قاسم محمد داود
"النكتة في السياسة العراقية" الكتاب التاسع للكاتب محي الدين محمد يونس
صدر حديثاً عن مكتبة برايتي في أربيل كتاب بعنوان (النكتة في السياسة العراقية) للكاتب المحامي المستشار محي الدين محمد يونس يتبع المؤلف في كتابه هذا النكات والمواقف الطريفة التي حدثت مع السياسيين العراقيين كما تابع الكتاب هذه الظاهرة الطبيعية في تاريخ العراق بداً من الحكم الملكي ونوري باشا السعيد مروراً بأنظمة الجمهورية المتعاقبة وانتهاء بالرئيس جلال طلباني الذي كان يدون النكات ويستمتع بها بشغف وقيل إنه يرويها للمقربين منه بمتعة كبيرة وأن كان هو موضوعها الشخصي أو المستهدف بها.
لم يعرف السياسي العراقي الراحل، نوري السعيد، بالظرف والسخرية فقط، بل وعرف ذلك عموما عن ساسة العراق. بيد أنه كانت له ومضات من الظرف والسخرية ترددت وما زالت تترد على ألسنة العراقيين، وقد أخذوا يترحمون عليه ويعضون أصابعهم على اغتياله. لذلك ركز الكاتب كثيراً على المواقف الطريفة في حياة نوري السعيد واخذت مواقفه الطريفة التي غالباً ما يتداولها العراقيون وبنوع من المبالغة والإضافات التي أضيفت أليها أو ربما هي من صنع المخيلة الشعبية التي صارت تحن لشخصية نوري السعيد أمام الجدب السياسي العراقي.
كما عرج الكتاب على مواقف طريفة صدرت عن الرئيس العراقي الأسبق عبد السلام محمد عارف الذي عرف بأنه لا يأبه كثيراً الى تنميق الكلمات في خطاباته العديدة. وعلى نفس المنوال جاءت المواقف الطريفة عن بقية الرؤساء العراقيين مثل عبد الرحمن محمد عارف وصدام حسين وصولاً إلى الرئيس جلال الطالباني.
تعد النكتة السياسية من أقدم وأطرف أشكال التعبير السّاخر، وأسرع الفنون في عملية التواصل والتخاطر الجماهيري، إذ تحمل معاني التذمر والمعارضة، ورفض أشكال الحكم القائمة، ولمز وغمز رؤوس الفساد الظاهرة… كما تعبر من وجهة أخرى عن رغبة في التنفيس عن كل مواطن تعيس، أتعسه قهر السّاسة.
يمكن اعتبار النكتة مظهرا من مظاهر الأدب الشعبي ، ولونا من ألوان القصة القصيرة جدا، فهي مجموعة من الكلمات المتسلسلة التي قد لا تتجاوز الجملة الواحدة معتمدة أسلوب التكثيف الشديد، متضمنة بداية ونهاية تجمع بينهما حبكة حكائيه قد تكون منطقية وقد تكون غير ذلك، حاملة فكرة عميقة مؤدية معنى واضحا، وقادرة على النفاذ إلى الأفئدة وخصوصا إلى الأفهام، وموجبة للضحك والانشراح وتفريج الهموم وإن بصورة مؤقتة، لما تتضمنه من عناصر المفارقة والمفاجأة والغرابة التي تسبب شعورا بالاندهاش المقترن بالمتعة والارتياح والذي يعبر عنه بالضحك، الذي يخلق لدى صاحبه شحنة إيجابية.
إن تفجير المكبوت السّياسي غالبا ما يكون بعدة وسائل وطرق، أعنفها الرفض القاسي الذي يضر بالبلاد والعباد معا، ونقصد العنف المادي الذي يترتب عن العصيان أو الثورة، إن المعاناة اليومية للمواطن، وخاصة البطالة والفقر والحرمان، والتهميش حتى الغليان، يُمهد دوما لظهور النكتة السّياسية كأولى علامة من علامات الرفض، وغالبا ما تسبق النكتة العصيان والتمرد، ذلك أن التمهيد للثورة يبدأ من خلال التمهيد لها من خلال النقد اللاذع الذي تُعبر عنه النكتة السّياسية بامتياز.
لقد وجد سكان وادي الرافدين أنفسهم امام قدرهم السماوي مع اخرين امثالهم في تحمل زمام المسؤولية وقيادة الركب البشري الى شواطئ التقدم والتحضر… فماذا يعني هذا؟ باختصار إنه “طغيان” السلوك الجدي في حياة الفرد او الجماعة، والسلوك الجاد لا يعني بأية حال من الاحوال إنه على النقيض من المرح او الظرف، ولهذا كان الاحساس الكبير بالمسؤولية دافعاً الى مسعى جاد في تبني الشعر وسيلة مفضلة على غيرها للتعبير عن الذات والافكار والعواطف، من هنا يذهب مؤرخو الادب، الى ان العرب بعد ان تصرفوا بجدية كاملة في توطيد مسؤوليتهم ورسالتهم بدءاً بعصر ما قبل الاسلام فالعصر الاسلامي ثم العصر الاموي، عمدوا الى تطعيم “جديتهم” بفنون المرح والتنكيت في العصر العباسي لإحساسهم بأن مسؤوليتهم الحضارية قد حققت مداها، وان عليهم ان يأخذوا قسطاً من الراحة، وهكذا “زاوجوا” بين جدية المسؤولية ومستلزمات العصر. على إن وراء عزوف العراقيين عن روح النكتة وبالمعيار النسبي العام تقف وراءه قضية اخرى قد تكون اكثر اهمية، ونحن مضطرون الى تقليب اوراق الجغرافيين حيث يتفق الجميع، على ان مناخ العراق “حار جاف صيفاً، بارد قليل المطر شتاءً” ومناخ اي بلد لا يتحكم فقط في مهن الناس وحرفهم وطقوسهم وعاداتهم وتقاليدهم واغانيهم، بل يتحكم الى حد أبعد بتكوينهم النفسي، ولما كان مناخ العراق على هذه الصورة، فقد ولّد حالة من التزمت او “الحدية” بمعنى اتخاذ الموقف على وفق قاعدة، اسود او ابيض، هذا او ذاك، يمين او يسار، هذا العامل اذن ادى دوراً بارزاً في تسيّد حالة التطرف و"المبالغة” غير المفتعلة التي جعلت من العراقي حاد الطبع والمزاج، غير ان هذا العامل صادف ارضاً “اجتماعية” خصبة ساعدته على فرض ملامحه، التي تمثلت بالعزلة الكاملة وعدم الاختلاط بين مجتمعي الرجال والنساء على مدى قرون طويلة من التاريخ، حيث يرى علماء الاجتماع ان حضور المرأة في المجتمع الرجالي من شأنه ان يهذب السلوك ويدفع بالرجل الى ان يعنى بألفاظه وتعابيره وثقافته ويلجأ الى أكثر وسائل التفكير والتعامل والحوار تحضراً.
ثمة ما يستحق التنويه، وهو إن عموم النكات السياسية العراقية، تتميز بكونها مصنوعة بعناية، وذكية الاشارة والتلميح ومهذبة، أما بعد 2003 صعوداً، فتراجعت النكتة السياسية بتقاليدها القديمة تراجعاً مؤسفا ، حيث لم تعد بها حاجة الى ذلك التحفظ وتلك السرية بعد ان اتاحت اجواء الحرية المنفلتة للمواطن فرصة التعبير عن وجعه ورأيه بالطريقة التي يختارها، وكان من الطبيعي ان يؤدي الانترنت دوراً جديداً في اساليب نقلها وتداولها، كما كان من الطبيعي كذلك ان تطرح مضامين مبتكرة وتأخذ مسارات تحاكي المرحلة، ولكن الملاحظة الرئيسة حقاً، هو إنها فقدت اي تأثير لها في الشارع او على النظام، لان رجالات الحكم والبرلمان والمسؤولين هم من تولى عملية النقد والنقد الساخن لا نفسهم وللعملية السياسية، وبالتالي ما الذي يمكن ان تقدمه النكتة اكثر مما يقال ويطرح من أصحاب الشأن؟ وخلاصة الامر إنها فقدت فاعليتها المؤثرة واصبحت على مواقع التواصل الاجتماعي لأغراض الضحك… والضحك فقط!!
4868 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع