د.عدنان هاشم
نحن وايران - الحلقة الرابعة
الفتوحات الإسلامية في العراق وبلاد فارس، استقراء وتحليل لا بد لمن يريد أن يقرأ هذه المقال أن يقرأ الحلقة الثانية من هذه السلسلة والتي تناولت سردا موجزا للمعارك الكبرى التي حدثت بين العرب المسلمين والفرس على أرض العراق إبان الفتوحات الإسلامية والتي سأشير إليها في هذا المقال. لا اريد أن اضفي على الفتوحات العربية الإسلامية تلك الصورة الوردية التي تربينا عليها كما أنني لست أحذو حذو بعض الكتاب والباحثين بوصف تلك الفتوحات على أنها كانت استعمارا للشعوب المفتوحة، ولا أن أشجبها لأن الحروب كانت سجالا بين كل الشعوب في العالم القديم واحتلال البلدان المجاورة من قبل قوة كبيرة كانت شيئا متوقعا على الدوام وكأنها جزء من حياة الشعوب القديمة. ولا بد أن أذكر أنه لولا تلك الفتوحات في العراق والشام ومصر لما انتشر الإسلام في تلك الربوع ولما تربعت اللغة العربية مكانها المرموق بين تلك الشعوب حتى صارت لغة العلم والدين والأدب لقرون طويلة.
أول ما يجذب الإنتباه في فتوحات العراق هو هذا العدد الهائل من القتلى من جانب الفرس والذي قدره المؤرخون بمئات الآلاف، وعدد هائل آخر من الأسرى وأغليهم انتهت حياته بالقتل أو الاستعباد. ولا يسع الإنسان إلا أن يشعر بالأسى لهذا القتل الذريع، ويتساءل هل كان من الممكن أن ينتشر الإسلام في ربوع تلك البلاد بطريقة أخرى غير القتل الذريع وقتل الأسرى بالجملة كما في معركة ألَّيْس ومعركة فقأ عيون المقاتلين كما حدث في معركة الأنبار! ولو مد الله في حياة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم هل كان يسلك الطريق الذي سلكه المسلمون الأوائل بعده في تلك الفتوحات!
ما يلفت النظر أن المغيرين العرب عسكروا أول الأمر على حدود العراق الغربية المحاذية للصحراء تحت إمرة المثنى بن حارثة وأخذو يشنون الغارات على السكان الآمنين بقصد نهب ما لديهم من محاصيل ودواب ورجوعهم موفورين بالغنائم، واستمرت تلك الغارات لمدة تقرب من السنة، ولم يكن هم هؤلاء المغيرين نشر الإسلام بين السكان الآمنين بقدر ما كان همهم الحصول على الغنائم، وحتى لو كان ذلك في نيتهم فما هكذا يمكن أن تكسب قلوب سكان البلاد وتجعلهم يقبلون على اعتناق الدين الجديد. نرى كذلك أن الصحابي سعد بن أبي وقاص قام بنفس العمل قبل معركة القادسية وأخذ يبعث سراياه في ربوع العراق الجنوبي لغرض نهب السكان المحليين وأغلبهم من الفلاحين الذين ليس لهم علاقة من قريب أو بعيد بكسرى وجنوده. ولغرض إضفاء الشرعية على هذه الأحداث فقد ابتكر الرواة بعض المعجزات كتكلم الثور بالعربية لمن أنكر وجود الماشية " كذبت يا عدو الله ها نحن" كما ذكر ابن الأثير في كتابه الكامل في التاريخ. وفات الراوي أن يذكر أن ذلك الثور المسكين إذ دل على نفسه وبقية الدواب التي كان معه فقد حكم على نفسه بالموت ليكون ضحية للسكين ويصير لحمه طعاما للناهبين. وقد كتب ابن الأثير حول التأثير التخريبي لهده الغارات على أحوال السكان المحليين بقوله " فاستغاث أهل السواد إلى يزدجرد وأعلموه أن العرب قد نزلوا القادسية ولا يبقي على فعلهم شيء وقد أخربوا ما بينهم وبين الفرات ونهبوا الدواب والأطعمة وإن أبطأ الغياث أعطيناهم ما في أيدينا".
نرى أن أكثر المقاتلين العرب هم من قبائل البادية مثل نجد الموغلة في البداوة والذين وصفهم القرآن " الأعراب أشد كفرا ونفاقا وأجدر ألا يعلموا حدود ما أنزل الله على رسوله "، وكان عدد كبير منهم من الذين ارتدوا بعد وفاة النبي سواء ارتدادا فعليا عن الإسلام أو منعوا الزكاة. ولا يمكن ان نتوقع من هؤلاء البدو الذين لم يمض على إسلامهم الظاهري إلا بضع سنين في أحسن الأحوال ولم يدخل الإيمان في قلوبهم أن يكونوا دعاة واعين ومتنورين ومخلصين لنشر الإسلام فضلا عن قسوتهم المعروفة بسبب طبيعة حياتهم القاسية. ومثل هذا الكلام ينطبق على خالد بن الوليد فقد أسلم خالد بعد صلح الحديبية وقبل فتح مكة، ولم يصاحب النبي إلا قليلا ولم يكن راويا للحديث فقد ذكر له رواة الحديث سبعة أو ثمانية أحاديث ما ثبت منها إلا اثنان. كان خالد شجاعا وقائدا عسكريا محنكا ولكنه كان يميل إلى القسوة المفرطة مع أعدائه حتى في زمن النبي، فقد قتل من بني خزيمة رجالا كانوا على الإسلام، وحادثة قتله لمالك بن نويرة وكان مسلما أيام حروب الردة اشتهرت شهرة عظيمة، وحتى طالب عمر وبعض الصحابة بالقصاص لولا عفو أبي بكر عنه وحتى قال عمر فيه " إن في سيف خالد رهقا ". ولم يشترك من الصحابة الأوائل في فتوح العراق والشام إلا عدد قليل، إذ منع الخليفة عمر اشتراكهم في تلك الفتوح حيث أخبرهم أن جهادهم مع النبي يكفيهم. والحقيقة أنه أراد أن يجعل أولئك الصحابة قريبا منه وتحت عينه حتى لا يفتتن الناس بهم مما قد يخلق له مشكلة في المستقبل.
أمر أبو بكر خالدا الذي كان معسكرا في اليمامة بالتوجه إلى العراق بعدد من المقاتلة لنجدة المثنى بن حارثة. نجد أن أبا بكر أوصى خالدا بوصية حسنة عندما بعثه لحرب المرتدين تجد نصها في الجزء الأول من كتاب “العقد الفريد"، بينما لم نجد لأبي بكر فيما تذكر كتب التاريخ وصية له تحد من قسوته عندما أرسله إلى العراق، ولم يرسل معه من الصحابة الأتقياء من يخفف من تسرعه في سفك الدماء التي جرت غزيرة على أرض العراق خاصة في معركة أُلَّيس التي سميت معركة نهر الدم لأن خالدا أقسم أن يجري من دم الفرس نهرا من الدم كما أسلفنا سابقا.
ولما أرسل سعد بن أبي وقاص وفدا إلى كسرى يزدجرد كلمه النعمان بن مقرن المزني بكلام بليغ لعله لاقى بعض القبول من كسرى ثم قام بعده المغيرة بن زرارة الأسدي وكان خطيبا على طريقة العرب فيما بينهم، فخاطب كسرى بمثل ما خاطبه النعمان ولكنه قال في آخر كلامه لكسرى" إختر إن شئت الجزية عن يد وأنت صاغر وإن شئت فالسيف أو أن تسلم فتنجي نفسك" فكان كما جاء في المثل العراقي " راد يكحلها عماها" فلا تتوقع من أي شخص له شيء من عزة وكرامة أن يقبل مثل هذا التهديد في حضرته من أعرابي غليظ كان هو وقومه يأكلون الخنافس والجراد كما جاء في خطابه هو لكسرى. طرد كسرى الوفد بعد أن جلل رؤوسهم بالتراب وأعادهم إلى سعد أميرهم فلم يبق أمام الجميع إلا طبول الحرب أن تقرع وتشرع الأسنة وتسل السيوف وتبدأ المقتلة الرهيبة وتسيل الدماء. ولو أحسن المسلمون اختيار من يتكلم باسم الوفد أمام كسرى بالكلام اللين الرقيق لعل أن يكون لكسرى موقف آخر، وليس قولي هذا تخرصا، فانظر إلى ما خاطب جعفر بن أبي طالب النجاشي ملك الحبشة حتى قيل إن النجاشي كان على وشك البكاء من شدة التأثر. وقد انتشر بين المسلمين الأوائل القول بأنه أسلم، والقرآن قد أشار إلى ذلك، وكذلك أسلم باذان الحاكم الفارسي لليمن بعد أن سمع كلام الرسول الذي أرسله النبي ليدعوه إلى الإسلام، ولننظر إلى موقف المقوقس الذي اعتذر عن اسلامه ولكنه أكرم رسول النبي وبعث بهدية إلى النبي كان فيها مارية القبطية التي ولدت له ابنه إبراهيم. ولعمري لو أن أولئك الرسل خاطبوا أولئك الملوك بمثل ما خوطب كسرى "لما قام للإيمان عمود ولا اخضر للإسلام عود "
كان من آثار تلك الفتوحات سفك دماء مئات الآلاف من الفرس التي سالت على أرض العراق والتي تركت جرحا غائرا في ذاكرة الفرس تناقلتها أجيالهم لقرون طويلة وخلقت جذور العداء العربي منذ تلك الحقبة الدموية. لا يمكن أن نعتبر تلك الفتوحات حروب تحرير كما ذكر المرحوم طه حسين في كتابه " الشيخان "حين كتب يقول" ... أنهم قد فرغوا من أهل الجزيرة العربية وأوشكوا أن يأخذوا في تحرير العرب المتفرقين خارج الجزيرة في ملك فارس والروم... وكانوا يقدِّرون أن النبي لو بقي فيهم لما قصر في العناية بتحرير العرب المنتشرين في العراق من سلطان الأكاسرة" وهذا ما لم يرد على لسان النبي ولا الشيخين ولا أحد من المسلمين الأوائل فلم يكن شعارهم " جئنا محررين لا فاتحين". ما أريد أن أقوله أن تلك الفتوحات لم تكن بتلك الصورة الوردية الدرامية التي يصورها لنا مؤرخونا وكتابنا والتي فيها الكثير من التهويل والتضخيم وكأنها كانت حروبا كلها إيمان وتقوى ونكران ذات وعزوف عن زخارف الدنيا. بينما كان الخليفة عمر بن الخطاب أقرب إلى الواقع عندما أرسلت إليه الغنائم العظيمة من العراق وبضمنها كنوز كسرى، فقد علت وجهه سحابة من الحزن، فعجب الحاضرون لذلك وقال أحدهم إن هذا اليوم يوم فرح وسرور بنصر الله وما أفاءه الله على المسلمين من غنائم الفرس، فقال عمر "ويحك إن هذا لم يعطه قوم قط إلا ألقي بينهم العداوة والبغضاء ". يجب أن ننظر إلى تاريخنا وفتوحاتنا نظرة واقعية مجردة لنعرف للأسلاف ما لهم وما عليهم، فإن لم نفعل ذلك فسيقفز غيرنا من مستشرقين وملاحدة وعلمانيين ليخوضوا في تارخنا كما يحلو لهم مع كثير من التعسف والتحيز وغياب الإنصاف.
المصادر:
الكامل في التاريخ ابن الأثير
الشيخان طه حسين
العقد الفريد ابن عبد ربه الأندلسي
ويكيبيديا
للراغبين الأطلاع على الحلقة الثانية:
https://www.algardenia.com/maqalat/63793-2024-06-13-20-45-06.html
4738 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع