارة، فما تكون نسبة نجاحه إن ترافع بالقضية في المحكمة وما نسبة خسارته فيها، فيترافع عن موكله على هذا الأساس فالمهم عنده ربح القضية وما يتبعها من أجور عالية وشهرة تجلب له زبائن أكثر. ولو تأملنا عصرنا لوجدنا السفسطائية تدخل في كل المجالات وذلك لهيمنة النظرة النسبية في الأمور وضعف الوازع الدينى والأخلاقي، فقد دخلت السفسطائية السياسة بكل ثقلها، فالسياسي الناجح من يستطيع الكذب ولي الحقائق والوعود الكاذبة بطريقة منمقة جذابة يتلقفها السذج كأنها حقائق وهي في حقيقتها أكاذيب ولو كان فيها بعض الحقيقة. ودخلت السفسطائية الصحف والإعلام والقنوات الفضائية، وإذا بنا نعيش في عالم مبني على الأكاذيب فالقاتل هو صاحب الحق والمدافع عن قيم الحرية والديمقراطية والمظلوم الذي يطالب بحقوقه المشروعة في العيش بسلام وأمان هو الإرهابي المتعطش للدماء والذي يجب القضاء عليه، وإذا بنا نرى عالما منكوسا على راسه كما وصفه أحد الشعراء
قتل امرئ في غابة جريمة لا تغتفرْ وقتل شعب كامل مسألة فيها نظرْ
والقاتل بيده كل شيء لتشويه الحقائق والمظلوم لا يملك من ذلك إلا القليل ويبقى يعيش عيشة ضنكا على أمل أن يشرق عليه فجر جديد يبشر بالخير والسلام.
حزيران 2024
4754 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع