د.ضرغام الدباغ
الحرب التي تأجلت عشرة سنوات ...!
في عام 1967 ، كانت الولايات المتحدة ، قد وضعت آخر رتوشها على خطة محكمة، تقضي بها على أجنة ثورات عربية كانت ستضع عدة اقطار عربية على طريق تحولات اجتماعية / تنموية، لها أبعاد اشتراكية بدأت تمثل ثقلاً في المنطقة، وتتجاوز إطارها القديم في بلدان(سورية العراق، مصر، الجزائر) لا حل لها، وتتضح أبعاد نهضة ديموغرافية تلامس أهداف تنموية كبيرة، فكان لابد من إيقاف هذه الحركة / النهضة.
والسبيل المفضل في السياسة الأمريكية، هو أن يقوم ذراعها العسكري في المنطقة (الكيان الصهيوني)، بضربة إجهاضية، يعيد هذه الدول سنوات عديدة للوراء، مع احتمال مرجح، أن تؤدي حتى إلى سقوطها. ولكن الخطط الغربية لم تؤدي إلى ما كانت تطمح إليه، بل تعمقت موجات العداء للغرب، وتصاعد تيار مقاوم، وأنتشر الفكر التقدمي، وبات دور الكيان الصهيوني كقوات مسلحة احتياطية في استراتيجيات المنطقة حقيقة موضوعية، وأن هذا الكيان ليس بدولة مستقلة متحالفة مع الغرب، بل هو ذراع اخطبوطي وفرع من فروع الاستخبارات الغربية تؤدي لها مهامها في المنطقة التي تمثل حزان الطاقة في العالم، عدا مزاياها الاستراتيجية الأخرى المعروفة.
ولبضعة أيام (بعد حزيران /1967)كانوا يراقبون أجهزة الهاتف أن ترن لتعلن لهم الاستسلام العربي، ولكن ما حدث هو العكس تماماً إذ اعلن من الخرطوم اللآت الثلاث(لا صلح، لا استسلام، لا تفاوض) وبموقف عربي صلب، وتصميم على القتال، وسط مناخ تضامن عربي واسع وفعال.
وبعد أشهر قليلة، في تموز/ 1968، بدأ الموقف بالنسبة للغرب يتدهور بحدة في الشرق الأوسط، إذ حل نظام صلب في العراق، وبعدها أمم العراق نفطه في حزيران 1972، وهذه يستحق عليها عقوبة تفوق بكثير عقوبة تأميم قناة السويس لأهمية الاقتصادية والاستراتيجية للنفط. وهدد رئيس وفد الشركات النفطية الاحتكارية بوضوح قائلاً " ستندمون ... ستندمون كثيراً " والاتحاد السوفيتي حذر العراق بشدة من خطوة التأميم، ولكن العراق كان قد تفهم، أن لا تنمية والنفط بيد الاحتكارات النفطية الأجنبية. ولا معنى لوجودك على رأس سلطة لا اقتصاد وطني لديها، وأستعد للمعركة.
ولكن الحرب العربية / الصهيونية اندلعت في تشرين الأول / 1973، وكانت مساهمة العراق بها فعالة ومؤثرة رغم أنه لم يبلغ بالحرب، وبدأت الأضواء تتركز على الدور العراقي في المنطقة، وبدأ النشاط العراقي العربي والدولي يأخذ مديات جدية وكان لنتائج حرب تشرين أن تضاعف الجهد الأمريكي / الغربي،
واجهت الخطط الامريكية التعثر باندلاع حرب تشرين/ 1973، وفي مطالعة الأرقام والاحصائيات نجد أن الغرب كانت تراقب بقلق نشاط البلدان الاشتراكية تعمل في العراق بكثافة، التجارة الخارجية بقسمها الأكبر كانت مع البلدان الاشتراكية. التسليح العراقي بأسره كان من البلدان الاشتراكية، وهذا يستحق عملاً مضاداً كانت أميركا تخطط له بدقة. وكانت إيران والشاه الحليف الموثوق، العنصر الرئيسي لهذا التحرك، وبتنسيق تام مع الولايات المتحدة، زجت إيران بقواتها المسلحة إلى الأراضي العراقية في الشمال، وكثف من فعاليات في الوسط والجنوب، لتكثيف الضغط(حشود) على العراق وكان هذا يدل بوضوح تام، أن هذه الإجراءات أتخذها النظام الإيراني بإشارة من الغرب. وكانت موسكو تبلغ بغداد بتفاصيل الخطط الأمريكية، كما أن السوفيت أبلغوا دمشق (عبر وزير دفاعها غروميكو) بالمخاطر على الحدود الشرقية للعراق.
الرئيس الجزائري المرحوم أبو مدين درس الأمر وتدخل لإنقاذ العراق من فخ صدام بات وشيكاً، يعد له الأمريكان بعناية، فدخل على خط الأزمة، وفي حواراته المعمقة مع الشاه الإيراني، تمكن من إقناعه، أن الولايات المتحدة هي وراء كل التوتر والتدهور في الموقف، وهذا ليس في مصلحة الشعبين العراقي والإيراني، وأن التفاهم بين البلدين ينزع فتيل أزمة توشك أن يكون لها تداعيات خطيرة، فلنتدارك الأمر بمسؤولية قبل فوات الأوان. الشاه الإيراني قلب الأمر على وجوهه العديدة، ووجد الحكمة في وساطة ودور الرئيس الجزائري، وأن الدفع الأمريكي سيلحق أشد الأضرار بالمصالح الإيرانية حتى على المدى القريب وليس البعيد ..! وهو الذي يسبح في بحيرة عربية / إسلامية، وأن العراق سينهي دور الذراع الإيراني داخل العراق وعلى حدوده في كل المجالات
شط العرب مثلت جائزة السلام، وهي ليست قناة دولية، ونظرية خط التالوك في القوانين الدولية، (خط القعر أو التالوك في الجيولوجيا والجغرافيا (Thalweg) هو الخط المتواصل الجاري في قاع نهر أو وادي ... ويسمى أحيانا خط الوادي)، معمول بها في كثير من بلدان العالم، التي تملك حدوداً شاطئية أو وديان، مشتركة مع دول أخرى في الجوار. وليس للشط عوائد مالية، والدولة الإيرانية كانت تستخدم شط العرب بحرية لحاجاتها الملاحية. ولكن اتفاقية الجزائر كانت ستخدم العراق والأمن العراقي خدمة جوهرية. وستمنع اميركا من استغلال أوضاع عراقية معينة عبر الأراضي الإيرانية. هذا كان جوهر اتفاقية الجزائر، التي يدور عنها لغط وتهويش، مثلما ما يدور من تأويلات مقصودة حول اتفاقية فض الاشتباك في خيمة صفوان / 1991.
نداعيات اتفاقية الجزائر (آذار / 1975) لم تكن في الجانب العراقي فقط، رغم التهويش الديماغوجي الذي دار في تلك الفترة الحساسة والرابحون كانوا : العراق، إيران، والكرد العراقيون الذي أبعدت عنهم الأصابع والالغام الامريكية الخبيثة ومنعت أن يكونوا وقود لصراع مسلح مجهول العواقب، الخاسر الوحيد كانت الولايات المتحدة، التي تريد اللعب والعبث بالمصالح الحيوية لشعوب المنطقة لينجم عنه عدم استقرار يتيح لها التدخل في المنطقة. وهذا بدا بوضوح تام في تصريحات هنري كيسنجر الهستيرية التي هدد وتوعد العراقيين والإيرانيين الذين تجرؤا على مخالفة هوى التوجهات الأمريكية. الذين سيدخلون تعديلات على خططهم المستقبلية.
ولكن من جانب آخر، كانت التطورات تدور في إطار المواجهة الغربية مع الاتحاد السوفيتي، إذ أسفر التغلغل الغربي في بلدان شرق أوربا عن زعزعة ثم انهياره لاحقاً النظام الاشتراكي في بولونيا، ونشاط للقوى المعادية للاشتراكية في بلدان أوربا الشرقية، أسفرت كنتيجة ابتدائية، عن إضعاف صلات موسكو الخارجية(حلف وارسو، ومنظمة الكوميكون)، ومنظومة البلدان الاشتراكية. قبل أنهيارا في مرحلة لاحقة.
كنت في تلك المرحلة الحساسة، دبلوماسياً مجازاً لإكمال دراستي العليا في ألمانيا ومتابع ومطلع على الأحداث، وفي كتاب وضعه الرئيس الأمريكي الأسبق(ريتشارد نيكسون) so verlieren wir den frieden "هكذا نفقد السلام" صدر / Jan. 1980 في الولايات المتحدة وألمانيا بوقت واحد، يتضمن حقائق كثيرة، العديد منها أثبتت الأيام صحتها، منها، أن على الغرب أن يعمل على إيصال نظم دينية للحكم كأفضل وسيلة لمواجهة القوى التقدمية، وهذا نجح في إيران(1979) وبولونيا ، وجنوب افريقيا (التي فشلت فيها محاولة الغرب إيصال القس دوزموند توتو السلطة) ، وفي الواقع هم (المخابرات الامريكية)من عملوا على إزاحة الشاه عقاباً له لخروجه عن المخطط، وعملوا على إيصال التيار الديني (الخميني) للسلطة، الذي قبل أن يكون بخدمة المخططات الغربية.
ماذا كان يريد الغرب من العراق ومن المنطقة ..؟
منذ يوم 30 / تموز/ 1968، أدرك الغرب أنهم أمام نظام قوي، سيفرض إيقاعه في العراق والمنطقة نظام له رؤيته للقضايا النفطية، وللقضية الفلسطينية، وتوقعوا حدوث متاعب، ابتدأت بالاعتراف التام بجمهورية ألمانيا الديمقراطية(1969)، ثم تلاحقت سريعا بتأميم النفط(1972)، والمشاركة الفعالة في حرب تشرين/1973، وأخيراً أنتزاع شاه إيران كمقر وممر لمؤامراتهم واستخدام إيران بقدراتها الاقتصادية والعسكرية ضد العراق، وكانوا قد بذلوا الجهود بلا جدوى لإقناع الشاه بعدم المضي في تصفية المشاكل مع العراق، وولم يكن في وارد الخطط الامريكية خططها، أبتعاد إيران عن لعب الدور الرئيسي في خطط الشرق الأوسط كعنصر جاهز للتدخل(ولعب دور صانع المشاكل (Trouble maker))، والشاه بالغ في تقدير قوته وقيمته، فأتخذت الولايات المتحدة قرارها بتصفية نظام الشاهنشاه. وسيفعل الملالي المخرفين الحالمين بالسلطة كل شيئ للوصول للسلطة والحفاظ عليها، وهم القوة السياسية الأضعف في إيران.
الغرب أدرك بدقة أن نظام الملالي بوسعه أن يثير الحروب والنزاعات المسلحة والاضطرابات الدينية/ الطائفية التي لا نهاية لها اعتماداً على إثارة للفتن الدينية / الطائفية لها بداية ولا نهاية لها، ومنها أيضا أن يلعب دوراً إرهابيا استفزازيا في الخليج، ليحرق البترودولار من خزائن دول الخليج، ويعمل ما أستطاع لذلك سبيلاً على إعاقة سير عملية التطور الاجتماعي / الاقتصادي / الثقافي بصورة طبيعية. ولكن حين فشل الملالي بتحقيق احلامهم في العراق بعد حرب ضروس أستمرت 8 سنوات، ولقن العراق الجميع درساً قاسياً، أدركت الولايات المتحدة أن المهمة أصبح أكبر من أن تقوم بها إيران لوحدها، وبنتيجة الحرب تعززت قوة ومكانة العراق، فأخذت الولايات المتحدة مهمة تدمير العراق والمنطقة على عاتقها، وباشرت حرب أفغانستان، و العراق، وضرب مكامن القوة في النظام العربي، في عملية مؤداها هو تقويض الأسس والدعائم التي تقوم عليها عمليات النهوض والتنمية، والحيلولة دون تراكم في عناصر القوة الاقتصادية والسياسية.
الاشقاء في الكويت لعبوا دورا ما كان ينبغي لهم أن يفعلوه، وربما فاتتهم أبعاد المخطط، وفي تلك الأيام المشحونة بالتوتر والافعال وردود الأفعال السريعة المتلاحقة، العراق كان يعلم (بوسائله المختلفة) أن قرار تصفية النظام باستخدام القوة المسلحة قد أتخذ وبوشرت بالخطوات الأولى، أي أن العجلة قد دارت ولا سبيل لإيقافها، لذلك حين تزعم قيادات أمريكية أن قرار الحرب على العراق كانت غلطة إدارة بوش الأبن، فهذا زعم غير صحيح، فالخطط الحربية لا تتخذ بين ليلة وضحاها، أو كردود أفعال على فعل معين، بل خدمة لاستراتيجية عليا، كانت الكويت مجرد فقرة في مشروع كبير جداً، واسلحة الدمار ذريعة واهية، فرؤساء هيئات التفتيش الدولية كانوا متأكدين 100% بخلو العراق منها، والديمقراطية وحقوق الانسان ليست أكثر من نكتة سمجة. المهم هو ما نراه يدور على أرض الواقع.
كان المطلوب من القيادة العراقية تسليم العراق لهم ليذبحوه بصمت، وكانوا قد أعدوا جوقة مهرجين ومشجعين، ليقسموه وبقطعون أوصاله بسكين حادة، إلى أكثر من 3 دويلات، بكل ما يعني ذلك من نهب وسلب وقتل وتجريف وإبادة، فكل ما يجري اليوم مسجل ومدون في والوثائق والخطط الأمريكية، ومطلوب من الإرادة العراقية الصمت المطبق.. والقبول المطلق...مقابل وعد بأن تبق ع لى قيد الحياة ... الموت به أفضل وأشرف ..!
ليس المهم أن تصدق، وليس المهم أن تكون ذكياً وتكتشف جوهر الاحداث والاهداف الخفية، حسناً، إذا صدقت مزاعمهم بحق العراق وشيطنة الرئيس صدام، لماذا مجازر ليبيا، ولماذا السودان، وماذا يريدون من الجزائر، ولماذا اليمن ..؟ ولماذا يعاكسون تركيا ويتآمرون عليها وهي حليفتهم في الناتو ..؟ هناك شيئ يجب أن يزال في تركيا ...ما هو ؟ ولندع تركيا، فماذا عندهم مفقود في روسيا ..؟ وقد فكك الروس حلف وارسو، ومنظمة التعاون والتعاضد الاقتصادي (الكوميكون)، وأنتهى المعسكر الاشتراكي، بل وأنتهى الاتحاد السوفيتي، وروسيا اليوم بلد رأسمالي، وديمقراطي ومسيحي ,,! ومع ذلك هناك تهديد جدي للسلام العالمي ... لماذا .. هل هناك ما يستحق هذا التهديد الخطير ..!
الآن .. آمل أن يكون قد غدا واضحاً، هل علمتم الآن ... لماذا الكويت، ولماذا الاحتلال، ولماذا تمكين إيران من العراق وسوريا ولبنان واليمن .. وليبيا والسودان ..... بل وحتى الكويت مستهدفة، وساذج من يتصور غير ذلك مع سائر بلاد العرب والمسلمين ...!
1722 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع