د.سعد ناجي جواد*
في يوم واحد تلقى الاحتلال ثلاث ضربات موجعة.. محكمة العدل الدولية تصدر قرارها وتدين إسرائيل.. هل سيكون مصير الامم المتحدة مثل مصير عصبة الامم الدولية؟
يوم أمس (الجمعة المبارك 19 تموز/ يوليو) تلقى كيان الاحتلال ثلاث ضربات او صفعات موجعة هزت كل جوانبه، شعبيا وأمنيا وسياسيا وعسكريا ودوليا، بل وحتى إقتصاديا (نتيجة للصفعة الثانية). الضربة الاولى جاءت مع فجر ذلك اليوم عندما نجحت طائرة مسيرة اُطلِقَت من اليمن وقطعت ما يقارب من 2000 كيلومتر، من الوصول إلى تل ابيب واصابت أهدافا هناك (حسب الإعلام الإسرائيلي تسببت في مقتل شخص واحد وعدد من الجرحى واضرار مادية أخرى).
لقد أثارت هذه الضربة الرعب في عموم فلسطين المحتلة لأنها أشعرت السكان بانهم لم يعودوا آمنين في أي مكان، وان كل إيحاءات السلطات والقيادات العسكرية بانهم في مأمن وان منظمات الدفاع المضادة للصواريخ وللطائرات المسيرة والقبب الحديدة ستتكفل بإسقاط اي (جسم معادي) كانت فارغة. ما أثار قلق سكان تل ابيب اكثر هو التخبط الذي وقعت فيه الأجهزة العسكرية والسياسية والإعلامية الاسرائيلية. في البداية قال الجيش ان اجهزة الرصد اعتبرت المسيرة جسما غير معاديا، ثم عادت وارجعت السبب في عدم إسقاطها إلى خلل فني في منظومة الدفاع الجوي، ثم زادت الإرتباك بان إدعت بان الفشل جاء بسبب خطا بشري، وكل هذه الأعذار لم تنجح في تطمين السكان، او في إسكات الأصوات المنتقدة لحكومة نتنياهو ومطالبتها بالاستقالة. المفارقة المضحكة، وفي محاولة لتحسين صورتها المهتزة ادعت السلطات الإسرائيلية ان المسيرة قدم تم كشفها والتعرف عليها! وهذا الإدعاء جعل المراقبين يتساءلون كيف تم كشفها والتعرف عليها وكيف انها لم يتم إسقاطها؟ الشي المهم في هذه الحادثة هو، إذا ما إستثنينا سيل الشتائم والتهديدات التي اطلقها عدد كبير من القيادات السياسية والعسكرية ضد اليمن، وبضمنها التهديدات الأمريكية، فان تل أبيب وواشنطن يقفان عاجزين عن انهاء الهجمات البطولية والجريئة التي يشنها مقاتلو أنصار الله من اليمن. وللزيادة في إظهار هذا العجز، قامت اليمن، بعد ساعات من عملية تل أبيب، وبدون تردد او إنتظار لما ستسفر عنه ضربة المسيرة، بمهاجمة سفينة في البحر الأحمر متجهة الى إسرائيل.
لم تمض ساعات على هذه الضربة الموجعة حتى وجّهت محكمة العدل الدولية صفعة اخرى أقسى بإصدارها قرارا تاريخيا اعتبر الاحتلال الاسرائيلي للأراضي الفلسطينية (الضفة الغربية) يتعارض مع احكام القانون الدولي، والأمر يسيري على المستوطنات التي انشئت في تلك الأراضي ومطالبة اسرائيل بتفكيكها.
ونص القرار في بنده الاول على ضرورة ان تُنهي إسرائيل بأقرب وقت احتلالها غير الشرعي للأراضي التي احتلتها في عام 1967، وجاء بموافقة 11 صوتا مقابل 4 اصوات، (وهذه العدد الاقل من القضاة المؤيدين وعبارة اقرب وقت وليس فورا جاءا بسبب ضغط الولايات المتحدة وطلبها من المحكمة ان لا تصدر قرارا بالانسحاب بصورة مستعجلة وترك ذلك حتى يتم تامين امن اسرائيل). البند او القرار الثاني نص على عدم شرعية المستوطنات في الضفة الغربية والتوقف عن بنائها واخراج كل المستوطنين من الاراضي الفلسطينية المحتلة. هذا القرار اعتبرته اوساط اسرائيلية ضربة سياسية واقتصادية مزدوجة للكيان، لأنه يعني ان أي دولة ستحاول التعامل تجاريا مع مواد مصنعة أو مستخرجة من الأراضي الفلسطينية المحتلة ستعرض نفسها للمساءلة القانونية. أما القرار الثالث فلقد نص على ان من واجب اسرائيل دفع تعويضات عن كل الخسائر والأضرار المادية والمعنوية التي تعرض لها الأفراد الطبيعيين والمعنويين. والبندين الثاني والثالث تم تمريرهما بشبه إجماع (14 صوتا مقابل صوت واحد فقط). وانهت المحكمة قرارها بمطالبة دول العالم بضرورة عدم الاعتراف بالوضع غير القانوني وغير الشرعي للوجود الإسرائيلي في الاراضي الفلسطينية المحتلة، وعدم تقديم اي مساعدة للحفاظ على الامر الواقع، وان تحرص على إحترام ميثاق الامم المتحدة والقانون الدولي لوضع حد لأي إنتهاك لحقوق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره.
هناك من سيقول ان هذه القرارات تبقى غير ملزمة واستشارية، وهذا صحيح، ولكن على أصحاب هذا الراي ان يتذكروا ان هذا الرأي الاستشاري لم يأت من فراغ أو نتيجة لإجتهاد المحكمة التي لا تمتلك الوسائل لتنفيذ قراراتها، وانما جاء بناءا على طلب من الامم المتحدة في كانون الأول/ديسمبر 2022، وبصورة أسئلة محددة، هل ان الإحتلال قانوني؟ هل ان السلوكيات الإسرائيلية تمنع الشعب الفلسطيني من حق تقرير المصير؟ هل ان واقع الإحتلال الإسرائيلي عبارة عن فصل عنصري؟ وما هي التبعات القانونية لذلك؟ وبالتالي فان المحكمة سترفع هذه القرارات التاريخية إلى المنظمة الدولية التي يقع على عاتقها مسؤولية إيجاد الطريقة التي يتم بموجبها تطبيقها، وإلا ستثار ضدها اسئلة أو إتهامات عن سبب طلب الراي الإستشاري وعدم الأخذ به، وبعد ان امضت المحكمة ما يقرب من سنتين في التحقيقات والجهود من أجل الوصول لهذه القرارات. بكلمة اخرى ان مصداقية المنظمة الدولية نفسها ستكون من الان فصاعدا على المحك، بل ان مستقبلها سيكون في الميزان، فهل ستحافظ على صورتها كحامية للسلم والأمن والعدل الدولي؟ او ان مصيرها سيكون مثل مصير المنظمة التي سبقتها، عصبة الامم الدولية، التي تفككت بسبب عجزها عن الوقوف في وجه انتهاك إيطاليا للقانون الدولي بعد احتلال اثيوبيا العضو في تلك العصبة والفشل في تفادي اندلاع الحرب العالمية الثانية، والأهم بسبب خضوعها لإرادات وأهواء الدول الغربية التي كانت تسيطر عليها، وبالذات بريطانيا وفرنسا. والاسئلة الأخرى التي يجب أن توجه الى الولايات المتحدة وبريطانيا بالذات هي هل أنهما يريدان إيصال الأمم المتحدة الى نفس مصير عصبة الأمم؟ او انهما يرومان إشعال حربا عالمية ثالثة تدمر البشرية بسبب كيان غاصب مجرم سادي يتلذذ بقتل الأطفال والنساء والشيوخ؟ او ان ما يقومان به هو فقط لغرض الحفاظ على نظام دولي احادي الجانب لم ينتج عنه سوى الحروب وقتل الأبرياء كما حدث في العراق وأفغانستان وليبيا وسوريا واليمن والسودان والصومال، والقائمة تطول اذا ما عدنا بالتاريخ اكثر؟ وأخيرا هل سترضى منظمة الامم المتحدة نفسها ان ينتهي بها المصير الى ما انتهت اليه العصبة؟ علما بانه من الناحية الفعلية، وكتحصيل حاصل لهذه القرارات اصبح من حق الفلسطينيين الذين تم التجاوز على حقوقهم الشخصية، مثل رفع العلم وارتداء الكوفية وحرمانهم من دراستهم، من إقامة دعاوى امام المحاكم المدنية في الدول التي تعرضوا فيها لمثل هذه الإنتهاكات.
بعد صدور قرار المحكمة مباشرة هدد مندوب الكيان المحتل الأمم المتحدة بغلق مكاتبها في فلسطين المحتلة وطرد موظفيها والإنسحاب من المنظمة، وانهال نتنياهو ووزراءه بالسب والشتم على المحكمة والامم المتحدة، واعتبروا القرارات وكالعادة (معادية للسامية) وتدخل (في الشؤون الداخلية الإسرائيلية)، وقبلها اتخذ الكنيست قرارا برفض إقامة دولة فلسطينية، أليس من الجدير بالامم المتحدة بعد كل هذه التجاوزات، من ان تقوم هي بتعليق او طرد الكيان المحتل من المنظمة بسبب تجاوزاته وخرقه المستمر لميثاقها وعدم إحترام قراراتها؟ كما فعلت الجمعية العامة مع نظام جنوب افريقيا العنصري عام 1974.
الصفعة الثالثة جاءت في نفس الوقت الذي كانت فيه الأراضي المحتلة تحاول ان تفوق من صدمة الهجمة على تل أبيب، حيث قام مقاتلو حزب الله بإطلاق 70 صاروخا على ثلاث مستوطنات ومدن جديدة في عمق الأراضي المحتلة شمال فلسطين (اكثر من 30 كيلومترا). والجديد في هذه الضربات، التي أصبحت شبه يومية، هو كثافتها ودقتها وإستخدمت فيها المقاومة، ولأول مرة صاروخا من صنعها (وابل) يتميز بكونه ثقيل ودقيق وبزنة وقدرات تدميرية اكبر. هذه الضربات لابد ان تعيد للاذهان وعد السيد حسن نصر الله الذي قال فيه ان اي تصعيد سيجابه بتصعيدات أكبر تزول فيها المحددات والمحرمات وحتى تتوقف الحرب الاجرامية على غزة.
اذا ما اردنا ان نلخص دلالات هذه الاحداث الثلاث، مضافا لها دلالة الصمود الأسطوري لمقاومة وابناء غزة الذي فاق اي تصور، فيمكننا ان نثبت ما يلي: الدلالة الأولى هي تآكل بل وإنتهاء قدرة الردع التي تبجح بها الجيش الإسرائيلي طوال 75 عاما، وان قدرات الردع العربي اصبحت اكبر من تلك التي يهدد بها الإحتلال، او حتى مناصريه وعلى رأسهم الولايات المتحدة. بدليل ان كل هجمات الطائرات الحربية الأميركية والبريطانية والفرنسية وغيرها لم تتمكن من وقف هجمات المقاومة اليمنية واللبنانية والعراقية، وقبلهم الفلسطينية، سواء في عمق الأراضي المحتلة او في البحر الأحمر والمتوسط. الأكثر دلالة في هذا الجانب هو ان جيش الإحتلال يقف عاجزا عن ايقاف المقاومة في غزة وعن ردع مقاومة اليمن او فعل أي شيء من أفعاله الإجرامية القاسية ضدها، كتلك التي كان يرد بها على اية عملية فدائية حتى وان كانت فردية، وأخيرا، وبسبب خسائره الكبيرة في غزة، يقف عاجزا عن تنفيذ تهديداته بشن حرب شاملة ضد المقاومة اللبنانية. الدلالة الثانية انه كلما طالت حرب الإبادة التي يشنها جيش الإحتلال على غزة كلما إتسعت جبهات المواجهة وتصاعدت حدة القتال فيها، الأمر الذي يدلل على ان حاجز، او هالة الخوف الذي حاول الإحتلال ان يحيط نفسه به كي يرهب ويرعب العرب والمجتمع الدولي قد تآكل هو الآخر. وخير دليل على ذلك هو ليس فقط ما يجري في ساحات المواجهة العسكرية، وانما ايضا في قرارات الإدانة غير المسبوقة والشجاعة التي أصدرتها محكمة العدل الدولية، والتي بالتأكيد ستشجع المحكمة الجنائية الدولية على إصدار مذكرات التوقيف بحق من إعتبرتهم مجرمي حرب في الحكومة الإسرائيلية، ومهما حاولت بريطانيا والولايات المتحدة تأخير ذلك. الدلالة الثالثة تتمثل في إستمرار الفشل الإسرائيلي في تحقيق أي إنتصار عسكري او سياسي في المواجهة مع المقاومة في غزة وحركات المقاومة في الجوار الفلسطيني. وهذا الفشل يعني المزيد من التفكك في الداخل الإسرائيلي والمزيد من الصراعات الداخلية والمزيد من المطالبات بالتحقيق في الفشل الذي بدا مع عملية طوفان الأقصى وما زال مستمرا، والمزيد من الهجرة المعاكسة، وألاهم المزيد من تآكل صورة جيش الإحتلال الذي لا يقهر.
لقد آن الأوان ان يعي الاحتلال جملة حقائق اولها ان الزمن الذي كان يتمكن فيه من ان يصول ويجول دون رادع او رقيب قد ولى ولن يعود. وان الحماية التي كانت توفرها دولا تشاركه في إضطهاد الشعوب بدأت بالإضمحلال، وان الحق الفلسطيني اصبح له من يدافع عنه ويسترجعه مهما طال الزمن. وصدق من قال للحق دولة وللباطل جولة، والحق في قيام دولة فلسطين آت ونهاية جولة الباطل قد اقتربت بعون من الله تعالى.
*كاتب واكاديمي عراقي
1755 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع